-
ع
+

حوارات فهم الدين مع يحيى محمد (1): النشأة والأعمال الفكرية

(ضمن سلسلة حوارات الصحفي العراقي يوسف محسن)

 يحيى محمد مفكر مجهول نسبيا في المجال الفكري العراقي  الذي يتعاطى مع الايديولوجيين والراديكاليين اكثر ما يتعاطى مع الفكر المستقل والفكر الاصلاحي ، الخيط الناظم لمشروع يحيى محمد يتمحور حول سؤال الفهم وفهم الفهم الديني ، وهنا يأتي فهم الخطاب الديني من خلال المشاريع الفردية التي انطلقت في العالم العربي الاسلامي فضلا عن ذلك فهم هذا الخطاب المنتج داخل مؤسسات حماية الايمان والتي تعيد انتاج السيطرة وهندسة المجتمع ونتاج العلاقات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية عبر نسق القابلية للتحول او النقل وتمثيل المعرفة والخطابات الدينية كمولد ومنظم لتلك المعرفة 

مسارات التاريخ

ولد يحيى محمد العام  1959 في العراق. صدر له العديد من الكتب والدراسات الفكرية، ابرزها: مدخل الى فهم الاسلام، نقد العقل العربي في الميزان، الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، القطيعة بين المثقف والفقيه، جدلية الخطاب والواقع، فهم الدين والواقع، الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، العقل والبيان والاشكاليات الدينية، الاستقراء والمنطق الذاتي، مشكلة الحديث، منطق فهم النص.

 

الخطوط العريضة للمشروع الاصلاحي

 

يسلط مشروع يحيى محمد الضوء على دراسة فهم النص الديني من الناحية المنهجية. وهو يتحرك ضمن (البنى التحتية) للفهم، اذ ابتكر علماً خاصاً سمّاه (علم الطريقة)، وهو شبيه الاعتبار بما يطلق عليه (فلسفة العلم) بالنسبة للعلوم الطبيعية. وكان الهدف من ذلك هو القطيعة مع كافة ضروب التفكير المذهبي، وإحداث نقلة نوعية في نمط التفكير والبحث؛ مثلما جرى مع العلم الطبيعي الذي أحدث قطيعة بين ما كان عليه قبل النهضة الحديثة وما بعدها؛ اعتماداً على مبدأ المراجعة وفحص النظريات باستمرار دون انقطاع.

والذي جعل يحيى محمد يهتم بالبحث المنهجي الطريقي هو أنه وجد الصراعات الدينية قديماً وحاضراً صراعات عادة ما تكون ظاهرية تخفي وراءها صراعاً منهجياً، مما استوجب البحث عن الاصول المعرفية لهذا الصراع. وعلى هذا الضوء استطاع ان يقسّم التراث المعرفي الاسلامي الى نظامين معرفيين، وأن يضيف الى ذلك نظاماً ثالثاً اطلق عليه (النظام الواقعي). فمن وجهة نظره انه لا يمكن الفصل بين فهم النص ومعرفة الواقع، وهو الخلل الذي شخّصه لدى نظم الفكر الاسلامي، باعتبارها نظماً متعالية اسقاطية. بل انه أعاد ترتيب العلاقة بين النص والواقع وسوقها في الطريق السليم، وذلك بقلب التصور التقليدي الذي يجعل من «النص» أصلاً يُلجأ إليه لمعرفة الواقع وحل معضلاته، إلى تصور آخر مضاد يكون فيه الواقع مرجعاً يُحتكم إليه في فهم النص وحل إشكالياته. وترتكز نظرية يحيى محمد في نظامه الجديد على عدد من العناصر الاساسية الموضوعة للفهم، وهي كل من الواقع والوجدان العقلي والمقاصد العامة للشريعة والفهم المجمل. وقدّم فيما يتعلق بالفهم المجمل اطروحة جديدة تضاهي الفهم التقليدي المتعارف عليه او ما سمّاه (الفهم المفصّل). واعتبر الاجتهاد ينبغي ان يتحول مما هو في النص الى الواقع.

وعموماً يتصف هذا المشروع بالجدة والابتكار، فهو جديد من حيث الموضوع دون ان يكون له سابقة، كما ان ما قدّمه من حلول وعلاج لاشكالية الفهم يعد جديداً وبديلاً عن الطروحات التراثية والمعاصرة باعتباره يمتاز بالموضوعية الابستمولوجية والدقة والوساعة، لذلك فانه قد تجاوز الرهانات المذهبية، بل وعمل على نقد جميع أصناف التراث المعرفي المتعلق بالفهم الديني تفصيلاً، كنقده للتراث الحديثي والفقهي والعقلي الكلامي والفلسفي والصوفي والسلفي والشيعي والسني، وقدّم في القبال منهجاً للفهم يناسب كلاً من الاسلام والواقع الحضاري، وذلك اعتماداً على الطرح المنهجي الابستمولوجي، وبعيداً عن الطروحات الآيديولوجية والمذهبية الضيقة.

 

المنهج في فهم الاسلام

ويؤطر يحيى محمد مشروعه بعنوان عام هو (المنهج في فهم الاسلام). وهو مشروع بدأ العمل به منذ سنة 1986، وذلك اثر لحاظه عن قرب مشكلة الافكار التي يتداولها رجال العلم الديني من العلماء والطلبة، وكيف انها تفتقر الى البعد (الواقعي). فمنذ ذلك الحين بدأ بدراسة الفهم الديني منهجياً، فداخلَ بين المذاهب الدينية وانفصلَ عنها، عبر ما ابتكره من علم الطريقة. فقد اشتمل المشروع على دراسة نظم التراث الاسلامي ونقدها مع تقديم (النظام الواقعي) كبديل مناسب وجديد.

ويتضمن المشروع سلسلة من التأليفات ؛ تدور  حول ما اطلق عليه علم الطريقة كمقدمة للفهم، ويتضمن البحث عن الأدوات والقبليات المعرفية التي تسبق عملية الفهم والتي لا يمكن للباحث والانسان عموماً أن يكون خالياً منها. ومن بين هذه القبليات ما اطلق عليه الاصول المولدة، لما تمتاز به من قابلية على توليد منظومة الافكار التي تلعب دوراً اساسياً في الفهم. كما يتضمن البحث عن قوانين الفهم وسننه وقواعده ومستنبطاته، وكذلك معايير التقييم وادوات التحقيق. ويدور المجلد الثاني من المشروع حول التعرف على نظم التراث الاسلامي ومناهجه المعرفية. وتعد الطريقة التي يستعرضها جديدة باعتباره يطبق ما سبق اليه من علم الطريقة وما تتضمنه من بحوث حول الاصول المولدة وادوات الفهم والتفكير والقبليات المعرفية. في حين يقوم المجلدان الثالث والرابع بتفصيل البحث عن هذه النظم وموقفها من الفهم الديني، مع نقدها جميعاً لكونها لم تراع الواقع بعين الاعتبار، ولكونها ايضاً قائمة على اسس معرفية ضعيفة، او على الاقل أنها ليست موضع اتفاق الجميع. أما المجلد الخامس فيختص بعرض النظام الواقعي - كما شيده يحيى محمد - كبديل عن نظم التراث ومناهجه. يضاف الى ذلك ان للمشروع ملحقات من الكتب مثل تلك المنشورة بعنوان: مشكلة الحديث والاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر والقطيعة بين المثقف والفقيه.

