-
ع
+

الفهم الديني ومنهج التوسعة والانفتاح

يحيى محمد

لا يختلف اثنان على وجود تغاير وتعارض حول المطالب التي يتضمنها النص القرآني للموضوع الواحد؛ حكماً ووصفاً او إخباراً، ابرزها تلك التي تُفسر بالنسخ والنسأ كما في الاحكام، او تلك التي تأول بتقدير شروط محذوفة لجعلها متسقة كما في الوصف والإخبار، مثل التعارضات المتعلقة بمصير اهل الكتاب في الاخرة. ومن ذلك التعارض الظاهر بين الايتين التاليتين: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون))1.. ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين))2.

كما لا يختلف اثنان على ان ظاهرة التغاير والتعارض تنبسط على المنقول من سيرة النبي (ص) واقواله، بعضها مع البعض الاخر. كما وتنبسط هذه الظاهرة عند المقارنة بين المنقول المشار اليه والنص القرآني.

واغرب ما في الامر هو ان علماء الاسلام جعلوا المصدر الثاني حاكماً على الاول عند الاختلاف والتعارض عادة، رغم اعترافهم بقطعية صدور الاول وانه كلام الله الذي لا شك فيه، خلافاً للثاني. والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى، لكننا سنذكر نماذج دالة على اختلاف التشريع لدى المصدرين وانحياز الفقهاء للثاني قبل ان نرتب عليها مناهج التفسير والقراءة..

جاء في النص القرآني ان اهل الكتاب ملزمون بالجزية والصغار كما في قوله تعالى: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون))[3]، في حين سلم الفقهاء بان هناك حالات لم يتم فيها هذا الالزام، وفقاً للمنقول، كالذي رواه البخاري حول مصالحة النبي (ص) لوفد نصارى أهل نجران[4].

كما بحسب السياق الدلالي للنص القرآني ان قضية الرجم منفية بحق الزاني، فهي ليست غير واردة في القرآن فحسب، بل ومنفية ايضاً، فدلالته لم تسمح بالرجم مطلقاً، انما هناك حكم بمضاعفة العقوبة او العذاب، واخر بتنصيفه، وكلاهما لا يتناسب مع حكم الرجم، اذ كيف يمكن مضاعفة الرجم او تنصيفه؟![5]. في حين ان المنقول يشير الى ان السيرة النبوية قد تضمنت العمل بهذا الحد، حتى في اطار ما هو خارج عن الحديث الوارد في صحيح مسلم الذي روى عن عمر بن الخطاب أنه قال وهو جالس على منبر رسول الله (ص): إن الله قد بعث محمداً (ص) بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف[6]. وهو الذي سلّم به الفقهاء الا من شذّ منهم.

كما ان الطعام المحرم اكله بحسب السياق القرآني محصور ضمن انواع ثلاثة، وهي مبينة في قوله تعالى: ((قل لا أجد في ما اوحي اليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجسٌ أو فسقاً أهل لغير الله به))[7]. لكن اغلب الفقهاء تجاوزوا هذا الحصر وتقبلوا عدداً آخر للطعام المحرم أكله وفقاً للمنقول، ومن ذلك ما رواه مسلم حول تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير[8]، واختلفوا حول تحريم اكل الضبع. وقد اقتضت هذه الزيادة من التحريم الى تأويل الاية السابقة كالذي ذكره الشافعي في دفع توهم الحصر المشار اليه، إذ رأى أن الكفار لما حرموا ما أحل الله كانوا على المضادة والمحادة، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما احللتموه، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. وقد علّق إمام الحرمين على ذلك بقوله: لولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات في ما ذكرته الآية[9]. رغم أن قول الشافعي لا يتسق فعلاً مع النص القرآني، لا سيما بدايته، فالنص يفيد بأن النبي (ص) يعلّق نفيه للمحرمات على ما أُوحي إليه سوى المحرمات الثلاثة المذكورة.

كذلك الحال فيما يتعلق بموضوع اباحة الفطر للمسافر في شهر رمضان، كما في قوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر))[10]. فالغرض من هذا التشريع وفقاً للقرآن الكريم هو للتيسير ودفع المشقة. لكن الفقهاء عملوا على تثبيت مسافات محددة وفقاً للمنقول من دون اعتبار للمقصد القرآني. كما رأى بعض الفقهاء ان مطلق السفر مبيح للفطر والقصر استناداً الى ما ورد في العديد من الروايات بان النبي (ص) كان يقصر في حالات ليس فيها مشقة[11].

