-
ع
+

حوارات فهم الدين مع يحيى محمد (2): مدخل إلى فهم الإسلام

(ضمن سلسلة حوارات الصحفي العراقي يوسف محسن) 

كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام الفكر الإسلامي: نظمه.. أدواته.. أصوله ) يتكون  من ثلاثة أقسام لكل منها عدد من الفصول، في القسم  الاول  منها يخص علم الطريقة، وهو ممهد للقسمين الآخرين، إذ يتضمن القسمان مجمل نُظم التراث  المعرفي، وبالتحديد فإنهما يدرسان  نظامين معرفيين متضاربين، أحدهما يتعلق بالفلسفة والعرفان كنظام مستقل قائم، والآخر يتعلق بعلم الكلام والفقه وسائر علوم المتشرعة، ولكل منهما دائرتان معرفيتان مختلفتان. يضاف إلى أن الباحث يحيى محمد وضع في آخر الكتاب خاتمة تخص المقارنة بين حضارات البشر الأساسية المنظّرة للعالم والمعرفة، وهي ثلاثة من بينها حضارتنا الإسلامية. يقول الباحث : في هذا العمل سنتخذ استراتيجية جديدة نبحث فيها عن (فهم الإسلام) وما يمكن أن يقدّم من جديد بهذا الصدد. وبذلك نكون قد حققنا هدفين معاً. فمن جهة أننا بهذه الطريقة سنتعرف على التراث من زاوية إبستيمية ومنهجية، وهي القضية التي وجدت لها إهتماماً بالغاً لدى الفكر المعاصر. كما يمكننا – من جهة ثانية - أن نطرق باب البحث حول (الفهم) عبر ما قُدّم ويُقدّم من طرائق معرفية لهذا الغرض. لكن يظل الشاغل من حيث الأساس ليس التراث كـ «موضوع في ذاته»، بل تلك الآلية من الفهم بالخصوص. فالتراث منظور إليه كـ «موضوع لأجل غيره» لا «في ذاته». ويمكن أن نصف مشروعنا بأنه فهم دائر حول الفهم، أو بتعبير موجز هو «فهم الفهم». فهو مرتبط بالفهم لا النص من حيث ذاته، ولا التراث كتراث فحسب. وبالتالي فغرض هذه الدراسة هو إبداء المقدمات التي يلزم معرفتها قبل الدخول في أي ممارسة معرفية للفهم المباشر. فهناك قواعد «منطقية» وشروط قبلية تتحكم بآلية الفهم، بدونها لا يمكن للفهم أن تقوم له قائمة. وما يهدف إليه هذا البحث هو فتح المجال لوضع البدائل المناسبة لطرائق الفهم كأساليب «منطقية» تخضع إلى إعتبارات ما سنطلق عليه «علم الطريقة». وهو العلم الذي يجعل التنافس بين اختياراتنا خاضعاً لقانون «الراجح والمرجوح». والغرض من هذا المسعى هو البحث عن حل للأزمة الحضارية كما يمرّ بها واقعنا المعاصر، لأن أيّ نهضة حضارية نأملها لا تتحقق إلا بحل إشكالية «الفهم».

 

خريطة الكتاب

في القسم الأول يدرس الباحث علم الطريقة وفهم الخطاب الديني ومبرارات علم الطريقة في فهم الخطاب وحاجة الفهم الديني لعلم الطريقة وفهم النص واشكالية التطابق ويبحث في الانساق المعرفية وظاهرة الاجتهاد  وفي القسم الثاني ، مدخل إلى النظام الوجودي يدرس الباحث التأسيس الوجودي للنظر القبلي (الأداة والأصل المولّد) وطبيعة النظام الوجودي في الحضارة الإسلامية عبر دراسة الأصل المولّد والتوظيف الباطني عند الإسماعيلية و الأصل المولّد والطروحات الجديدة عند الفارابي والأصل المولّد والتجلي الإلهي عند إبن سينا والأصل المولّد والمضاهاة بين العوالم عند الغزالي والأصل المولّد ووحدة العقل الفلسفي عند إبن باجة و الأصل المولّد عند إبن طفيل والأصل المولّد ووحدة الوجود النوعية عند إبن رشد والأصل المولّد ووحدة الوجود الشخصية عند إبن عربي وعود إلى فلاسفة المشرق والأصل المولّد والإشراق النوري عند السهروردي و الأصل المولّد والمحاولات التوفيقية عند صدر المتألهين ثم يدرس مجمل التطورات التي لحقت بدينامو التفكير الوجودي في القسم الثالث يدرس الباحث النظام المعياري  ، ودوائر النظام المعياري (الأدوات المعرفية والتأسيس القبلي للنظر) و نشأة الحركة المعيارية و بداية الحركة العقلية والبيانية  ثم يبحث تطور علاقة العقل بالنص و الحركة المزدوجة للبيان والعقل و أنماط التأسيس العقلي في الدائرة العقلية عبر دراسة العقل وتأسيس الخطاب الديني المعارض والعقل وقانون التأويل و تهافت العقل المعياري  بعد ذلك يبحث يحيى محمد في الدائرة البيانية عبر دراسة بداية التنظير البياني السني و نهاية التنظير البياني السني والتنظير البياني والبيان السلفي ثم يدرس نشأة التنظير في الحقل الشيعي عبر قراءة  التنظير العقلي في الحقل الشيعي والعقل والعصمة ومسألة الإحباط وفكرة الإمامة و التنظير البياني في الحقل الشيعي وطبيعة وحدود البيان الإخباري و التنظير الإخباري والبيان السلفي. ثم يبحث التقسيم المنهجي للنظام المعياري بحسب الأُطر المذهبية، و التقسيم المنهجي بحسب العلوم وإختلاف الموضوع و التقسم المنهجي وصراع الأصول المولّدة. و خاتمة عن  موقع الفلسفة والتصوف وعلوم الطبيعة في الحضارة الإسلامية و الإتصال والإنفصال (المعرفي) بين حضارات العالم و سؤال النهضة على لسان الغربيين و النهضة والتساؤلات الاسلامية..

 

نص الحوار

 

§   في كتابكم (مدخل إلى فهم الإسلام )، تحاول فهم إي إسلام، هل هو الإسلام الأحادي ( النسخة المطلقة ) أم الإسلام الانثربولوجي المتعدد والمتنوع ؟

 

لم اتعرض في مشروعي الى الاسلام الانثروبي، وعندما تعرضت الى التعددية في الفهم، لم انطلق وفقاً لتعدديات الاسلام كالذي اهتم به محمد اركون، انما عالجت العلاقة بين الاسلام كوجود احادي مستقل والفهم الذي هو بطبيعته متعدد. وبالتالي فحينما يقال ان هناك تعدداً في الاسلام، او ان هناك اسلاميات متعددة، انما يقصد بذلك تعدد الفهم. وانا لا اميل الى اصطلاح الاسلام المتعدد، طالما التزم البحث الابستمولوجي، لأنه يوهم بجعل العلاقة بين الفهم والاسلام علاقة متوازية، في حين من الناحية الابستيمية ان العلاقة بينهما اعتمادية، احدهما اصل والاخر يبني تصوراته عليه دون موازاة له، حتى لو كانت العلاقة من حيث اعتقادات الناس معكوسة او مقلوبة. فالأتباع والمقلدون كثيراً ما يجعلون من الفهم اصلاً ومن الاسلام فرعاً، مثلما ينقل عن بعض المقلدين المتأخرين في المذهب الحنفي، اذ اشتهر قولهم: كل آية او خبر يخالف قول أصحابنا يُحمل على النسخ او التأويل او الترجيح. فهم يجعلون من رأي زعماء المذهب اصلاً، وكأنه هو الاسلام بالذات، في حين يعتبرون النص الديني معتمداً عليه، فتكون المسألة مقلوبة. واعتقد ان هذا الحال يرد في مختلف المذاهب الاسلامية طالما انها تعول على التقليد. فالاصل المتبع هو الفقيه او المرجع الفلاني، ام الدراية الدينية فلا تعد شيئاً قبال هذا الاصل المقلوب.

 

 

§   ( الفهم ليس الدين ) أتساءل هنا ما هو الدين ؟ ما هو موقع الفهم من الدين ؟ ما هو موقع الدين من الفهم ؟ كيف نردم هذه الهوة بين الفهم والدين ؟

 

الدين هو رسالة سماوية تستهدف ربط توجهات الانسان بالخالق واصلاح حركته، وتتوسل باداة اللغة المعبر عنها بالخطاب او النص.

أما الفهم فهو ذلك التصور المتعلق بالنص الديني. فالنص هو اداة الدين، او هو الجسد الذي يحمل روح الدين ومعنى الرسالة. وبالتالي لا يصح ان يكون فهم الدين بمعزل عن اداته المتمثلة بالنص. واذا ما اعترفنا بان رسالة الدين تتوسل باللغة او النص؛ فان كل طرح يبعد الدين عن النص او الخطاب لا يعد فهماً.

وعلاقة الفهم بالنص ليست علاقة تضايفية عقلية مثل علاقة العلة بالمعلول، فعند افتراض العلة لا بد من افتراض المعلول، والعكس صحيح ايضاً، انما هي علاقة واقعية، فعند وجود النص يوجد الفهم، وان الفهم بذلك لا يمكن ان يكون بغير نص، باعتبار ان النص هو موضوع الفهم.

