-
ع
+

الإستقراء وأنماطه المختلفة

يحيى محمد

للإستقراء الناقص عدد من الأنماط والإعتبارات كما يلي:

1ـ نمط الإستقراءات المثبتة للتعميم، كالإستقراء الذي يثبت ان كل حديد يتمدد بالحرارة، وان الشمس تشرق وتغرب دائماً. وعلى عكسه الإستقراءات المثبتة لحالة خاصة، كالذي يثبت مثلاً ان ضوء القمر مستفاد من الشمس، وان مصدر الارض هو الشمس، وان الله صانع هذا الكون، وان هذه الوردة بيضاء وذات عشر وريقات... الخ.

2ـ نمط الإستقراءات المهتمة بالأفراد المتشابهة في الخصائص الأساسية، كما في المثال المتقدم حول تمدد الحديد بالحرارة، حيث ان أفراد الحديد وكذا الحرارة، كلها تتشابه من حيث الخصائص الأساسية، أي انها متحدة في عنصر الماهية حسب الإصطلاح المنطقي. وعلى العكس من ذلك الإستقراءات التي تهتم بالجوانب المختلفة للماهية، كالذي يستقرئ التكاثر الجنسي لدى الحيوانات المختلفة، مثل القرد والحصان والفأر والسمك وما إلى ذلك، وكالذي يستقرئ حركة الفك الاسفل عند المضغ لدى الحيوانات.

3ـ نمط الإستقراءات ذات النتائج اليقينة أو المتاخمة للعلم، كالإستقراء الذي يثبت ان الله تعالى هو صانع هذا الكون، وان الحديد المختبر يتمدد بالحرارة، وان زيداً من الناس سيموت، وان ذلك اليورانيوم سيتحول عبر الزمن إلى رصاص، وما إلى ذلك من نتائج إستقرائية مؤكدة أو شبه مؤكدة. وعلى خلافها هناك إستقراءات لا تفيد اليقين ولا الإطمئنان، وبعضها قد ثبت بطلانها، مثل التعميم القائل بأن كل غراب أسود، فهو تعميم لا يبعث على الإطمئنان، فربما نجد غراباً أبيض، وشبيه بذلك ما ظنه الاوروبيون طوال قرون عديدة من أنه لا يوجد غير البجع الأبيض، حتى اكتشفوا أخيرا البجع الأسود في استراليا. ومثله التعميم القائل بأن كل حيوان يتكاثر جنسياً، فقد يتبادر لنا عند إستقرائنا لظاهرة التكاثر لدى عدد كبير من الحيوانات بأن التعميم صحيح، في حين أنه خاطئ، فهناك طائفة من الحيوانات البدائية تتكاثر بطرق لا جنسية، مثل طريقة الانشطار وما اليها.

4ـ نمط الإستقراءات ذات العلاقة السببية، كالمثال القائل بأن غليان الماء ناتج بسبب الحرارة، وان سقوط الأشياء على الارض حاصل بسبب الجاذبية، وغير ذلك مما لا يحصى. وعلى عكسه الإستقراءات غير القائمة على السببية، كإستقراء تتابع الليل والنهار، وإستقراء إقتران السواد بالغربان، ووجود العينين فوق الآنف لدى الإنسان، وما إلى ذلك.

ويتفرع عن هذا النمط بعض الاصناف الهامة، من قبيل الإستقراءات التي تتعلق بتوليد ظاهرة معينة بطرق مختلفة. فمع ان الاسباب مختلفة، إلا انها متكافئة من حيث القدرة على توليد الظاهرة. فمثلاً رغم أنه بالإمكان إنتاج الحيوانات بطرق جنسية، فإنه يمكن كذلك إنتاجها بأساليب الاستنساخ غير الجنسية.. وكما يمكن توليد الطاقة الحرارية بواسطة النار مثلاً، فإنه يمكن توليدها عن طريق الاشعة الضوئية أو التيارات الكهربائية أو الاحتكاك أو غير ذلك. كما يتفرع عن النمط السابق صنف الإستقراءات القائمة على إعتبارات التأثيرين الدوري والمتبادل. فمن أمثلة التأثير الدوري علاقة الدجاجة بالبيضة، فالدجاجة تولد بيضة، والبيضة تنتج دجاجة، وكذلك علاقة الكهرباء بالضوء، حيث ان كلاً منهما يمكن أن ينتج الآخر. أما من أمثلة التأثير المتبادل، فكما هو ملاحظ بالنسبة للعلاقة بين الإنسان والمجتمع من جهة، وبين العامل الاقتصادي من جهة أخرى. فالاقتصاد يعتبر عاملاً من عوامل تغيير الإنسان أو المجتمع، ولكن هذا الأخير يعتبر بدوره عاملاً مهماً بالنسبة إلى التأثير على الاقتصاد.. وبالتالي يمكن أن تتولد من ذلك حركة جدلية متفاعلة بين الطرفين.

5ـ نمط الإستقراءات ذات العلاقات النسبوية، كالذي عليه قانون دوركايم الاحصائي في الانتحار (الاناني)، حيث ينص على أن الانتحار يتناسب تناسباً عكسياً مع التماسك الاجتماعي، فكلما ازداد التماسك كلما قلّت نسبة الانتحار، والعكس بالعكس. ومثل ذلك أيضاً قانون علاقة الضغط بحجم الغاز، حيث ينص على أن حجم الغاز يتناسب تناسباً طردياً مع الضغط المسلط عليه عند ثبوت درجة الحرارة. فهذا النمط يستقرئ علاقات الأطراف من حيث نسبة بعضها إلى البعض الآخر، سواء كانت هذه العلاقات تتضمن السببية أو لا تتضمنها، وسواء كانت طردية أو عكسية.