 

ستراتيجيات المنهج

لقد اعتمد يحيى محمد استراتيجية البحث المنهجي ضمن علم جديد اطلق عليه (علم الطريقة). فقد فصّل الحديث عن هذا العلم وعلاقته بالأدوات والقبليات المعرفية ومعايير التقييم والتحقيق، واستكشف من خلاله العديد من قوانين الفهم وسننه وقواعده، بما لم يسبق اليه أحد. ثم قام على ضوئه بتحديد مناهج الفهم الديني والاصول المعرفية التي تستند اليها، وبعد ذلك عمل على نقدها ليقدم نظامه الجديد كبديل عنها. وبحسب الطريقة التي دعا اليها هذا المفكر يكون الواقع أساس التكوين المعرفي، وبه يمكن تقديم الرؤية المتعلقة بالفهم الديني كنظام يختلف عن النُظم التقليدية داخل الفكر الاسلامي. اذ طرح نظاماً جديداً وظّف فيه اشكالية الواقع التي ظلت غائبة لم تظهر على مسرح الفكر الإسلامي، سواء في علومه العقلية أم النقلية، الأمر الذي جعل هذا الفكر يصل إلى نهاية مسدودة؛ لعدم سلوك الطريقة الواقعية في التفكير، وهي الطريقة التي تجند العقل ليفكر في صور الواقع وتجاربه وحالات جدله مع النص وما ينتزع عنه من فتاوى وعقائد.

وتبعاً ليحيى محمد في نظامه الجديد فان علاقة الواقع بفهم النص تتخذ ادواراً متعددة. فمن جهة ان الواقع يؤثر على تغيير فهم النص، فكلما تغيّر الواقع؛ كلما أدى ذلك إلى تغيّر الفهم معه بإضطراد. كما من جهة ثانية أن للواقع علاقة جدلية مع النص، وان له حاكمية على الاخير عند تعارض دلالاتهما الإخبارية أو الخاصة بالحقائق الكونية والموضوعية عموماً، كما وله حاكمية فيما يتعلق بقيم المصالح العامة. يضاف الى أن له الفضل في الكشف عن حجية النص واثبات المسألة الدينية برمتها.

النظام الوقائعي

وبحسب النظام الجديد فان اهمية الواقع مقارنة بالنص تعود إلى أن الأخير ثابت لا يقبل التغيير والإفصاح عن نفسه بأكثر مما جرى فيه الأمر إبتداء، فهو يحمل نظاماً مغلقاً لا يسمح بإضافة المزيد، ناهيك عن كونه يعمّق ظاهرة الإبهام وعدم الوضوح كلما طال الزمن، خلافاً للواقع بإعتباره يملك نظاماً مفتوحاً يتقبل الإضافة دون إنقطاع، وهو بهذه الإضافة يكون أكثر وضوحاً كلما طال الزمن، مما يجعله مفتوحاً على المراجعة والتصحيح، أكثر فأكثر، كلما طرأ عليه شيء جديد. وهنا تبرز أهليته لأن يكون مرجعاً أساسياً للتصحيح. فهو يستقل بميزة القابلية على الإنفتاح الدائم، ومن ثم الكشف والتحقيق لتقييم النظريات، ومن ضمنها النظريات الدينية.

وهناك العديد من النتائج التي تمّ استثمارها عبر هذا النظام. منها: نسف القاعدة القائلة (لا إجتهاد مع وجود النص الصريح)، فالمعطيات التي قدّمها يحيى محمد تثبت أن النص يحتاج إلى الواقع في ضبط مقصده ومعناه، وبدونه فإنه ينغلق على ذاته ويتعارض لا فقط مع الواقع، وإنما مع المقاصد التي لولاها ما كان للنص من معنى. والتسليم بتلك القاعدة سيتصادم بالتأكيد مع كل من المقاصد والواقع؛ إذ لا يمكن فهم النص فهماً متسقاً بمعزل عن الواقع، سيما الواقع الخاص بالنزول. لذلك فقد أكد هذا المفكر على الحاجة لإيجاد شكل من الإجتهاد يختلف جذراً عما ساد في العصور الماضية، تعويلاً على علاقة الواقع بالنص، مع الأخذ بالإعتبار مبدأ الفهم المجمل والمقاصد. وعليه لا بد من تغيير خارطة مصادر التشريع كما وضعها الفقهاء والتي تغفل ما للواقع من قوة كشفية تضاهي سائر المصادر الأخرى، بل وتتفوق عليها عند المعارضة التامة. فبدون هذا الإعتبار سوف ندور في ذات الفلك من المصادمة المتوقعة مع الواقع، أو إضفاء التبريرات الواهية لأجل تغطية ما يحدث من تصادم.

عناصر النظام الواقعي

وعموماً فإن أهم العناصر المعتمدة في النظام الواقعي أربعة هي: الواقع والوجدان العقلي والمقاصد العامة للشريعة والفهم المجمل للنص، فالواقع بمثابة المولد المعرفي، أما الوجدان والمقاصد والفهم المجمل فهي تعمل كموجهات للفهم. وقد عمل المشروع على مقارنة منهج الفهم المجمل كما يتبناه النظام الواقعي من جهة، ومنهج الفهم المفصّل كما يتمثل بسلوك الطريقة التقليدية لعلماء الفقه وغيرهم من جهة ثانية. فمن ذلك انهما يفترقان بحسب علاقتهما بكل من النص والواقع والمقاصد. فالنص لدى المنهج المجمل له صفة توجيه الفكر، ولدى المنهج المفصّل له صفة تكوين الفكر، في حين يتخذ الواقع دوراً معاكساً. كما يفترقان بحسب التخفيف من حالات الخلاف المعرفي والعلمي. فالخلاف المعرفي بحسب الفهم المفصّل يكاد يكون كما هو من غير تناقص، بل غالباً ما يزداد كلما كثر الرجوع إلى التدقيقات اللغوية وإحتمالاتها، وليس الأمر كذلك مع الفهم المجمل، إذ الرجوع إلى الواقع وإن كان لا يقضي على الخلاف عادة، الا أنه يمكن تخفيفه وربما ازالته عبر امتداد الزمن. كذلك يفترقان بحسب اضفاء القداسة على نتائجهما الإجتهادية، فبقدر ما يضيّق الفهم المجمل حدود دائرة النص وما يترتب عليها من قداسة؛ بقدر ما ينفتح على الواقع بهدي المقاصد. وعلى العكس منه يعمل الفهم المفصّل، إذ بقدر ما ينفتح على النص ويستلهم منه القداسة حتى في المفصّلات الظنية؛ بقدر ما يبتعد عن الواقع واعتباراته. فالإجتهاد لدى الفهم المفصّل هو إجتهاد في النص. بينما الإجتهاد في الفهم المجمل هو إجتهاد في الواقع المفتوح. وان النتائج التي تسفر عن الإجتهاد في الفهم المفصّل ليست مجرد نتائج معرفية فحسب، بل تلتبس مع ما يضفى عليها من ثوب مقدس، رغم أنها لا تتعدى دائرة الظن والإحتمال في الغالب، الأمر الذي يسهل توظيفها، كما ويصعب معارضتها من الناحية الايديولوجية، وواقعنا اليوم زاخر بهذا المعنى المعبِّر. في حين ان ما يترتب على الإجتهاد لدى الفهم المجمل يخلو من مثل هذا الثوب؛ لكونه يعتمد على الواقع لا النص، وبالتالي فهو أكثر تواضعاً من الإجتهاد القائم على الفهم المفصّل. كذلك فان الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالأمة المسلمة. فالمسلك المجمل هو مسلك توحيدي خلافاً للمسلك المفصّل الذي يعمل على التفريق والتنازع لإرتباطه بالمقدس حتى على مستوى الظنون المنبعثة عن المفصّلات. الأمر الذي تتعارض فيه المقدسات الظنية، فيتولد الخلاف والصراع للإرتباط بهذه المدعيات. كما انهما يفترقان من حيث التخفيف والتشديد وحدود التزامات الأفراد في قضايا الأحكام والعبادات. فالمسلك المجمل يميل إلى التخفيف والتقليل، خلافاً للمسلك المفصّل الذي يتجه صوب التشديد والتوسيع.

