-
ع
+

المفكر الصدر وطبيعة العلم الإجمالي لمبدأ عدم تكرر الصدفة

يحيى محمد

ينقسم العلم من جهة إلى علم تفصيلي وعلم إجمالي. والمقصود بالعلم التفصيلي انه علم تكون فيه المعرفة محددة، كما ان تقول: هذه الشجرة مثمرة، والارض تدور حول الشمس، وكل إنسان يموت.. الخ. أما العلم الإجمالي فهو علم لا تكون فيه المعرفة محددة، كما أن تقول: أحد هذين الانائين متنجس، فأنت هنا لا تعلم بالتحديد من هو المتنجس منهما، فقد يكون الأول، كما قد يكون الثاني.. وكذا لو قلت: ان أخي إما في البيت وإما في المدرسة، فلم تحدد في هذا المثال إن كان اخوك في البيت أو في المدرسة، فعلمك بوجوده يصبح علماً إجمالياً غير محدد.

وتبعاً لهذا التقسيم، من البساطة بمكان أن نعرف أي علم يندرج تحته المبدأ الأرسطي القائل بأن الصدفة لا تتكرر أكثرياً ودائمياً. فلا شك أنه من العلم الإجمالي لا التفصيلي، وذلك لأنه لم يحدد لنا المواضع التي لا تتكرر فيها المصادفات. فلو قمنا بإستقراء يشمل عشرة إختبارات، واردنا ان نطبق المبدأ الأرسطي عليها، لكان هذا المبدأ يخبرنا بأنه من الممكن أن تحدث الصدفة بشكل نادر، كإن تحدث في إختبار أو إختبارين، ولكنها على أي حال لا تتكرر أكثرياً ودائمياً. وفي هذه الحالة يمكن أن نستفسر عن الإختبارات التي لم تحدث فيها الصدفة، فهل هي عبارة عن الإختبار الأول والثالث والخامس والسادس.. الخ؟ أو أنها عبارة عن الإختبار الأول والثاني والثالث والرابع والسادس.. الخ؟ أم ماذا؟

نجد في مثل هذا المثال ان المبدأ الأرسطي لم يحدد لنا أي الإختبارات التي لا تحدث فيها الصدفة. ولهذا فإنه علم بنفي غير محدد، حيث ينفي تكرر الصدفة من دون ان يحدد مواضع هذا التكرر. فهو على أي حال علم إجمالي يفيد النفي.

وهنا تساءل المفكر الصدر حول نشأة العلم الإجمالي لنفي تكرر الصدفة باستمرار؟

ولأجل ان يجيب عن هذا التساؤل قسم العلم الإجمالي الذي يفيد النفي - أي العلم بنفي غير محدد - إلى قسمين من حيث المنشأ، وهما كالاتي1:

الأول: هناك علم ناشئ عن التمانع أو التضاد، فبسبب علمنا بهذا التمانع أو التضاد يمكننا أن نحصل على علم إجمالي غير محدد، كإن نقول: تلك الكتابة ليست سوداء وزرقاء في الوقت نفسه، فقد تكون سوداء، وقد تكون زرقاء، وقد تكون غير هذه وتلك، ولكن لا يمكن أن تكون سوداء وزرقاء معاً. فهذا العلم ناشئ من علمنا باستحالة اجتماع المتضادات والمتناقضات، كاجتماع السواد والزرقة في المكان ذاته، ولهذا نفينا إجمالاً أن تكون الكتابة سوداء وزرقاء معاً.

الثاني: هناك علم إجمالي للنفي يقوم على أساس الاشتباه أو التشابه، كإن تقول: ان أحد طلاب الصف غائب، من دون ان تعلم بوجه التحديد من هو الغائب بالذات، فهل هو زيد أم عمر أو خالد؟ فهذا العلم يستند إلى كون معرفتك قاصرة مما سبب لها حالة الإجمال وعدم التحديد.

والفرق بين القسمين، هو ان العلم الأول قائم على معرفة عقلية تعلن باستحالة اجتماع المتناقضات والمتضادات، بينما العلم الثاني ليس قائماً على هذه المعرفة، إذ ليس من المستحيل ان يكون ثمة اجتماع، فيمكن - مثلا ً- ان يجتمع الطلاب في الحضور من غير غياب، فليس في هذا الاجتماع أي تمانع، كما ان غياب الكل ليس فيه تمانع أيضاً، كذلك فإن المعرفة - هنا - يمكن لها ان تتحول إلى معرفة كاملة، فيزول عندها العلم الإجمالي وينحل إلى علم تفصيلي، كإن تعلم بالضبط من هو الغائب من الطلاب. اذاً، ان هذا العلم قائم على معرفة الواقع معرفة قاصرة تبعاً للتشابه أو الاشتباه، بخلاف العلم الأول القائم على المعرفة الضرورية الثابتة.

***

بعد التقسيم السابق سعى المفكر الصدر إلى التعرف على حقيقة المبدأ الأرسطي؛ إن كان ينتمي إلى العلم الإجمالي القائم على التمانع والتضاد، أو إلى العلم الإجمالي القائم على التشابه والاشتباه. وقد توصل من ذلك انه ليس قائماً على أي منهما. فهو ليس ناشئاً على التمانع والتضاد، بإعتبار ان بالإمكان ان تجتمع الصدف دون استحالة أو ممانعة ذاتية. إذ يمكن إفتراض تكرر الصدفة باستمرار طالما كانت القضية لا تنطوي على استحالة عقلية. كما انه ليس ناشئاً على مبدأ التشابه أو الاشتباه، بإعتبار ان هذا المبدأ يفترض انه لو تمت المعرفة لتحول العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي محدد. بينما في حالتنا هذه انه مهما فتشنا عن المواضع الحقيقية لإقتران عدم تكرر الصدفة، فسوف نجد انفسنا عاجزين عن تحديد مثل هذه المواضع، وبالتالي يظل مثل هكذا علم غير قابل للتحديد. لذا فإنه ليس من العلم الإجمالي القائم على أساس ذلك المبدأ.

