-
ع
+

محمد اقبال والتخصيص الظرفي للأحكام

يحيى محمد

لقد رأى المفكر محمد اقبال أن نصوص الأحكام جاءت وفقاً لما عليه طبيعة الظروف في شبه الجزيرة العربية، تأثراً بما أفرزه الواقع الحديث من تغايرات شديدة تختلف كثيراً عما كان عليه الأمر من قبل. وقد عزز هذه الفكرة بما لجأ إليه الشاه ولي الله دهلوي من ربط النصوص بما يلائم الوضع القديم، وما أفاده أبو حنيفة من مبدأ الإستحسان وعدم التقيد الحرفي بالنص العام.

فقد اعتبر اقبال بأن ما ذكره دهلوي هو مما أنار إليه الطـريق، ملخصاً مذهبه بالقول: إن ‹‹طريقة الأنبياء في التعليم، تنهج منهجاً من شأنه بصفة عامة أن القانون الذي يأتي به نبي يلاحظ ملاحظة خاصة العادات والأحوال والخصائص المميزة للناس الذين بعث اليهم على سبيل التخصيص. أما النبي الذي يستهدف مبادئ عامة شاملة فإنه لا يستطيع أن يبلغ مبادئ مختلفة إلى الشعوب المختلفة، ولا أن يترك لهذه الشعوب أن يضع كل منها قواعد السلوك الخاصة به. والطريقة التي يتبعها النبي هي أن يعلم أمة معينة ويتخذ منها نواة لبناء شريعة عالمية وهو في هذه الحالة يؤكد المبادئ التي تنهض عليها الحياة الإجتماعية للبشر جميعاً ويطبقها على حالات واقعية في ضوء العادات المميزة للأمة التي هو فيها. وأحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق (كالأحكام الخاصة بعقوبات الجرائم) هي أحكام يمكن أن يقال أنها تخص هذه الأمة. ولما كانت هذه الأحكام ليست مقصودة لذاتها فلا يمكن أن تفرض بحرفيتها على الاجيال المقبلة، ولعل هذا هو السبب في أن أبا حنيفة - وكان نافذ البصيرة بما للإسلام من صفته العالمية - لم يكد يعتمد على هذه الأحاديث. وإدخال أبي حنيفة لمبدأ (الإستحسان) في الفقه، والإستحسان يقتضي الدرس الدقيق للأحوال الواقعة، في التفكير القانوني ويلقي ضوءاً آخر على البواعث التي كيفت موقفه من مصادر التشريع المحمدي››[1].

كما اعتبر هذا المفكر بأن الإسلام قد شكّل مرحلة وسيطة لا غنى عنها في ربط العالم الحديث بالقديم. وبحسب هذه الوجهة من النظر يكون الإسلام قد مهّد لظهور النهضة الحديثة كما تجلت في الغرب. إذ جاء الإسلام بفكرة الإعتماد على كل من العقل والتجربة في تقييم القضايا المطروحة، في حين كان البشر قبل الديانة الأخيرة بحاجة ماسة للوحي في فهم القضايا؛ طالما لم ينضج العقل البشري بعد، الأمر الذي مهد لحضور الإسلام كخاتم للديانات الأخرى، حيث انتهى إلى جعل الأمور عائدة إلى النظر العقلي والتحقيق التجريبي.

وهو مع ذلك قد تجاهل الدور السابق للإسلام على العلم والمتمثل بفلسفة الإغريق ومن قبلهم الحضارات الأخرى، وعلى رأسها الحضارة المصرية، وأثر كل ذلك على العلماء المسلمين من خلال البحث العلمي والفلسفي للطبيعة، فهو أقرب للجانب العلمي من التأثير القرآني المعني – أساساً - بحالة التأمل في الآيات الكونية لمعرفة الخالق والتعلق به، أو أخذ العبرة من هلاك الأمم السابقة.

فهو بعد أن يورد جملة من الآيات القرآنية التي تحثّ على النظر في عالم الكون والطبيعة يصل إلى أن هناك إتجاهاً تجريبياً عاماً للقرآن يتبدى عبر استهدافه لتأمل الطبيعة، وقد انعكس هذا الأمر لدى أتباع القرآن فكوّن لديهم ‹‹شعوراً بتقدير الواقع وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث››، معتبراً بأن القرآن قد أيقظ تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات لأن البحث فيه لا يثمر الكثير عما وراء الطبيعة[2]. وعليه اعتبر نبي الإسلام وسيطاً بين العالمين القديم والحديث ‹‹فهو من العالم القديم بإعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث بإعتبار الروح التي انطوت عليها. فللحياة في نظره مصادر أخرى للمعرفة تلائم تجاهها الجديد››، مؤكداً بأن مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي. وبالتالي فإن ‹‹إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومنشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام، واصراره على أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية؛ كل ذلك صور مختلفة لفكرة إنتهاء النبوة››. فالأنفس والآفاق هي من مصادر المعرفة بحسب القرآن الكريم[3].

هكذا فإن هذا الإتجاه قد جعل من الواقع أصلاً معرفياً دعا إليه الإسلام بقوة، وأول تطبيق لذلك هو إعتبار النصوص الخاصة بالتشريع كانت ملائمة لظروف شبه الجزيرة العربية وبالتالي قد لا يكون أكثرها ملائماً للحياة الجديدة. ومثل ذلك ما ذهب إليه الطاهر الحداد في كتابه (امرأتنا في الشريعة والمجتمع) وأحمد أمين في كتاب (يوم الإسلام)، إذ رأى الأول أن هناك فرقاً ‹‹بين ما أتى به الإسلام وما جاء من أجله، وهو جوهره ومعناه، فيبقى خالداً بخلوده، كعقيدة التوحيد ومكارم الأخلاق، وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس، والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله دون أن تكون غرضاً من أغراضه. فما يضع لها من الأحكام إقراراً لها وتعديلاً فيها باق ما بقيت هي، فإذا ما ذهب ذهبت أحكامها معه. وليس في ذهابها جميعاً ما يضير الإسلام، وذلك كمسائل العبيد، والإماءة، وتعدد الزوجات، ونحوها مما لا يمكن اعتباره حتى كجزء من الإسلام››[4]. أما أحمد أمين فقد اعتبر هو الآخر أن الأحكام المنزلة في القرآن والحديث كانت معرضة للنسخ رغم ضيق الفترة الزمنية للرسالة الإسلامية، وأن آيات الأحكام التشريعية المقصودة في القرآن لا تتجاوز المائة، في حين قد تغيرت الظروف كثيراً مما يستدعي أن تكون الأحكام مرنة وقابلة للتغيير[5].

وحالياً يشاطر هذا الإتجاه المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي.

 



[1] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، لجنة التأليف والترجمة في القاهرة، الطبعة الثانية، 1968م، ص197ـ198.

[2] تجديد التفكير الديني في الإسلامي، ص21.

[3] المصدر، ص144ـ145.

[4] الطاهر الحداد: امرأتنا في الشريعة والمجتمع، ص6، عن مكتبة الموقع الإلكتروني www.4shared.com.

[5] أحمد أمين: يوم الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1952م، ص43ـ45.

comments powered by Disqus