يبين يحيى محمد ان بداية المشروع كانت  منذ سنة 1986، وكما يقول: كنت آنذاك افكر بدراسة مناهج الفكر الاسلامي مع وضع البديل المناسب، وقد صنفتها الى اربعة، هي المنهج النقلي والعقل العملي (الكلامي) والفلسفي والعرفاني. وكان طموحي ان اضع بديلاً لهذه المناهج، وسميته المنهج الواقعي. وكتبت لهذا الغرض اربعة اجزاء صغيرة عن المناهج التراثية وقدمتها الى احدى مؤسسات التحقيق في ايران خلال (1986-1988). وقد دفعني الى البحث عن وضع البديل ما شاهدته من ان علماء الدين وأساتذة الحوزة في مدينة قم لم يراعوا ‹‹الواقع›› أدنى مراعاة، وقد شكّل لي ذلك منذ لحاظه قبل منتصف الثمانينات من القرن المنصرم صدمة واستغراباً دفعاني للخوض في البحث المنهجي، الامر الذي تأكد لي ذلك بشكل اوسع وادق – علمياً – فيما بعد، سيما وانه تهيئت لي فرصة البحث في التراث لأول مرة عندما طرحت الفكرة على الشيخ واعظ زادة الخراساني، وكان يشغل منصب المشرف العلمي على بحوث احدى مؤسسات التحقيق انذاك، فرحّب بها حتى النهاية، وكان المفترض ان اكتب خمسة اجزاء عن هذه المناهج ومن بينها المنهج الواقعي، لكن الامر توقف عند حدود المناهج الاربعة التراثية. ثم عاودت البحث من جديد في السنوات التالية، خصوصاً بعد التسعينات من القرن المنصرم، فتمثلت لدي اربع طرق للتفكير التراثي ضمن نظامين معرفيين، اطلقت على احدهما النظام الوجودي ويشمل الفلسفة والعرفان، كما اطلقت على الاخر، النظام المعياري ويشمل المنهج العقلي والبياني، وقد ضمّنت هذه الطرق المعرفية في كتابي (مدخل الى فهم الاسلام) الذي انتهيت منه سنة 1994، ووضعته كمدخل لنظم التراث المعرفي، وكنت في ذلك الوقت افكر بوضع مشروع متكامل بخمسة اجزاء سميته (المنهج في فهم الاسلام)، وصدّرته بمدخل متعلق بعلم الطريقة، اذ شعرت بحاجة الى علم خاص يغطيها منطقياً، لذلك كتبت بعض المداخل لهذا العلم الجديد الذي سميته ‹‹علم الطريقة›› او علم مناهج الفهم، وهو يبحث في البنى التحتية للفهم دون الفوقية منه. وفي كتاب (مدخل الى فهم الاسلام) عملت على حصر المناهج التراثية بغية دراستها ونقدها، ثم بعد ذلك قمت بتفصيل هذه المناهج او النظم المعرفية ضمن كتابين مستقلين، هما: (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية) و(العقل والبيان والاشكاليات الدينية). وطرحت في قبال هذه النظم نظاماً جديداً للفهم اطلقت عليه ‹‹النظام الواقعي››. وقد صدر حوله كتابان هما (جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع). وكنت طيلة سنوات افكر بتوسعة ما بدأت البحث فيه حول علم الطريقة، فتم لي ان وضعت كتاباً جديداً بهذا المضمار سميته (منطق فهم النص)، فهو يضاف الى ما سبق طرحه لدى القسم الاول من كتاب (مدخل الى فهم الاسلام). وما زالت هناك بقية لهذا العلم بصدد اكمالها. واليوم ارى ان المشروع يكاد ينتهي، ومن ثم سأجمع ما نشرته مع القليل الباقي لأضع كل ذلك ضمن خمسة  تصنيفات كالتالي:

التصنيف الاول : مقدمة في علم الطريقة

التصنيف  الثاني: مدخل الى نظم التراث الاسلامي

التصنيف  الثالث: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية

التصنيف  الرابع: العقل والبيان والاشكاليات الدينية

التصنيف  الخامس: النظام الواقعي والاشكاليات الدينية

ويمكن القول ان المشروع ينقسم الى مشروعين متكاملين، احدهما يتعلق بعلم الطريقة كعلم منطقي جديد يتعالى على مناهج الفهم، بل يضعها موضع البحث والدراسة الابستيمية النقدية. أما الاخر فيتعلق بذات المناهج وقبولنا لبعضها دون البعض الاخر، او استبدالها بما هو جديد مناسب. على اني استطعت بهذا المشروع، وطبقاً لعلم الطريقة، أن أحوّل البحث من الدراسة المذهبية الى المنهجية، وقد استهدفت من ذلك ‹‹القطيعة›› مع كل ما ألِفْناه من الدراسات الدينية المذهبية والايديولوجية، شبيه بالذي جرى في العلم، حيث قطيعة العلم الحديث مع القديم، كالذي اشرت اليه في مقدمة كتابي الجديد (منطق فهم النص).

والذي يطلع على مشروعي هذا لا يجد الطرح المذهبي وارداً فيه، وعموم كتاباتي لا تتضمن الانعكاسات الشيعية كما هي نشأتي، كما لا تجدني بعيداً عن الشيعة ولا عن السنّة، بل أدرس هذا وذاك، وأنقض هذا وأنقض ذاك، وأعتبر أنّ هذا جزء من شخصيّتي دون افتعال. لا أعتبر نفسي شيعياً ولا سنياً، بل انسان مسلم فحسب، فاحترم الانسان كإنسان، بل اعشقه عندما يحافظ على هوية الفطرة التي فطر الناس عليها، دون حجبها بدين او عرق او مذهب. وأعتبر جميع المذاهب الاسلامية طارئة، فعلى الأقل انها لم تكن في عصر النبي ولا في عصر الخلافة الراشدة، بل حدثت فيما بعد لاسباب اغلبها يتعلق بالفهم والسياسة. وبالتالي اعتبر نفسي ممن يدعو الى (نظرية التجاوز المذهبي) بالمعنى القائم على الدين والقداسة.

