-
ع
+

تراثنا العقلي والعقل المطلوب

 يحيى محمد

بدءاً نتساءل حول حقيقة المناهج الثلاثة العقلية والكلامية والفلسفية كما يشير لذلك عنوان الندوة[1]؟

فنحن نعلم ان لدى التراث المعرفي الاسلامي ما يطلق عليه الفلسفة وعلم الكلام، وان المنهج العقلي العقائدي منحصر في هذين العلمين، ولا توجد منظومة عقلية اخرى – عقائدية - غير ما هو مذكور، فالمنهج الفلسفي هو منهج عقلي صرف، أي أنه يعتمد على المقدمات العقلية للتوصل الى النتائج، كما أن المنهج الكلامي في غالبه هو منهج عقلي، ونقول في غالبه لأن بعض الاتجاهات الكلامية لا تعد عقلية بل تمارس علمها للكلام اعتماداً على بيان النص، ومن هذه الاتجاهات المذهب الظاهري لابن حزم، ومثل ذلك مدرسة ابن تيمية في الوسط السني، ومدرسة محمد امين الاسترابادي الاخبارية في الوسط الشيعي. كذلك فان اضفاءنا لصفة المنهج العقلي على غالب علم الكلام هو نقيض ما يدعيه بعض المفكرين بأن هذا العلم هو بياني تابع لبيان النص دون ان يستقل عنه مثلما لدى الفلسفة، فهو يبرر لما موجود من القضايا الدينية، وهذا ما يتبناه المفكر الراحل محمد عابد الجابري، وهو رأي يتمـاشى مع وجـهة نـظر إبن خلدون الذي يعتقد بأن علم الكلام إنما كان لدفع شبهات (الملحدين)، ولهذا فهو يرى ان علماءه استخدموا النظر العقلي مثلما استخدمه (الملحدون)، دون أن يكون قصدهم تقرير الحقائق عن طريقه، بل كان العقل عندهم لأجل خدمة الايمان والشرع، وهو يتناسب مع تعريفه لعلم الكلام بأنه «علم يتضمن الحجاج عن العقائد الايمانية بالأدلة العقلية والرد على المبدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة»[2].

وكذا الحال مع الجابري، فهو يرى ان المتكلمين، والمعتزلة منهم بالخصوص، يرفعون شعار العقل من حيث «إنهم يريدون الدفاع عن العقيدة أمام من لا يؤمن بكتاب ولا سنة.. فالعقل هنا مع المعتزلة.. مجرد أداة، فهو في جميع الأحوال في خدمة الكتاب والسنة وليس بديلاً عنهما»[3].

لكن واقع التفكير الكلامي يشهد ضد هذا الاستنتاج، فطريقة الكلام لم تكتفِ بممارسة عملية التأسيس القبلي والخارجي للخطاب الديني حتى يُفترض أن يقال بأن ذلك كان لمواجهة العقائد الأُخرى ولصالح الخطاب أو النص، بل هناك أمر آخر أهم، وهو ما يتعلق بالتأسيس البعدي والداخلي للخطاب عبر آلية الفهم. فطبقاً لهذا التأسيس يكون التوظيف مقلوباً، فهو ليس توظيفاً للعقل لخدمة البيان أو النص، بل العكس هو الصحيح. وما يزيد الأمر تأكيداً هو أن هذا التأسيس أو الفهم لم يتشكل طبقاً لموجهات النص والبيان، بل انه مجعول تبعاً للتشريع القبلي للعقل.

وبالتالي فالطريقة الكلامية تشهد ضد ذلك الاستنتاج، ليس فقط لاعتبارات التأويل التي تطول النصوص الدينية بدعوى معارضتها للعقل، بل لتصريحات المتكلمين العديدة التي تبدي بان التعارض بين العقل والنقل يفضي الى ترجيح العقل على النقل وتأويل الاخير، او طرحه كلياً إن كان نص حديث مثلاً، ولأنهم عادة ما يعتبرون دلالة العقل قطعية بخلاف دلالة النقل او النص، ومن ذلك ما يقوله الشريف المرتضى والطوسي والفخر الرازي وغيرهم، فرغم اتجاهاتهم المذهبية المختلفة الا انهم يتفقون على هذا المبدأ من تقديم العقل على النقل.

فقد اعتبر الشريف المرتضى ان ادلة العقول ليس فيها إحتمال ومجاز وتأويل، خلافاً للنص، ومن ثم لا بد من صرف كل ظاهر للنص بما يوافق هذه الادلة[4]. كما اعتبر في محل اخر ان ظواهر الكتاب الكريم اما ان تكون محتملة مشتركة او انها ظواهر خالصة، وفي كلا الحالين لا بد من الرجوع الى الادلة العقلية المخالفة لهذه الظواهر، باعتبار ان هذه الادلة قطعية[5]. وجاء عنه أيضاً تأكيده بأن للعقول «دلالة على جميع الأحوال غير محتملة، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل..»[6].

وهو نفس ما قرره تلميذه الشيخ الطوسي، إذ أكد هذا المعنى وهو أن ظواهر النصوص تبنى على أدلة العقول لا العكس، وبالتالي لا بد من تأويل هذه الظواهر عند معارضتها للعقل[7].

كذلك فإن للفخر الرازي، وهو من الأشاعرة المتأخرين، نصوصاً كثيرة يذهب فيها الى ضرورة الثقة بالعقل وممارسة التأويل حين تعارضه مع النقل، مُبدِياً أن دلالة العقل قطعية بخلاف دلالة النص التي لا تتجاوز الظن[8].