ونحن نستخدم هنا اصطلاح (الفهم) بالمعنى الضيق او المنحصر في علاقته بالنص، وحيث موضوعنا هو الدين، لذا فالمقصود بالنص هو النص الديني وليس مطلق النص. أما سائر التصورات الذهنية فقد اعتدت ان اطلق عليها اصطلاحات اخرى مختلفة. فمثلاً استخدم اصطلاح (الادراك) في التعبير عن العلاقة التي تربط الذهن بموضوعات الاشياء الخارجية، وعندما يصل الامر الى التحليل العلمي كالذي يزاول من خلال التجارب والاختبارات وما اليها فاني استخدم اصطلاح (العلم)، للتمييز بينه وبين الادراك الخاص بالاشياء، وكذا تمييز ذلك عن فهم النص، والا من حيث العموم فكل هذه العمليات يمكن ان يطلق عليها: فهم وادراك وعلم وتفسير وغير ذلك، باعتبارها تمثلات للذهن في علاقته بالاخر.

والنتيجة هي ان الفهم غير الدين، والدين غير الفهم، فاحدهما موضوع للاخر من دون عكس. ومثلما ان الدين سابق للفهم المتعلق به من حيث الوجود والثبوت، فانه في المقابل يكون الفهم سابقاً للدين من حيث التصور الذهني. بمعنى اننا نتعامل مع الفهم مباشرة، ومع الدين بغير مباشرة، فالفهم هنا سابق للدين، اذ يمثل الصورة الحضورية في الذهن، اما الدين فهو موضوع خارج الذهن، وعند تحويله الى الذهن فانه لا ينقلب مما هو وجود خارجي الى وجود ذهني، بل تنعكس تمثلاته في الذهن مما نطلق عليه الفهم، فالفهم هو صورة الدين لا الدين ذاته.. وهنا تكمن الهوة، اذ كيف يمكن ردمها؟ فالمسافة بينهما هي مسافة الشيء لذاتنا والشيء في ذاته. فكل ما يمكن تحصيله لا يصل الى مرتبة الدين كما هو في ذاته، بل اقصى ما يمكن تحصيله هو الزعم بوجود تطابق بين الصورة الذهنية للدين مع الوجود الموضوعي له. والسؤال هو كيف يمكن تحقيق مثل هذا التطابق وحاجز الهوة حاضر على الدوام؟ كيف يمكن ان نرى الاشياء كما هي، وكما في الدعاء ربي ارني الاشياء كما هي.. طالما لا يمكن ان نخرج من رؤوسنا لنرى إن كان هناك شيء كما يتمنى البعض.

ان هذه القضية تثير لدى الذهن امرين متعاكسين، احدهما يعبّد الطريق للكشف عن الشيء كما هو، ومنه الكشف عن الدين او المعنى المتعلق بنصه وخطابه، والاخر معيق. فكلاهما يستند اليهما الذهن في ارتباطه بالدين او بنصه المقروء. وكثيراً ما يجري التركيز على الامر المعيق، لوجود حواجز وحجب كثيرة تمنع من معرفة النص او الدين كما هو، ومن هذه الحواجز حاجز اللغة والثقافة والتقليد والفواصل التاريخية وما تتضمنه من حجب معرفية، فضلاً عن التأثيرات النفسية والايديولوجية وغيرها مما تدخل ضمن التأثيرات الذاتية. وحتى في ادبيات ما بعد الحداثة تجد التركيز منصباً على مثل هذه الحواجز الذاتية، وقد يصل البعض الى غاية الغلو في التأكيد على استحالة معرفة النص الادبي – ومنه النص الديني – كما هو، سواء على النحو النقائضي كما في تفكيكية دريدا، او على النحو البراجماتي كما في براجماتية رورتي، او على انحاء اخرى من الاعتبارات، كالذي يدلي به أصحاب سيسيولوجيا النصوص، ومثلهم أصحاب السايكولوجيا الثقافية. وحتى المعتدلين من اصحاب هذه القراءات تجدهم لم يتخلصوا من تلك الهوة، مثل غادامير - وكذا ريكور - في ما يطلق عليه بانصهار الآفاق: افق النص وافق القارئ، او دمج افقي الماضي والحاضر.

ومن وجهة نظرنا ان الموضوع مرتبط بالجهاز المنطقي لدى الذهن البشري، كما يتمثل بالاعتبارات الاستقرائية والتقديرات الاحتمالية، فاعتماداً على مثل هذا الجهاز يمكن الوصول الى حالة وسطى، فمع الاعتراف بوجود سائر الحواجر المعيقة التي تمنع من امتثال النص كما هو، فان من الممكن اختراق هذه الحواجز لامتثاله كما هو في بعض تجلياته لا كلها. وقد يفيد التعبير – هنا - بانه لا يمكننا ان نحيط بالنص، بل كل ما يمكننا تحصيله هو تذوقه. ولا شك ان عدم الاحاطة بالنص يجعل مرد التفاسير جميعاً الى التخمينات المفتوحة بلا حدود، في حين ان بتذوق النص تتحقق حالة التدبر كما يتحدث عنها القرآن الكريم. وقد نستثني من ذلك النصوص الجزئية ذات الطابع الحسي المألوف، فهي مما يمكن الاكتفاء بمعناها احياناً دون حاجة للمزيد، لكنها لا تشكل قضايا اشكالية باعتبارها مألوفة وواضحة وفقاً للحس، خلافاً للنصوص ذات العلاقات الوشيجة والمتباينة، فضلاً عن تلك التي تبتعد عن الحس.

 

§   الفهم هو الأداة البشرية التي تتحول من خلالها (النصوص والخطابات المقدسة) إلى ممارسات اقتصادية واجتماعية وفكرية وسلوكيات ونظم وشرائع ، كيف تجري تلك العملية المعقدة ؟ من هو  الشخص الذي يكون قيماً على تلك العملية ( المثقف ، الفقيه ، مراكز إنتاج المعارف الدينية ) ؟

 

ربما يخرج هذا السؤال عن المعنى التنظيري للفهم ليدخلنا في الجانب التطبيقي.. فكل هذه الرموز تمارس أشكالاً مختلفة للفهم الديني.. ولكل منها ادواتها ومعاييرها، كما انها تتنافس حول امتثالها للدين او نصه المقدس. وطالما ان المسألة تطبيقية فانها تعود الى حجم السلطة التي تهيء لمثل هذه الرموز القيام بدورها في تجسيد فهمها للدين. وهو امر يحتاج الى لحاظ الواقع لرصد اي منها يمارس القيمومة في فرض فهمه على المارسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها وبغض النظر عن قيمة هذا الفهم إن كان موفقاً على الصعيد النظري ام لا. لكن من الممكن ان نقارن بين تصورات هذه الرموز كالذي جاء في كتابي (القطيعة بين المثقف والفقيه).

 

§  ما هي القواعد المنطقية والشروط القبلية التي تتحكم باليات الفهم ؟

 

قد يخطئ البعض حينما يتصور بان آلية الفهم تعتمد على النص فحسب. فما يتحكم في هذه الآلية، بالاضافة الى عناصر النص، شروط ومسلمات قبلية ومنها قواعد منطقية، سواء جرى ذلك بوعي او بغير وعي. فمع ان لقارئ النص حرية في ارتكازه على بعض القبليات دون الاخرى، الا انه ليس له الحرية في تجاوز القبليات باطلاق، بمعنى انه لا بد من الاعتماد على بعضها، فالقواعد القبلية لا غنى عنها. وابرز هذه القبليات المعتمدة في الفهم، وكذلك في الادراك وفي العلم، قاعدة الاستقراء والتقديرات الاحتمالية، فهي قاعدة منطقية لا يتمكن الذهن من ان يتغاظى عنها كلياً. فاغلب معارفنا وفهمنا انما يستند اليها. ونستطيع ان نقول بان مثل هذه القاعدة القبلية هي موضع اشتراك البشر خلافاً لغالب القواعد القبلية التي تتصف بالخصوصية والانتقاء.

 

 

§   في العالم العربي  الإسلامي انطلقت مجموعة كبيرة من المشاريع الفكرية لفهم الخطاب الديني ( حسن حنفي ، حامد أبو زيد ، محمد أركون .... ) ما هي مآخذكم على تلك المشاريع الفكرية ؟

 

ان بعض هذه المشاريع كانت متخمة بالتفاصيل دون الطرح المنهجي، وهي بالاضافة الى ذلك مشحونة بالطرح الايديولوجي، ولم تقدم في تصوري شيئاً جديداً سوى الدوران حول التراث ذاته، كما هو الحال مع مشروع حسن حنفي. وحتى عندما وعد بتقديم رؤية جديدة حول علاقة الواقع بالنص فانه لم يفارق موضوعات علم اصول الفقه تقريباً.

وعلى عكسه مشروع محمد اركون الذي كان يفتقر الى التفاصيل الكلية للتراث وبقي غارقاً في الجهاز المفاهيمي للعلوم الانسانية بغية تطبيقها على فهم النص الديني ومن ثم الكشف عن اختلاف النتائج المرجوة عن نتائج الفهم التراثي، لكنه هو الاخر لم يتجاوز مرحلة الوعود من دون تنفيذ.

اما مشروع نصر حامد ابو زيد فقد تناول التراث بشيء من الانتقاء والتجزئة، اي دون المنهجة الكلية والشمول التي أعدّها اساسية في هذا المجال. وتبقى ايجابيته كونه اهتم بتقديم فهم منهجي للنص، اعتماداً على الواقع المتمثل بثقافة العرب وقت نزول الخطاب، رغم ان هذا المنهج قد اودى به الى شيء من المفارقة والتناقض كالذي بينته في (جدلية الخطاب والواقع).