وعلى هذه الشاكلة قصر الصلاة، فالسياق الدلالي للنص القرآني يتضمن قيد الخوف من الاعداء، كما جاء في قوله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا))[12]، لكن عدداً من المنقولات تفيد ان النبي (ص) قد سمح بالقصر ولو لم يتوفر الشرط المذكور. الامر الذي استند اليه اغلب الفقهاء.

وفي ذات هذا السياق نجد الصلاة لا تتجاوز الركعتين وفي القصر واحدة، كما في قوله تعالى: ((وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا))[13].

وجاء في عدد من المنقولات كالتي رواها الطبري انه لا يشترط الخوف في السفر، ومن ذلك ما روي عن يعلى بن أمية قوله: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم))، وقد أمن الناس! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدَقته[14].

فلو صح هذا المعنى لكانت الصلاة القرآنية ركعتين فحسب، رغم ان السيرة التي جرت جعلتها ثلاثة اشكال؛ ركعتان لصلاة الصبح، واربعة للظهر والعصر والعشاء، وثلاثة للمغرب. ويؤيد هذا المعنى ما يروى بان الصلاة في الاصل كانت ركعتين لكن اضيف اليها عدد اخر فيما بعد، كالذي يروى عن السيدة عائشة. ومثلها ما يروى لدى المصادر الشيعية. وهو المعول عليه لدى الفقهاء عادة.

فقد روى البخاري عن السيدة عائشة قولها: فرض الله الصلاة حين فرضها، ركعتين ركعتين، في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وقولها ايضاً: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر على الأول[15].

كما جاء عن الامام الصادق عدد من الروايات تكشف عن ان الاصل في الصلاة ركعتان وان الزيادة كانت من النبي (ص) بتفويض الله، كالذي ورد في هذه الرواية: إنّ الله عزّ وجلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات ، فأضاف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الركعتين ركعتين ، وإلى المغرب ركعة ، فصارت عديل الفريضة ، لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب ، فتركها قائمة في السفر والحضر ، فأجاز الله له ذلك كلّه ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ..[16].

لكن روى الطبري في القبال ما يشير الى ان صلاة السفر من دون خوف هي صلاة تامة وليست بقصر، وهي ركعتان، وان صلاة القصر مخصوصة بحالة الخوف، والمقصود بالقصر هو القصر من حدودها لا عددها، فتؤدى كيفما امكن ذلك، وهو الرأي الذي  رجحه الطبري[17]، والذي لا يتنافى مع سائر اشكال الصلاة.

على ذلك ان الامثلة السابقة وغيرها قابلة للتفسير بثلاثة مناهج مختلفة لقراءة النص القرآني، مع الالتزام بالسياق الدلالي المتبادر بلا تأويل، وهي باختصار كالتالي:

منهج الفصل والعزل: وهو منهج يكتفي بالسياق الدلالي للنص من دون نظر الى السياق التاريخي والمنقولات الروائية، كالذي تجنح اليه بعض الاتجاهات المعاصرة، لا سيما الاتجاه المعروف بالقرآنيين.

منهج التحكيم والتفسير: وهو منهج يقرأ النص القرآني من خلال تفاعله مع المنقول من سيرة النبي (ص) واقواله، ومثلها نصوص اهل البيت، فيكون المنقول من السيرة وهذه النصوص حاكماً وقاضياً ومفسراً للمعنى الذي يفيده الاول بانواع التحكيم والتفسير من النسخ والتقييد والتخصيص وما الى ذلك من القواعد الاصولية. وهو ما تلتزم به المذاهب الاسلامية التقليدية عادة. وفي عهد السلف جاء عن مكحول أنه قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، كما قال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب قاضياً على السنة[18]، وهو المروي أيضاً عن ابن شهاب الزهري[19]. وكان احمد بن حنبل لا يجسر على القول بأن السنة قاضية على الكتاب عندما سئل عن ذلك، لكن النتيجة واحدة اذ قال بأن السنة تفسر الكتاب وتعرف الكتاب وتبينه[20].