فتلك النصوص لا تكشف عن تقرير ما يتصف به العقل من حقيقة وقطع وإحكام، بل وتكشف أيضاً عما يتصف به النص ذاته من مجاز وإحتمال وتشابه، أو عدم بيان. وهو ما استفز البيانيين او النقليين، كما هو الحال مع ابن تيمية الذي ألّف كتابه الكبير (درء تعارض العقل والنقل) ليرد فيه على القانون الكلي للتأويل، كما أعلنه الفخر الرازي، بأربع وأربعين وجهاً، ناقضاً الزعم القائل بتقديم الأدلة العقلية مطلقاً بما يفضي إلى التأويل عند المعارضة، بل وكاشفاً عن إنتفاء المعارض العقلي القطعي[9]. ومثل ذلك فعل إبن القيم الجوزية الذي يعد أبرز تلامذة إبن تيمية، كما في كتابه (الصواعق المرسلة). اذ سخّر كتابه للرد على قانون الفخر الرازي، فنقد مقالة تقديم العقل على النص في ما لو تعارضا بأكثر من خمسين وجهاً[10]. كما اعترض على مبدأ كون «الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» على ما صرح به الرازي في قانونه الكلي بسبع وخمسين وجهاً[11].

 

التقسيم المنهجي للتراث

قد نتسائل ما هي العلاقة التي تربط بين الفلسفة التقليدية والكلام؟ فهل يعد احدهما مكملاً للاخر؟ وهل انهما يدخلان ضمن نظام واحد بمنهجين مختلفين؟ وهل بينهما تعارضات عادية مثلما تحصل بين مختلف المدارس والمذاهب الفكرية؟ ام ان بينهما قطيعة تامة؟

من وجهة نظر «طريقية» يمتلك علم الكلام روحاً من النظر والتفكير تتضارب مع الروح التي تمتلكها الفلسفة، فالعلاقة بينهما تتضمن القطيعة المنطقية الذاتية، بغض النظر عن مجراهما التاريخي وما تضمنه من تلفيقات. فلكل منهما مرآته الخاصة المختلفة جذراً عن الأخرى. ويمكن القول أن التضاد بينهما هو تضاد بين روح حتمية وأخرى غير حتمية، وليس من الممكن الجمع بينهما دون خسارة إحداهما لحساب الثانية. إذ تتصف الأولى بأنها وجودية، في حين تتصف الثانية بكونها معيارية، وكل جمع بينهما يفضي الى نوع من التلفيق، وقد توظف بعض قضايا إحداهما لصالح الأخرى، كالذي فعله الفخر الرازي الذي وظف الفلسفة لاغراض كلامية. ومع أن من السهل أن تجد عالماً يجمع بين الفلسفة والعرفان كما هو غالب الفلاسفة، أو يجمع بين الكلام والفقه كما هو غالب المتكلمين، لكن قلّما هناك من يجمع بين الفلسفة والفقه، كما هو حال إبن رشد، وبأقل من ذلك من يجمع بين الفلسفة والكلام، كالذي يلاحظ لدى الكندي، لكن الكندي عالم طبيعي ذو نزعة كلامية اعتزالية أكثر منه فيلسوف محترف على شاكلة سائر الفلاسفة التقليديين؛ لكونه يتجاوز المبادئ الفلسفية مثل موقفه من خلق العالم.

فعلاً أن هناك خروقات حصلت للكثير من الفلاسفة عندما تناولوا القضايا الدينية، ومنها تلك التي عالجها علم الكلام. فمثلاً أن لإبن رشد رأياً حول القضاء والقدر يخالف مبناه الفلسفي. فهو يتوسط في حل المشكلة ويرى أن إرادتنا للأشياء لا تتم إلا بمؤاتاة الأسباب الخارجية والداخلية - في أبداننا - التي سخّرها الله تعالى، والتي منها ما يكون حافزاً على الفعل أو مثبطاً له. بهذا تجري الأفعال على نظام محدود مقيّد بالأسباب والإرادة معاً، حيث كلاهما يشكل الحد العام للقضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده[12]. لكن هذه الرؤية تخالف مبنى إبن رشد الفلسفي وحتمية نظام الضرورة في الأسباب والمسببات في الوجود كله من أوله حتى آخره[13]. كما أن لصدر المتألهين آراءاً حول خلق السماوات والأرض تتعارض مع مبانيه الفلسفية. ومن ذلك جمعه بين الإعتبارات الفلسفية القائلة بضرورة أزلية الفيض وأبديته وإستحالة عدم الكائنات أو خلقها من العدم تبعاً لمنطق السنخية، وبين الإعتبارات الدينية التي تقر بأن الله قادر على أن يخلق السماوات والأرض في لحظة واحدة[14]، كما وله القدرة على إفنائهما متى شاء في أي لحظة[15]، وأن الدنيا ستفنى بقيام الساعة الكبرى. كذلك إعتقد تبعاً للمنطق الفلسفي أنه لا بد للعقول المجردة أن تظل ثابتة لا تتعرض للتغير والتحول بإعتبارها ليست من جملة العالم ومما سوى الله، بل باقية ببقائه وموجودة بوجوده من دون جعل وتأثير[16]. لكنه مع ذلك أقر بفناء العقول ورقيها بالتحول إلى ما هو أعلى منها شأناً، تلفيقاً مع بعض النصوص الدينية التي صرحت بموت وفناء الكل[17].

وبالتالي فما نود قوله هو أن واقع الفلاسفة والمتكلمين لا يعكس الإتساق مع المبادئ الفلسفية والكلامية الملتزم بها دائماً، سيما الأصول المولدة وتفريعاتها.

وعموماً أن للفلسفة نظاماً خاصاً يجتمع فيه مع العرفان او التصوف، وهي تقف على الضد من علم الكلام الذي يجتمع مع الفقه وسائر العلوم النقلية ضمن ما نسميه النظام المعياري.

