-
ع
+

تاريخ نظرية الإحتمال

يحيى محمد

من الناحية التاريخية عُرفت نظرية الإحتمال لدى العرب والهنود وغيرهم قبل ان تلفت نظر الغربيين منذ النهضة الحديثة. واول ما بدأ الاهتمام بها عبر تحديد القيم الرياضية الخاصة بالعاب الحظ والمصادفة. وهناك بعض الإصطلاحات التي شاعت لدى الغرب ظهر ان مصدرها العرب، ومن ذلك لفظة (هزرد hazard) التي تعني اللعب في قطعتي زهر أو ثلاث، وقد أُشير إلى هذه اللعبة في ادبيات العصر الكنيسي في الغرب[1]. وكانت اللفظة شائعة قبل ان تحل محلها لفظة (الصدفة chance)[2]. وعليه ذكر الاستاذ هاكن Hacking ان الرياضيات الإحتمالية، هي مثل نظام الأرقام في الغرب، تعود إلى أصل عربي، وان لفظة هزرد هي كلفظة علم الجبر algebra مأخوذة من العرب. وكان أوائل العلماء الاوروبيين - وهم الايطاليون - يعملون على حل مشاكل ألعاب الحظ والمصادفة للهزرد الشائعة في افريقا الشمالية، في الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بتطوير علم الجبر وحل مسائله الرياضية. ومع ان العلم الخاص بلعبة الزهر له بصيص من الوجود لدى الاوروبيين خلال القرن الخامس عشر، إلا ان أساس هذا العلم يرتد إلى قديم الزمان. فمن المصادر التي تناولت العلم المذكور ما جاء في بعض الكتب الهندية القديمة، حيث وردت قطعة نصية تشير إلى هذا النوع من العلم في كتاب (ماهاباراتاMahabarata) الذي يعود تاريخه إلى ما قبل الميلاد بعدة قرون، أي قبل ان يتعرف عليه الاوروبيون بمدة طويلة[3].

ويلاحظ ان اغلب الكتب التي تعرضت لتاريخ الإحتمال تبدأ بالفيلسوف الرياضي باسكال (1623ـ1662) وزميله فرما، إذ جرت بينهما عدد من الرسائل المتبادلة لحل بعض مشكلات الإحتمال. وقد كان لمثلث باسكال آنذاك دور مهم في حل بعض المسائل الإحتمالية البسيطة كتلك المتعلقة بالعاب المصادفة وما شاكلها. وأحياناً تُشير بعض الدراسات إلى ان أوليات التفكير في القضايا الإحتمالية تعود إلى ما قبل باسكال بقرن تقريباً. ومن ذلك ان المؤرخ تودانته Todhunter، وهو من مؤرخي القرن التاسع عشر البارزين، لم يكتب عن الفترة التي سبقت باسكال إلا ست صفحات من كتابه الذي تجاوزت اوراقه الستمائة صفحة، وقد تناول في الصفحات الست آراء كل من كاردان (1501ـ1576) وكبلر (1571ـ1630) وغاليلو (1564ـ1642)، ومن قبلهم لبريLibri [4]. لكنه لم يشر إلى ما قبل الفترة الحديثة ولا إلى الدور العربي في علم الإحتمال رغم ما تضمنه كتابه من الحضور الواسع للفظة هزرد. وكأن صياغة الإحتمال من الناحية العلمية لم يتوفر ظرفها إلا مع مطلع العصر الحديث، وبالتحديد مع باسكال.

على ان بداية اهتمام باسكال بالمشكلة الرياضية للإحتمال كان منذ منتصف القرن السابع عشر (وبالتحديد سنة 1654)، حيث بدأ التفكير مع العاب الحظ الخاصة بزهر النرد. فمن ذلك الوقت بدأت مشاكل الإحتمال تفرض نفسها لتجد من يحلها من قبل العلماء. ومع ان باسكال ليس من الرياضيين، كما صرح هو بنفسه، لكن تقدمه في طرح أولى المشاكل الإحتمالية وحلها بشكل صحيح، جعلاه مشهوراً كأول مساهم من الرياضيين لحل القضايا الإحتمالية، وذلك بمعية زميله فرما[5].