 الاعمال الفكرية والفلسفية

مشروع يحيى محمد وجهوده الفلسفية والمنهجية وهو يحاول فهم الدين عبر حركة ضخمة من النقد الفلسفي والعلمي للتراث الديني ( الفقهي والتشريعي والنظام المعرفي الاسلامي ) ، بوصفه أوّل حقول الاشتغال النقدي.  وإيجاد علاقة بين الدين وموقعه من نظام الواقع المجتمعيوتغير المعادلة الكلاسيكية بين  (الطبيعة ) (الإنسان) (العالم) ،متجاوزا حدود القراءات التحليلية التقليدية وتدشبن معقولية جديدة في مسار النظام المعرفي الاسلامي وتفكيك هذا النظام والياته الاجرائية 

مشروع يحيى محمد يمنحنا فضيلة التسال واعادة النظر في جميع الاجوبة واليقينيات الجاهزة في النظام الديني الاسلامي بوصفها حقائق نسبية حيث يطرح سؤال ( فهم الاسلام ، الفكر الإسلامي: نظمه.. أدواته.. أصوله ) في العالم المعاصر  والنظام الواقعي للاسلام فضلا عن ذلك اعادة التفكير مع الفقهاء والمؤرخين وقراءة نصوصهم الدينية والتشريعية والفقهية بغض النظر عن الهويات الطائفية  اي انه يخضع النظام الديني الاسلامي للفحص  النقدي ، هذه الجذرية الابستمولوجية في مشروع يحيى محمد تسعى الى اعادة رؤية العالم من المنظور الاسلامي وتفكيك علاقات السلطة الدينية وعملها داخل النصوص والمجتمع ، فمن المعروف ان اي نص ( فقهي ، تشريعي ، فلسفي..... ) لا يكتب بمعزل عن هذه العلاقات .

يحيى محمد ومن خلال اعماله الفكرية والفلسفية يعلن ان النظام المعرفي الاسلامي قد  افضى الى منظومات مغلقة لا يأخذ بنظر الاعتبار تحولات الواقع سواء كان الواقع المادي او الفكري والتي يعد المخيال وتصور العالم والمنظومات الرمزية وتاريخ البشري الوقائعي احد اوجهها ،  ما يتطلب تفكيك الادوات المعرفية والجهاز المفاهيمي لنمط العلم الكلاسيكي للوصول الى الجذر الابستمولوجي للنظام الاسلامي  واعادة انتاج سلسلة من المفاهيم والادوات للوصول الى الفهم العقلاني للدين ويتطامن مع النظام الوقائعي الاجتماعي للمجتمعات البشرية.

صدر للمفكر يحيى محمد ،  الداروينية / عرض وتحليل، تقديم السيد محمد محمد صادق الصدر ، التصوير الاسلامي للمجتمع ، دور اللاشعور في الحياة ، الاسس المنطقية للاستقراء/ بحث وتعليق ،  الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر ، مدخل الى فهم الاسلام ، نقد العقل العربي في الميزان ، جدلية الخطاب والواقع ،  فهم الدين والواقع ، القطيعة بين المثقف والفقيه ، الاستقراء والمنطق الذاتي ،   الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية ،  مشكلة الحديث ،  تعليقات على كتاب الاسس المنطقية للاستقراء ،   منطق فهم النص ،  العقل والبيان والاشكاليات الدينية.

 

نص الحوار

من هو يحيى محمد ؟ ما هي ارتباطاته السياسية ؟متى خرج من العراق ؟ لماذا ؟حدثنا عن حياتك الشخصية؟ ثم حياتك الفكرية ؟

 

منظّر في الفكر الاسلامي والفلسفة، ولدت سنة 1959، ونشأت ضمن عائلة فقيرة ترعاها أمّ عظيمة تكفلت برعايتنا ومعيشتنا، وحتى تعليمنا رغم أنها سيدة أمية، مع غياب الوالد. ومنذ ان وعيت وحتى هجرتي من العراق كنّا نسكن في منطقة شعبية في بغداد قرب الاعظمية (الكسرة). لم أكن وانا صغير احب المدرسة والواجبات البيتية، لا سيما في الصفين الاول والثاني الابتدائيين، لكني تكيفت مع ظروف الدراسة والواجبات فيما بعد..

كان لي اخ اكبر يهوى المطالعة وانا صغير، وكانت له جلسات حوارية حول المسائل الالهية مع بعض الاقرباء، فكنت استمع اليهما بلهفة، وافكر فيما يعرضانه من افكار وتيهان احياناً. كانت المسألة الالهية تهمني للغاية في ذلك الوقت، وفي احد الايام وقعت بالصدفة على كتاب شكّل لي منعطفاً عظيماً في حياتي، وهو كتاب (الله يتجلى في عصر العلم)، فقرأته بلهف مع تلخيصه. ومن ذلك الوقت التزمت بالتعاليم الدينية وأخذت أهوى القراءة والمطالعة. وقد شدّني آنذاك كتاب (فلسفتنا) للشهيد محمد باقر الصدر، اذ قمت بتلخيصه هو الاخر، وكانت لي حوله بعض الملاحظات وصادف ان عرضتها على الشهيد محمد محمد صادق الصدر عند مراجعاتي له بين مدة واخرى، فكان يجيبني عن بعضها، فيما ينقل لي في البعض الاخر بأن السيد محمد باقر الصدر قد غيّر رأيه فيها. وعموماً بدأت أقرأ الكثير من الكتب لموضوعات مختلفة فلسفية وعقائدية وفقهية واجتماعية وعلمية وما اليها.. فكنت اذهب لاستعير الكتب من مكتبة جامع التميمي في الكسرة، ثم تحولت بعدها لاستعارة الكتب من مكتبة الكاظمية العامة.. وبقيت على هذه الشاكلة حتى هجرتي من العراق سنة 1980. وكنت آنذاك مهتماً في الغالب بكتب الفلسفة وعلم الاجتماع، فضلاً عن العقائد، لا سيما الامامة.

وفي الجامعة التحقت بفرع علوم الحياة (البايولوجيا)، وكنت كثيراً ما اناقش الاساتذة حول نظرية دارون، فأبدي معارضتي لها مدعماً ذلك ببعض الادلة طبقاً لمطالعاتي وميولي الدينية.. وقد دفعني هذا الامر الى تأليف أول كتاب حولها اسميته (الدراوينية عرض وتحليل)، وهو ما نشرته دار التعارف ببيروت سنة 1979، وفيه مقدمة مطولة للشهيد محمد الصدر، اذ راجع الكتاب مرتين وافادني بملاحظات كثيرة وقيمة، ومن ثم كتب رسالة الى دار التعارف بوصية من الصدر الاول لطبع الكتاب. ويحمل الكتاب اسم مؤلفه يحيى محمد، وهو اسم مستعار، وان كان الاسم الاول يمثلني بالفعل، لكن الاسم الاخير مستعار، تحسباً من ملاحقة اعوان النظام البائد.

لم انتمِ الى اي حزب سياسي في حياتي قط، وربما يعود ذلك الى طبيعتي الشخصية ذات الاهتمام الابستمولوجي والتي لا تألف الطروحات الآيديولوجية التي تتغذى منها الاحزاب السياسية.

تركت العراق بعد مضايقة النظام السابق ومحاولة اعتقالي لأكثر من مرة، وذهبت الى لبنان وبقيت فيها سنتين ثم بعدها رحلت الى ايران واقمت فيها ثمان سنوات، وبعدها استقر بي المقام في بريطانيا منذ 1990 وحتى اليوم.

