-
ع
+

مطهري والتوظيف الواقعي للفهم

 يحيى محمد

لقد اعتبر المفكر مرتضى مطهري أن الدين الإسلامي جاء بحقائق تامة وكاملة، لكنها تحتاج إلى فهم عميق لا يتيسر إلا عبر التعرف على مضامين العقل والواقع. فهناك فارق بين الإنسان الساذج الذي يتعرف على موضوعات مثل التوحيد والمعارف الإلهية كما وردت في القرآن والحديث، وبين الإنسان الذي يمتلك حصيلة من العلم تجعله عارفاً بعمق ما تنطوي عليه تلك الموضوعات. وبذلك يكون العلم مفتاحاً للوحي، فما ينزل بلسان الوحي وإن اتصف بالبساطة وعموم الفائدة؛ إلا أنه يعبّر في الوقت ذاته عن عصارة الحقائق التي لا يمكن إدراكها إلا بالعلم. لذلك اعتبر التعاليم والأحكام الإسلامية، سواء ما يتعلق بالحقوق الإجتماعية والعلاقات بين الناس والحدود، أو ما يتعلق منها بأمور أخرى، كلها مبنية على مجموعة من الحقائق الموضوعية. فلو تمّ التعرف على هذه الحقائق طبق أصولها وموازينها العلمية، والتي أصبح الكثير منها معروفاً في العالم، لكان فهم التعاليم والأحكام الإسلامية التي جاءت على لسان الوحي أفضل وأعمق.

فمثلاً أن المرء ما لم يكن على معرفة تامة بالأسس العلمية والنفسية للحِكم الأخلاقية الواردة على لسان القرآن وأهل البيت؛ فإنه لن يكون قادراً على إدراك روح هذه الحِكم التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى، إذ لا تتبين حقيقة هذه الحِكم ومنزلتها الرفيعة بوضوح وجلاء ما لم يكن المرء على معرفة بمختلف النظم الأخلاقية التي ظهرت عبر التاريخ.

وبعبارة أخرى، رأى هذا المفكر بأنه لو تعرفنا على الحقائق الموضوعية التي أصبحت بمرور الزمن علوماً مدونة ومن ثم درسناها عن قرب؛ لكُنّا أقدر على فهم المقاصد والمفاهيم التي نزل بها الوحي، ومنها تلك المتعلقة بالشؤون الإقتصادية والإجتماعية والسياسية. فقد تبين اليوم بأن جميع التعاليم الإسلامية لهذه القضايا قاطعة ومسلّم بها، لكن كيف يمكن لأحد أن يدعي القدرة على إدراك مقاصد الإسلام لتلك التعاليم حق الإدراك وأن يقدمها للعالم بكونها أرفع التعاليم دون أن يطلع جيداً على الأصول والقواعد الموضوعية للعلوم الإنسانية[1]؟!

وبخصوص علم الفقه، رغم أنه قائم على الإجتهاد، إلا أنه بنظر مفكرنا ما زال يعاني طرقاً مسدودة جعلته يصادم ما عليه الواقع والحياة، وهو يرى أن من الواجب التخلص من هذا التضاد الكائن بين الفقه وتكامل الحياة، وذلك عبر ‹‹إدراك سليم وقوي قادر على استخلاص هذا الرمز - رمز قوانين الإسلام الكبير - الذي يمكن أن نطلق عليه اسم (رمز الإجتهاد الكبير)›› . ويتمثل هذا الرمز الكبير طبقاً لكليات الكتاب والسنة من حيث أنها تكفي ‹‹جميع حاجات المسلمين الدينية في كل وقت، وأنه ليست ثمة حاجة إلى إعمال الرأي والقياس.. إنما المطلوب إدراك سليم وقوي..››[2]. وعموماً طالب هذا المفكر بفتح الطرق المسدودة التي لحقت بالفقه، عبر النظر لعلوم الواقع والحياة، فطرح العديد من التساؤلات والإشكالات التي رآها لا تُحل إلا من خلال الفحص العميق للواقع العلمي. وقد أسبغ على ذلك خاصية الإجتهاد المطلوبة؛ فرأى أن من حق العقل أن يمارس الإجتهاد عبر التعرف العلمي على قضايا لم تغفل عنها التعاليم الإسلامية في الأصل[3].

وينطلق مطهري في حل هذه الإشكالية من منطق التسليم بوجود تطابق تام بين عالمي التكوين والتدوين. فلو أن هناك شيئاً يؤكده عالم التكوين فسيكون ذلك مدعاة للإعتقاد بتوافقه مع عالم التدوين. فمثلاً اعتبر بأن النظرية الغربية القائلة بأن هناك حقوقاً طبيعية فطرية للإنسان تتصف بالثبات والدوام والكلية والعموم، وهو ما يجعلها مقدمة على جميع الحقوق المتواضع عليها، اعتبرها تستحق الفحص والإختبار لمعرفة ما إذا كانت صحيحة حقاً أم لا؟ وعلى رأيه أنها لو كانت صحيحة فسيستلزم الأمر إعتبارها مقبولة عند الإسلام بلا أدنى شك. ومن ذلك أنه تساءل: ‹‹هل صحيح أن الحرية الفردية والمساواة وحق التملك وحرية العقيدة وحرية التعبير وأمثالها تمتد جذورها في الفطرة وفي طبيعة الإنسان؟››[4].

ومن الناحية المبدئية إعترف مطهري بكون الواقع يشكل مصدراً مهماً للغاية، ورأى أنه الوحيد الذي يجدر الإعتماد عليه في التعريف بحقوق الإنسان، لذا أطلق عليه (كتاب الخلق الثمين)، فمن خلال ‹‹الرجوع إلى صفحات وسطور هذا الكتاب العظيم نطّلع على حقوق الإنسان الحقيقية وعلى حقوق المرأة والرجل تجاه بعضهما البعض››. وطبقاً لهذا المصدر أقرّ مطهري بأن للإنسان كرامة وشخصية ذاتية قابلة للإحترام، وأنه مُنح في أصل خلقته مجموعة من الحقوق والحريات لا تقبل السلب والإنتقال بأي حال من الأحوال، ورأى أن الإسلام يؤيد هذا التحقيق[5].

 



[1] انظر: مرتضى مطهري: حق العقل في الإجتهاد، ص61ـ64.

[2] مرتضى مطهري: مبدأ الإجتهاد في الإسلام، ترجمة جعفر صادق الخليلي، مؤسسة البعثة في طهران، الطبعة الأولى، 1047هـ، ص28ـ29.

[3] حق العقل في الإجتهاد، ص65ـ66.

[4] المصدر السابق، ص64ـ65.

[5] مرتضى مطهري: نظام حقوق المرأة في الإسلام، مؤسسة الاعلام الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1405هـ ــ 1985م، ص129.

comments powered by Disqus