هكذا تؤرخ النشأة العلمية منذ باسكال، إذ يُعتبر أول من تعرض إلى طرح المشاكل الإحتمالية واجاب عنها. فقد وضع مثلثه المشهور لحل تلك المشاكل، وكان الرياضيون يلجأون إلى هذا المثلث من بعده. وسمي باسمه لاكتشافه عدداً من العلاقات والخصائص غير المعروفة حوله، رغم أن الاهتمام به سبق باسكال، وان ما يعزى إليه من دور تاريخي هام على صعيد نظرية الإحتمال كان مسبوقاً بنحو ما يزيد على ثلاثة قرون، وقد يمتد إلى قرون سابقة كثيرة. فقد كان المثلث معروفاً ومستخدماً في الحسابات الخاصة بالعاب الحظ والمصادفة[6]، ومن ذلك ان الشاعر والرياضي المعروف عمر الخيام (المتوفى سنة 1214) قد استخدم المثلث في تحديد القيم الإحتمالية لبعض المسائل، وهو يعترف بأن فكرة المثلث قديمة وليست من ابتكاره. وكان الاستاذ سارتون Sarton يقول بصدد هذا المثلث بأنه مثال عظيم من المعرفة الخفية أو الغامضة، ذلك انه لعدد من المرات يكتشف فيضيع فيكتشف، حتى أصبح أخيراً معروفاً تمام المعرفة[7]. وينقل ان العلماء قبل باسكال كانوا يعرفون هذا المثلث لدى كل من اليونان وبلاد فارس والهند والصين والمانيا وايطاليا[8]. ولدى العرب القدماء يعتقد ان محمد بن الحسن الكرخي (المتوفى عام 1020م) هو ايضاً ممن كان يشتغل على هذا المثلث[9].

ويتحدد مثلث باسكال في حالة وجود إمكانيتين متكافئتين لا أكثر، كما في حالة وجهي قطعة النقد. ويمكن تصور شكله كالتالي[10]:

1

 

1

1

 

1

2

1

 

1

3

3

1

 

1

4

6

4

1

 

1

5

10

10

5

1

 

1

6

15

20

15

6

1

 

1

7

21

35

35

21

7

1

 

1

8

28

56

70

56

28

8

1

ففي هذا المثلث يعتمد كل عدد وارد في خطوطه الأفقية على مجموع العددين الذين يفوقانه (مباشرة وعلى الشمال)، وكل خط افقي يحمل إمكانات توافيقية تتحدد بموجبها الإحتمالات المطلوبة، ومجموع اعداد كل خط أفقي يمثل مجموع كافة الإمكانات التوافيقية للإختبارات. ففي رأس المثلث ان العدد واحد يعني وجود إمكانية واحدة لا غير، وبالتالي فهي تعبر عن اليقين من دون إحتمال. ومن بعد هذه القمة ترد الخطوط الأفقية بإختباراتها وإحتمالاتها التي تتكثر بحسب التتالي، فالخط الأفقي الأول يعني وجود إختبار واحد يتضمن إمكانيتين فقط، مثل إمكانيتي رمي قطعة النقد مرة واحدة، فقد يظهر وجه الصورة وقد لا يظهر، أي ان إحداهما تمثل إحتمال الظهور، فيما تمثل الثانية إحتمال العدم. والخط الأفقي الثاني يعني وجود إختبارين يتضمن أربع إمكانات توافيقية، فالعدد واحد يمثل ظهور وجه الصورة مثلاً مرة واحدة في الإختبارين لا غير، ويقابله العدد واحد ايضاً في الجهة الأخرى، ويمثل عدم الظهور كلياً، أما العدد (2) في الوسط فهو يمثل إمكانين توافيقيين، حيث إما ان يظهر وجه الصورة في الإختبار الأول أو في الإختبار الثاني. ومجموع الإمكانات لا يتعدى الأربعة الآنفة الذكر. أما الخط الأفقي الثالث فيعني وجود إختبارات ثلاثة تتضمن ثمانية إمكانات توافيقية، فقد يظهر وجه الصورة في جميع الإختبارات وهو ما يمثله العدد واحد، كما قد لا يظهر كلياً وهو ما يمثله العدد واحد في الجهة المقابلة، كما هناك ثلاث إمكانات للظهور، فقد يظهر الوجه خلال الإختبار الأول أو الثاني أو الثالث، وهو ما يمثله العدد (3)، ومثله العدد الآخر الذي يمثل إمكانات ثلاثة أخرى، وهي إما ان يظهر الوجه في الإختبار الأول والثاني، أو الأول والثالث، أو الثاني والثالث. ومجموع هذه التوافيق ثمانية.. وهكذا الحال مع بقية الخطوط الأفقية.. وهناك بعض الصيغ الرياضية المبسطة للتعرف على هذه الإمكانات وإحتمالاتها.