إن أول عمل مارسته في المهجر هو تلخيص وتبسيط كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) للشهيد الصدر الاول، وكنت اطالعه وانا في العراق واحاول اتقان مضامينه، وقد توفرت لي هذه الفرصة في لبنان، مما حداني الى تدريسه لبعض الراغبين هناك، وتبين لي خلالها ان الشهيد الصدر قد غيّر العديد من افكاره التي طرحها في فلسفتنا، كما اكتشفت بأن الامر لم يتوقف عند هذا الحد، بل بدا لي انه غيّر جوهر اطروحته النظرية التي قدّمها في الاسس المنطقية للاستقراء، وذلك بعد مطالعتي لكراس له بعنوان (بحث حول المهدي). وكإشارة عابرة انه عندما أقمت في قم (عام 1982)، كنت ذات مرة في جلسة عامة للسيد محمود الهاشمي الشهرودي، وخلال الحديث عرف ان لدي تلخيصاً لكتاب الاسس المنطقية للاستقراء، فشده الشوق لرؤيته، فقدّمته اليه وبقي معه بعض الاسابيع، ثم اعاده الي مع استحسانه له، وقد سألني إن كنت أنوي طباعته، فكان جوابي: لا أعرف أحداً يتبنى ذلك.

وعلى العموم كان لي اهتمام جدي بالاسس المنطقية للاستقراء، وهو ما سبّب لي بعض العوائق من رجالات الحوزة الدينية، فضلاً عن الاهتمام بعلم الاجتماع. وخلال السنتين اللتين قضيتهما في لبنان صدر لي كتاب (التصوير الاسلامي للمجتمع) مع ثلاث مقالات نُشرت في مجلة الغدير عام 1981، وكانت عناوينها كالتالي:

1ـ القضاء والتطبع، العدد (5).

2ـ حياة المفكر محمد باقر الصدر، العدد (6).

3ـ ظاهرة الاغتراب واسبابها الاجتماعية، العدد (7).

يضاف الى مقالة رابعة فُقدت من المجلة المذكورة دون نشرها، وهي بعنوان: عزلة الباحث الاسلامي والاغتراب.

كما كتبت آنذاك دراسة حول مجمل افكار الصدر الفلسفية، وتتضمن عددأ من تغيرات فكره، وكان من المفترض ان تنشر في احدى المجلات اللبنانية، وقد سلمتها لبعض المعنيين بالنشر، لكني لم اعرف عنها شيئاً بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982، ومن ثم نشرتها بعد ذلك في مجلة دراسات وبحوث التي كانت تصدر في طهران سنة 1983، وهي بعنوان: نظرات فلسفية في فكر الامام الصدر.

وفي ايران اقمت اربع سنوات في قم قبل مغادرتي منها الى مشهد، وخلالها مارست التدريس في الحوزة مع كتابة بعض البرامج الثقافية للقسم العربي من اذاعة طهران، وكان من بينها برنامج اسبوعي بعنوان عالم الدراسات الانسانية. وظهر لي خلال هذه الفترة كتابان احدهما بعنوان دور اللاشعور في الحياة، والاخر بعنوان الاسس المنطقية للاستقراء بحث وتعليق، وهو الكتاب الذي سبب لي ازمة مع بعض الاطراف مما اضطرني الى ترك قم والذهاب الى مشهد سنة 1986، حيث اقترحت على المشرف العلمي العام لمؤسسة التحقيقات الاسلامية، وهو الشيخ المعروف محمد واعظ زاده الخراساني، بكتابة مصنف حول مناهج الفكر الاسلامي ومن ضمنها اقتراح منهج جديد يختلف عن مناهج التراث السائدة، ويتعلق بالواقع، فرحّب بالفكرة وبدأ عملي لمدة سنتين فكتبت دراسة نقدية حول مناهج التراث، لكن مدير المؤسسة لم يرقه النقد المتعلق بالتراث الشيعي، في حين كان الشيخ واعظ زادة موافقاً على ممارستي لهذه المهمة، وكان اخر ما قاله لي: انني اوافقك تماماً لكنهم لا يريدون استمرارك!

وحينها تركت العمل في المؤسسة وتحولت الى التدريس في الجامعة والحوزة لمدة سنتين حتى تهيئت لي فرصة الرحيل الى بريطانيا بعد تكرر المضايقات، وكنت مصمماً على اتمام المشروع الذي راودني منذ كنت في قم، وقبل بداية عملي في مشهد، اذ لاحظت ان الحوزة لا تولي الواقع اي اهتمام في التفكير والنقد الديني.

 

الإعمال الفكرية ليحيى محمد لا تنتمي إلى الثقافة العراقية بحقلها الإسلامي التقليدي ؟ ما هي مصادركم المعرفية ؟

ربما من الصعب حصر مصادري المعرفية الا على نحو الاجمال. فكثيراً ما اعول على المصادر المنطقية الكاشفة عن المعرفة كاستخدام الدليل الاستقرائي حتى في فهمي للنص الديني، كذلك الواقع باعتباره يمت الى العقل البعدي وهو شبه مهمل ومغيب لدى الفكر الديني، وكذا الوجدان والعقل الفطري، والمقاصد الدينية، والمجملات النصية، والاعتبارات الفلسفية والعلمية وفن الهرمنوطيقا، واركز في هذا الصدد على فلسفة العلم واستثمارها في الفهم الديني، كما يهمني ما توصل اليه الفيلسوف الالماني (عمانوئيل كانت) حول المسافة التي تفصل الشيء لذاتنا عن الشيء في ذاته، وهو الاساس الذي ارتكز اليه، ليس في تصوري للواقع الموضوعي فحسب، بل وفهمي للنص الديني، ومن ثم طريقة معالجتي لما اطلقت عليه علم الطريقة. وعموماً كثيراً ما اميز بين المصادر المعرفية المشتركة والمصادر الخاصة، وأُولي الاعتبار للاولى وارجحها على الثانية، لكونها اقرب للاقناع والتأثير.

 

يحيى محمد ابتكر علما اسماه ( علم الطريقة ) ما هو هذا العلم ؟ما هي آلياته ؟كيفية اشتغاله في حقل الثقافة الدينية ؟

علم الطريقة هو علم يبحث في مناهج الفهم الديني بالدرس والتحليل. فهو لا يمارس الفهم ذاته، بل ان هذه الوظيفة هي ما تعنى بها المناهج، لكنه يمارس تحليل هذه المناهج بالذات، وبالتالي فتعامله مع الفهم هو تعامل غير مباشر، وهو في هذه الحالة يمارس ما اسميه (فهم الفهم). فهو يحدد مناهج الفهم كتلك التي تمّ تداولها خلال التراث، ليكشف عن ادواتها وآلياتها ومفاهيمها ومصادرها والاسس المعرفية التي تتقوم بها. وهو في هذا التحليل يعتمد على الربط القائم بين الذات القارئة والنص، فيدرس هذه العلاقة المحتمة في انتاجها للفهم، تعويلاً على التفرقة بين الفهم والنص، فالفهم نتاج مشترك للنص والذات القارئة. فالالية التي يعتمدها هذا العلم هي آلية الربط بين فعل الذات وتأثير النص لانتاج الفهم. فكل منهج لا يمكنه تجاوز هذه الممارسة وهذا الدور، سواء في حقل الثقافة الدينية او غيرها. وكل فكر لا يخلو من هذه العلاقة اللزومية للارتباط الثنائي بين الذات الكاشفة والموضوع المنكشف لها. ولا شك ان مهمة علم الطريقة هي الكشف عن طبيعة هذا الارتباط بين الذات والنص، اذ تختلف طبيعة هذا الارتباط بين منهج واخر، وهي المهمة التي تقع على عاتق دراسة علم الطريقة.