فعلى الاقل يسود الاعتقاد بان عمومات القرآن مخصصة باقوال النبي (ص) وسيرته، باستثناء القليل منها، فكما قال الشيخ علم الدين العراقي: ليس في القرآن عام غير مخصوص إلا خمسة مواضع، أحدها قوله تعالى: ((حرمت عليكم أمهاتكم))، وثانيها قوله: ((كل من عليها فان)) أو ((كل نفس ذائقة الموت))، وثالثها قوله: ((والله بكل شيء عليم))، ورابعها: ((وأنه على كل شيء قدير))، وخامسها قوله: ((وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ))[21].

كما قيل ان صدور الأخبار المخالفة لعموم الكتاب كثيرة جداً، حتى اشتهر أنه ‹‹ما من عام إلا وقد خُصّ››[22]، وانه إذا ‹‹كانت طريقة الشارع في بيان مقاصده تعتمد على القرائن المنفصلة لا يبقى إطمئنان بظهور العام في عمومه››، وبالتالي نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص واليأس من وجود المخصص[23].

وقد يقترب من هذا المعنى من حيث النتيجة عندما يتم توجيه السياق الدلالي وفق السياق التاريخي باعطائه معنى موجهاً كي لا يتنافى مع المعاني الاخرى للنص القرآني، ومن ذلك ما ورد فيما أشكل على مروان بن الحكم في قوله تعالى: ((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم))[24]، اذ قال لئن كان كل امرئ فرح بما أُوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذَّبن أجمعون، حتى بيّن له ابن عباس بأن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي (ص) عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك اليه. كذلك جاء في قوله تعالى: ((الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون))[25]، فقال البعض أينا لم يظلم؟ فأوضح النبي (ص) بأن الأمر خاص بالشرك، حيث ((ان الشرك لظلم عظيم))[26]. كما حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان بأن الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين))[27]، فعلق على ذلك البعض بأنهما لو علما سبب نزول هذه الآية لم يقولا ذلك، وهو ان ناساً قالوا لما حُرمت الخمر: كيف بمن قُتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس؟ فنزلت تلك الآية[28].

منهج التوسعة والانفتاح: وهو المنهج الذي نتبناه ضمن طريقتنا للنظام الواقعي، ويعترف  بكلا السياقين الدلالي والتاريخي، ويرى ان التغاير بينهما دال على وجود مساحة مرنة للتشريع الديني وفقاً لقاعدة التوسعة والانفتاح بحسب ما تقتضيه الظروف والاحوال. ويمكن ان يفسر من خلال هذا المنهج ما ظنه الفقهاء من وجود حالات كثيرة للنسخ والتخصيص والتقييد في التشريع، ومنها تلك المناطة بعلاقة السنة النبوية بالقرآن. وقد تبلغ حالات هذه الاشكال لدى الفقهاء المئات وربما الالاف، وهي توحي بان للتشريع صفة التوجيه والارشاد دون التكوين. وسبق للطوفي ان استشهد بعدد من النماذج الدالة على قاعدة الوسع ليثبت من خلالها جواز ترجيح المصلحة على النص وفقاً للمقاصد الدينية.

كما اجاز بعض السلف التسامح في الاختلاف لدى عدد من القضايا الدينية، فمثلاً كان الشافعي يقول حول التشهد في الصلاة: ‹‹ما في التشهد إلا تعظيم الله وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعاً وأن لا يكون الإختلاف فيه إلا من حيث ما ذكرت››. ومثله ما جاء حول صلاة الخوف من إختلاف الرواية، حيث اعتبر الشافعي ان اي وجه يؤتى بها ضمن هذا الإختلاف فهو مجزي. وقد سئل عن علة  اختياره لحديث ابن عباس عن النبي (ص) في التشهد دون غيره؟ فقال: ‹‹لما رأيته واسعاً وسمعته عن ابن عباس صحيحاً كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره››[29]. ولا شك اننا نجد فيما يروى حول تفاصيل هيئة الصلاة الشيء الكثير من الاختلاف، كالتكتف والتسبيل والرفع والقراءة والسجود وسائر الافعال، ومثلها سائر القضايا الفقهية باطلاق.