ومصطلح (المعياري) جاء ليقابل مصطلح الوصفي والتقريري للأشياء الخارجية، فمعناه هو ما ينبغي عليه الشيء أن يكون. وفي بعض المعاجم الفلسفية عُرّف (المعيار) لدى المنطقيين بأنه نموذج مشخص لما ينبغي أن يكون عليه الشيء، وهو النموذج المثالي الذي تنسب إليه أحكام القيم. فالمعيار في الأخلاق هو النموذج المثالي الذي تقاس به معاني الخير، والمعيار في المنطق هو قاعدة الإستنتاج الصحيح، وفي نظرية القيم هو مقياس الحكم على قيم الأشياء. والعلوم المعيارية هي عند (ووندت) عبارة عن العلوم التي تهدف إلى صوغ القواعد والنماذج الضرورية لتحديد القيم، كالمنطق والأخلاق وعلم الجمال. وتقابل هذه العلوم نظيرتها المسماة بالعلوم التفسيرية أو التقريرية القائمة على ملاحظة الأشياء وتفسيرها، كما في علوم الطبيعة، فهي علوم خبرية خلافاً للعلوم المعيارية التي يمكن تسميتها بالعلوم الإنشائية[18]. وبالتالي فما نعنيه بالنظام المعياري لدى الفكر الإسلامي هو التفكير في مجال القيم بما ينبغي عليه الشيء أن يكون.

على أن لنظام الفلسفة والتصوف وجوداً مستقلاً سبق وجود الخطاب الديني أو الإسلامي لمدة تناهز عشرة قرون خلت. وقد كانت إشكاليته المعرفية إشكالية «وجودية» تتخذ من «الوجود العام» موضوعاً لها، مضفية عليه الطابع الحتمي في جميع مراتبه ومفاصله. لذا آثرنا تسميته بـ (النظام الوجودي) الحتمي، فما قدّمه من تنظير يمتاز بالطابعين الوجودي والحتمي معاً، حتى على مستوى تعامله مع الخطاب والقضايا المعيارية، كما فصلنا ذلك في (الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية).

أما علم الكلام فقد نشأ – مع مجمل النظام المعياري - بعد وجود الخطاب الديني، وقد علق بهذا الخطاب بشتى الأشكال والنواحي، لذلك لم يكن هناك مانع يفصله عن فهمه مثلما هو الحال مع الفلسفة. فموضوعه الأساس إن لم يكن عين النص أو الخطاب ذاته، فهو لا يخرج عن القضايا التي تتعلق به مباشرة هنا وهناك. لذا فمن حيث ذاته أنه ليس مستقلاً، ولا كان بالإمكان معالجته وقراءته بمعزل عن العلاقة بالنص أو الخطاب، خلافاً لما هو الحال مع الفلسفة ومجمل النظام الوجودي، لكون الاخير مستقلاً بذاته، وبالتالي فمن الناحية المنطقية جازت معالجته لذاته وبغض النظر عن علاقته بالنص.

لكن لما كانت علوم النظام المعياري غير مستقلة في ذاتها عن الخطاب، فهي إما مبنية على فهمه أو على الموضوعات العالقة بأجواءه، وحيث أن للخطاب طبيعة معيارية تتضمن «الروح الانشائية» وتتخذ من نظرية التكليف قطبها الأساس، لذا فقد اصطبغت هذه العلوم بالصبغة المعيارية، أي أنها تنتمي إلى ما اطلقنا عليه (النظام المعياري)، دون أن يعني ذلك بأن الخطاب هو الآخر ينتمي إلى هذا النظام، بإعتباره مادة خام بالقياس إلى الأنظمة والأجهزة التي تطرح نفسها لفهمه ومعالجة قضاياه.

ولكل من النظامين السابقين دائرتان معرفيتان، حيث يمتلك النظام الوجودي دائرتي الفلسفة والعرفان، كما ويمتلك النظام المعياري دائرتي البيان والعقل المتمثل في علم الكلام. وجميع هذه الدوائر نجدها لدى الساحتين السنية والشيعية.

لذا فمن حيث البحث الإبستيمي يمكن فتح الباب المسدود بين المذاهب الإسلامية. فبحسب هذا النهج من التفكير سوف يمكن إعادة ترتيب مواقع إتجاهات المعرفة بصيغة جديدة تختلف عما هو الشائع قديماً وحاضراً. إذ لم يعد ممكناً إعتبار «المذهب» حاملاً للإتساق والوحدة في ذاته إذا ما تضمّن أنظمة متضاربة ومناهج متضادة. كما ليس من الممكن غلق المذاهب وعزلها عن بعضها - كالمونودات - إذا ما التقت وتقاربت طبقاً لطريقة التفكير عند معالجتها للموضوعات المشتركة. وبالتالي فليس من الصواب حفر الخنادق بين المذاهب ونشر الخلاف والتمايز المطلق دون النظر إلى ما يجمعها ويوحدها في الخصوصية المشتركة الأساسية، كطريقة عامة للتنظير والتمنطق ضمن دينامو تفكير مشترك.

فطبقاً لهذا يمكن القول بأن الشيعة ليست على النقيض من السنة، ولا أن هذه الأخيرة تقع على الضد من تلك. كما أن أياً منهما لا يحمل إتساقاً في ذاته كمذهب عام، إذ في كل منهما عناصر متضادة ومتضاربة من الدوائر المعرفية. وطبقاً لعلم الطريقة والبحث الإبستيمي قد يلتقي منهج معرفي ضمن أحد المذهبين بمنهج معرفي في الآخر، رغم أنه يتضارب - في الوقت ذاته - مع مناهج أخرى تعود إلى نفس المذهب الذي ينتمي إليه. فالإتجاه الإخباري لدى الشيعة يلتقي تماماً مع الإتجاه البياني السلفي لدى السنة تبعاً لطريقة النظر الإبستيمي لدينامو التفكير. وبالتالي فهما يتموضعان معاً في خندق معرفي واحد مضاد لسائر الخنادق المعرفية من الدوائر العقلية المعيارية والوجودية بما فيها تلك التي تنتمي إلى نفس المذهب. وعلى هذه الشاكلة يكون الإتجاه الكلامي الشيعي ملتقياً مع المعتزلة، وهذه الفرقة تلتقي مع متأخري الأشاعرة في العديد من الإعتبارات العقلية. والحال ذاته يصدق على سائر الدوائر المعرفية الأخرى التي تحددها الأصول المولدة من دينامو التفكير وروحه، مما ينطبق على الفقه والفروع.