وعليه اثبت ان المبدأ الأرسطي ليس قائماً على كلا النوعين السابقين للعلم الإجمالي2. وكشف عن هذه الحقيقة من خلال توجيه عدة اعتراضات إلى المبدأ الأرسطي، حيث تبين انه ليس من العلم القائم على التمانع، ولا من العلم القائم على التشابه. ومع ان من الصحيح إعتبار المبدأ الأرسطي لا ينتمي إلى العلمين الانفي الذكر، لكن الطريقة التي عُرضت تبدو - في حقيقتها - خالية من جوهر الاعتراض الموجه إلى ذلك المبدأ.

اذ يمكن أن نتساءل: هل ان العلم الإجمالي ينقسم فقط إلى القسمين المشار اليهما سلفاً، وهما التمانع والتضاد، والتشابه والاشتباه؟ وبعبارة أخرى: ألا توجد أقسام أخرى غير هذين القسمين؟ ذلك انه إذا كان العلم الإجمالي ينقسم إلى القسمين السابقين، فكيف لا يكون المبدأ الأرسطي - وهو من العلم الإجمالي - لا يمت بصلة إلى كل منهما؟ واذا كان هناك قسم آخر للعلم الإجمالي ينتمي إليه المبدأ الأرسطي، فلماذا لم يُذكر مع ان البحث مرتبط به ارتباطاً صميماً؟!

فعدم التعرض إلى تحديد ما عليه المبدأ الأرسطي من علم إجمالي، يجعل الاعتراضات عليه في هذا الخصوص، غير واردة.

وبرأينا ان العلم الإجمالي ينقسم إلى أربعة أقسام كالتالي:

1 ـ علم إجمالي جزئي ناشئ عن التشابه أو الجهل والقصور المعرفي.

2 ـ علم إجمالي عقلي ناشئ عن التمانع والتضاد.

3 ـ علم إجمالي كلي ناشئ عن الدليل الإستقرائي، مثل المبدأ الأرسطي في عدم تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً.

4 ـ علم إجمالي عقلي وشرطي ناشئ عن حسابات الإحتمال مباشرة، مثل قاعدة عدم التماثل، أو الصياغة الصدرية الجديدة للمبدأ الأرسطي.

واذا كنّا قد علمنا مفاد العلم الإجمالي القائم على التشابه، وكذا نظيره القائم على التمانع والتضاد، كالذي افادهما المفكر الصدر، فإن العلم الإجمالي الثالث يعد علماً كلياً من نتاج الإستقراء، كالمبدأ الأرسطي، حيث انه ليس من العلم الإجمالي الناشئ عن التشابه، ذلك لأنه مهما امتدت معرفتنا فسوف لا تحول هذا العلم إلى علم محدد تفصيلي، كما انه ليس ناشئاً عن التمانع، إذ لا تمانع من اجتماع الصدف وتكررها باستمرار. أما العلم الإجمالي الرابع فهو يختلف عن جميع ما تقدم، مثل قاعدة عدم التماثل، وذلك لأن هذه القاعدة هي من العلم الذي لا يقوم على التشابه ولا على الإستقراء لكونها عقلية، كما انها لا تقوم على التمانع، حيث ليس ما يمنع من جهة المنطق ان تجتمع المتماثلات من الظواهر صدفوياً، وبالتالي فإن ميزتها وما يبررها هو كونها ناشئة عن حسابات الإحتمال مباشرة.

مع الاعتراضات السبعة

بقي معنا أن نتعرف على الاعتراضات المطروحة ضد المبدأ الأرسطي، وهي سبعة كالآتي..

مع الاعتراض الأول

غرض هذا الاعتراض ان إثبات العلم الإجمالي لنفي تكرر الصدفة أكثرياً ودائمياً لا يمكن تفسيره على التمانع والتضاد. بمعنى، ان أي عدد نفترضه لإقتران الصدف لا يجعلنا نشعر بتمانع يحول دون تكرر الصدف وإقترانها باستمرار3. وجاء في هذا الاعتراض حالتان، إحداهما تتعلق بإمكان تكرر الصدف من دون أي شرط يتعلق بوجود الظرف، والأخرى تتعلق بأخذ إعتبار وجود هذا الظرف.

في الحالة الأولى نفترض أننا لاحظنا بطريقة عشوائية عدداً من الغربان السود لم يبلغ حداً أكثرياً، بل هو دون ذلك بقليل. وعلى هذا الفرض إذا كان هناك إقتران صدفوي بين الغربان والسواد، فقد جاز للمنطق الأرسطي تبريره، بإعتبار ان تكرر هذا الإقتران لم يبلغ حداً أكثرياً أو دائمياً تبعاً لمبدأ (الصدفة لا تتكرر أكثرياً ودائمياً). إذاً لكي يبلغ هذا الحد ويكون أكثرياً لا بد من المجيء بعدد آخر ضئيل. وفي هذه الحالة نحن بين أمرين: إما ان نجد امتناعاً للحصول على هذا العدد الضئيل من الغربان السود كي لا ينخرق المبدأ الأرسطي، لأنه في مثل هذه الحالة قد وصلنا إلى الإقتران الأكثري للصدفة. وإما ان لا يكون هناك مانع من ايجاد العدد الضئيل لهذه الغربان. وبحكم العقل ليس هناك مانع من ايجاد العدد الضئيل للغربان السود، وبالتالي من الممكن ان نصل إلى الحد الأكثري لإقتران تكرر الصدفة.