 

ما هي الأدوات المنهاجية لهذا العلم ، المقولات ، المفاهيم ؟

 

لعلم الطريقة العديد من الادوات المنهاجية التي يستخدمها في تحليله لمناهج الفهم بما تتضمن من مقولات ومفاهيم. ومن ذلك فكرة الجهاز المعرفي كنسق قائم على خمسة اركان مترابطة، وهي كل من المصدر المعرفي، والاداة المنهجية، والمولدات والموجهات القبلية، والفهم، واخيراً الانتاج والتوليد المعرفي. ويركز فيما يتعلق بالمولدات والموجهات القبلية على ما اسميه الاصول المولدة، باعتبارها اهم ما في القبليات المتحكمة في الفهم العلمي المنضبط. فالسنخية مثلاً هي اصل مولد للتفكير الفلسفي والعرفاني لدى الحضارة الاسلامية وما قبلها.

وفي علم الطريقة تجري التفرقة بين علاقة القبليات بالفهم، وعلاقة النص بالفهم، ولكل منهما ادواته المنهاجية. فحول العلاقة الاخيرة يتبين ان هناك عنصراً جديداً يضاف الى عنصري النص، وهما اللفظ والسياق كما متعارف عليه. فالعنصر الجديد هو ما اسميه (المجال). ولهذا المفهوم اهمية كبيرة على الصعيد الادواتي. فطبقاً له تصبح آليات الفهم او القراءة للنص عبارة عن ثلاثة لا اثنتين يعبر عنهما عادة بالتفسير والتأويل، فيضاف الى ذلك آلية جديدة هي الاستبطان او الترميز. واطلق على هذه الاصناف الثلاثة للفهم او القراءة كلاً من: الإستظهار والتأويل والإستبطان او الترميز. والذي يعين طبيعة هذه الآليات هو المجال والظهور اللفظي، وهناك علاقات رياضية تحدد هذه الاليات كالذي فصلت الحديث عنها في (منطق فهم النص). وتتبين اهمية هذا التصنيف الثلاثي عند لحاظ ان التقسيمات التقليدية تخلط ما بين ممارسات تأويل النص الديني كما عند الكلاميين مثلاً، وبين جملة من ممارسات الباطنية والعرفاء في قراءاتهم للنص، فكلا المجموعتين من القراءات ينظر اليها بأنها تأويل، مع ان المجموعة الثانية لا تعود الى التأويل بل الى الاستبطان او الترميز. والذي يحدد هذا التصنيف هو مفهوم المجال ذاته كاداة منهاجية.

كذلك من ضمن الادوات المنهاجية استخدامي للنص على ثلاثة مراتب متمايزة، هي النص المجهول ونص النص ونص نص النص، فالاخير قائم على الثاني بنحو التفسير، والثاني قائم على الاول بنحو الاشارة.

هذا فيما يتعلق بالادوات المنهاجية للنص، اما ما يتعلق بالادوات المنهاجية للقبليات فقد تم تصنيفها وتبيان اهميتها في التأثير على الفهم ضمن البحث الطرائقي. ومن ذلك التمييز بين القبليات التصورية والقبليات التصديقية، وكذا بين القبليات المشتركة والخاصة، وايضاً بين القبليات المنضبطة وغير المنضبطة. كما تم التمييز بين ما يتأثر به الفهم وما ينتج عنه ضمن اربعة اقسام لها مفاهيم ومقولات مختلفة، هي سنن الفهم وقوانينه وقواعده ومستنبطاته... الخ.

يضاف الى ما سبق الادوات المنهاجية المتعلقة بمعايير الترجيح بين انساق الفهم ونظرياته. اذ يُستخدم في هذا المجال عدد من الادوات المعتمدة كأداة المنطق، لا سيما المنطق الاستقرائي، والبحث المنطقي غير المباشر، واداة الواقع والوجدان العقلي العام... الخ.

 

كيف تم إيجاد هذا العلم ؟

كانت البداية هي الحديث عن مناهج الفهم الديني وليس العلم الخاص بهذه المناهج. ويمكن تأريخها ابتداءاً من عام 1986، فقد اجريت تقسيماً رباعياً لمناهج التراث الاسلامي لتتاح الفرصة لوضع بديل منهجي. لكن تبين لي فيما بعد ان هناك حاجة الى علم يتكفل بدراسة هذه المناهج ضمن ضوابط معقولة. ويمكن تحديد هذا العمل عند كتابتي لـ (مدخل الى فهم الاسلام) بداية التسعينات، اذ كان القسم الاول منه يدور حول علم الطريقة، لكن الحال تطور فيما بعد وظهرت تفاصيل كثيرة حوله، كالذي يبدو في الطبعة الثالثة للمدخل، وكما جاء ايضاً في (منطق فهم النص). وفي المدخل تجد اشارة الى كون العلوم تنشأ من الناحية التاريخية قبل ولادة المنطق والمنهج المتعلق بها. وينطبق هذا الحال عما فعلته حول علم الطريقة. ففي البدء درست المناهج التراثية، لكني شعرت فيما بعد بضرورة البحث حول العلم الذي يقوم بدراسة هذه المناهج وفق معايير مناسبة، وهو ما سميته علم الطريقة.

 

من خلال هذا  العلم ( علم الطريقة ) إلى أين وصل مشروعكم الفكري ؟

 

يعتبر علم الطريقة مشروع يهدف الى تحديد معالم مشروع اخر متمم له، فهو علم منطقي اشبه باصول الفقه في علاقتها بالفقه. اذ يُعنى بتحليل مناهج الفهم، والغرض منه تأسيس منهج مناسب ينسجم مع المعايير التي يعتمدها. وهو في هذه المهمة يتجاوز الطرح المذهبي الايديولوجي، لكونه يتعامل مع مناهج قابلة للتطبيق على المذاهب دون تمايز. لذلك تم اخضاع مختلف المناهج التراثية للتحليل والنقد، وقد شغلت هذه المادة ما يقارب ثلاثة كتب من المشروع، وهي: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، والعقل والبيان والاشكاليات الدينية، فضلاً عما جاء في اغلب مضامين مدخل الى فهم الاسلام. هذا بالاضافة الى وضع البديل المنهجي المتمثل بما اطلق عليه النظام الواقعي، وهو يشغل كتابين متكاملين هما: جدلية الخطاب والواقع، وفهم الدين والواقع.

 

 

هل من الممكن إن تحدثنا عن النمو والترابط بين إعمالكم الفكرية ؟

 

اذا كان المقصود من السؤال هو الحديث عن مختلف هذه الاعمال فقد تتشعب الى مجالات عدة. فبعض الاعمال يعود الى مرحلة الشباب، مثل الكتب التالية: الداروينية عرض وتحليل، والتصوير الاسلامي للمجتمع، ودور اللاشعور في الحياة، وهي اعمال مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض. كما هناك اعمال نالت شيئاً من النمو والتطور، وبعضها كان يتضمن الترابط ضمن مشروع متكامل.