***

وعلى رأي الاستاذ هاكن أن تصور الإحتمال خلال القرون الثلاثة الماضية، وبالتحديد منذ عصر باسكال، ظل ثابتاً يتردد إلى اصوله من غير تغيير. فدائرة الآراء في فهم الإحتمال أخذت تعيد نفسها مرة بعد أخرى، من دون أي تقدم يُحرز. وطوال هذه المدة لم يتجاوز مفهوم الإحتمال معنيين اثنين. وقد استدل هاكن على الطابع الدوري لمفهوم الإحتمال عبر مثالين، أحدهما ان الصياغة الأكثر حداثة للإحتمال هي تلك التي كان رائدها رامسي Ramsey في كتابه (الحقيقة والإحتمال) سنة 1926، وكذلك القبول الواسع المنال لكتاب الاستاذ سفج Savage (اصول الاحصاءات) سنة 1954. وكان البعض يطلق على النظرية التي قدمها كل من رامسي وسفج النظرية الذاتية (subjectivism)، وكان الاستاذ سفج يطلق عليها النظرية الشخصية (personalism)، لكن اغلب الاحصائيين كانوا يطلقون عليها نظرية بايس (Bayesian theory)، فرغم أن بايس قد توفى (سنة 1760)؛ إلا ان الفكرة الأساسية لمساهمته ظلت طوال قرنين من الزمن. أما المثال الآخر فيتعلق بالتفاسير المختلفة المطروحة حول عمل برنولي Jacques Bernoulli في كتابه (فن التخمين) سنة 1713. فلكونه قدّم لفظة (الذاتي subjective) في فلسفته حول الإحتمال، فقد أطلق عليه الفيلسوف الذاتي (subjectivist)، وصرح الاستاذ هاكن بأن برنولي هو المتبني الأول للنظرية الذاتية للإحتمال، بينما حكم عليه فون ميزس بأنه رجل تكراري ضليع. كما قال آخرون بأن نظرية برنولي سبقت مذهب كارناب المنطقي في الإحتمال، بل إن كارناب ذاته ردّ نشأة الإحتمال المنطقي الذي تبناه إلى فترة متقدمة منذ الاهتمام العلمي بنظرية الإحتمال، وإعتبر انعكاس ذلك على عنوان كتاب برنولي الموسوم (فن التخمين)، حيث يُعنى بالإحتمالات الخاصة بالفرضيات التي تعد صلب الإحتمال المنطقي، وهو الإحتمال الذي تم تتويجه على يد العالم الرياضي لابلاس[11]. كذلك ما زال آخرون يطلقون على برنولي بأنه رائد التصور التكراري في الاحصاء والذي يُعد فيه الاستاذ نيامن Neyman الأكثر شهرة من المعاصرين المفسرين لهذا التصور.

هكذا فعلى رأي هاكن، رغم أن افكار نيامن وكارناب والنظرية الذاتية كلها تتميز بالتغاير الجوهري، إلا ان هذه الاعمال المختلفة كلها يمكن عدّ اصولها راجعة إلى العمل الذي قام به برنولي من قبل[12].

[1]           انظر:

             F.N. David, Games, Gods and Gambling, Printed in (UK), Glascow, ed.1, 1962, p.34ـ35.

[2]             قيل ان (هزرد) هي لعبة حظ إنجليزية قديمة، ويعود تاريخ هذه اللعبة على الأرجح إلى القرن الثالث عشر الميلادي. وذُكرت في كتابحكايات كانتربري) الذي كتبه الكاتب الانجليزي جيفري تشوسر خلال القرن الرابع عشرالميلادي.. وأصل الكلمة مشتق من لفظ الزهر العربية، لكن بسبب اقتران الكلمة بلعبة الحظ الخطرة هذه فقد كانت التسمية تستخدم للدلالة على كافة الألعاب التي تعتمد على الحظ والمخاطرة في تحقيق الربح. كما تحولت في الانجليزية المعاصرة للدلالة على معنى الخطر كما في اشارات التحذير. انظر حول ذلك:

            http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%B1%D8%AF

[3]           انظر:

             Ian Hacking, The Emergency of Probability, First Published 1975, First Paper Back Edition 1984, Cambridge University Press, p.6ـ7.

[4]           انظر:

             M.A. Todhunter, A History of the Mathematical Theory of Probability, Chelsea Publishing Company, New York, 1949.

[5]           انظر:

             William Kneale, Probability and Induction, First Edition 1949, Reprinted 1963, At The University Press, Oxford, p.123. 

[6]           انظر:

             A. C. King and C. B. Read, Pathways to Probability, Printed in the U.S.A, 1963, p.22.

[7]             David; p.34. .

[8]           انظر:

                http://en.wikipedia.org/wiki/Pascal's_triangle#cite_note-roots-2 .

[9]             انظر:

        George Ghevarghese Joseph, The Crest of the Peacock: Non-European Roots of Mathematics, PrincetonUniversity Press, 3rd Edition, 2011, p. 491. Look:

            http://books.google.co.uk/books?id=c-xT0KNJp0cC&pg=PA491&lpg=PA491&dq

[10]          انظر:

                http://en.wikipedia.org/wiki/Pascal's_triangle

[11]          انظر:

             Rudolf Carnap, ‘Statistical and Inductive Probability’, in: Madden, The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p.271ـ272.

[12]          Hacking; p.15ـ16 and 143. .

comments powered by Disqus