هذا هو مضمون الاعتراض على المبدأ الأرسطي في حالة عدم وجود شرط يتعلق بالظرف الذي تتم فيه الملاحظة أو الإختبار. وهو بلا شك اعتراض صحيح فيما يتعلق بعدم وجود ممانعة ذاتية لإمكان تكرر الصدفة باستمرار. ولكن عيبه هو عدم اخذ إعتبار وجود الظرف الذي اكد عليه المنطق الأرسطي، لذا كان لا بد من هذه الخاصية كما هو مفاد الحالة الأخرى من الاعتراض، حيث يفترض وجود إقتران ثالث يضاف إلى الإقترانين السالفي الذكر -السواد والغراب-.

فمثلاً يمكننا ان نتتبع الغربان الموجودة في المناطق الجبلية فقط، ولنفترض اننا حصلنا على عدد من الغربان السود دون الحد الأكثري بقليل، ففي هذه الحالة إذا لم تكن هناك علاقة سببية بين السواد والغراب، فسوف لا نجد ممانعة ذاتية لاجتماع الصدف والحصول على العدد الضئيل الذي يحقق لنا الحد الأكثري لإقتران السواد بالغربان صدفة.

لكن لنفترض اننا إستقرانا جميع الغربان في المناطق الجبلية، ووجدناها سوداً كلها، وكنا نعلم مسبقاً بأن ليس للمناطق الجبلية تأثير على السواد.. فمن الناحية المنطقية قد يكون الإقتران في هذا الإستقراء المستوعب صدفة، وقد يكون متضمناً لوجود السبب المؤثر من نفس الغربان. ولما كان هذان الإحتمالان ممكنين من الناحية المنطقية، فقد يكون من الصعب دحض الإفتراض القائل بأن هناك ممانعة ذاتية لاجتماع الصدف باستمرار. إذ في هذه الحالة لا يمكن أن نجد شاهداً واحداً ضد هذا الإفتراض، مادام الإستقراء مستوعباً لكافة أفراد الغربان، إذ كيف يمكن أن نحصل على غراب ليس أسود اللون؟!

هكذا ينتهي الأمر إلى ان الحالة التي لا نستطيع فيها أن ندحض فكرة امتناع اجتماع الصدف باستمرار، تتحقق فيما لو تم وجود شرطين معاً كالتالي:

1 ـ أن يكون هناك إقتران مستوعب بين الغراب والسواد في ظرف ما، كالمنطقة الجبلية.

2 ـ ان يكون لدينا علم بأن لا تأثير للظرف على سواد الغراب4.

لكن كلا هذين الشرطين يحتاج إلى شيء من المناقشة كما يلي:

ان الشرط الأول ناقص، إذ ان فرضية امتناع اجتماع الصدف لا يبررها الإقتران المستوعب فقط، وإنما الإقتران الأكثري أيضاً، وذلك بإعتبار ان المنطق الأرسطي يحدد دائرة مبدئه في حالتي الإقتران الدائم - المستوعب - والإقتران الأكثري، وانه إعتبر حدوث الصدفة بشكل ضئيل لا يضر بالإستقراء المفيد للعلم (التجربة). وعليه لو كنا نستقرئ حالات أكثرية للإقتران، لكان ذلك مما لا يمكن أن يدحض فرضية امتناع اجتماع الصدف. إذ حتى لو لاحظنا وجود عدد ضئيل من الإقترانات الصدفوية، لكان هذا لا يتناقض مع القول بفرضية امتناع اجتماع الصدف أكثرياً ودائمياً، بإعتبار ان هذه الفرضية مشروطة إما بالأكثرية أو الاستيعاب.

واذا كان الشرط الأول ناقصاً كما سبق، فإن الشرط الثاني غير لازم بالمرة. إذ حتى لو لم يكن لدينا علم بعدم تأثير الظرف أو المنطقة الجبلية على السواد، لما كان بإمكان ذلك ان يدحض فرضية امتناع اجتماع الصدف. ولتوضيح هذه المسألة نلاحظ ان علاقات الإقتران بين العوامل الثلاثة - الغراب والسواد والمنطقة الجبلية - تتضمن أربعة إحتمالات منطقية ممكنة كالآتي:

1 ـ إحتمال أن يكون السواد لا علاقة له بالغراب، ولا بالظرف أو المنطقة الجبلية.

2 ـ إحتمال أن يكون للسواد علاقة ما بالغراب فقط.

3 ـ إحتمال أن يكون للسواد علاقة ما بالظرف فقط.

4 ـ إحتمال أن يكون للسواد علاقة بالغراب والظرف معاً.

والإحتمال الثالث يمكن أن ينفيه المنطق الأرسطي، إذ لو كان للسواد علاقة ما بالظرف فقط؛ لكانت جميع الأشياء في حدود هذا الظرف تبدو سوداء اللون، كالنباتات والحيوانات وغيرها مما هو في دائرة المنطقة، وذلك ما لم تكن هناك موانع عرضية تمنع إحداث السواد على الأشياء، لكن هذه الموانع لا تكون بنظر هذا المنطق أكثرية أو دائمية. لذا لا مجال للأخذ بالإحتمال الثالث.