وفي الحقيقة مازلت ارى ان اهم المشاريع الفكرية خلال القرنين الماضيين هو مشروع محمد عابد الجابري لمنهجيته وشموليته كالذي عرضه في الجزئين الاولين من كتابه (نقد العقل العربي) وعدد من كتبه الاخرى. لكنه مع ذلك قد سلّط الضوء على التراث العربي الاسلامي ولم يكن معنياً بفهم النص الديني الذي هو قطب الرحى من التراث، او هو الاساس الذي تغذى على مائدته هذا التراث. والاهم من ذلك انه غارق في التناقضات والتحيزات كالذي فصلت الحديث عنه في (نقد العقل العربي في الميزان).

 

§   هل تعاني تلك المشاريع الفكرية من نقص في الأدوات المنهجية؟ هل استطاعت فهم الخطاب الديني ؟

 

لنقل بان هناك موضوعين للمشاريع الفكرية المطروحة، احدهما معني بالتراث وبغض النظر عن فهم الخطاب الديني، كما هو واضح في مشروع الجابري حول نقد العقل العربي، اما الاخر فهو معني بهذا الفهم كالذي طرحه حامد ابو زيد في كتابه (مفهوم النص). وبالتالي انه رغم جدية المشروع الاول الا انه لم يقترب من الرؤية الكلية لفهم النص او الخطاب، ورغم ان معالجته كانت منهجية، لكنها عانت من النقص في الروح الابستيمية، اذ انها غارقة في الايديولوجيا من خلال التحيزات مما اوقعها في المفارقات المفضوحة، وهذا هو عيبها. اما مشروع (مفهوم النص) لحامد ابو زيد فقد كان يعاني من التضييق ومن ثم النقص في ادواته المنهجية، فبناءاً عليه يكون النص الديني منتجاً كلياً من خلال الواقع التاريخي، او هو نسخة مطابقة للثقافة الانثروبية من الواقع العربي وقت نزول الخطاب، بلا قابلية على التحرر.

 

§   تطرح موضوع الإستراتيجية لفهم الخطاب ؟ ما هي هذه الإستراتيجية ؟ ما هي الخطط الابستمية لصياغة التصورات المنهاجية للتخلص من أزمات الفكر ؟

 

ان اغلب المشاريع المطروحة في الساحة العربية والاسلامية هي مشاريع لها استراتيجية تتعلق بالتراث الاسلامي كتراث وبمعزل عن فهم الخطاب الديني من الناحية الكلية، كما لا توجد مشاريع تهتم بالتنظيم المنهجي للفكر الديني وفقاً لاستراتيجية فهم الخطاب كشاغل اساس. وهو الامر الذي يهمنا، فما نرمي اليه من استراتيجية انما يتعلق بفهم الخطاب ذاته كشاغل للفكر الديني وفقاً للاعتبارات المنهجية. وما دراستنا للتراث منهجياً الا لاجل هذا الفهم بالخصوص. وبالتالي كانت الخطة الموضوعة هي تناول الفهم منهجياً عبر العلم الجديد الموضوع لهذا الغرض، والذي سميته علم الطريقة. فهو مفتاح هذه الاستراتيجية عبر تناول مناهج الفهم التراثية، بل والبحث عن مناهج الفهم الممكنة للتخفيف من ازمات الفكر التي نمر بها. ويبقى الهدف المثالي والشاغل الذي لا ينقطع هو التخلص من مثل هذه الازمات عبر البحث عن طرق التفكير المناسبة في الفهم الديني. فالخطط الابستيمية لصياغة التصورات المنهجية هي ما يهتم بها علم الطريقة من خلال جملة من الاقتراحات؛ بغية توليد منهج او نظام للفهم يفوق نظم الفهم المطروحة، مما قد يخفف من حدة الازمات الفكرية، ومن ذلك ما طرحناه حول المعايير المعتمدة في تقويم انساق الفهم في (منطق فهم النص). كذلك وضعنا نظاماً يختلف عن النظم السائدة وهو بعنوان (النظام الواقعي) كما جاء في كتابي (جدلية الخطاب والواقع) و (فهم الدين والواقع). وخلال هذه التصورات كنّا نسعى لتأسيس الفهم على ركائز واقعية ومنطقية ووجدانية يتفق عليها العقلاء من الناحية المبدئية. فهي ركيزتنا الاساسية للتخفيف من ازمات الفكر والمحور المشترك لاقناع المقابل.

 

§   هذا الفهم الجديد الذي تريد طرحه للخطاب الديني الم يكن وليد أزمة هذا الفكر؟ ألم يحمل داخل نواته أزمات ممكنة ؟

 

بلا شك ان هذا الفهم جاء نتاج ازمة الفكر التي عشناها وشهدناها بوضوح. وهو فهم يمكن ان يحمل داخله ازمات جديدة.. فمن الناحية المبدئية ان ذلك ممكن تماماً.. وسبق ان اشرت الى ان التخلص من مطلق الازمات هو هدف مثالي لا يمكن تحقيقه، فكل ما يمكننا فعله هو البحث عن سبل تخفيف هذه الازمات. لكن ما يميز مشروعي هو مراعاة المشتركات العامة التي يرتكز عليها الفكر البشري، والتي جعلتها اساساً للبحث. ففي الحقيقة ان مشروعي يتضمن عمليتين احداهما اساسية وارى ان من الضروي الارتكاز عليها، وهي لا تتضمن في حد ذاتها القيام على منهج او نظام للفهم في قبال اخر، كل ما هنالك ان هناك اسساً منطقية لا بد من مراعاتها، وان هناك اقتراحات معقولة يتقبلها الذهن البشري كاساس للاعتماد مبدئياً، وهو ما يتعلق بعلم الطريقة. فهذا العلم يتعالى على المناهج والنظم المعرفية ومنها نظم الفهم. وهو يُخضع هذه المناهج والنظم للدراسة والتحيليل لغرض معرفة كفائتها ضمن معايير مشتركة لا يتردد العقلاء في قبولها من الناحية المبدئية. اما العملية الثانية فهي التي يمكن ان تكون محط البحث والدراسة من زاوية ازمة الفكر، واقصد بذلك المنهج الذي اعتمدته في الفهم الديني، فما مدى رجاحة هذا النظام مقارنة بالنظم المعروفة للفهم؟ وما مدى صلاحيته للتخلص من ازمات الفكر؟ كذلك ما حجم ما وفّاه من المتطلبات المنهاجية التي يقترحها علم الطريقة؟

 

§  هناك مستويات للمعرفة كما تطرحها أولا فهم النص أو الخطاب ، ثانيا التأسيس القبلي للنظر والمتمثل في القبليات الأساسية للنص أو  الخطاب ، ثالثا : التوليد والإنتاج المعرفي ، إي ثلاث عمليات كبرى ، فهم ، تأسيس ، إنتاج ، بودي شرح هذه العملية المعقدة والتي تشكل حجر الزاوية في مدخل فهم الخطاب ؟

 

سبق ان اوضحت المقصود من الفهم، فهو معنى النص لدى ذهن القارئ، وبالتالي فانه قائم على النص، ولولا الاخير ما كان يمكن ان نقول بان هناك فهماً للنص. لكن الفهم ليس نتاج النص وحده، فهناك قبليات معرفية مسبقة لدى الذهن، وقد تعبر هذه القبليات عن قضايا عقلية او وجودية او واقعية او علمية او غيرها، والقارئ لا يأتي الى النص كصفحة بيضاء دون هذه القبليات، فلولاها ما كان بالامكان قراءة النص او فهمه، فبفضل القبليات يمكن بلوغ الفهم. وهذه القبليات بعضها يتأسس على البعض الاخر، فهي ذات اصناف كثيرة، وبعضها اساسية للمعرفة والفهم، في حين ان بعضها الاخر منتج عنها بالتوليد، فالتأسيس القبلي للنظر يعتمد على بعض الاسس القبلية التي يمكن عليها تشكيل سائر القبليات او بعضها، والعملية هي عملية توليد وانتاج. لكن في الوقت ذاته ان التوليد والانتاج مثلما يكون في مرحلة القبليات فحسب، قبل الدخول الى حالة الفهم، فانه يمكن ان يكون نتاج الفهم وبعده ايضاً، وهو في هذه المرحلة يكون موضع اعتماد على الفهم والقبليات معاً، باعتبار ان الفهم ذاته معتمد على القبليات. فالقياس الفقهي مثلاً هو نتاج فهم النص مع القبليات، فبعض مبررات القياس عقلية او واقعية لكون الحوادث غير محدودة خلافاً للنصوص المحدودة، وبالتالي فان من دواعي العمل به هو مثل هذه القبليات، لكن حتى بغض النظر عن ذلك فان القياس مستند الى فهم النص، ولما كان من المحال عزل الفهم عن القبليات، لذا فالقياس قائم عليهما معاً.

ومن حيث الترتيب المنطقي لهذه العمليات فان التأسس القبلي للنظر هو اول هذه العمليات، وبعده عملية توليد سائر القبليات المستندة الى هذا التأسيس، ثم عملية الفهم، واخيراً عملية التوليد الثانية المستندة الى الفهم مع القبليات طبعاً.

