-
ع
+

الشذوذ والمسكوت عنه في الفهم

يحيى محمد

مثلما يحصل في العلم الشذوذ عن القواعد والنظريات الكلية، فكذا يحصل في الفهم الديني الشذوذ الذي يعني خروج بعض الدلالات اللفظية الظاهرة عن القواعد والنظريات العامة. ومع ذلك يبقى التحيز سواء في العلم أو الفهم - أحياناً - هو لصالح النظريات الكلية على حساب الظواهر الشاذة.

لكن رغم ان الشذوذ في الفهم لا يختلف اجمالاً عن الشذوذ العلمي، إلا أنه من حيث التفصيل فإن الأول لا يعتبر مناقضاً للكلي تماماً، بل يعالج بوسائل مختلفة وفقاً لإختلاف الموضوع وطريقة الفهم. ومن هذه المعالجات انه يتم تأويله كي لا يتعارض مع الكلي، كالذي يحصل في الممارسات الكلامية لدى الدائرة العقلية. كما قد يُعامل كمقيد للكلي ذاته، وبالتالي يؤخذ به مثلما يؤخذ بالكلي، كالذي نجده لدى الممارسات الفقهية وعموم الدائرة البيانية للفهم. كما قد يُحسب على المتشابهات التي ينبغي الوقوف عندها فيما لو تم العجز عن الجمع بينه وبين الكلي، وبالتالي يهمل لصالح الأخير بإعتباره أهم من الجزئي الشاذ، لا سيما إذا كان الأخير ظني الإعتبار، وهو الرأي الذي تبناه الشاطبي، فأكد بأنه لا إعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة الكليات الثابتة بالإستقراء، لأن الجزئيات الشاذة لا ينتظم منها كلي ليعارض الكلي الثابت. واذا كان التعارض بين الجزئي والكلي هو تعارض من بعض الوجوه فإنه يمكن الجمع بينهما. أما لو كان التعارض من جميع الوجوه والجهات بحيث لا يمكن الجمع بينهما فإنه لا بد من الحفاظ على الكلي الثابت بالإستقراء مع إعتبار ما يخالفه من النصوص الشاذة بأنها من المتشابهات التي يجب الوقوف عندها وإيكال علمها إلى الله تعالى، إذ أن الأخذ بالجزئي سوف يفضي لا محالة إلى هدم الشريعة بكلياتها. وهو أمر منكر ومرفوض.

فقد دافع الشاطبي عن الأصول المطردة العامة، واعتبر ما يخالفها من ظواهر النصوص من المتشابهات الموكول علمها لله، ذلك لأن الأصول علمت بالإستقراء على نحو قطعي خلافاً للمخالف الخاص الذي دليله ظني فلا يعارض ما هو قطعي. وكما قال: ‹‹ان الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في اكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها، لأن اتباعها مفضٍ إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فإذا اعتمد على الأصول وارجئ أمر النوادر، ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها، فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه››.

وكنموذج على مثل هذا الشذوذ ما عالجناه في (فهم الدين والواقع) حول قضية الرق. فإذا ما اعتبرنا ان هناك ملازمة بين الحكمين العقلي والشرعي فإن حكم الرق يصبح امراً شاذاً، أو شاهداً معارضاً لهذه القضية، لذلك طرحنا عدداً من الفرضيات كالتالي:

الفرضية الأولى: هناك خطأ في تعيين الكلي المفترض، بدلالة عدم انطباقه على الجزئي الشاذ. وما تعنيه مسألتنا حسب هذه الفرضية هو اننا اخطأنا إعتبار الشرع يطابق العقل ويلازم قراره، بدلالة قضيتنا الجزئية الشاذة، وهي ان ما اقره العقل من قبح نظام الرق لم يحكم به الشرع. إذا بحسب هذه الفرضية أنه لا ملازمة بين العقل والشرع، فلكل طريقه ونتائجه المختلفة عن الآخر.

الفرضية الثانية: ان الخطأ متحقق في الجزئي الشاذ (عدم إلغاء الرق) لكون الكلي لا ينطبق عليه.

الفرضية الثالثة: انهما صحيحان معاً، لكن ما جعل الجزئي ينحرف عن الكلي هو لوجود أسباب خاصة غير معلومة دعته إلى ذلك. فلولا هذه الأسباب لخضع تحت طوق الكلي كبقية القضايا.