وهذه النقطة من التداخل والتقسيم تثير اشكالاً حول القضية التي اتفقت عليها المذاهب الإسلامية ضمن النظام المعياري بدائرتيه، وهي أن هناك فرقة ناجية وسط فرق الضلال. إذ كادت المذاهب العقلية والبيانية تتفق على إعتبار جميع الفرق ضالة باستثناء واحدة، رغم التداخل الحاصل بينها. فالتداخل بين المذاهب يحيل أن يكون هناك مذهب نقي خالص يتميز عن غيره من المذاهب، سواء على صعيد المضمون الفكري أو المنهج والطريقة.

والطريقة التي نعرّف بها تجعلنا ندرك بأن المنتمين إلى مذهب معين قد يمارسون الإزدواجية في التفكير بحسب ما تفرضه عليهم المناهج المتعددة، والتي تصل بهم أحياناً إلى حد التناقض حين يُعالج الموضوع ذاته بمنهجين متضاربين في النظام والتفكير، كالتضارب الوارد بين النظامين الوجودي والمعياري. فقد يمارس المنتمي إلى الدائرة العقلية المنهج البياني، في ما يفترض فيه إتّباع المنهج العقلي، وقد يكون العكس، كما قد تحصل فوضى منهجية بالأخذ من هذا المنهج أو ذاك من دون شروط، يضاف إلى أن المنتمي إلى النظام المعياري قد يستعين بتفكير النظام الوجودي لحلّ قضاياه العالقة، كما يحدث العكس. وبالتالي فقد تحدث مزاوجات وتهجينات بين النظامين دون شروط ومراعاة للحدود المنهجية التي تشدّهما نحو التفكير كما تفرضها أصولها المولّدة المستقلة، فيحصل ما نسميه فسيفساء الفكر غير المتجانس. فهذا النوع من المزاوجات والتهجينات قد شهد عليه تاريخ الفكر الإسلامي، فنجد مثلاً شخصيات علمية كبيرة تحمل إتجاهين متضاربين، فتجمع بين مذاهب وجودية (فلسفية أو عرفانية) ومذاهب أخرى معيارية (فقهية أو كلامية). وكان من أبرزهم الكندي والغزالي وإبن رشد والفيض الكاشاني وغيرهم.

وعموماً يتصف الفكر الإسلامي - كتراث معرفي - بالتعدد والتداخل، فهو متعدد بكثرة فرقه، كما أنه متداخل أيضاً. وتبرز إيجابية هذه الظاهرة لدى الفروع من هذا الفكر، كما في علم الفقه وغيره من العلوم. أما في الأصول والعقائد فالأمر مختلف، إذ الفكر فيها وإن تعدد وتداخل إلا أن ما ساد قد تمّ توظيفه بإتجاه التضليل والتكفير. إذ كانت الفرق الدينية أحادية التصور؛ لا تجيز للآخر الإختلاف والتعدد، وبعضها يتهم البعض الآخر بالضلال والكفر، كما كانت تتداول قضاياها العقدية بأنحاء شتى من الإجتهاد، رغم أنها تتنكر - في الغالب - لهذا الإجتهاد ولا تعترف به[19]. لكن رغم كل ذلك فإن النقطة الإيجابية التي تتجاوز هذه السلبيات هي أن تعددية هذه الفرق محكومة بالتداخل. فبحسب البحث الإبستيمي تتصف التعددية المشار إليها بأنها متداخلة على المستويين: المضمون الفكري، والمنهج أو الطريقة. ومن حيث الدقة، هناك ثلاث جهات تتداخل فيما بينها، هي: المناهج والعلوم والمذاهب. ففي المذهب الواحد تتعدد العلوم والمناهج، كما تتعدد في العلم الواحد المذاهب والمناهج، وكذا الحال في المنهج الواحد، فهو أيضاً يتضمن تعدداً في العلوم والمذاهب.

فمثلاً على مستوى المضمون، رغم أن الفرق الإسلامية تتفق على أصل التوحيد، إلا أنها تختلف حول مضمون هذا الاصل. فهناك التوحيد بالمعنى التشبيهي، وفي قباله التوحيد بالمعنى التنزيهي، كما هناك التوحيد بالمعنى الأشعري، وكذا بالمعنى الفلسفي، وعلى شاكلته العرفاني المعبّر عن وحدة الوجود، وغير ذلك من المعاني. وهذا الإختلاف لا يمنع من إشتراك الفرق الكبيرة في حمله. فالمعنى التنزيهي للتوحيد وارد؛ سواء في الساحة الشيعية أو السنية، ومثله المعنى التشبيهي، وكذا المعاني الأخرى. وعلى شاكلة ما سبق أن التسليم بمرجعية العقل وارد لدى الساحتين، كما أن انكار العقل وارد هو الآخر لديهما، وكذا يقال حول قضايا رئيسة أخرى كقضية الحسن والقبح العقليين، وقضية القياس وما اليها. ففي الساحتين (السنية والشيعية) هناك من يعوّل على هذه القضايا، مثلما يوجد من ينكرها. وهو معنى كون هذه التعددية تداخلية.