 

§   اتفق معك: إن  الإشكالية  المطروحة  في الفكر الإسلامي كانت (النص و العقل) ولكن في الأزمنة الحديثة ظهر عامل الواقع ما يتطلب إعادة النظر في المعادلة ( التأسيس والفهم والإنتاج المعرفي ) للخطاب الديني كيف ظهر هذا العامل في تاريخية الأنظمة الدينية ؟

 

لم يكن لعامل الواقع اعتبار في الفهم، اللهم اذا ما استثنينا بعض النواحي الضيقة والهامشية. فعادة ما يكون لهذا العامل دور عند ضغط الحاجات الزمنية، فيشكل عندئذ نوعاً من الاضطرار والطروء العارض دون ان يكون اصلاً متأصلاً في عملية الفهم ذاتها. وبلا شك فان للتطورات الحديثة منذ الاصطدام بحضارة الغرب هي ما جعلت لمثل هذا العامل ان يبرز قليلاً في دائرة الفهم، ومازال التحفظ جارياً حوله لدى المهتمين من ذوي الخلفيات الدينية، رغم انه الاصل الذي من خلاله تثبت مصداقية الخطاب الديني وحجيته، وهو على الصعيد الابستيمي اهم من العقل القبلي الذي كان مورد اعتماد المفكرين الاسلاميين في هذه الناحية، طبعاً اذا ما استثنينا البديهات الضرورية. وعلى العموم أن لعامل الواقع ادوار متعددة في علاقته بالفهم، وهي مهمة للغاية، ومن ابرزها انه كان موضع اعتبار الخطاب الديني طيلة السنوات القليلة التي قضاها تنزيلاً. وعلى صعيد الاحكام لا معنى للقول بوجود مقاصد للشريعة اذا ما كان الواقع معطلاً لا تأثير له ازاء ما يجري من تغيرات.

 

§   قد يبدو صحيحا إلى حد ما أن الصراع والتنافس بين المذاهب والمنظومات اللاهوتية الإسلامية يخفي داخله نزاع منهجي هل هذا الصراع أنشى عن أجهزة الفكر والأدوات المعرفية أم عن هياكل الواقع والمصالح السياسية ؟

 

قد يكون الصراع والتنافس الظاهر بين المذاهب والمنظومات الدينية ناشئاً وفقاً للمصالح الايديولوجية كما يفرزها الواقع السياسي وغيره، لكن المهم هو ان لهذا النزاع مبررات فكرية، وغالباً ما ينشأ وفقاً لاجهزة الفكر وادواتها المعرفية. فالمصالح الايديولوجية تحتاج في جميع الاحوال لتبرير موقفها عبر الخيارات الخاصة للفكر، وعلى رأسها تلك المتعلقة باجهزة الفكر وادواتها المعرفية وطرقها المنهجية. ويبقى الصراع المنهجي المتواري خلف النزاع المذهبي واللاهوتي هو ما ينبغي تسليط الضوء عليه ابستيمياً.

 

§   ما معنى ( الصدمات المعرفية )؟ تبين ان عدم ظهور علم الطريقة يعود الى عدم وجود صدمة  معرفية  ، الم تطرح أسئلة جديدة في تاريخ الأنظمة المعرفية الإسلامية استطاع العلماء والتقنيون الدينيون الإجابة عليها سواء كان ذلك على العقليين والبيانيين والفلاسفة وفق أدواتهم المعرفية والثقافية ؟

 

المقصود بالصدمات المعرفية انك تصل الى نتائج غير متوقعة تخالف ما كنت تسلّم به دون ادنى شك. فقد تصدمك حقيقة الواقع بان ما تعتقده من مسلمات راسخة هي زائفة بالمرة. فهذه تعد صدمة لأنك لا تتوقع حدوثها. اما الاجابات الجديدة التي تطرأ على المنظرين الدينيين فهي لا تدخل ضمن عنوان الصدمة.

ولا شك ان البلبلة الفكرية والاضطراب الذي يجعل الامل مفقوداً في وجود طريق واضح قد يدفع باتجاه ايجاد علم كعلم الطريقة. فعندما تكون هناك نوع من الفوضى الفكرية فانك مضطر للتعامل مع الافكار بطريقة منهجية للتخلص من هذه الفوضى والفساد المعرفي، وبالتالي قد يسمح ذلك بالاستعانة بعلم كهذا العلم باعتباره منطقياً. فقد نشأ المنطق لدى ارسطو وفقاً لما رآه من فوضى الاراء واضطرابها. كما نشأ علم النحو لمثل هذا الاعتبار، وهو الفساد الذي حلّ في اللغة بين الناس، كذلك الحال مع علم اصول الفقه كما اسسه الشافعي بعد ان لاحظ حيرة العلماء ازاء كثرة التعارض والإختلاف في الروايات، مما جعل الاحكام الفقهية القائمة عليها متناقضة، لذلك وضع اصول الفقه ومنه قواعد الجمع والترجيح بين الادلة المتعارضة للتخلص من هذه الفوضى. لذا فهذه العلوم المنهاجية جاءت على خلفية الفوضى والاضطراب التي لاحت موضوعاتها او علومها، فكانت هذه المنهجيات بمثابة الضابط الممنطق للفكر. والحال ذاته نقوله فيما يتعلق بعلم الطريقة. فالفوضى التي نراها في كثرة الاراء المتعلقة بالفهم تستدعي مثل هذا العلم. والصدمة التي ولّدها الواقع الحديث قبال الفهم السائد تجعل الامر لا غنى عنه، وبدون ذلك فان الدين الذي يتكئ عليه الفهم قد يصبح في مهب الريح.

 

§   في غياب البحث المعرفي حول علم الطريقة للفهم الديني تتحدث عن عدم وجود صدمة معرفية وانا أتحدث من مكان أخر إن البشرية لا تطرح على نفسها إلا مهمات قابلة للحل وهذه المهمة ( البحث عن علم الطريقة لفهم الخطاب الديني ) لم تطرح على العلماء والمفكرين بسب عدم وجود حاجة ماسة إلى هذا المنهج ؟ وكان الفكر الإسلامي يطرح على نفسه أسئلة ويقدم إجابات ؟

 

نعم كما قلت فان الفكر الاسلامي كان يطرح على نفسه اسئلة ليقدم عليها الاجابات، لكن تبين فيما بعد ان الكثير من هذه الاجابات زائفة ووهمية، بدلالة ما شهدناه خلال عصرنا الحديث، فهذا العصر هو ما اوقعنا بصدمة كبيرة عندما جئنا لنقرأ التراث بمنظار الواقع الجديد، وهو واقع مختلف كلياً عما كان.. خذ مثلاً كيف تجد التفاسير القرآنية القديمة للقضايا المتعلقة بعلم الطبيعة وتقارنها بما استجد حالياً؟ فقد تُعتبر مثل هذه التفاسير في وقتها حقائق تامة او قريبة من الحقائق، لكنها في العصر الحديث لم يكن لها قيمة علمية، بل لا ينظر اليها ابداً. كما يمكن الاعتبار بما قاله المفسرون حول العلوم الخمسة التي استأثرها الله تعالى على الخلق، وفق تفسير الاية القرآنية وما جاء حولها من روايات: ((إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)). فمن هذه العلوم علم ما في الارحام، اذ ساد لدى التراث انه لا يعلم احد غير الله تعالى ما في هذه الارحام من شكل الجنين وهيئته ونوعه ان كان ذكراً او انثى وما الى ذلك. حتى نقل بعضهم قول العلماء ان من ادعى علمه بذلك فهو كافر. وحتى في العصر الحديث هناك من تحدى قدرة العلماء على معرفة شكل الجنين ونوعه كالذي ابداه محمد عبد الله دراز (وقد توفي سنة 1958). وعلى الشاكلة نفسها ما ذهب اليه من قبل السيد محمد رشيد رضا. لكننا اليوم نعرف ان هذه الاراء المسلّم بها تراثياً زائفة تماماً امام الحقيقة الحسية المبتكرة علمياً.

وعليه نقول ان افق الحضارة لدى قدمائنا من العلماء هو غير افقنا، فلهم منظارهم في الكشف والتحليل بما يختلف عن منظارنا بفضل تطورات الواقع. وبالتالي فان مبررات وجود علم كعلم الطريقة لم تكن واردة في الماضي، اما في الحاضر فان هذه المبررات واردة بفعل الصدمة مع هذا التراث.

 

§   تعد دائرة الفرقة الناجية وحضور الايدولوجيا في الأنظمة المعرفية الإسلامية احد العوامل الكابحة لظهور علم الطريقة ما أدى إلى احتكار فهم الدين وبالضبط الدائرة المقدسة وانغلاق المنظومات الفكرية المتنافسة ؟ أتسأل كيف الخروج من تلك الدائرة ، امتلاك الحقيقة المقدسة وإبعاد تشويشات الايدولوجيا عن النص المقدس ؟

 

هذا هو بالضبط ما ارمي اليه، وهو البحث من خلال علم الطريقة للتعرف على امكانات بديلة مناسبة نتخلص فيها من ظاهرة التزييف في امتلاك الحقيقة المقدسة، ومن ثم الكشف عن المسافة الفاصلة بين الفهم والنص المقدس؛ لتكون ظاهرة للعيان بدل تسليم الامر الى ما انت اطلقت عليه التشويشات الايديولوجية.

