-
ع
+

مسلم عبدالله المسافر: من المذهبية الى المنهجية.. مشروع يحيى محمد

تمثل المذهبية في الواقع الانغلاق الفكري والتعصب والدوغمائية والعنصرية واسر النصوص الدينية في التاريخ والجغرافيا، والى اخر ما يمكن تصوره من مساوئ وعيوب كشف عنها تاريخ الاديان على مدار حياة الانسان على هذا الكوكب؛ منذ ان عرف التدين ولامس قلبه الشوق الى مصافحة الغيب. والمذاهب الاسلامية ليست استثناء من ذلك، وقد تنبه كثير من المفكرين لهذه المساوئ والعيوب وخرجوا منها بطرق شتى؛ إما عبر عمليات التأويل والحرف والعدول بسبب ان خلفياتهم الفكرية لا تمكنهم من الوصول الى اكثر من ذلك، كبعض علماء الدين ذوي النزعة الانسانية والعقلية الرائعة، وهم موجودون في مختلف المذاهب الاسلامية وان بقلة.. وإما بتجاوز الدين نفسه للتخلص من عيوب هذه المذهبية، كما هو حال المفكرين العلمانيين عندنا وفي كل الاديان ممن يتصفون بامتلاك الادوات العلمية والثقافية العصرية التي تمكنهم من اكتشاف هذه العيوب.

لكن هناك طريقاً ثالثاً اختاره المفكر الاسلامي يحيى محمد للخروج من نفق المذهبية المظلم دون التورط في تجاوز الدين، ودون البقاء في اسر الثقافة المذهبية التراثية ومحاولة الالتفاف عليها في جزئيات المسائل عبر التأويل وتقنيات التحوير والحذف والتشذيب واحيانا السكوت وغض النظر عن مساوئها.. وهو القائل: (اذا كان الطريقان يوهمان بايصالك الى المقدس عبر سلاسل معقدة من السلالم، فعندذاك عليك بالطريق الثالث).

لقد تمثل الطريق الثالث باتباع المنهجية كبديل عن المذهبية. فالاولى تقود الى الانفتاح الفكري والانصاف والتواضع العلمي، بل وفك اسر النصوص الدينية من الدفن في تاريخ ماض وجغرافيا ضيقة. لقد ابتكر يحيى محمد سلاحه المنهجي، وهو علم الطريقة القائم على البحث الابستمولوجي، مبتعداً عن الانحيازات المذهبية التي تطوع وتلوي عنق  البحث العلمي لاختياراتها الايديولوجية؛ برغم انف الدين والتاريخ والعقل والواقع. والناظر في انتاج كثير مما يسمى بمراكز الابحاث في كل المذاهب يملؤه العجب ممن يلبسون لباس الباحثين العلميين وهم يكرسون الجهل المتعمد لابناء الامة، ويدقون طبول الخصومات المذهبية بلا وازع من حياء لمجرد الانتماء العاطفي لمذهب ولدوا بين اهله، وللاسف انهم باعداد كبيرة..

واول ما يواجهنا في البحوث الدينية هو القطعية المذهبية في مسائل هي من قبيل القضايا الاجتهادية الخلافية التي لا ترقى دلالتها الى القطع في اكثر الاحيان، بل في 95% من مجموع القضايا الدينية لا تتعدى الظن، كالذي يشير اليه يحيى محمد في دروسه وكتاباته، الامر الذي  يعني التسليم بالتعددية.. فهو يرى  أن الممارسة في داخل الفكر الإسلامي إنما كانت ممارسة اجتهادية، وبالتالي فانها تبعث على التعددية. وأكثر من ذلك أن هذه التعددية داخل الفكر الإسلامي هي ليست تقابلية، بل تداخلية. بمعنى أن أية فكرة يمكن أن تجدها في ذهنك وأنت تنتمي إلى مذهب معين ستجدها واردة أيضا في المذهب الآخر.

كما يؤكد بأن الصراعات المفتعلة بين المذاهب الاسلامية التي تصل الى حد تبادل التهم بالتكفير واهدار الدم هي مبنية بالاساس على الاعتبارات الايديولوجية والمصالح الطائفية الوقتية لا غير، والا فما من مذهب الا وفيه من الاراء ما في المذهب الاخر، وان الفروقات الموجودة على الساحة هي متداخلة  بشكل كبير. فالشيعة والسنة لديهم ما يتفقون عليه وما يختلفون حوله في الموضوع نفسه بشكل متداخل على جميع المستويات.