وهذا لا يعني انه ليس هناك علاقة تأثير للمنطقة الجبلية على السواد في الغراب. فقد يكون هناك نوع من التأثير المزدوج لكل من الغراب والمنطقة على السواد، كما ينص عليه الإحتمال الرابع السالف ذكره. وفي هذه الحالة يصبح من غير الممكن دحض فرضية امتناع اجتماع الصدف باستمرار.

وواضح ان المنطق الأرسطي قد اعطى للظرف إعتباره في العملية الإستقرائية5، مما يعني ان له شيئاً من التأثير الثانوي على النتيجة. وبالتالي قد يتأثر وجود السواد بالمنطقة الجبلية، رغم أن علاقة السببية تعود في الأساس إلى الغراب المقترن معه باستمرار. هكذا لو احتملنا ان يكون للمنطقة الجبلية تأثير ما على حدوث السواد، لكان هذا لا يدحض فرضية المنطق الأرسطي.

اذاً ان تلك الفرضية لا يمكن دحضها سواء علمنا بأثر المنطقة الجبلية، أو بعدم أثرها، أو احتملنا ذلك. إنما الذي يدحضها حالة واحدة فقط، وهي ان نعلم مسبقاً بأن لا أثر للغراب، ولا للمنطقة الجبلية على السواد.. ولكن كيف يتهيء لنا هذا العلم إذا كان لا بد لنا من الالتزام بأخذ إعتبار وحدة الظرف الذي يتم فيه الإستقراء؟

وبهذا نخلص إلى ان عدم إمكان دحض فرضية امتناع اجتماع الصدف باستمرار، يحصل في حالة وجود هذين الشرطين:

الأول: ان يكون هناك إقتران مستوعب أو أكثري، لا ان نقف عند دائرة الحد الأول.

الثاني: ان نتمسك بأخذ وحدة الظرف الذي لوحظ فيه الإقتران بعين الإعتبار، سواء علمنا بعدم تأثير هذا الظرف، أو احتملنا ذلك.

فبحسب هذين الشرطين هناك مبرر لفرضية امتناع اجتماع تكرر الصدفة باستمرار، ولا يمكن دحضها. لكن الوقوف عند حدود هذين الشرطين سوف يجعل المنطق الأرسطي لا يصلح لتفسير الدليل الإستقرائي في حالات كثيرة أخرى مختلفة6.

وبذلك ننتهي إلى ان نتيجة هذا الاعتراض هي انه يمكن دحض فرضية امتناع اجتماع الصدف باستمرار إن لم نشترط فيه وحدة الظرف كما في الحالة الأولى السابقة. أما في الحالة الثانية التي اشترطنا فيها هذه الوحدة الظرفية فإنه لا يمكن للعملية الإستقرائية دحض تلك الفرضية. واذا علمنا أن الحالة الثانية هي التي تناسب فرضية المنطق الأرسطي، لكونها تشترط الوحدة الظرفية، فذلك يعني ان الاعتراض السابق ليس بوسعه ان يثبت عدم قيام العلم الإجمالي للمبدأ الأرسطي على التمانع والتضاد.

مع الاعتراض الثاني

الغرض من هذا الاعتراض إثبات انه إذا توفرت الدواعي والمقتضيات، التي تدعو إلى تكرر الصدف باستمرار، فإن تكررها ليس بممتنع7. ولاجل ذلك لا بد من التمييز بين القضية التي يمتنع حدوثها رغم وجود الدواعي والمقتضيات، وبين القضية التي لا تحدث رغم أن حدوثها ليس بممتنع إذا ما توفرت هذه الدواعي والمقتضيات.

فمثلاً على الحالة الأولى، لو كانت هناك غرفة لا تسع عشرة أفراد، ففي هذه الحالة حتى لو توفرت الدوافع والمقتضيات لدخول كل واحد منهم إلى الغرفة لما كان بالإمكان ان يدخلوها جميعاً مجتمعين، بسبب حالة التمانع والتضاد الحاصلة نتيجة ضيق مساحة الغرفة. فعلى الرغم من توفر دواعي الدخول إلى الغرفة لكل من الأفراد العشرة، إلا انه من المحال ان يجتمعوا فيها جميعاً.

أما في الحالة الثانية، فعلى الرغم من ثقتنا عادة بعدم اجتماع الصدف باستمرار، إلا انه لو كانت مقتضيات وجود هذه الصدف متوفرة لكان الاجتماع ممكناً دون تمانع أو تضاد. فمثلاً على ذلك لو اختبرنا مجموعة من الأفراد واعطينا كل واحد منهم شراباً من اللبن، وحدث ان إقترن هذا الشراب مع ظهور حالة الصداع لكل منهم.. فهذه النتيجة يمكن أن يقال عنها بأنها لم تحدث بفعل تكرر الصدفة، لثقتنا بأنها لا تتكرر باستمرار. ولكن في الوقت نفسه يمكن القول بأنه لا توجد أي ممانعة ذاتية لاجتماع الصدف باستمرار، وذلك فيما لو توفرت الدواعي والمقتضيات لحدوث كل منها.

اذاً تبعاً للدواعي والمقتضيات يمكن التمييز بين قضية ممتنعة كتلك التي عرضناها في الحالة الأولى، وبين قضية ممكنة كتكرر الصدفة باستمرار، رغم الثقة - عادة - بعدم حدوث هذه القضية.

ولا شك ان هذا الاعتراض يتمكن من إثبات كون المبدأ الأرسطي ليس ناشئاً عن الامتناع والتضاد.