 

 

§   تقول ( من وجهة نظر منهجية طبقا لعلم الطريقة يمكن اعتبار الدعوى إلى النظر والشك المنهجي خطوه أولى للتحقق من التأسيسات القبلية وفهم الخطاب كمنهج ابستمي دون تبعات لاهوتية وتقيمات معيارية فلا معنى لمطالبة المكلف بالنظر والشك ثم تقيد اختياراته بنتيجة محددة سلفا وكأننا إمام حقيقة رياضية لا تقبل الاختلاف) . ما معنى ذلك ؟ وهل تؤمن بتعدد فهم الدين طبقا لعلم الطريقة ؟

 

ان تعدد فهم الدين هو حقيقة لا يمكن انكارها، بل ويستحيل توحيد الفهم لدى من يهمهم قراءة النص. المشكلة ليست في تعدد الفهم، انما بالتبعات اللاهوتية التي يلحقها اصحاب القراءات بعضهم للبعض الاخر. لذلك فان الفقرة التي استشهدتَ بها تبدي التناقض الواضح عندما يقال لك بأنك مطالب بالشك والنظر للكشف عن الطريق الصحيح والمذهب الصائب وسط الطرق والمذاهب الكثيرة، وهي بلا شك خطوة رائدة في التحقيق، لكن المشكلة هي ان من يطالبك بذلك يفرض عليك في الوقت ذاته - عادة - رؤيته الخاصة كحقيقة مطلقة. فهو يقول لك لا يجوز عليك التقليد في العقائد او اصولها، وبالتالي عليك النظر والتفكير لتجد ضالتك في واحد من المذاهب السائدة، لكنه يقول لك ايضاً انك ما لم تختر الاتجاه الذي انا عليه فانت واقع لا محالة في الهاوية والنار او الضلال وربما الكفر. فهو بالتالي يتعامل معك وفقاً للحسابات الرياضية الدقيقة. فمثلما ان من غير المبرر له اعتبارك بان واحداً اذا ما اضيف اليه مثله فانه لا يساوي اثنين، وقد تُتهم على حسابك هذا بالجحود.. فكذا عندما يقال لك عليك ان تقدر النتيجة المناسبة في تحديد اي مذهب صحيح، فاذا لم تقع على المذهب المطلوب سلفاً فانك متهم بشتى الاتهامات، ومنها الكفر والجحود والضلال وبئس المصير. فهذا هو التعامل الرياضي لقضايا هي ابعد ما تكون عن الرياضيات ودقتها ووضوحها. وهذا ما قصدناه من الفقرة التي استشهدتَ بها. فبلا شك ان هذا الاسلوب المتناقض يكرس التقليد عملياً، لأن الناس لا يريدون ان يُتهموا بدينهم فيُصنفوا ضمن لوائح الكفر والضلال.

 

§   مسألة الاجتهاد ؟ كيف تطور في الدائرة الشيعية والدائرة السنية ؟

 

قد يطول المقام في الجواب على هذا السؤال وقد تعرضت اليه في اكثر من كتاب، وسأحاول الاختصار كالتالي:

بدأ الاجتهاد – كما متعارف عليه - لدى السنة قبل الشيعة. وقد بدأ لديهم بمعنى محدد ثم توسع مفهومه في ما بعد. فكان المقصود به اول الامر هو معالجة القضايا التي لا نص فيها. واستمر هذا المعنى من القرن الثاني وربما قبله بقليل وحتى نهاية القرن الثالث الهجري. وهو في هذه المرحلة كان يُطرح كمرتبة تالية لمرتبة كل من الكتاب والسنة والاجماع، او انه كان يُطرح بعد مرتبة النص. وهو يتمثل بقواعد متعددة كالقياس والمصالح المرسلة والاستحسان وما اليها. ونعتقد ان الشافعي هو اول من اثار الخلاف في القواعد الاجتهادية عندما قام بالتنظير للاجتهاد فحصره في القياس دون غيره من القواعد الاخرى التي قام بتحريمها. وقد اجرى تلميذه داود الاصبهاني ادلة الشافعي في تحريم القواعد الاجتهادية ضد القياس الذي استند اليه استاذه، فانقلب على شيخه واعتمد على ظواهر النص بلا تأويل ولا قياس، وهو المذهب الذي تطور لدى إبن حزم الأندلسي الظاهري فيما بعد. وفي بداية القرن الرابع الهجري برز لدى السنة ما يعرف بسد باب الاجتهاد، ونُقل انه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل. ومع ذلك ظهرت فكرة مقاصد الشريعة مؤخراً، وهي اهم شيء انتجه الاجتهاد السني خلال تاريخه الطويل. واعتبر ان اهم شخصية حاولت ان تفتح الباب للاجتهاد وفق مصالح الناس ومقاصد الشريعة هي شخصية نجم الدين الطوفي الحنبلي خلال القرن الثامن الهجري او قبله، لكن لم يكتب لها النجاح وسط الحرفية السائدة لدى الفقهاء.

اما تطور الاجتهاد لدى الشيعة فيلاحظ ان الفقهاء كانوا وقت عصر الائمة يعتمدون على النصوص المحضة، باستثناء القليل منهم، ولما حصلت الغيبة كان هناك اتجاهان احدهما امتداد للعصر الاول، لاعتماده على النصوص فحسب، في حين بدأ الثاني يمارس بعض الصور الاجتهادية، رغم ان لفظ الاجتهاد كان في ذلك الوقت منكراً ومحرم المضمون، فهو يعد من نتاج الفقه السني. وبقي التحفظ من هذا اللفظ قائماً حتى مجيء المحقق الحلي خلال القرن السابع الهجري، اذ قام بتحليل المصطلح وتنقيحه ومن ثم اعتباره اعم من القواعد الاجتهادية التي يعمل بها اهل السنة والتي لها علاقة بالقضايا التي لا نص فيها، كالقياس مثلاً، فاعتبر الاجتهاد محرماً في مثل هذه القواعد لنصوص الائمة التي اشارت اليها بالتحريم، اما فيما عدا ذلك فالاجتهاد مقبول. والنتيجة التي اتى بها المحقق الحلي هي قبول الاجتهاد في القضايا النظرية التي ليست من ظواهر النصوص غالباً. واصبح المبدأ العام لدى الشيعة ان الاجتهاد المقبول هو ذلك المناط بالنصوص، كمعالجاتهم لمتعارضاتها وما الى ذلك، وليس فيما لا نص فيه، فالقضايا التي لا نص فيها ولا يمكن ارجاعها الى عموم النصوص او اتحاد المناط القطعي وما اليها يحكم عليها عن طريق العقل او الاصول العملية.

واطرف ما في الامر ان الشيعة اول ما بدؤا الاجتهاد فيه هو القياس الذي يعدونه على رأس المحرمات لكثرة ما جاء حوله من نصوص. فخلال القرن الرابع للهجرة برزت شخصيتان شيعيتان اتهمتا بالعمل بالقياس، هما ابن الجنيد وابن ابي عقيل العماني، بل وعن جماعة من الرواة والمحدثين من اصحاب الائمة كالفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن وغيرهما. لكن باستثناء هؤلاء فقد كان القياس منكراً ومرفوضاً في الوسط الشيعي القديم. بل وكان التحفظ يلوح الاجتهاد في جميع صوره، الا انه مع الوقت وربما بفضل ممارسات الشيخ الطوسي الاجتهادية في محاولاته التوفيقية بين النصوص المتعارضة اصبح الاجتهاد شيئاً فشيئاً من الممارسات المقبولة، ومن ثم تمّ الاعتراف به رسمياً من قبل المحقق الحلي، وبذلك شهد الانتصار للاصوليين او المجتهدين على النصوصيين حتى مجيء النزعة الاخبارية كما لدى محمد امين الاسترابادي فانقلبت المعادلة بالرجوع الى مسلك النصوصيين القدماء، وعلى اثر الصراع الاخباري الاصولي ظهرت نزعة ما يسمى بدليل الانسداد لدى مدرسة وحيد الدين البهبهاني (المتوفى سنة 1206هـ)، وهي نزعة شككت في الروايات الواصلة الينا وقالت بانسداد الطريق في معرفة الحكم الشرعي باستثناء القليل من الاحكام، لكنها لم تدم طويلاً، ربما بفضل جهود الشيخ مرتضى الانصاري في نقده لها، ومن ثم عادت الحياة من جديد الى المسلك الذي بدأه المحقق الحلي ومن قبله الطوسي في ممارسة الاجتهاد وفق القواعد الاصولية المعروفة مع شيء من الاضافات كتلك التي جاءت بها مدرسة البهبهاني حول الاصول العملية.

وحالياً تمارس انماط جديدة من الاجتهاد، وهي بلا شك قائمة على شيء من المقاصد وان لم تُذكر بهذا العنوان، فبعضها كان بعنوان (للأزمان تأثير على تغيير الفتاوى والأحكام) كما سبق اليها اهل السنة منذ زمن بعيد، كما ان بعضها كان على حساب النصوص الصريحة، كالذي لجأ اليه الشيخ محمد جواد مغنية ومطهري في بعض القضايا، مثل اجتهادهم في ما يتعلق بحديث السبق، ومثل ذلك طريقة الامام الخميني في اجتهاده وتأسيسه لبعض القواعد، وكان من اهمها ترجيح مصلحة النظام الاسلامي على النصوص الدينية، وبفضله تأسس مجلس تشخيص المصلحة، وكان له دور في رفض الكثير من الاحكام التي يعدها الفقهاء من الواجبات او المحرمات وفق تشخيص المصلحة، وهو امر يذكّر بما سبق اليه الطوفي حول ترجيح المصلحة على النص عند التعارض، والتي مال اليها السيد محمد رشيد رضا ضمن حدود.