وعموماً لو سلّمنا بمقالة كون العمومات في الأحكام القرآنية قد خصصتها السنة النبوية، يضاف إلى ما هو حاصل من تخصيص داخل هذه السنة بعضها للبعض الآخر، وما جرى من تغيرات في الأحكام ضمن عنوان النسخ، سواء النسخ الذي جرى في إطار القرآن الكريم وحده، أو السنة النبوية وحدها، أو نسخ السنة للقرآن أو العكس.. كل ذلك يجعل الفهم يميل إلى إعتبار الشريعة الإسلامية ذات طبيعة دينامية لحملها الطابع النسبي في أغلب أحكامها. الأمر الذي يكشف عن العلاقة المؤكدة من التفاعل والجدل الحاصل بين النص والواقع، أو بين الكتابين التدويني والتكويني. فرغم أن وظيفة الكتاب الأول هي التشريع للثاني والتأثير عليه؛ لكن ذلك لا يتجاوز حقيقة ما في الكتاب الأخير من إختلاف وتباين وقابلية للتغير والتجديد؛ إلى الحد الذي يجعله يؤثر أثراً بارزاً على صياغة التشريع وفقاً للمقاصد العامة. وهذا يعني أن التشريع لم يكن وليد النص وحده، وإلا لكان صيغة واحدة وقالباً ثابتاً لا يقبل التغيير ولا التكثر. بل لعل من البداهة الحكم بأن للواقع أثره العميق على تغاير التشريع[30].

 

 



[1]     البقرة/62.[2]     آل عمران/85.[3]     التوبة /29.[4]           صحيح البخاري، باب قصة اهل نجران، حديث 4119ـ41120. وابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه وذكر أطرافها : محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، ج8، ص93ـ94، عن مكتبة المشكاة الالسلامية الالكترونية.[5]     للتفصيل انظر: فهم الدين والواقع[6]     صحيح مسلم، باب رجم الثيب في الزنى، حديث 1691.[7]     الأنعام/145.[8]     صحيح مسلم، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، حديث 1932ـ1934. .[9]     السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص93ـ97.[10]   البقرة/185.[11]   محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة الثانية، 1396هـ ـ1976م، ج2، ص606.[12]   النساء\100ـ101.[13]   النساء\102ـ103. وكتأييد للمعنى القرآني  جاء في صحيح البخاري ضمن باب (يحرس بعضهم بعضا في الصلاة الخوف) ما روي عن ابن عباس قوله: قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه، فكبر فكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانيه، فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى، فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً (صحيح البخاري، حديث 902).[14]   تفسير الطبري، فقرة 10310 وما بعدها. عن الموقع الالكتروني http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura4-aya101.html.[15]   3720صحيح البخاري، حديث 343، وحديث  .[16]  وسائل الشيعة، ج4، باب عدد الفرائض اليومية ونوافلها، حديث 4474.   .[17]   المصدر السابق .[18]   الخطيب أبو بكر البغدادي: الكفاية في علم الرواية، مراجعة: أبو عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن، عن مكتبة سحاب السلفية (لم تذكر ارقام صفحاته):  .www.sahab.org[19]   الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، فقرة 172، عن شبكة المشكاة الالكترونية: www.almeshkat.net.[20]   الكفاية في علم الرواية، الباب السابق. وابو يعلى الحنبلي: طبقات الحنابلة، عن  شبكة المشكاة الإسلامية الالكترونية، ج1، مادة: الفضل بن زياد القطان البغدادي (لم تذكر ارقام صفحاته).[21]   البحر المحيط، فقرة 709. وانظر ايضاً: فـرائـد الأصول، ج1، ص113.[22]   الكفاية، ص267. والمظفر: أصول الفقه، ج1، ص156.[23]   أصول الفقه، ج1، ص156ـ157.[24]   آل عمران/188.[25]   الانعام/82.[26]   لقمان/13.[27]   المائدة/93.[28]  الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص93ـ97.[29]   الشافعي: إختلاف الحديث، باب في التشهد، ص489، عن مكتبة العلوم الإسلامية ضمن موقع الجعفرية الالكتروني www.aljaafaria.com. وقواعد التحديث، ص311ـ312.
[30]   للتفصيل انظر: جدلية الخطاب والواقع.

 

comments powered by Disqus