فحول الاعمال التي صادفها التطور تلك المتعلقة بدراساتي حول الشهيد الصدر. فقد تجسد أول ارتباطي بفكره عبر مقالة نشرتها في مجلة الغدير اللبنانية عام 1981 بعنوان (حياة المفكر محمد باقر الصدر). وكان من المزمع وقتها ان انشر في هذه المجلة سلسلة حلقات تتناول خلاصة افكار الصدر الواردة في كتابه الاسس المنطقية للاستقراء. لكن المجلة توقفت عن الصدور. ثم بعد ذلك كتبت مقالة حول اهم التغيرات الفكرية التي طرأت للصدر فيما جاء في كتاب فلسفتنا مقارنة بكتابه اللاحق الاسس المنطقية للاستقراء، وهي بعنوان (نظرات فلسفية في فكر الامام الصدر). وبعدها نشرت كتابي الاول عنه بعنوان الاسس المنطقية للاستقراء بحث وتعليق عام 1985، اذ اضفت اليه تغيرات جوهرية اخرى لاحت الاسس المنطقية للاستقراء، بل أطاحت بالاساس الذي قامت عليه نظرية الصدر في الكتاب، كما وردت في كتيبه اللاحق (بحث حول المهدي)، وهو ما دعاني الى إفراد الحديث عن مثل هذه التغيرات في مقالة متأخرة بعنوان (المهمل والمجهول في فكر السيد الصدر)، وقد نُشرت في مجلة قضايا اسلامية معاصرة عام 2000. وكان من المقرر وقتها ان كتابي الانف الذكر يشغل جزءاً من خمسة اجزاء، اذ تضمّن الكتاب مجمل افكار الصدر وموقفه من المنطق الارسطي فقط. لكن بعد سنتين انجزت دراسة شاملة حول الكتاب سميته (الاستقراء والمنطق الذاتي) عام 1987، وكان من المفترض ان ينشر في دار الاضواء، وبقي لديهم مدة ثلاث سنوات تحت الانتظار، مما دعاني الى سحبه، ولم تتح لي فرصة نشره الا عام 2005، بعد ان اضفت اليه الشيء الكثير مما يتعلق بالدراسات الغربية. وكان ابرز ما جاء في هذا الكتاب نظريتي حول تفسير الاحتمال، بالاضافة الى موقفي الخاص من الدليل الاستقرائي ونقدي لفكر الغربيين وفكر استاذنا السيد الصدر ايضاً. ثم بعد ذلك دوّنت تعليقات في هامش كتاب الاسس المنطقية للاستقراء الذي نشرته مؤسسة العارف عام 2008. هذا وما زال لدي شيء اضافي حول الموضوع، ويتعلق بدراسة نقدية جاهزة لم تنشر بعد، وهي بعنوان (اساليب التوالد المعرفي). ففي البداية وقبل البدء بالبحث ظننت بان من الممكن اضافة شيء جديد لما قدمه هذا المفكر دون المساس ببعض الاسس التي قام عليها كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء)، وهو ما يتعلق بالافتراضات العلمية، لكن عندما بدأت بدراسة الموضوع بدا لي ان المسألة اعمق مما اشرت اليه، فقد ظهر لي بان هناك رؤية نقدية مخالفة لما جاء في هذا الكتاب القيم، بل وهناك عدد من الاضافات في الموضوع..

أما حول اعمالي المترابطة فبعضها يتعلق بما كتبته حول علاقة المثقف الديني بالفقيه، فيما يخص البعض الاخر ما جاء في مشروع العمر (المنهج في فهم الاسلام). فحول علاقة المثقف بالفقيه سبق ان نشرت كتاباً بعنوان (الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر) عام 1996، وفي البداية كانت الفكرة هي كتابة مقال موسع حول طريقة النظر التي يمكن ان يلتزم بها المثقف الديني عوض التقليد الذي يُطالب به من قبل الفقهاء، وهي دعوة تتجاوز ما تعارف لدى الفقهاء من الحصر المعروف في عمل المكلف بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط. لكن الفكرة انبسطت وتوسعت الى الكتاب المشار اليه. ثم بعد ذلك اكتشفت بان العلاقة بين المثقف الديني والفقيه لا تنحصر في (النظر)، بل هناك طريقة اخرى مختلفة للمثقف. ففي (النظر) يظل المثقف تابعاً للفقيه وان لم يقلّده، في حين يصبح للمثقف وفق العلاقة الثانية نوع من الاجتهاد ينافس فيه اجتهاد الفقيه، مما يجعل العلاقة بينهما يشوبها القطيعة والضدية وفق مرتكزاتهما المعرفية التي يستندان اليها، وبذلك وضعت كتاب (القطيعة بين المثقف والفقيه) المنشور عام 2005، والتي ستظهر طبعته الثانية المزيدة والمنقحة لدى افريقيا الشرق هذه الايام. وقبل ذلك نشرت منه دراستين مطولتين في مجلة الوعي المعاصر عامي 2002 و2003، وهما على التوالي: نشأة المثقف وقضية الاصلاح الديني، ومقارنة بين العقل المثقف والعقل الفقيه.

اما حول مشروع العمر (المنهج في فهم الاسلام). فقد تمثلت البداية - كما قلت - بالبحث عن مناهج الفكر الاسلامي مع اضافة منهجي الخاص، وكنت اطلق عليه المنهج الواقعي وإن لم اكتب عنه شيئاً حينها. فكان المقدر خمسة مناهج مختلفة. لكن الفكرة تطورت الى بحث النظم المعرفية للفهم والتي تحتضن المناهج على ان يتقدمها الحديث عن علم الطريقة. وهكذا كانت البداية بكتاب مدخل الى فهم الاسلام. والمقدر ان هذا المشروع يتجسد في خمسة مجلدات واحد منها يخص علم الطريقة، وثلاثة منها تتناول نظم الفهم التراثية، أما الاخير فهو النظام الواقعي المقترح. ولا شك ان اغلب هذه المجلدات قد نشرت بصورة مستقلة. وانا الان بصدد اكمال المجلد المتعلق بعلم الطريقة، فمواده متوفرة لدى كتاب منطق فهم النص والقسم الاول من كتاب مدخل الى فهم الاسلام، وبقي فصل اخير اخذ يتوسع بهيئة كتاب، ويتعلق بمقارنة منهج الفهم الديني بمنهج العلم الطبيعي كما يتمثل في الفيزياء المعاصرة. اما نشر هذه المجلدات الخمسة ضمن عنوان موحد للمشروع فيبدو انه سيتأخر لظروف لها علاقة بدار النشر.

يبقى انني لم اتحدث عن كتاب مشكلة الحديث ولا عن كتاب نقد العقل العربي في الميزان. فالاخير هو كتاب نقدي لمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وقد استفدت منه كما في طرحه المنهجي وابداعه المفاهيمي. اما مشكلة الحديث فكنت بصدد كتابة فصل لـ (العقل والبيان والاشكاليات الدينية) حول الحديث، لكنه توسع فنشرته ككتاب مستقل.

 

هل يمثل مشروعكم إعادة النظر في النظام المعرفي الإسلامي خارج الأطر التقليدية الإيديولوجية ؟

 

نعم ان المشروع يعمل على اعادة النظر في النظم المعرفية الاسلامية التقليدية، لكنه يرمي الى اوسع من ذلك ايضاً، فمهمته البحث في الفهم الديني او الفكر الاسلامي بغض النظر إن كان هذا الفهم والفكر تقليدياً او غير تقليدي، اي إن كان يمت الى التراث بصلة او لا يمت اليه. فهو من الناحية المبدئية يتعامل مع مختلف ضروب الفهم وفقاً لعلم الطريقة.