 

§  ألم يعد الاجتهاد احد أدوات فهم الدين ؟

 

نعم ان الاجتهاد المصطلح عليه كما في الفقه هو احد ادوات فهم الدين، لكنه ليس الاداة الوحيدة. وسبق لنا ان طرحنا اداة اخرى للفهم تختلف عن هذه الاداة، كما في منهجنا حول (الفهم المجمل) الذي فصلنا الحديث عنه في (فهم الدين والواقع).

 

§   في الفهم الديني لدينا ( فهم ونص وطريقة للفهم ) طريقة الفهم لا تنقل النص المقدس كما هو بل تصوره بحسب قواعد ومسلمات قبلية تشكل محور لنشاط الفهم وإنتاج المعرفة ؟ كيف تجري تلك العملية وانأ انظر لها عملية معقدة ؟

 

ليس فقط في حالة الفهم، بل في جميع النشاطات الذهنية لادراك القضايا الخارجية يجري الحال ذاته، وهو ان الذهن لا ينقل الشيء الخارجي الذي يدركه، بل يطبع لديه صورة عنه، اذ لا يمكن ان ينقلب الشيء الخارجي الى الذهني، وبحسب التقسيم الفلسفي القديم ان الوجود الذهني هو غير الوجود الخارجي، فلكل قوانينه واعتباراته، ولا يمكن قلب احدهما للاخر. فالعملية برمتها هي تصوير للشيء الخارجي، سواء كان نصاً او مادة او غير ذلك. لكن لا تتأسس هذه العملية من غير مسلمات وقبليات. فبفضل القبليات يجري مثل هذا التصوير، كما انه بفعلها لا يمكن ان يتم النقل بأمانة تامة، بمعنى اننا لا نتعرف على الشيء الخارجي كما هو (100%100). فكل ذلك يعتمد على تركيب جهازنا الذهني واحساساتنا المختلفة، فلو ان فيها بعض التغيير فسوف يؤثر ذلك على تصورنا وادراكنا للشيء.

 

§  الفهم لا ينقل النص كما هو ( إي بذاته ) وإنما يعيد تصوره كيف يعيد تصوره وفق إي مسلمات ومعاير ؟ الم يكن داخل هذه المعادلة شئ من الذاتوية الفردية والجماعية والمصالح والإيديولوجية؟

 

لا شك ان التركيب الذهني للبشر معقد غاية التعقيد، وهو في هذا التعقيد يمتلك من القبليات ما هي ذاتوية ترتبط بمصالح وايديولوجيات، او بثقافة عصرية معينة، او حتى باعتبارات نفسية وبايولجية محضة، فكل هذه الاعتبارات تعطي الطابع الذاتوي للتصور، لكن في الوقت ذاته هناك قبليات موضوعية لا تمت الى الذاتوية بصلة، منها محايدة، وابرزها تلك المتعلقة بالدليل الاستقرائي والتقديرات الاحتمالية، ومنها منحازة رغم انها موضوعية، بمعنى ان الذهن ينحاز الى الكشف الواقعي بفعل فطري دون ارتباط بتلك الذاتوية، وابرزها مبدأ السببية العامة، فالذهن البشري يعرف بتلقائية انه عندما يرى ظاهرة ما او حادثة فانه يفكر في السبب الذي يقف خلفها. وكلا هذين النوعين من القبليات الموضوعية يساعد على التحقق من ادراك الشيء، ولو بالنحو النسبي. فمثلاً ان من السهل ذهنياً ان نعرف بأن مقابلة ما جرت بين زيد وعمر، فهذه علاقة يمكن استنتاجها عبر الدليل الاستقرائي والسببية، او بقرائن المشاهدة الحسية، ومن الصعب جداً التشكيك فيها لدى الشخص المشاهد، لكن فيما يتعلق باحساساتنا لشخص زيد من الشكل واللون والحجم وما الى ذلك هل هي احساسات مطابقة لحقيقته كما هو في الواقع الموضوعي، ام انها مختلفة عنه كلياً؟

من حيث الادلة والاستنتاجات القائمة على الدليل الاستقرائي ذاته فهي ان هذه الاحساسات ليست مطابقة تماماً له، كما انها ليست مخالفة له بالكلية، فهي ما بين بين، وبالتالي نحن نجهل تماماً الحقيقة التامة والفعلية لزيد كما هو، لكننا نميزه بحسب صورنا الخاصة وطبقاً لقبلياتنا الموضوعية بحيث لا يلتبس علينا الامر مع غيره من الناس. وكأن لكل شيء رمزه الذي يتميز فيه عن الاخر. ويكفيك مثل ان التصور الفيزيائي المعاصر ابعد ما يكون عن تصورنا نحن للشيء، فلو عرضنا وجه زيد على المنظار الفيزيائي بالتحليل لكنا نرى ان فيه مساحات هائلة من الفراغات وان في داخله جسيمات هائلة وبالغة السرعة قد تقترب من سرعة الضوء، وان لون زيد وشكله المفعم بالحيوية والجمال يتبخر لدى العلم في ذبذبات الامواج وقفزات الجسيمات ونشاط الكهارب والقوى النووية الهائلة الطاقة. وكل ذلك مما لا نراه او نشاهده، ومع اننا لا نعطي لهذا التصور القيمة المطلقة للحقيقة، فهي نظرية، لكنها ليس من الممتنع قبولها، بل انها من المسلمات الحالية لدى العلم، وقد مر عليها ما يقارب القرن من الزمان دون ان تتزعزع.

هذا ما نقصده بنسبية الادراك، وهو ينطبق على فهمنا للنص، فمن الصعب علينا ان نفهم النص كما هو من دون زيادة او نقصان او تحريف، اي كمفهوم مانع جامع، لكن يمكننا الاحتفاظ ببعض الفهم كي لا يختلط الامر مع غيره مما نفهمه من النصوص الاخرى.

 

§   النصوص الكبرى في التاريخ وبالذات النصوص المقدسة تمتاز بخاصية قابليتها على تقبل مختلف الأنساق والاجتهادات ؟ النص القرآني احد تلك النصوص الكبرى هل نستطيع ضبط مرونته وتقبله كافة الأنساق المعرفية والتأويلات والاجتهادات ؟أم إن قوته تكمن داخل هذه المطاوعة ؟

 

لا شك ان هناك مطاوعة كبيرة لدى مثل هذه النصوص، لا سيما حينما تتمظهر بمظهر التعارضات، فكل فهم قد يجد له ما يؤيده وسط هذه المطاوعة. وهي مصدر للقوة لدى المهتمين بالاتجاهات الانفتاحية على النص، فانها تثير الانفتاح على التأويل بلا حدود. لكن مع ذلك فان من الممكن ضبط مثل هذه المرونة وفق التطبيق المتعلق بالدليل الاستقرائي والتقديرات الاحتمالية. صحيح ان هذه الطريقة لا تعطيك الكثير من المعارف والمعلومات، لكنها في المقابل تعطيك المعرفة الدقيقة التي لا تخطئها عين القارئ.

 

 

§   تقول مادامت الأجهزة المعرفية تعبر عن قنوات اجتهادية فان من الطبيعي إن لا يكون لأي منها حق ( النيابة المطلقة ) للنص أو النطق باسمه كحق فردي مطلق أو حق جماعي ؟ اتفق معك بصدد نسبية تلك  الاجتهادات وإنما هي تأويلات متعددة قابلة للنظر والشك ولكن ما هو المقياس الموحد والمطلق من اجل التحرر من تلك الأنظمة المعرفية ؟ وكيف التخلص من احتكارها النيابة المطلقة ؟

 

هنا نعود الى علم الطريقة، فأول افتراضات هذا العلم المنطقية انه يفرق بين النص المقدس وبين فهمه. أما الافتراض المنطقي الثاني فهو ان الكشف عن النص لا يمكن ان يكون من دون قبليات الذات الكاشفة او القارئة. وبالتالي فالمعنى المحصل هو حصيلة الجمع بين هذين الاعتبارين، احدهما موضوعي يعود الى النص، والاخر ذاتي يعود الى ذات القارئ، وهذه الضميمة من التفاعل بين ذات القارئ والنص هي ما تمنع ان يكون هناك حق النيابة المطلقة، اذ لا يمكن نقل النص كما هو بذاته الى الذات الكاشفة، كما ان هناك عوائق ابستيمية تمنع من حصول المطابقة التامة بين النص كما هو، وبين الفهم الناتج عنه وعن قبليات القارئ بالتفاعل، وإن امكن الحصول على بعض المطابقة العامة لكثرة القرائن الاحتمالية، لكنها قليلة وضيقة، رغم فائدتها العظيمة.

هذا على الصعيد النظري، اما عملياً فالامور متعلقة بالقوى والمصالح، وبفعلها قد تجد السيادة للقول بحق النيابة المطلقة عن النص المقدس، كما هو مشاهد منذ القديم وحتى اليوم، رغم فداحة المفارقة، فكل طرف من الاطراف على كثرتها ينسب لنفسه مثل هذا الحق والادعاء رغم التناقضات المفضوحة فيما بينها.