مع الاعتراض الثالث

غرض هذا الاعتراض إثبات ان المبدأ الأرسطي ليس ناشئاً عن التشابه والجهل بالمواضع التي تقترن فيها الصدفة باستمرار8. ويستند الإثبات إلى حالة التمييز بين العلم الإجمالي القائم على التشابه وقصور المعرفة، والعلم الإجمالي للمبدأ الأرسطي. فالعلم الإجمالي الأول ينطوي على وجود قضية تتضمن حادثة محددة في الواقع، رغم اننا لا نعلمها بالتحديد، إلا ان من الممكن التأكد منها، فيتحول العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي.

فقد نعلم إجمالاً ان زيداً قد انتسب إلى كلية الطب أو الهندسة. فهذا العلم يعبّر عن وجود حادثة محددة في الواقع هي انتساب زيد إلى إحدى الكليتين، رغم اننا لا نعلم بالضبط ايهما التي انتمى اليها، ولكن من الممكن ان نعلم ذلك بطريقة ما، كإن نسأل زيداً نفسه عما انتسب اليه، فيتحول العلم الإجمالي إلى علم محدد تفصيلي.

اذاً في هذا العلم توجد حادثة ما، نشير إليها اشارة غامضة (إجمالية). في حين أن العلم الإجمالي للمبدأ الأرسطي لا ينطوي على وجود صدفة محددة في الواقع يمكن أن يشار إليها اشارة غامضة أو إجمالية. إذ ان هذا العلم لا يفترض تحديد موضع الصدفة في الواقع، وبالتالي لا يمكنه ان يتحول إلى علم تفصيلي كالذي لاحظناه بالنسبة إلى العلم الإجمالي الناشئ عن التشابه، حيث عرفنا أنه يتضمن وجود حادثة محددة في الواقع نجهلها من حيث التفصيل، إلا انه بالإمكان معرفتها معرفة محددة (تفصيلية).

كما هناك فرق اخر، وهو انه بإمكان العلم الإجمالي الناشئ عن التشابه ان ينتفي فيما لو شككنا بوجود الحادثة. في حين أن العلم الإجمالي للمبدأ الأرسطي لا ينتفي مهما شككنا بوجود حادثة الصدفة في الواقع. فلو شككنا في حادثة انتساب زيد إلى الكلية، لأدى إلى انتفاء العلم الإجمالي القائل بأن زيداً قد انتسب إما إلى كلية الطب أو الهندسة. بينما لا ينتفي العلم الإجمالي للمبدأ الأرسطي مهما شككنا في وجود الصدف الممكن حدوثها.

وبالتالي فهذا الاعتراض ينجح في الكشف عن كون المبدأ الأرسطي يعتبر علماً إجمالياً لا يمت صلة بالعلم الإجمالي الناشئ عن التشابه والجهل المعرفي.

مع الاعتراض الرابع

وغرض هذا الاعتراض إثبات بأن عدم وقوع الصدف في المبدأ الأرسطي إذا كان علماً إجمالياً قائماً على التشابه، فلا بد أن لا يكون عقلياً، حيث كل علم إجمالي من هذا النوع لا يمكن أن يكون من العلوم العقلية9. والاختلاف بين هذا الاعتراض وما سبقه، هو ان الاعتراض السابق اثبت ان المبدأ الأرسطي ليس قائماً على التشابه. بينما يفترض هذا الاعتراض انه لو كان قائماً على التشابه، فسوف لا يكون علماً عقلياً.

فالعلم الإجمالي القائم على التشابه يتحدث عن حادثة محددة في الواقع، لكننا نجهلها بوجه التفصيل، ونعلمها بصيغة الغموض والإجمال. ومع هذا فإن وقوع مثل تلك الحادثة ليس ضرورياً. فلو أُخبرنا بأن زيداً انتسب إما إلى كلية الطب أو إلى كلية الهندسة، فهذا العلم الإجمالي الذي يتحدث عن انتساب زيد لا يمثل علماً إجمالياً ضرورياً، إذ ليس من الضروري لزيد ان يدخل كلية الطب أو الهندسة. وعليه نعرف ان عدم وقوع الصدف في المبدأ الأرسطي إذا كان قائماً على التشابه، فلا بد ان لا يتضمن صيغة الضرورة. إذ ليس من المستحيل على أي صدفة خاصة ان تقع ما دامت ممكنة، واذا كان من الممكن لها ان تقع، فعدم وقوعها ليس من الضرورات. وبهذا يثبت ان عدم وقوع الصدف إذا افترض كونه من العلم الإجمالي القائم على التشابه؛ فلا بد ان لا يكون عقلياً.

ويجدر التنبيه إلى ان هذا الاعتراض يتحدث عن الصدفة الخاصة إن كانت تتضمن ضرورة عدم الوقوع أم لا، وهو لا يتحدث عن خصوصية إقتران الصدف أكثرياً ودائمياً إن كانت تنطوي على الضرورة أم لا. إذ ترتبط المناسبة هنا بالعلم الإجمالي الناشئ عن التشابه، ومعلوم ان هذا العلم يتحدث عن الحوادث المحددة واقعاً، ولا يتحدث عما هو من القضايا الشرطية والمنطقية. وبين هاتين الحالتين فرق كبير، فقد يحصل ان يكون وقوع حادثة - وعدم وقوعها - ليس من الضرورات، مع انها ترجع إلى مبدأ من المبادئ الضرورية، كما هو الحال بالنسبة لقوانين الإحتمالات وحساباتها. لذلك فإن نفي الضرورة حول عدم وقوع الصدفة الخاصة لا يبرهن من هذه الناحية على نفي الضرورة بالنسبة للمبدأ الأرسطي. لذلك يقر المنطق الأرسطي بإمكان وقوع الصدف على مستوى ضئيل، لكنه في الوقت نفسه يعد مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار من القضايا العقلية.