وينطبق الحال ذاته على الخلاف المنهجي، فجميع المناهج التي يتضمنها النظامان المعياري والوجودي حاصل في الساحتين دون إختلاف. فالمذهب السني يحتضن هذين النظامين مثلما يحتضنه المذهب الشيعي بلا فرق، إذ كل منهما يحمل تياراً من النظام الوجودي بدائرتيه العقلية الفلسفية والكشفية العرفانية، وكذا أنهما يحملان تياراً آخر من النظام المعياري بنزعتيه العقلية والبيانية، وبالتالي فكل منهما يكافئ الآخر في حمله للدوائر الوجودية والمعيارية الأربع، أي الفلسفية والعرفانية والعقلية والبيانية. يضاف إلى أن ما يغلب على الإتجاه السني هو النزعة المعيارية، سيما العقلي منها كما تتمثل لدى الأشاعرة، وهو عين الأمر بالنسبة للإتجاه الشيعي أو الإمامي الإثني عشري من دون فرق. وبالتالي فما من حسنة تجدها هنا إلا وتجدها هناك، وكذا العكس؛ ما من سيئة هنا إلا ويقابلها سيئة هناك.

هذا ما نقصده من التداخل في الفكر الإسلامي، وبه يمكن تجاوز النزعات المذهبية، فما من مذهب إلا ويستعين بذات الطرق التي يوظفها المذهب الآخر، وبالتالي فإن دراسة التراث المعرفي طبقاً لعلم الطريقة والبحث الإبستيمي يمكن أن تؤدي إلى نتائج مختلفة عن تلك التي تفضي إليها النزعات المشار إليها. خاصة إذا ما عوّلنا على العلاقة المنطقية التي تربط بين جهات الفكر الإسلامي الثلاث (المناهج والعلوم والمذاهب). فلو جعلنا المذهب أساس العلم؛ لسقطنا بالفكر الآيديولوجي وضياع الحقيقة. أما لو عكسنا المسألة وجعلنا العلم أساس المذهب، والمنهج أساس التكوين العلمي، فسيدلنا ذلك على الحقيقة والبناء المعرفي الصحيح.

فجميعنا يراهن، سواء وعينا بذلك أم لم نعِ، لكن مع وجود فارق بين من يراهن على المذهب بالمعنى (القبَلي) عندما يكون أساساً للعلم، ومن يراهن على العلم كأساس للمذهب. فالمراهنة الأولى لا تصح وإن كسبت الرهان، في حين تصح الثانية وإن خسرت الأخير. فالفارق بينهما كالفارق بين مَن يتنبأ بظهور وجه الصورة في رمية قطعة النقد المتكافئة الوجهين، ومَن لا يتنبأ بها ولا بالوجه الآخر، بل يتوقف عند النسبة المنطقية (1\2). فمهما كان الوجه الذي يظهر فستبقى الحالة الأخيرة هي الصحيحة دون الأولى. فحتى لو ظهرت الصورة فعلاً وتمّ كسب الرهان فلا يعني أن الأخير صحيح بإعتباره مبنياً على الصدفة، والصدفة لا تمثل أساس العلم، خلاف الحالة الثانية المنطقية.

هكذا فالذين بنوا علمهم على التقليد وسيكسبون الرهان يوم الجزاء لا يختلفون حظاً عن أمثالهم ممن سيخسرونه. فالجميع من حيث النتيجة، رغم التضاد والخلاف القائم بينهم، على السواء، طالما أن العملية مبنية على الصدفة وشائبة (الضميمات القبَلية) دون سعي التحقيق الموضوعي المحايد قدر الإمكان.

 

مقارنة الكلام بعلم الفقه والفلسفة

قلنا أن علم الكلام هو من العلوم العقلية المعيارية، ورغم انه يشارك الفلسفة في اعتماده على العقل الا انه يقف موقف الضد منها، كما رغم انه يشارك الفقه في انتمائه للنظام المعياري؛ لكنه يعارضه في التوجه، وكلا الامرين يحتاج الى بيان. لنبدأ اولاً بمقارنة الكلام بالفقه، ومن ثم مقارنته بالفلسفة.

 

المقارنة مع الفقه

يعد علم الفقه على رأس العلوم النقلية بإعتباره يعوّل على النص الديني من حيث الأساس. وهو مقنن إلى درجة كبيرة مقارنة بغيره من العلوم الإسلامية، وهو علم لاهوتي يتصف بالنضج التام، وفيه الأصول والقواعد الموجهة. كذلك أن له أهمية تاريخية لا يخلو منها زمان أو مكان وسط المسلمين. إضافة إلى أن أغلب المشاكل التي حددها التراث المعرفي الإسلامي ترجع أساساً إلى وضعية الفقه وكيفية علاجه لمشاكل الأمة، وقد اتفق العلماء على شرعيته ماضياً وحاضراً. وهو بذلك يختلف عن علم الكلام الذي لا يحمل النضج الكافي[20]، وينحصر دوره ضمن إطار «النخبة»، ويتصف بالتعالي على الواقع، ولم يتفق العلماء القدماء على شرعيته، وهو لا يعد علماً لاهوتياً بحسب طبيعته الذاتية، وغالباً ما تتصف أصوله بالتناقض، لذلك فقد انتهى دوره – اليوم - تقريباً، خلافاً للفقه الذي ما زال يمتلك النشاط والحيوية.

كما يتصدر علم الفقه قائمةً معروفة من المصادر المعتمدة في الفهم والإستنباط، وهي تختلف عن تلك التي يتصدرها علم الكلام. فإذا كان الأخير يبدأ بالعقل كأساس للإنتاج المعرفي، فإن الفقه يبدأ بالنص، أي الكتاب والسنة، ويضع مرتبة العقل أو الرأي موضعاً متأخراً عن مرتبة النص.