 

§   تقسم التراث الإسلامي إلى نظاميين معرفيين النظام المعياري والنظام الوجودي ولكل منهم دوائر معرفية متعددة ومتنافسة ؟ وفق إي مقياس تم تقسيم التراث الإسلامي إلى تينك النظامين ؟ ثم أتساءل عن ماهية كل نظام ( المعياري ، الوجودي ) ؟

 

المقياس الذي اعتمدناه في التقسيم هو لحاظ الروح العامة التي تجمع كل ما يتعلق بالنظام من دوائر معرفية وعلوم. فما يجمع النظام الوجودي من روح عامة يختلف كلياً عما يجمع النظام المعياري من الروح. ولم نجد غير هذين الروحين في تراثنا المعرفي الاسلامي. لذلك رجحنا مثل هذا التقسيم الجامع. فسواء الفلسفة ام العرفان يلاحظ ان ما يجمعهما هو النظرة الوجودية والحتمية للامور، فحتى القضايا القيمية او المعيارية كقضايا الاخلاق والتكليف ينظر لها نظرة حتمية وجودية لا تختلف في ذلك عن قضايا الكينونات الوجودية كالماديات وغيرها. لذلك اعتبروا ان من الخطأ ان نسأل: لماذا هذا مؤمن وذاك كافر، او هذا خيّر وذاك شرير؟ مثلما لا يصح السؤال: لماذا كان هذا حصان وذاك اسد او شجر او حجر، او ان النار حارة والثلج بارد؟ فكلا المجموعتين من الاسئلة لا تصح لدى الفلاسفة والعرفاء.

لهذا قلت بان الروح المعرفية العامة لهذا النظام هي روح وجودية، فموضوع بحثهم الاساس هو الوجود العام، كما ان نظرتهم لمختلف القضايا بما فيها القضايا القيمية او المعيارية تعود الى هذه الروح العامة من التفكير الوجودي الحتمي. فكل شيء محكوم عليه بالحتم واللزوم وفق مراتب الوجود المختلفة، من أولها المعبر عنه بواجب الوجود بذاته الى اخرها مرتبة.

في حين انه لدى النظام المعياري نجد النظرة معاكسة تماماً. فالقضايا التي يهتم بها هذا النظام، كما في الفقه وعلم الكلام وسائر علوم المتشرعة، لم تتعلق بالوجود لذاته كوجود، بل جل اهتمامهم هو العلاقة التكليفية التي تربط العبد بخالقه. فالبحث التكليفي في علم الفقه واضح تماماً، اذ كل القضايا الفقهية هي قضايا تكليفية، ولا علاقة لها بالوجود او غيره. وفي علم الكلام ان الغرض من بحوثهم حتى تلك المتعلقة بالوجود انما هو لاثبات طبيعة العلاقة التكليفية وواجباتها، ومن بين ذلك طرق النجاة من العقاب وكيفية الوصول الى الفرقة الناجية وانواع الواجبات التكليفية واول هذه الواجبات، وهل هناك واجبات عقلية ام لا؟ وكيف يمكن معرفة الاله من دون الوقوع في الشرك؟ وغير ذلك من البحوث. فالهدف لدى علم الكلام هدف واضح يتعلق بعلم اللاهوت. لذلك فوجوده التاريخي تبريري اكثر مما هو تحقيقي، خلافاً للفلسفة مثلاً. فعلم الكلام، كما في تعريف الغزالي وابن خلدون، يدافع عن العقيدة الحقة ضد المذاهب المبتدعة. فهو تعريف مبني على التوجه المذهبي والانحياز، وبالتالي فهو ايديولوجي ضمن الاعتبارات المعيارية اللاهوتية. وهو حتى لو تخلص من عقدة التمذهب الايديولوجي فانه ليس من السهل عليه التخلص من الاعتبارات الدينية المسلم بها سلفاً. ولهذا فهو متأثر بالشأن الديني، مما اضفى عليه الصبغة المعيارية غير الحتمية خلافاً لما هو الحال لدى الفلسفة والعرفان.

وبالتالي فالنظام الوجودي له ماهية محددة هي التفكير في القضايا المختلفة، عقلية وواقعية وميتافيزيقية ومعيارية او قيمية، وفق اعتبارات الوجود الخارجي ومراتبه الحتمية، فهو يبحث في الشيء كما هو كائن وليس كما ينبغي ان يكون. اما ماهية النظام المعياري فهي التفكير في القضايا القيمية، او بما ينبغي عليه الشيء ان يكون وليس في الشيء كما هو كائن، وعلى رأسها مسألة التكليف. لهذا من المألوف ان ترد الفاظ الكفر والشرك والضلال والدعاء بالجنة او النار او غير ذلك لدى النظام المعياري، فجميعها لها دلالات قيمية واضحة، ولا علاقة لها بالكينونات الوجودية. في حين ترد لغة التجهيل لدى النظام الوجودي بدل اللغة التي ألفها النظام المعياري، فالجهل متعلق بعدم معرفة وفهم الوجود على حقيقته كما يتصوره اصحاب هذا النظام. لهذا ذكرت في (العقل والبيان والاشكاليات الدينية) ما نصه:

إن أشد المناهج المعرفية حدة وتكفيراً هو النهج البياني الصرف للسبب المذكور، في حين أن أقلها حدة هو ما نجده لدى النظام الوجودي، لكونه لا يستند إلى الإعتبارات القيمية كما عليه النظام المعياري، لذا فهو يكثر من (الخطاب التجهيلي) لإعتبارات ما يستند إليه. فهو يُجهّل المخالفين دون تضليل أو تكفير، سواء كان التجهيل لإعتبارات الإمكانات العقلية كالذي عليه الفلاسفة، أو لإعتبارات الحجب القلبية كالذي عليه العرفاء. وبعبارة أخرى، إن اللغة التي يستخدمها أتباع النظام المعياري ضد خصومهم هي لغة (معيارية) تتمثل بالتضليل والتكفير والتفسيق، وهي مستمدة من منطق (حق الطاعة) كما تقتضيها نظرية التكليف، إذ تمثل الطاعة والعبادة كما يريدها المكلِّف هدفاً ومطلباً للنجاة والسعادة. في حين تتصف لغة الفلاسفة والعرفاء ضد خصومهم بأنها (معرفية) مستمدة من الغاية التي صوروها للإنسان، وهي كمال العلم والعقل أو العرفان، وبالتالي فلغة الإدانة لديهم هي التجهيل لا التضليل والتكفير.

 

§   نريد إن نقوم بعملية حفر في مفهوم ( الفهم ) ماذا تقصد بمفهوم الفهم ؟

 

سبق ايضاح ذلك، فالفهم هو تصور ذهني لمعنى النص.

 

§  هل الفهم ممارسة ذهنية في علاقته بالنص ؟ أم إن عملية الفهم تعيد تركيب النص أو الخطاب وفقا للعصر والانساق الثقافية والمعرفية التداولية ؟

 

نعم، الفهم هو ممارسة ذهنية في علاقته بالنص، وهو في هذه الممارسة لا ينقل النص كما هو بذاته، وانما يركب منه صورة من خلال التفاعل مع عناصر كثيرة هي القبليات الذهنية، ومنها ما له علاقة اكيدة بالانساق الثقافية والتداولية للعصر. لكن العملية لا تنحصر في هذا الاطار فحسب، فهناك شبكة معقدة للقبليات تقوم بانتاج الفهم وتوليده من خلال التفاعل مع النص كما هو في ذاته. وبعض من هذه القبليات عائد الى التأثيرات الخارجية كالانساق الثقافية والتاريخية وحتى الاسطورية، لكن البعض الاخر له اصالة عقلية او غير عقلية.

 

§  ماذا تعني بالبحث الطريقي ؟ وهل هناك بحوث أخرى تتعلق بفهم الخطاب الديني ؟ ما هي الميزات التي يمتلكها البحث الطريقي ؟ وما هي مصدر البحث الطريقي ؟

 

البحث الطريقي هو ما يزاوله علم الطريقة، اذ يُعنى بتحليل مناهج الفهم وادواتها وقواعدها الكبرى. كما يُعنى بالكشف عن القوانين والمسلمات الاساسية التي تتحكم في الفهم.

ويضاف الى البحث الطريقي هناك بحثان آخران مختلفان، احدهما سميته البحث الاستنباطي للفهم، وهو موضع تداول العلماء والقراء، اذ يكون الاتصال بين القارئ والنص اتصالاً مباشراً. فالباحث يأتي ليستنبط معنى النص من خلال قراءته مباشرة. وقد يعتمد على شيء من الاصول التي تتعلق بهذه القراءة الكاشفة، كما هو مزاول في الفقه مثلاً، اذ يأتي الاهتمام بعلم اصول الفقه لاجل عملية الاستنباط هذه. اما البحث الاخر فهو ما سميته البحث التاريخي للفهم، فهو كعلم الطريقة ليس له علاقة مباشرة بالنص ذاته كما هو الحال في البحث الاستنباطي، انما علاقته بالفهم لا بالنص، لكن هذه العلاقة تندرج ضمن لحاظ ما يطرأ على الفهم من تغيرات وتماثلات عبر الحركة التاريخية، ومدى تأثر الفهم بهذه الحركة الواقعية. فطبقاً لهذا البحث يمكن ان نقارن بين حالات الفهم القديمة والحديثة لنرى مدى تأثر الفهم بتغير الواقع وتطوراته. ومن ذلك لحاظ حالات الفهم التاريخية المتعلقة بتفسير النص الديني حول قضايا العلوم الطبيعية، ومقارنتها بالتفاسير الحديثة. فمثل هذه المقارنة تعود الى البحث التاريخي للفهم، وليس لها علاقة بالبحث الاستنباطي ولا بالبحث الطريقي. لكن البحث الطريقي يتضمن البحث التاريخي للكشف عن طبيعة مناهج الفهم وقواعدها وقدراتها الذاتية.