مع الاعتراض الخامس

غرض هذا الاعتراض إثبات كون المبدأ الأرسطي ليس مبدأً قبلياً سابقاً على الإستقراء والتجربة كما يزعم المنطق الأرسطي الذي جعل منه أساساً عقلياً لبناء العملية الإستقرائية10.

والفكرة الأساسية لهذا الاعتراض، انه لو كان المبدأ الأرسطي من المبادئ القبلية السابقة للإستقراء، لما امكن ان يتزعزع إعتقادنا القائم عليه في اكتشاف العلاقة السببية لبعض الحالات.

فمثلاً إذا كان هناك عشرة أفراد مصابين بالصداع، واردنا ان نختبر فيهم تأثير مادة معينة على الصداع، وقد تبين لنا انه ارتفع بعد ذلك مباشرة.. فطبقاً للمبدأ الأرسطي يمكن أن نستنتج بأن هذه المادة هي السبب في رفع الصداع. ولنفترض - سلفاً - ان الإختبارات العشرة السابقة تمثل الحد الادنى من الوصول إلى مستوى الأكثرية في المبدأ الأرسطي، بمعنى أننا لو اختبرنا تسع حالات لكان ذلك لم يبلغ حداً أكثرياً، وبالتالي جاز ان تكون جميع هذه الحالات التسع صدفاً، في حين لو كانت الإختبارات الناجحة عشرة، لكنا قد بلغنا الحد الأكثري، وبالتالي تصبح هذه الحالات غير صدفوية طبقاً للمبدأ المشار اليه11. ولكن إذا عرفنا أن أحد الأفراد العشرة قد استخدم قبل الإختبار مادة أخرى من شأنها رفع الصداع، ولم نعلم ذلك حين التجربة والإختبار.. ففي هذه الحالة سوف يتزعزع إعتقادنا بالسببية؛ لأنه لم تعد تبلغ الحد الأكثري من عدم تكرر الصدفة.

والنتيجة المستخلصة من ذلك هو ان المنطق الأرسطي لم يعد قادراً على تفسير زوال علمنا بالسببية لمجرد علمنا بأن صدفة ما قد حدثت، وهذا يعني انه لا يصلح ان يكون أساساً لبناء الإستقراء، وإلا لما تزعزع علمنا في مثل هذه الحالة.

وحقيقة الأمر ان المنطق الأرسطي يعترف بأن الإستقراء أو التجربة ليس معصوماً عن الخطأ. وهذا يعني انه لا ينكر إمكان ان يتزعزع علمنا بالسببية. فمثل هذا الشذوذ لا يتنافى - عنده - مع إفتراض كون المبدأ السابق أساساً للإستقراء، حيث المنظور في المبدأ هو الجانب الموضوعي، وليس للباحث إلا الكشف عنه، فإذا اخطأ في كشفه فلا يعني بالضرورة ان لا يصلح المبدأ أساساً للإستقراء.. إذ الخطأ في تزعزع العلم يرجع إلى عدم دقة اكتشاف الحالات الموضوعية لمبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار.

وعليه فهذا الاعتراض لا يثبت سوى كون الاعتماد على المبدأ الأرسطي ليس دقيقاً في كشفه عن الحالات الموضوعية، خلافاً للطريقة المستندة إلى الحسابات الإحتمالية التي يمكنها ان تفسر تلك الحالة تفسيراً مناسباً كالذي نبّه عليه المفكر الصدر آخر هذا الاعتراض. إذ في هذه الحالة يمكن أن نستنتج ان عدم تكرر الصدفة في الإختبارات العشرة هو حاصل جمع عدد من الإحتمالات، أي إحتمال عدم الصدفة في الحالة الأولى، وإحتمال عدم وجودها في الحالة الثانية، وكذا في الحالة الثالثة والرابعة وهكذا.. ولكن إذا تبين لنا اكتشاف صدفة في حالة معينة من الحالات، فإن ذلك سيحيل العلم الناتج عن جمع تلك الإحتمالات ويزعزعها.

مهما يكن فإن الخطأ وعدم الدقة كما يمكن أن يحصل في الحالات المنتسبة إلى المبدأ الأرسطي، فإنه يمكن أن يحصل أيضاً في الحالات العائدة إلى الحساب الإحتمالي، حيث إذا لم تكن التجارب دقيقة فإنه يتزعزع العلم الإحتمالي ويتحول إلى حالة أخرى منافية له. ومع ان هذا ممكن فنحن لا نشك في كون الحساب الإحتمالي يمثل الأساس المناسب للإستقراء. وعليه لا بد من التفريق بين الخطأ الذى ينتج بسبب عدم الدقة في الكشف، وبين الخطأ الموضوعي المتضمن في المبدأ ذاته. وان الاعتراض الوارد على الأول لا ينسحب على الثاني.

مع الاعتراض السادس

غرض هذا الاعتراض إثبات ان المبدأ الأرسطي لا يتمكن من تفسير تأثر التجربة والإستقراء بتدخل عوامل أخرى محتملة الوجود والسببية12. فمثلاً إذا أقمنا تجارب كثيرة أظهرت لنا ان هناك إقتراناً مستمراً بين تمدد الحديد وبين الحرارة، فقد نميل للإعتقاد بسببية الحرارة للتمدد، ولكن هذا الميل والإعتقاد يتأثر كثيراً بإحتمالات وجود عامل آخر غير الحرارة، قد يكون هو الآخر يقترن مع التمدد، كما قد يكون السبب في ذلك.