وبعبارة أخرى، أن طبيعة العلاقة التي دشنها علم الكلام في إشكالية العقل والنص جعلته يختلف مساراً عن العلاقة التي صيغت من قبل علم الفقه. فرغم أنهما يعتبران علمين معياريين، وأنهما يهتمان بنظرية التكليف تحديداً؛ إلا أن تقنينهما للعلاقة التي تربط العقل بالنص جاءت مختلفة ومتعاكسة. فالعقل في علم الكلام هو المحدد في الغالب للعلاقة التي تربطه بالنص. فأول ما يبدأ الدليل في هذا العلم بالعقل، فيتقدم على الدليل المستمد من النص، وأنه يباشر كلا التأسيسين الخارجي والداخلي للخطاب الديني. وهو أمر يختلف تماماً عما يجري في الفقه، إذ فيه يتقدم النظر في النص على غيره من المصادر الأخرى مما يطلق عليه الإجتهاد والقياس والعقل وما إلى ذلك. بل غالباً ما يعتبر العقل في علم الكلام بأنه مصدر البداهة والقطع والإحكام، وأن الدليل فيه قطعي لا يقبل التشكيك، خلافاً للفقه، حيث لا يملك فيه العقل تلك المنزلة ولا دليله، فضلاً عن أن يتقدم فيه على الدليل المستنبط من النص.

مع هذا يلاحظ أنه رغم النفور العام للفقهاء الأوائل إزاء الكلام، إلا أن ما تم ترسيمه فيما بعد هو الموافقة عليه إسوة بالفقه، فلم يشهدا الصدام بوصفهما علمين رغم ما لكل منهما - في الغالب - من إتجاه مختلف ومعاكس للآخر، سواء في المنهج المتبع أو المصدر المعتمد أو الأصل المولّد. وقد بدت مظاهر الإزدواج حتى لدى الشخصية العلمية الواحدة، فغالباً ما يكون المتكلم فقيهاً، وأحياناً يكون الفقيه متكلماً، فأغلب الفقهاء ليسوا متكلمين، لكن تبقى مظاهر الإزدواج واردة عبر القرون، ولها ما يبررها إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار طبيعة كل علم منهما. فلعلم الكلام موضوع يتمثل بمجموع التأسيسين الخاصين بالنظر القبلي والبعدي للخطاب، وهو في ممارسته لهذا الموضوع يحتاج لا محالة إلى العقل، سيما فيما يتعلق بالتأسيس القبلي الذي يتوقف عليه فهم الخطاب برمته. هكذا فالعقل ملاصق للحقل الكلامي تبعاً لموضوعه المتعلق بالتأسيس الخارجي للخطاب. أما الحال في علم الفقه فمختلف، بإعتباره يتوقف على فهم الخطاب فحسب، وبالتالي لا يحتاج إلى أداة العقل المستقل، سيما وأن دائرة الفقه أجمعت على أن العقل عاجز عن تحديد مصالح الأحكام، تبعاً للبيان الناهي عن تدخل الممارسات العقلية المستقلة.

وبعبارة أخرى، أن الغالب على علم الكلام هو الممارسة العقلية في التفكير، إذ يقوم بإنتاج المعرفة طبقاً للموجهات العقلية من تأسيس النظر، ويوظف البيان لخدمة هذه المعرفة، كما ويقوم بتأسيس مفهوم النص عليها بتحويله إلى متشابه يحتاج إلى النظر العقلي. وهذا الحال ينطبق على قضايا كثيرة أُثيرت من قبل النص ذاته، كقضية خلق القرآن وقِدمه، والقضاء والقدر، والحسن والقبح، والعدل الإلهي وغيرها.

فمن الواضح أن علم الكلام لم يمارس التفكير وفهمه للنص - في مثل هذه القضايا - بنوع من الإستقلالية، بل ولم يتعامل معه طبقاً للبيان، بل جعل النص محكوماً بسلطة الموجهات العقلية، أو قام بتأسيس النص على العقل، وهو ما نعبّر عنه بتأسيس الخطاب من الداخل. لذلك جاء عن الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم وهو يعلق على ما استدل به القاضي عبد الجبار الهمداني من نصوص قرآنية حول عدم جواز خلق أفعال العباد من قبل الله تعالى، فذكر وقال بأن الهمداني لم يورد الآيات القرآنية «على طريقة الاستدلال والإحتجاج، فإن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة متعذر، لأنا ما لم نعلم القديم تعالى وأنه عدل حكيم لا يُظهر المعجز على الكذابين لا يمكننا الاستدلال بالقرآن»[21].

وعليه يتسق السلوك الكلامي في التأسيسين الداخلي والخارجي للخطاب. وفي جميع الأحوال أنه يؤسس للنظر القبلي ويفرضه كمرجعية للقبول والرد في كل ما له علاقة بفهم النص.

لكن الحال في علم الفقه يختلف تماماً، سيما وأن هذا العلم ليس لديه تأسيسان للخطاب، خارجي وداخلي، أو قبلي وبعدي، إنما له تأسيس واحد هو التأسيس الداخلي المعبّر عنه بفهم النص أو الخطاب وما يترتب عليه من إنتاج معرفي، وإن كان قد يستعين ببعض القضايا العقلية ضمن الإعتبارات الثانوية من الإنتاج المعرفي الفقهي. لهذا فهو ينحو ناحية البيان، موظفاً العقل بإتجاهه، خلافاً لما يلجأ إليه علم الكلام. فالبيان في علم الفقه مقدم - دائماً - على الإجتهاد ومنه الإجتهاد العقلي. لذلك ضاق الكثير من الفقهاء بالقياس ذرعاً، بالرغم من أن القياس عندهم ليس متحرراً ومستقلاً في ذاته، بل هو ظل النص لإعتماده عليه، وأنهم استعانوا به اضطراراً، شأنه في ذلك شأن تناول الميتة عند الضرورة. ويصدق هذا الحال على أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم[22].