لكن ما علة هذا الصراع المفتعل بين الطرفين؟ وما علة ما يحدث من القتل الجماعي الوحشي كما نشاهده اليوم والذي لا يفرق بين الصغير والكبير والمرأة والرجل، سوى الهوية؟.. ما الذي يدعو المسلم الى ان يضحي بنفسه من اجل حصد اكبر عدد ممكن من ارواح المسلمين وغيرهم من الابرياء بحجة الكفر والشرك وعدم الايمان وما اليها من دواعي دينية؟ فهل يجد هذا القاتل اصلاً دينياً لما يقوم به؟ وبالاحرى هل يجد الآمر والمفتي بالقتل ما يبرر له جريمة قتله في تحريضه على القتل الاعتقادي؟

فهذه اسئلة يطرحها مفكرنا وهو يعي ان المشكلة قديمة حديثة، ولها مفرزات ونتائج كثيرة تظهر في اوساط مجتمعاتنا، كمظاهر الانغلاق الطائفي والتعصب والتطرف والتكفير والقتل المجاني. ولهذه المفرزات جذور تتعلق بالفهم الديني، وهي امور خارجة عن السيطرة لحد الآن وتعود الى الواقع المفروض. فرغم ان الكثير منا يراها بعيدة عن مقاصد الاسلام وروحه باعتبارها مظاهر سلبية ومضرة للغاية، أو على الاقل أنها متخلفة وغير حضارية، لكنها تظل – مع ذلك - مرتبطة بفهم الكثير من الجماعات المسلمة التي تفهم الاسلام بهذه الصورة او تلك. وهي مشكلة ليست جديدة علينا، بل لها من القدم ما يفوق غيرها من المشاكل.

لذا لا بد من الخروج من المأزق الطائفي والمذهبي عموماً.. وهو الفعل الذي قدمه مفكرنا ضمن اطرحته الموسومة: نظرية التجاوز المذهبي ((لا للعداء ولا الوحدة ولا التقريب، بل للتجاوز)).

وقد يقال بحق الذين ينقدون المذهبية بأنهم متمذهبون.. فمن جاوز المذهب أو نقضه فقد تمذهب هو الآخر، لكن استاذنا انتقد المذهبية دون ان يقع أسيراً لها، بل تجاوزها الى المنهجية، فهو يطرح نظرية لتجاوز المذاهب عن طريق استبدال البحث المذهبي - الذي لا يفضي الا الى الصدام والانحياز والانغلاق والدوغمائية والتعصب - بالبحث المنهجي. ففي البحث الاخير تتبين حالات الصراع والتصالح المعرفي التي تختلف جذراً عن تلك التي تجري بين المذاهب كالذي كشف عنه في بعض حواراته. وهذا ما يجعل المشروع مهماً جداً باعتباره يجعلنا نتجاوز التفكير المذهبي والانغلاق الطائفي، والتي أدى بها الامر الى جعل المذهب أساس العلم لا العكس، ومن ثم سقطنا بالفكر الآيديولوجي وضياع الحقيقة. وأصبح الهدف المنشود لا يتعالى على الاعتبارات (القبَلية او العشائرية).