وعلى العموم فإنه كلما ازداد إحتمال وجود هذا العامل في التجارب المقامة، كلما تضاءل بالمقابل إحتمال سببية الحرارة للتمدد، والعكس بالعكس، أي كلما تضاءل إحتمال وجود العامل المجهول، كلما ازداد إحتمال سببية الحرارة.

ويمكن لحاظ حالتين مفترضتين بهذا الصدد، فهناك حالة نكون فيها على علم مسبق بوجود بعض العوامل أو الاسباب - غير الحرارة - التي يمكنها ان تمدد الحديد كما تمدده الحرارة، ولكنّا لا نعلم بوجودها خلال التجارب المقامة، فكل ما نعلمه هو وجود الحرارة فقط. كما هناك حالة ثانية لا ندري فيها إن كانت توجد عوامل أخرى بإمكانها ان تمدد الحديد أم لا.

ويلاحظ ان إحتمال سببية الحرارة لتمدد الحديد في الحالة الأخيرة أعظم مما هو في الحالة الأولى. ففي الحالة الأخيرة يتأثر هذا الإحتمال - لسببية الحرارة - بإحتمال وجود العامل الآخر وإحتمال سببيته معاً. فقد يكون بإمكان العامل الآخر ان يمدد الحديد، واذا كان بإمكانه ذلك، فقد يكون موجوداً في التجارب المقامة. وبسبب وجود هذين الإحتمالين معاً، فإن النتيجة الحاصلة لإحتمال سببية العامل الآخر لتمدد الحديد في التجارب المقامة تصبح ضئيلة أكثر، إذ في هذه الحالة يضرب الإحتمالان مع بعض، وحينها يتضاءل الإحتمال في النتيجة. إذ كلما ازدادت عوامل الضرب في القيم الإحتمالية، كلما ازداد العدد نقصاناً في النتيجة. واذا تناقصت النتيجة بهذا الشكل، فإنه سيزداد إحتمال سببية الحرارة للتمدد في التجارب بشكل يتناسب عكسياً مع ذلك النقصان. في حين هناك إحتمال واحد فقط في الحالة الأولى، وهو الإحتمال الخاص بوجود العامل الآخر الذي يمكنه ان يمدد الحديد خلال التجارب المقامة. ولا شك ان هذه الحالة ذات قيمة إحتمالية أكبر من الحالة الأخيرة، ولهذا ستؤثر على إحتمالية الحرارة لتمدد الحديد، بحيث تصبح أقل مما هو الحال مع إفتراض الحالة الثانية.

هكذا يستنتج المفكر الصدر بحق، ان حالة تأثر قيمة إحتمال سببية العامل المقترن بقيم إحتمالات العوامل الأخرى المجهولة؛ لا يمكن أن تفسر على ضوء المبدأ والمنطق الأرسطي. فهذا المبدأ لا يتحدث مطلقاً عن إحتمالات التأثر بالعوامل الأخرى المجهولة، بل يتحدث فقط عن العلاقة بين ظاهرتين معاً باستمرار. الأمر الذي يدل على النقص الذي ينتاب المبدأ الأرسطي في علاقته بالإستقراء والكشف عن السببية.

مع الاعتراض السابع

غرض هذا الاعتراض إثبات ان المبدأ الأرسطي ليس علماً عقلياً ضرورياً، بل هو وليد جمع عدد كبير من الإحتمالات13. والطريقة الموظفة لهذا الغرض هي البرهنة على كون المبدأ الأرسطي ليس من القضايا العقلية، حيث لو ثبت ذلك لتعين انه نتاج الإستقراء عبر حسابات الإحتمال.

وتعتمد طريقة البرهان على مقدمة تقول: ان كل علم عقلي لا بد أن ينطوي على ملازمة بين القضية التي يقرها هذا العلم وبين قضية أخرى شرطية تمثل تطبيقاً واقعياً للقضية الأولى العقلية. فإذا عرفنا أن القضية القائلة (الكل أكبر من الجزء) هي قضية عقلية، كان بالإمكان ان نرتب عليها قضية أخرى شرطية تلازمها، ومفادها: ان هذا لما كان (كلاً)، وذلك (جزءاً)، فلا بد ان يكون هذا (الكل) أكبر من ذلك (الجزء).

ويترتب على هذه المقدمة النتيجة التالية:

ان المبدأ الأرسطي القائل بعدم تكرر الصدفة باستمرار، لو كان عقلياً لصحت القضية الشرطية التي تقول: انه لما كانت هذه صدفة، فلا بد ان لا تتكرر باستمرار حتماً، وذلك من اجل ان تطابق القضية العقلية وتلازمها. إلا ان هذه القضية (الشرطية) ليست صحيحة، وإن كنّا نعتقد ونثق بعدم تكرر تلك الصدفة باستمرار.

هكذا لما كانت القضية الشرطية ليست صحيحة، فهذا يثبت ان المبدأ الذي تفرعت عنه ليس عقلياً، لضرورة الملازمة بين الامرين السابقين. وبعبارة أخرى وطبقاً للتلازم، انه إذا كانت إحدى القضيتين ضرورية؛ كانت الأخرى مثلها أيضاً، واذا لم تكن الأولى ضرورية؛ فإن الأخرى تكون غير ضرورية تبعاً لها. وعليه يثبت كون المبدأ الأرسطي ليس من المبادئ الضرورية العقلية. وبالتالي فإنه يكون نتاج الإستقراء عبر جمع الحساب الإحتمالي.