وبعبارة أخرى، أن ترتيب الأدلة والمصادر المعتبرة في علم الفقه تبدأ بطريقة معاكسة لما متعارف عليه في علم الكلام. ففي علم الفقه تبدأ الأدلة بالبيان وتنتهي بالرأي أو الإجتهاد، كما هو الحال مع القياس الفقهي وغيره. ففيه يصبح الإجتهاد موظفاً لخدمة البيان ومؤسساً عليه، إذ لا يعد الإجتهاد دليلاً عقلياً مستقلاً في الغالب، بل يعتمد على النص، فهو ظل النص، والكاشف عن علته، وهو ما يجعل الطريقة الفقهية عبارة عن دائرة بيانية تدور مدار النص حيثما دار. في حين تبدأ الأدلة في علم الكلام بالعقل قبل النقل والبيان، لكون الأخير مؤسساً على الأول وموظفاً له.

فمصادر الفقه الاستدلالية تعتمد على النص أساساً، فتارة يُكتفى بهذا المصدر دون غيره كالحال مع الظاهرية في الوسط السني والإخبارية في الوسط الشيعي، وأخرى يعوّل على مصادر أخرى تتدرج بعد مرتبة النص وتسمى بالرأي والإجتهاد، وينحصر الرأي عند البعض بمجرد القياس لا غير كما عند الشافعي، لكنه ينبسط عند البعض الآخر على مصادر أخرى ثانوية كالمصالح المرسلة والإستحسان والاستصحاب والبراءة الأصلية والاحتياط والعرف وسد الذرائع وغيرها. وأحياناً يكتفى بالعقل القطعي كما لدى الفقه الشيعي.

ويمكن إعتبار موارد الأصول الإجتهادية عبارة عن تدخلات غير مستقلة لكل من العقل والواقع. فالتدخل العقلي للإجتهاد هو ذلك الذي يعتمد على العقل في وظيفته الاستدلالية عندما لا يرد في القضية شيء من الشرع، أو يرد ذلك بصورة غير بينة، كإن ترد نصوص متعارضة حول القضية فيُحكم على ضوئها ببعض الإعتبارات والقواعد العقلية (غير المستقلة) مثل قاعدة أصل البراءة والاحتياط والاستصحاب، وترد القاعدة الأخيرة فيما لو كان هناك شك في بقاء الحكم على قضية محددة، فيُعمل بسريان الحكم. ومثل ذلك حكم العقل بلوازم ومقتضيات ما يرد من نص؛ كقاعدة مقدمة الواجب واجبة وقاعدة الإجزاء وغيرها.

وينطبق هذا الحال من بعض الوجوه على القياس أيضاً، إذ ليس عليه دليل قطعي من الشرع، بل هناك إعتبارات عقلية وواقعية تبدي ضرورة الإعتماد عليه، مثل كون النصوص محدودة لا تفي بما يتجدد من الوقائع غير المتناهية، لذلك كان لا بد من رد هذه الوقائع إلى النصوص المحدودة عبر بعض القواعد العقلية، كقاعدة رد الفرع إلى الأصل تبعاً للشبه بينهما، أو الظن بوجود علة مشتركة لكلا الموردين. ومع أن هذه الإعتبارات مركبة على العقل والواقع؛ لكنها غير مستقلة، إذ لا يمكن للفقيه أن يحكم بالقياس ما لم يعوّل على حكم النص كأصل معتمد سلفاً، ومنه يمرر الحكم إلى الواقعة الجديدة لما تملكه من مواصفات مناسبة للقضية المنصوص فيها.

أما التدخل الواقعي للإجتهاد غير المستقل فهو ذلك الذي يعتمد على الواقع في وظيفته الاستدلالية. ومن أبرز الشواهد عليه قاعدة المصلحة والعرف والإستحسان. ففي هذا الإجتهاد تعتبر الحاجة والمصلحة مهمة لتحديد الحكم الشرعي، وهي من الأمور التي يراعى فيها الواقع. لكن هذا التحديد لا يتم بمعزل عن النص. فعادة ما يؤخذ بالمصلحة والحاجة إما كإستثناء وتخصيص لما ورد من عموم النص، وهو ما يندرج ضمن عنوان الإستحسان، أو يؤخذ بها عند لحاظ عدم تعرض النص لتلك المصلحة بشيء من الذكر، لا بالإيجاب ولا بالتحريم[23].

***

هكذا يختلف الفقه عن الكلام حول العلاقة بين العقل والنص تبعاً لمراتب الدليل. فأول ما يبدأ به علم الكلام هو البحث في الدليل العقلي قبل النص، ثم يُعرض هذا الأخير على الأول للحاظ إن كان له معارض أم لا، وبذلك يتوقف فهم النص على النظر القبلي للعقل، خلافاً للفقه الذي يقدّم البحث في النص على العقل أو الإجتهاد، ويتحكم به أخداً ورداً، توظيفاً وتأسيساً.

وهنا يتبين الخلاف حول موارد العمل بين العلمين، ومن ذلك عند لحاظ التعارض بين النصوص، فطبقاً لعلم الكلام فإن الأخيرة تُعرض على العقل، وعادة ما يتم تأويل بعضها لحساب البعض الآخر وفقاً للتوجيه العقلي، كما هو الحال في الموقف من نصوص الصفات الإلهية. في حين أول ما يتبادر العمل به في علم الفقه هو الجمع بين النصوص المتعارضة عبر الأدوات البيانية؛ كالتخصيص والتقييد والنسخ وما إليها. وعند عدم القدرة على الجمع بينها فقد يتوقف الفقيه عن الحكم، أو يعمل بالأصول العملية أو غير ذلك من الوسائل الأخرى. كما قد يلجأ إلى التأويل أحياناً، لكن دون أن يكون له علاقة بالمنظومات العقلية عادة.