لقد أسقط المفكر يحيى محمد كافة الاعتبارات الايديولوجية المذهبية من حساباته، وهو يرى أن أهم ما يتميز به المشروع الذي يشتغل عليه هو أنه مشروع متعلق بالفهم كفهم دون اعتبارات اخرى، وأنه قائم على البحث المنهجي. فمن جهة أنه لأول مرة توضع مسألة ‹‹الفهم›› تحت طائلة البحث والتفكير كموضوع في ذاته، ومن جهة ثانية ان تناول هذا الموضوع قد تم طبقاً للمعايير المنهجية، فالبحث الجاري فيه هو بحث منهجي يتجاوز الاعتبارات المذهبية، فهو من جهة يوحد بين المذاهب ليجمعها في مناهج محددة، كما أنه يفكك المذهب الواحد الى مناهج متعددة متضاربة، بمعنى أن هذا البحث يفضي الى التعالي عن المذاهب بجمعها تحت طائلة المنهج، كما ويكشف عن الحرب المستعرة بين المناهج داخل المذهب الواحد، فللمذاهب حضور في المنهج الواحد، كما للمناهج المتعددة حضور في المذهب الواحد ايضاً. بل حتى على صعيد المضمون الفكري، لا تجد أفكاراً هنا الا وتجد مثلها هناك، سواء اعتبرنا هذه الافكار صحيحة أو خاطئة، فما موجود في هذا المذهب له نظيره في المذهب الاخر، والعكس بالعكس. كل ما في الامر قد تجد الغلبة المعرفية للفكرة في هذا المذهب، في حين تجد الندرة لهذه الفكرة لدى المذهب الاخر. وقد ينعكس الامر تاريخياً وقد يتناوب الحال بين المذاهب. وبالتالي فهناك تعددية تداخلية تتيح للبحث المنهجي أن يؤدي دوره للعمل دون الوقوع في براثن المذهبية والاسقاطات الايديولوجية، كالذي كشف عنه في (مدخل الى فهم الاسلام).

والحقيقة انه بهذا يسحب البساط من تحت أقدام التوظيفات الايديولوجية التي تجعل من المذهب وكأنه صخرة واحدة صماء متجانسة وعلى الضد من المذهب الاخر.

ومفكرنا رجل واقعي حتى النخاع، ويعلم ثقل الواقع المزري البادي للعيان والذي لا يمكن اخفاؤه ولا تجميله بالاماني الكاذبة التي تقوم على تزوير الحقائق، بالاضافة الى معرفته بادق تفاصيل الصراعات الفكرية المذهبية التي مازالت تلقي بظلالها على المسلمين اليوم.

وهو يرى أن حل هذه الاشكالية من الناحية العملية أو من حيث الواقع يحتاج الى زمن طويل، اما من الناحية النظرية فمن الممكن حل اشكالية الفهم دون التورط في المأزق المذهبي، فمن خلال التفكير المنهجي يمكننا ابداء تصورات تختلف عن تلك التي ترسمها لنا المذاهب وتقيدنا بها. فرغم أن من ضمن ما يشتغل عليه المشروع هو الافكار المذهبية، الا أن صيغة البحث ونتائجه لا علاقة لها بهذا الحد من الانغلاق. وبالتالي فالنتيجة التي يدعو اليها تتجاوز الصيغ المذهبية لتدخلنا في عصر مختلف طبقاً لعلم جديد أطلق عليه (علمالطريقة) وهو يدخل فيما يسميه البحث الطريقي للفهم، وهو يختلف عما يمارس لدى العلماء والذي يطلق عليه (البحث الاستنباطي للفهم).

وقد قام استاذنا بجهود ملموسة في هذا المجال، فمن خلال شواهد البحث يتبين عمق هذه التعددية التداخلية بين المذاهب المشار اليها، عبر رجوعه لمئات المصادر والمراجع لكلا المذهبين الشيعي والسني على حد سواء، الى درجة أن القارئ له لا يستطيع أن يحدد خلفيته الفكرية ما لم يكن من متابعي الحوارات والندوات واللقاءات المنشورة عنه. وهذا في حد ذاته يؤكد صدق نظريته التي تهدف الى امكانية الخروج من بوتقة المذهبية الى فضاء البحث العلمي الحر عن طريق المنهجيات التى أبدعها والتي يمكن أن نجد تلخيصاً وافياً لها في كتابه القيم [بحوث في علم الطريقة]

 على ذلك فرغم كل ما يحمله الواقع من معضلات نراهن على هذا المشروع وندعو النخب المثقفة في العالم الاسلامي والعربي لتبنيه، وعلى الاقل محاورته والتعاطي معه، فهو مشروع جاد يلتقي فيه الشيعي والسني على الاسلام من دون حساسيات مفتعلة تتم عبر نبش التاريخ بلا طريقة علمية محايدة، بل باساليب الولاء الطائفي والمراهنات الايديولوجية. فهذا المشروع يزرع الامل في نفوس اليائسين ليتقدموا بخطوات جادة نحو المستقبل..

 

comments powered by Disqus