مع انه يمكن أن يقال بأن الطريقة المتبعة في البرهنة لم تكن صحيحة. ومصدر الخطأ في المقدمة التي تقول ان كل علم عقلي لا بد أن تلازمه قضية شرطية واقعية تتفرع عنه. فلا شك ان هذا التعميم غير صحيح، وذلك انه ينطبق على العلوم العقلية غير الإحتمالية، أما هذه الأخيرة فإن المطابقة فيها غير لازمة كما اتضح لنا من قبل.

وعليه لو ان قائلاً إعتبر المبدأ الأرسطي يعبّر عن قضية عقلية قائمة على مبادئ وحساب الإحتمال مباشرة؛ لما صدق عليه الاعتراض السابق. ذلك ان القضية الشرطية المتفرعة عنه لا تتطابق معه بالضرورة، رغم أنه يظل عقلياً. فهناك شرطان يتوقف عليهما صدق هذه الحالة:

الأول: كون المبدأ يتضمن الحديث عن المضامين الإحتمالية لا اليقينة، مثل الصيغة القائلة: ان من المستبعد جداً تكرر الصدفة باستمرار.

الثاني: كونه يقوم مباشرة على حسابات الإحتمال دون ان يتأثر بالواقع اطلاقاً.

ولهذا إعتبرنا قاعدة عدم التماثل أو الصياغة الجديدة للمبدأ الأرسطي من القضايا العقلية التي تنطوي على الضرورة، وان القضايا الشرطية الواقعية المتفرعة عنها لا تطابقها بالضرورة.

النتائج الأخيرة لقيم الاعتراضات

اتضح لنا مما سبق ان هناك جملة من الاعتراضات الصحيحة الموجهة ضد المنطق الأرسطي، وهي باختصار كما يلي:

الاعتراض الثاني: حيث يثبت ان تكرر الصدفة باستمرار ليس ممتنعاً، وذلك فيما لو توفرت الدواعي والمقتضيات التي من شأنها احداث هذا التكرر.

الاعتراض الثالث: حيث يثبت ان المبدأ الأرسطي ليس ناشئاً عن التشابه والجهل المعرفي بالمواضع التي لا تقترن فيها الصدفة باستمرار.

الاعتراض الرابع: وهو يثبت ان عدم وقوع الصدف إذا افترض كونه من العلم الإجمالي القائم على التشابه؛ فلا بد ان لا يكون عقلياً، لكون هذا العلم لا يملك صفة القضايا العقلية.

الاعتراض السادس: ويثبت ان المبدأ الأرسطي ليس بمقدوره ان يفسر تأثر التجربة والإستقراء بعوامل أخرى محتملة الوجود والسببية.

هذه هي الاعتراضات الصائبة التي يصدق توجيهها ضد المنطق الأرسطي. لكن ما تبقى من الاعتراضات فقد كانت موضع نقد ونقاش. وهي كما مرت معنا كالتالي:

الاعتراض الأول: حيث تبين ان هناك عجزاً عن إثبات عدم قيام المبدأ الأرسطي على التمانع والتضاد، تبعاً لاخذ إعتبار عامل الوحدة الظرفية التي أكد عليها هذا المنطق.

الاعتراض الخامس: وفيه انه لم تتم البرهنة على نفي اسبقية المبدأ الأرسطي على الإستقراء والتجربة، بطريقة زوال العلم الحاصل نتيجة خطأ بعض الإستقراءات القائمة على ذلك المبدأ.

الاعتراض السابع: وفيه لم يتم التمكن من إثبات عدم عقلية وضرورة المبدأ الأرسطي عن طريق الملازمة بين مضمون هذا المبدأ وبين القضية الواقعية المتفرعة عنه.

هكذا هناك أربعة اعتراضات صائبة من مجموعها السبع. ولو حددنا طبيعة العلم الإجمالي الذي ينتمي إليه المبدأ الأرسطي لكانت جميع الاعتراضات التي وجهت إليه - في هذا الصدد - ليست جوهرية. والاعتراضات التي ستفقد قيمتها عندئذ تتمثل بالاربعة الأولى من المجموع الكلي. واذا اضفنا إلى ذلك ما تبقى من الاعتراضات الأخرى غير الصائبة - وهي الخامس والسابع - فستكون المحصلة عبارة عن وجود اعتراض واحد صحيح، هو السادس الذي يقر عدم استطاعة المنطق الأرسطي من تفسير تأثر التجربة والإستقراء بعوامل أخرى محتملة الوجود والسببية.

لكن تظل القضية الجوهرية هي ما اثبته المفكر الصدر من أن المبدأ الأرسطي ليس من المبادئ الضرورية، وبالتالي لا يصح إعتباره من القضايا العقلية.

 

1 الأسس المنطقية للإستقراء، ص51ـ52.

2 لاحظ، ص52.

3 لاحظ، ص54ـ59.

4لاحظ، ص58.

5 البرهان، ص96ـ97.

6 لاحظ، ص59.

7 لاحظ، ص60.

8 لاحظ، ص61ـ62.

9 لاحظ، ص62ـ64.

10لاحظ، ص64ـ66.

11 يلاحظ ان استخدام التحديد العددي لعدم تكرر الصدفة ليس دقيقاً، لكن المفكر الصدر اضطر إليه لتبسيط المطلب.

12لاحظ، ص67ـ68.

13 لاحظ، ص68ـ69.   

comments powered by Disqus