ولا يخفى ان الإفتراض الأول غير سليم بإعتبار ان الكلي يحظى بقوة إحتمالية كبيرة بحسب الإستقراء، فلا يمكن التضحية به لمجرد وجود بعض الشذوذ. فمن الصعب قبول كون الشواهد المؤيدة للكلي دون غيره جاءت صدفة بلا ضابط يمحورها. كذلك لا يؤخذ بالإفتراض الثاني لعلمنا يقيناً ان ما ورد من شذوذ حول الجزئي هو صحيح. لذا ليس لنا من سبيل إلا الأخذ بالإفتراض الثالث، وهو إفتراض وجود أسباب خاصة منعت انخراط الجزئي تحت حكم الكلي، سواء كنّا على علم بهذه الأسباب أم لم نك.

ويعتبر هذا النوع من الشذوذ من الاهمية بمكان، فقد نقابل جزئيات أخرى دينية معارضة مع كليات الاعتقاد الديني والوجدان معاً، وعلى رأسها ما يتعلق بعذاب الاخرة. فمن حيث كليات الاعتقاد الديني هو اننا نعلم بأن الله تعالى لا يظلم احداً مثقال ذرة وما دون، وانه ارحم الراحمين كالذي تدل عليه النصوص القرآنية. كما أنه من حيث الوجدان يفترض ان تكون العقوبة ليست أعظم من الجرم المرتكب، وعلى الاقل ان لا تكون بالغة الحجم مقارنة بالجرم. لكننا مع ذلك نواجه شاهداً يبدو أنه معارض للاعتقاد الديني الكلي وللإعتبار الوجداني الانف الذكر، وهو ما يختص بعذاب الاخرة. فالكثير من الآيات تبدي ان بعض الناس ينالون عذاباً غير منقطع، وهو بالغ الشدة والانتقام بحسب التصوير القرآني. وعلى الاقل أنه طويل الامد ((فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأرض إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)).. ((خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ)).. فكيف نوفق بين هذا الشاهد والاعتقاد الكلي؟ وما طبيعة الإفتراضات التي يمكن تقديمها بهذا الصدد؟.

لا شك ان مثل هذا الأشكال يواجه الفهم الذي يكاد يجمع عليه علماء المذاهب والفرق الاسلامية. فهو يختلف عن الشذوذ في العلم، لأن الأخير يفترض وجود التعارض رغم قبول النظرية، لكن مع قضيتنا المذكورة فإن العلماء المسلمين لا يرون ذلك نوعاً من الشذوذ المتعارض مع أصل الفهم الكلي المتعلق بالعدالة الإلهية، كما لا يرونه مخالفاً للوجدان ولا مع الاعتقاد بأن الله ارحم الراحمين! باستثناء عدد ممن ينتمي إلى الاتجاه الفلسفي والعرفاني، وعلى رأسهم ابن عربي الذي يقول: لو ان الله تعالى ‹‹فوّض أمر خلقه إلى أحد من عباده وقدّره ومكّنه من التصرف فيهم، وكان خيّراً غنياً، لأزال العذاب عنهم، وهذا الراحم انا وامثالي، وهو تعالى ارحم الراحمين››.

صحيح ان لمذهب الاشاعرة ما يعذرهم بهذا الصدد، لإعتقادهم بأن لله كل الحق فيما يتصرف بعباده لكونه المالك المطلق. لكن النتيجة ليست مقنعة وفق الوجدان الانساني العام. لذا فإن هذه القضية تخضع إلى عدد من الإفتراضات التي يراد منها محاولة الغاء التعارض بين الشاهد الشاذ والأصل الكلي.

هكذا نخلص اخيراً إلى ان الشذوذ في العلم دال على المناقضة مع النظرية دون وجود ما يبرر له من التوافق، ومع ذلك تكون النظرية مقبولة طالما لا يوجد ما هو افضل منها تفسيراً يتسع لضم الواقعة الشاذة بين جناحيه. وبالتالي فما يجري في الفهم من هذه الناحية يختلف عما يجري في العلم، استناداً إلى إختلاف الموقف من إشكالية التطابق كما هو واضح.

المسكوت عنه في العلم والفهم

بداية نقصد بالقضايا المسكوت عنها ليس مسكوتاً عنها باطلاق، فقد يتعرض لها شخص هنا أو هناك، فخصوصيتها هي عدم تركيز البحث والتحقيق حولها من قبل المؤسسة الرسمية، سواء كانت علمية أو دينية. وقد تكون بعض القضايا المسكوت عنها ليست ذات اهمية، الأمر الذي يفسر علة السكوت عنها. لكن هناك من القضايا الهامة والخطيرة التي يصعب حلها ومعالجتها، لذلك يفضل سدل الستار عليها ما امكن إلى ذلك سبيلاً. وهي ما تعنينا من البحث.