وتبقى الميزة الاساسية التي ينفرد بها علم الطريقة هي انه يهتم بمناهج الفهم للكشف عن علاقاتها بمكوناتها القبلية ومن ثم علاقة هذه المكونات بالفهم. فعلم الطريقة يبحث حول طبيعة العلاقة التي تسود بين القبليات والفهم، باعتبار ان الفهم هو نتاج هذه القبليات بالتفاعل المشترك مع النص.

اما عن مصادر البحث الطريقي فتتنوع ما بين منطقية وعقلية بديهية ووجدانية وواقعية.. وهي في مجملها قد تكون من المشتركات التي يتقبلها العقلاء مبدئياً، وان امكن النقاش في بعضها، مثل اي علم اخر. لكن في جميع الاحوال ان لهذا العلم مبرراته القوية. فمثلاً انه يطرح عدداً من المرجحات والمعايير التي من خلالها يمكن الكشف عن مدى قوة او ضعف مناهج الفهم وانساقه، وهي مرجحات ومعايير اغلبها من المشتركات المقبولة ذهنياً دون اعتراض.

 

 

§  في علم الطريقة تذهب إلى البناء التحتي للفهم متجاوزا البنية السطحية ؟ ماذا تعني بالبناء التحتي للفهم ؟

 

نقصد بالبناء التحتي للفهم هو ذلك البناء الذي تتكئ عليه سائر ابنية الفهم ولو من غير وعي. فالذي يقرأ النص مباشرة قد يفهم معنى النص، لكن دون ان يعي على ماذا اعتمد في فهمه هذا، فما هي القبليات وما هي الطريقة التي اتخذها في الفهم؟ مما يعني ان هذه القبليات وهذه الطريقة تشكل بناءاً تحتياً لفهم النص، اذ عليها امكن تحديد معنى النص حتى وان لم يدركها قارئ النص ذاته. ويمكن ان نعمم هذه الحالة من البنية السطحية للفهم – مع شيء من النسبية - على جميع الاراء التي تطلق حول موقف الاسلام من القضايا الاجتماعية والسياسية والفقهية وما اليها، فهي اراء وبحوث تنتمي الى البناء الفوقي للفهم لا البناء التحتي له. وبالتالي فان البنية التحتية للفهم تشكل شرط امكان الفهم، ومن هنا تتبين تحتيتها العميقة. ولما كان علم الطريقة يبحث حول هذه الصلة التي تربط القبليات بالفهم فهو بالتالي يبحث حول البناء التحتي لا الفوقي.

وسواء في الفهم او مطلق المعرفة انه لا يتاح تأسيسها من غير قبليات، لهذا انها تشكل بنية تحتية مثلما تشكل شرط امكان المعرفة وان لم يدركها الباحث او القارئ. فلا مجال للتفكير والفهم من غير البنية التحتية المشار اليها، ولا بد من القيام بحفر للتعرف على طبيعة هذه البنية العميقة.

 

§   لعلم الطريقة مستويات ثلاثة . التحليل ، ضبط المعاير ، السعي نحو تأسيس معاير منضبطة لإنتاج نظريات وانساق ذات  كفاءة عالية للفهم . هل تم تأسيس معاير وانساق عالية للفهم ؟

 

هذا ما حاولناه في كتاب (منطق فهم النص)، وبالذات خلال القسم الاخير منه، حيث يمكنك ان تجد مثل هذه المعايير المنضبطة والتي يمكن من خلالها خلق نظريات وانساق عالية للفهم. وهو الهدف الاساس الذي يتوخاه علم الطريقة.

 

§   ما هي فلسفة علم الطريقة ؟

 

سبق ان عرّفت بعلم الطريقة كعلم يتناول مناهج الفهم بالدرس والتحليل، فهو من هذه الناحية يعتبر قيّماً على هذه المناهج. بمعنى ان له صلاحية محاكمتها والفصل فيما بينها من دون عكس. فلا يمكن ان تكون المناهج هي من يحاكم هذا العلم ومقاضاته. وبالتالي فان مقاضاته تعود الى سلطة اعلى تبحث حول اهليته وتحليل موضوعاته ومعاييره، وهو ما يجعل البحث الدائر حوله فلسفياً نطلق عليه (فلسفة علم الطريقة)، وتتجلى فائدتها بمناقشة الافكار الواردة في علم الطريقة لغرض تصويبها او رفدها بالجديد والتطوير. فعلم الطريقة بهذا الاعتبار لا يختلف عن سائر العلوم البشرية التي تخضع للنقاش والتطوير.

 

§  هل يمتلك البحث الطريقي جهاز معرفي متكامل ؟ أتسال عن تلك العناصر التي تشكل الجهاز المعرفي ؟

 

ربما لا استسيغ ان اطلق على البحث الطريقي بالجهاز المعرفي كي لا يختلط بينه وبين الاجهزة المعرفية التي يتناولها بالدرس والتحليل، وبالتالي فجهازيته هي جهازية متعالية مقارنة بالاجهزة التي يدرسها. فالامر اشبه بما تعرض له الوضعيون المنطقيون حول تقسيمهم الثلاثي لقضايا المعرفة، وهي القضية التحليلية التي اعتبرت ضرورية منطقية لكنها لا تخبر عن الواقع بشيء، والقضية التركيبية التي تخبر عن الواقع بشيء وبالتالي يمكن اختبارها، اي على عكس الاولى، ومن ثم اخيراً القضية التي لا معنى لها، وهي القضية التي لا تعود الى الاولى ولا الثانية، كالقضية الميتافيزيقية. فهذا التقسيم الثلاثي واجه اعتراضاً يخص التقسيم ذاته باعتباره من القضايا وبالتالي فهو كقضية لا يمكن ارجاعه الى اي من تلك الثلاث، ومن ثم فهو قضية رابعة. وقد جاء الرد من قبل بعض الوضعيين ان هذا التقسيم هو قضية بالفعل لكنه قضية متعالية لا تقع بعرض القضايا المقسّمة، او هو ليس قسيماً لها. ومثل ذلك ما ذهبنا اليه عندما طرحنا نظرية تتجاوز الطرح المذهبي كما متعارف عليه، بمعنى اننا طرحنا مذهباً يختلف عن جميع المذاهب المعروفة دون ان يقع في عرض كل منها على انفراد، وهي بعنوان (نظرية التجاوز المذهبي)، ويفترض ان تنشر في خاتمة الطبعة الثانية من كتاب (مشكلة الحديث).

وكذا نقول اننا نواجه جهازاً معرفياً بعنوان علم الطريقة لكنه من صنف اخر لا يقع بعرض الاجهزة المعرفية التي يتناولها بالدرس والبحث، فاحدهما من عالم غير ما للاخر. فعلم الطريقة لا يتغذى على الفهم مثلما تتغذى الاجهزة المعرفية الموضوعة للبحث والدرس. لكنه كأي جهاز وعلم قائم على مصادر وادوات وقبليات متعددة، منطقية وعقلية مشتركة وواقعية، ومنها تلك التي اطلقنا عليها المعايير المعتمدة. فهي تحمل مصادر وادوات وقبليات مختلفة، وعليها ينشأ التوليد والانتاج المعرفي. فمثلاً ان الدليل الاستقرائي هو اداة عقلية وقبلية من القبليات المعتمدة كمعيار، والمصدر الذي يعتمد عليه هذا الدليل يتمثل تارة بالواقع واخرى بالنص ذاته.

 

§  يحيى محمد يحاول البحث عن علم فهم النص او فهم الخطاب الديني علم مستقل يتجاوز مرحلة التنافس والسجال ، غرض هذا العلم البحث والتفتيش عن انسب القنوات الممكنة لفهم النص ، هل هناك ممكنات لإنتاج هكذا علم مطلق ؟

 

ليس هناك علم مطلق، بل ما دعوت اليه هو في دائرة الامكان لا العجز والاستحالة. فعلم الطريقة كعلم يتجاوز مرحلة التنافس والسجال بين المذاهب والايديولوجيات، لكونه يخضعها للبحث والدرس ابستيمياً دون ان يكون طرفاً من اطرافها المتنازعة، فلا دور له في ممارسة الفهم ذاته، لكنه يضع المعايير المناسبة التي تتكفل بايضاح اي الطرق التي تتصف بالقوة والتماسك، سواء في علاقتها الذاتية، او في علاقتها الخارجية مع النص والواقع والوجدان العقلي، طبقاً للاعتبارات الابستيمية.

ونحن نتحدث هنا على الصعيد النظري.. اما الواقع ففيه مفارقات قد لا تستجيب فعلاً للاتساق المنطقي الذي تشدد عليه النظرية. لانه من غير المتوقع ان تجد اتفاقاً على قبول علم الطريقة او على معاييره المعتمدة او على نتائجه المعطاة. فلا شك انه ما زال هذا الامر خاضعاً للايديولجيات والمذهبيات المتنافسة. لكن على الصعيد النظري عندما يتصف العلم بالابستيمية والموضوعية والبحث الجاد والهدف الواضح فانه قد يجد في الواقع من يحاول رعايته بعد إنباته ومن ثم تطويره للتخفيف من السجالات العدائية باسم الحق المطلق والدين المقدس والإله المغيب، بل والإلهة المصطنعة.. الخ.

 

comments powered by Disqus