 

من المعروف ا ن إي عملية ( فهم ) أو (فهم الفهم ) للدين والتي يقوم بها (العلماء الدينين ، الفقهاء ، المثقفين ، مراكز إنتاج المعرفة الدينية ) تعد احد مشاريع الهيمنة على الرأسمال المقدس وهذا معناه إن القوة والهيمنة تكمن في قلب إي مشروع فهم وإنا  شخصيا انظر إلى تلك العملية والتي تسمى فهم بوصفها بناءات تاريخية معرفية بشرية للمقدس ، أين يكمن نسق الهيمنة وامتلاك الحقيقة في مشروع يحيى محمد ؟

 

اعتبر ان مركز القوة التي يمتلكها المشروع بالمعنى الذي اشرتم اليه يتمثل باطروحتي حول الواقع وعلاقته بالنص، وهي علاقة تكاد تكون مغيبة في تراثنا الاسلامي، الا بنحو الاسقاط، بمعنى اسقاط النص على الواقع. لذلك طرحت نظاماً بديلاً عن النظم المتعارف عليها تراثياً، وهو النظام الواقعي كما في جدلية الخطاب والواقع وفهم الدين والواقع، فهما يندرجان ضمن حقل هذا النظام. فالتركيز على الواقع في الفهم يتخذ رأس مال معنوي للمشروع الخاص بالفهم الديني.

 

الخيط الناظم لمشروع يحيى محمد يتمحور حول سؤال فهم الدين أو فهم الفهم هل إن مشروعكم ينتج هذا الفهم خارج إطار المؤسسات الرسمية الدينية ؟

 

للمشروع بشكل عام محاور ثلاثة: فهو من جانب يقدم منهجاً للفهم في قبال مناهج الفهم التراثية، او تلك التي تتبناها المؤسسات الرسمية الدينية. كما انه من جانب يقوم بتحليل هذه المناهج ونقدها تحت مبضع علم الطريقة. كذلك انه متكفل في ابراز علم الطريقة كعلم عام يتناول مختلف مناهج الفهم والفكر بالدرس والتحليل.

 

 

كما يقول حسن حنفي إن الحضارة العربية الإسلامية حضارة مركزية هناك ( نص مقدس ) إذن إن تاريخ الفكر مدينا بوجوده إلى فهم هذا النص فهي إذن حضارة (فهم ) هل ترى إن أي نهضة في العالم الإسلامي لا بد أن تمر بفهم جديد ؟

 

هذا ما أراه، وهو ان حضارتنا هي بالفعل حضارة فهم. وان اي نهضة لا تؤتي اكلها ما لم تشتغل على هذا الفهم، لكن ليس فقط بتقديم فهم في قبال فهم اخر، بل تحويل عمليات الفهم الى برامج يقوم بدراستها علم الطريقة، وذلك للحصول على منهج جديد ومناسب للفهم.

 

 

 

الم ترى معي إن ( الفهم ) المطلوب ألان  لا بد أن يقوم على تفكيك مركزية الخطاب ؟

 

بل ارى ان التفكيك المطلوب حالياً ينبغي ان يقوم على فهم الخطاب لا الخطاب ذاته. واقصد بذلك الفهم السائد؛ فهو ما يحتاج الى تفكيك وازاحة؛ لحمله الكثير من القصور والعجز عن معالجة مشاكل الانسان ومواكبة تطورات الحياة.

 

دعنا نقول إننا عدنا فهم الخطاب وماذا بعد ؟ هل من اجل تجاوزه ؟

 

ان الفهم باطلاق لا يمكن تجاوزه الا بتجاوز الخطاب الديني ذاته، انما المطلوب هو تجاوز الفهم التقليدي السائد بفهم حضاري يناسب نص الخطاب من جهة، والواقع من جهة ثانية.

 

 

 

كيف نعيد فهم ( الدين ) في الأنظمة المعرفية الإسلامية ، والتي تتمحور حول مفاهيم وعلاقات اقتصادية تشكل رؤية للعالم الواقعي (التاريخ، الهوية)، والعلاقة بين هذه المستويات والنظام الفوق- طبيعاتي ؟

 

يبدو لي ان البحث الاهم هو البحث الداخلي الجواني لا الخارجي البراني. فهناك علاقات داخلية لنظم المعرفة هي ما تؤسس عملية الفهم وفقاً لاصول معرفية تبدو مستقلة نسبياً عن التأثيرات الخارجية او البرانية. فمثلاً عندما يختلف الفلاسفة والاشاعرة والمعتزلة بعضهم عن البعض في تحديد طبيعة العدالة ومنها العدالة الالهية، فان ذلك لا يمكن صياغته وفقاً للتأثيرات الاقتصادية او غيرها من العوامل الخارجية، بل ما يحدد هذا المفهوم هو الاصل المولد لكل من هذه الاتجاهات الثلاثة.

 

تتميّز عمليات ( فهم الدين ) بخطاب لغويّ< منظومة لغوية خاصة يمكن تحويلها واستبدالها وقراءتها كـ خطابات أيديولوجية للكشف عن وظيفتها>. أتساءل معك ما هي الوظيفة التي تعطيها لمشروعكم ؟

 

لا شك ان المشروع الذي اقدّمه حريص على الطرح الابستمولوجي كوظيفة تقابل الوظيفة التي يعنى بها التفكير الايديولوجي. فهو اذ يضع مقدمات للفهم عامة كما تتمثل بعلم الطريقة انما يريد من ذلك العمل تحت الاطار الابستمولوجي. وهو اذ يقدم بديلاً معرفياً للفهم عبر طرحه لنظام الواقع انما يجدد بذلك ما كان الخطاب الديني يعتمد عليه في الاحكام عبر آلية الجدل بين الخطاب والواقع وعلاقة ذلك بالمقاصد.

 

تشكل الإسلام كـ جماعات دينية لها نظمها ومعتقداتها الخاصة، شيّد كل منها حدودها الأيديولوجية التي تفصلها عن الجماعات الأخرى داخل الحقل المجتمعي، وتبني تمايزها في الرموز التاريخية والأسطورية وحقل الهوية، إذ اعتمدت هذه الجماعات آليات (  الفهم  ) هل يحاول مشروعكم وإعمالكم الفكرية توحيد الفهم ؟

 

لا ليس الغرض من مشروعي توحيد الفهم، بل فكرة التوحيد هنا مستحيلة بالفعل، انما الغرض هو النقد الجذري للفهم المتوارث، واستبدال الطرح مما كان مذهبياً مؤدلجاً الى طرح منهجي ابستمولوجي. طبعاً مع تقديم البديل المنهجي.

 

 

أنت تقوم بحركة ضخمة من النقد الفلسفي والعلمي للتراث الديني، بوصفه أوّل حقول الاشتغال النقدي.  هل تقدم قراءة جديدة عن (الطبيعة ) (الإنسان) (العالم) أو إيجاد علاقة بين الدين وموقعه من نظام الواقع المجتمعي ؟

 

 

ما استهدفه خلال المشروع هو ايجاد هذه العلاقة بين الدين والواقع، ومنه الواقع الاجتماعي. لكن ذلك انما يكون من خلال تحليل الواقع والكشف عن ابعاده المختلفة. فقد كانت العلاقة التفاعلية بين الخطاب الديني والواقع حميمة للغاية، لكنها انفصلت عندما تجرد الخطاب عن الواقع بفعل انتهاء الاخير وتدوين الاول بهيئة نص مكتوب. وحينذاك توفرت الفرصة لظهور مرحلة تاريخية جديدة اعتبرت النص الديني حقيقة كاملة لا تحتاج الى اعتبارات الواقع وتغيراته، الامر الذي تكذبه علاقة الجدل بين الخطاب والواقع.. فما عدا مما بدا!!

comments powered by Disqus