6ـ نمط إلا ستقراءات المتعلقة بالاشياء الثابتة الاطراد، كتتابع الليل والنهار، وشروق الشمس وغروبها، وتبدد الطاقة، وحركة الأشياء دائماً. وعلى عكسها الإستقراءات التي تتعلق بالاشياء المشروطة أو غير المطردة، من قبيل غليان الماء المشروط بعدد من الظروف كدرجة الحرارة والضغط وما إلى ذلك.

7ـ نمط الإستقراءات المناسبة للتفسيرات القائمة على الإفتراضات العلمية، كالإفتراضات الخاصة بنظريات العلوم الطبيعية مثل الجاذبية والنسبية، والإفتراضات المتعلقة بتفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية والسياسية وغيرها.

8ـ نمط الإستقراءات الخاصة بالكميات الرياضية، مثل علاقة الضغط الجوي بمستوى الارتفاع والانخفاظ في الارض، أو علاقة الضغط الجوي بضغط الدم، فكلها تقدر بكميات حسابية وفقاً للاكتشاف الإستقرائي أو التجريبي.

9ـ نمط الإستقراءات الخاصة بالعلاقات الرياضية، وهي إما ان تعطي تعميمات صحيحة، أو انها لا تقبل التعميم رغم ما تحظى به أحياناً من تواتر في الحدود المتوالية. ومن مصادفات هذه الحالة الترتيب الرياضي التالي:

 

9 × 9 + 7 = 8 8

8 9 × 9 + 6 = 8 8 8

7 8 9 × 9 + 5 = 8 8 8 8

6 7 8 9 × 9 + 4 = 8 8 8 8 8

5 6 7 8 9 × 9 + 3 = 8 8 8 8 8 8

4 5 6 7 8 9 × 9 + 2 = 8 8 8 8 8 8 8

3 4 5 6 7 8 9 × 9 + 1 = 8 8 8 8 8 8 8 8

 

ومن أمثلة هذه المصادفات ما يلاحظ في ثلاثية الحدود التالية:

(ن2 + ن + 41)، إذ التعويض في العامل (ن) بأي رقم كان من الواحد وحتى الاربعين يعطينا ناتجاً عدده اولي، أي صفته لا يقسم على عدد صحيح آخر، لكن عندما تبلغ (ن) حد الاربعين فإن الناتج سوف لا يكون اولياً، ذلك انه يساوي (1681)، وهو يقسم على العدد (41).

ومن الطريف ان الفيلسوف الرياضي لايبتنز كاد يصل إلى تعميم إحدى الحالات الرياضية؛ لولا انه استدرك الشذوذ بنفسه، حيث لاحظ في عدة حالات ان العلاقة التالية:

(نم- ن) تقبل القسمة على (م) حينما تكون (ن) عدداً صحيحاً، و(م) عدداً فردياً. فالعدد (ن3 - ن) يقبل القسمة على (3), والعدد (ن5 - ن) يقبل القسمة على (5), والعدد (ن7 - ن) يقبل القسمة على (7). لكن هذا الاطراد يبطل مع العدد (ن9 - ن)، إذ ان (92 – 2 = 510) لا تقبل القسمة على (9)، كما لاحظ لايبتنز ذلك بنفسه.

وبمثل هذه الحالة ارتكب عالم الرياضيات السوفيتي جرافي خطأً من ذلك النوع، حيث افترض انه إذا كانت (ن) عدداً اولياً فإن العدد (2ن-1 -1) سوف لا يقبل على الدوام القسمة على (ن2)، وقد اكد التعويض المباشر صدق هذا الإفتراض لجميع الاعداد الأولية الاقل من الالف، إلا انه سرعان ما ثبت ان العدد (10922 -1) يقبل القسمة على (1093)2، وبه يبطل الإفتراض السابق1.

وفي قبال ذلك توجد بعض الإستقراءات الرياضية الصحيحة من دون شذوذ، مثل الذي اكتشفه عالم الرياضيات فرما ومن ثم برهن عليه، وهو ينص على أن كل عدد أولي يكتب بالشكل التالي (4ن + 1) فإنه سيساوي مجموع مربعي عددين طبيعيين. وتتحقق الاعداد الاولية عندما تكون (ن) مساوية لـ (1) أو (3) أو (4) (7) أو غير ذلك2، فعند هذا الشرط تصبح معادلة فرما صحيحة كما يتوضح من الأمثلة التالية بحسب ما تكون عليه الاعداد السابقة لـ (ن) على التوالي3:

4 × 1 + 1 = 5 = 21 + 22

4 × 3 + 1= 13 = 23 + 22

4 × 4 + 1= 17 = 21 + 24

4 × 7 + 1= 29 = 22 + 25

 

 

1لاحظ هذه الحالات واشباهها في: سومينسكي وجولوفينا وياجلوم: الإستقراء الرياضي، ترجمة احمد صادق القرماني، دار مير، موسكو، ص7ـ11 .

2العدد الأولي هو الذي لا يقبل القسمة على غيره بلا كسور.

3انظر: زلاتكاشبورير: الرياضيات في حياتنا، ترجمة فاطمة عبدالقادر المما، عالم المعرفة (114)، ص105.

comments powered by Disqus