وهنا يمكن التفريق بين المسكوت عنه والشذوذ، سواء في العلم أو الفهم. فالمسكوت عنه هو نوع من الشذوذ أيضاً، وخصوصيته أنه لا يخضع للبحث بجدية خشية نسف الأساس المعتمد عليه، فقد لا يعلن عنه صراحة، أو يمرر مرور الكرام لحساسيته. وهو ما لا يحصل مع الشذوذ العادي كالذي سبق طرحه. وان كانت بعض القضايا يمكن ان تعالج بمنظارين: الشذوذ والمسكوت عنه، ومنها مسألة عذاب الاخرة، ومثلها مسألة السبي في قضية الرق وما يترتب عليها من آثار انسانية. فقد تعد المسألة الأولى مجرد قضية شاذة يصعب تظليلها تحت سقف العدالة ورحمة الله التي وسعت كل شيء. كما قد ينظر إليها بكونها من القضايا المسكوت عنها لدى من يطلق عليهم (العدلية)، أو اصحاب منطق الحق الذاتي، كالمعتزلة والزيدية والأصولية من الامامية الاثنى عشرية، يضاف إلى من يقاربهم في هذا المنظار كالسلفية من امثال مدرسة ابن تيمية وغيرهم.

وهناك العديد من القضايا المسكوت عنها في الفهم لحساسيتها. ومن بينها اقتتال الصحابة وتكفير بعضهم بعضاً كما لدى أهل السنة، إذ النقاش الجاد فيها قد يطيح بالكثير من المسلمات الهامة، والتي منها عدالة الصحابة وما يترتب عليها من أمور عديدة؛ أهمها ما يتعلق بقيمة الحديث المنقول، وخشية ان يظهر ضعف موقف أهل السنة أمام خصومهم من الشيعة الذين يؤكدون هذا الحال جهاراً نهاراً. ومن هذه القضايا أيضاً البحث المتعلق بتدوين الحديث وعلاقته بتحفظ كبار الصحابة ونهي النبي عنه، فكثيراً ما يُمرر مرور الكرام دون النقاش الجدي لحساسيته هو الآخر. ومثله قضية جمع القرآن الكريم وإختلاف المصاحف والتي يبدو أنها أهم القضايا المسكوت عنها، فلا نجد بحثاً جاداً يتناول المترتبات الفرضية عليها ومناقشتها من طرف المؤسسة الرسمية. يضاف إلى ما لدى الشيعة من سكوت؛ مثل عدم تركيزهم على مناقشة توثيق اصحاب أئمة أهل البيت المعتمد عليهم في النقل، مع أنه روي حولهم الكثير من الذم والمساوئ، ومثل ذلك عدم تعرضهم لمناقشة شدة إختلاف اصحاب الأئمة المقربين حول معرفة كل أمام يصل إليه دور الامامة، وعلى هذه الشاكلة قضية عصمة الأئمة وإختلاف قدماء الشيعة واصحاب الأئمة حولها.

أما في العلم فقد أُتهم أحياناً بأنه يسكت عن ظواهر لأنها قد تنسف مبانيه، كالذي يذكره فيلسوف العلم فيرابند حول تطور بعض الأعراف الإنسانية الموغلة في القدم، مثل الإكتشاف المتعلق بأن انسان العصر الحجري كانت له معارف فلكية متطورة إلى حد كبير، وأن أحجار الميجاليث (megalithic) الضخمة المعلقة كانت بمثابة مراصد فلكية وحاسبات آلية للتنبؤ بالأحداث الفلكية كخسوف القمر، وهو أمر جعل علماء الآثار يتضايقون من مثل هذه الإكتشافات، لا سيما تلك المتعلقة بالباحث توم (Thom) الذي توصل إلى كشف خاص بهندسة أحجار الميجاليث الأثرية والمقاييس الخاصة بها. ومثل ذلك ما يشار إلى كون الكثير من المخلوقات الأولى متعددة الخلايا لا ينسجم مع التصنيف العلمي المعتمد عليه، فهي أقدم من الخلايا البسيطة. وعلى هذه الشاكلة قد تمّ الكشف عن وجود مخلوقات أولى غريبة لها أوصاف من بينها ان لها أعمدة فقرية شائكة، فلو لم تتح الفرصة لمخلوق معين يشبه الدودة بعد الابادة الحاصلة قديماً لانعدم إمكان وجود الفقريات لكونها من الفقريات القديمة.

يضاف إلى ما يلاحظ بأن العلم يتحفظ عادة من الدخول في بحث القضايا الميتافيزيقية التي لها علاقة بالمسلمات الدينية، ومنها البحث في النفخة الأولى للإنفجار العظيم؛ بدعوى أنها قضية ميتافيزيقية لا تخضع للقوانين الفيزيائية، مع أنه أخذ يعالج الكثير من القضايا التي تدخل ضمن الإطار الميتافيزيقي، بل والاسطوري أيضاً.



comments powered by Disqus