ولا يتوقف الإختلاف بين العلمين عند هذا الحد، إذ يشترط في الدليل «الإجتهادي» لعلم الكلام أن يفضي إلى القطع، لكونه يستند في الأساس إلى العقل الذي يعد مصدر البداهة والقطع والإحكام، لذلك فالمخطئ في أصول العقائد غالباً ما يعد كافراً. وهو خلاف المنظور إليه في علم الفقه؛ إذ الدليل الإجتهادي والعقلي لا يحمل تلك المنزلة التي يحظاها في علم الكلام، سيما أن الممارسة العقلية الصرفة تعدّ تطفلاً على الوظيفة الفقهية، وهي الوظيفة التي تحصر العلم في البيان، نظير ما يقوم به علم الكلام من جعل العقل أساس العلم. لذلك تنعكس علاقة المحكم بالمتشابه في كلا العلمين. فإذا ما كان المحكم في علم الكلام هو العقل، والمتشابه هو النص، فإن العكس هو الصحيح في علم الفقه، حيث يتموضع العقل بموضع «المتشابه» لعجزه الكشف عن الحكم الواقعي إلا ما شذّ وندر. في حين يكون النص مشبعاً بروح الإحكام والبيان، بالرغم من دلالاته الظنية؛ سواء من حيث السند أو المتن، وعندما يكون السند غير قطعي كما هو الغالب فإن الحكم يزداد ضعفاً. وفي جميع الأحوال أن المعول عليه لدى الأكثرية هو أن المخطئ في الفقه له أجره على سعيه وإجتهاده.

فهذا الإختلاف والتعاكس في الإتجاه بين العلمين هو ذاته ما يحدد الفارق بين الدائرتين العقلية والبيانية. فبينما تقوم الدائرة البيانية بفرض الإحكام والبيان على النص، تعمل الدائرة العقلية على تفريغهما منه لحصر ذلك في مجال العقل.

 ورغم الإختلاف الكبير بين المرتكزات المعرفية لكل من الكلام والفقه؛ إلا أنه لم يتولّد بينهما صدام، لإختلاف القضايا المطروحة لديهما. فعلى الأقل أن موضوعات الكلام تتصف بالتجريد خلافاً لما عليه الحال في الفقه. بل وأن للإتجاه الكلامي تأثيراً على المنحى الفقهي، رغم ما ظهر في قبال ذلك من المفارقات بين العلمين.

وهنا نشير إلى ما أخطأ به الفيلسوف الفارابي عند تحديده لوظيفة كل من الفقيه والمتكلم، فهو في (إحصاء العلوم) يرى أن الفقيه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلّمة، ويجعلها أصولاً فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها. في حين أن المتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولاً من غير أن يستنبط منها أشياءاً أخرى. وإذا إتفق لإنسان أن يكون ذا قدرة على الأمرين معاً فسيصبح فقيهاً ومتكلماً في الوقت ذاته، فتكون نصرته لتلك الآراء والأفعال بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فقيه[24].

ويتحدد خطأ الفارابي برسم العلاقة بين الوظيفتين الفقهية والكلامية. إذ أخطأ حينما اعتبر المتكلم يعتمد على الأصول الفقهية ويقوم بنصرتها، بل الصحيح أن كلاً من المتكلم والفقيه يعتمد على النص كمصدر معرفي، وهو مصدر يعد لدى الفقيه أساساً للمعرفة الاستنباطية، في حين أنه لدى المتكلم ليس كذلك؛ لأن حجية النص ودلالاته تتوقفان على قبليات المتكلم العقلية، وبالتالي فالعقل هو الأساس لدى الأخير وليس النص. وهذا يعني بأن علم الكلام لا يعتمد على الأصول الفقهية من حيث كونها فقهية، فضلاً عن أن يقوم بنصرتها. بل على العكس قد شهد الفقه تأثراً بالكلام دون عكس.

فمن حيث هذا التأثير يلاحظ مثلاً بأن قضايا الحسن والقبح المبحوثة في علم الكلام يستفاد منها في علم الفقه. فمثلاً تستند البراءة الأصلية لدى العدلية في علم الكلام إلى مقالة الحسن والقبح العقليين، تحت عنوان (قبح العقاب بلا بيان). في حين تستند قاعدة الوقف الفقهية لدى الاشاعرة إلى مقالة الحسن والقبح الشرعيين.

ومن الموارد التي كان لعلم الكلام تأثيره البارز على الفقه مسألة فقه الانتفاع بالأشياء قبل ورود النص، أو بغض النظر عنه. إذ اختلف العلماء إلى ثلاثة إتجاهات: أحدها يقول بالحظر، وآخر يقول بالاباحة، وثالث يبني على الوقف. ويتسق الإتجاه الثاني مع العدلية للمعتزلة ومن على شاكلتها، لأنه يعوّل على القاعدة الأصولية (قبح العقاب بلا بيان) التي تستند بدورها إلى القاعدة الكلامية للحسن والقبح العقليين. في حين يتسق الإتجاه الثالث مع منطق الأشاعرة. أما الإتجاه الأول فأمره مختلف.

ومع أن أغلب علماء هذين الإتجاهين يتبنى الموقف المتسق مع ما ينتمي إليه من دائرة كلامية طبقاً للقبليات العقلية، لكن في القبال هناك عدد من العلماء اتخذوا مواقف فقهية لا تتسق مع ما ينتمي إليه من قبليات. فمن المواقف المتسقة تعويل أكثر المتكلمين من المعتزلة والإمامية على القول بالاباحة. وكذا تعويل الأشعري وأتباعه على الرأي القائل بالوقف ما لم يرد فيه نص شرعي، فبحسب رأي الأشاعرة أن العقل بمجرده لا يدل على حسن ولا قبح، بل ذلك موكول إلى الشرع. فالمباح ما أباحه الشرع، والمحظور ما حظره، فإذا لم يرد الشرع بواحد منهما لم يبق إلا الوقف، إلى أن يرد السمع بحكم فيه، كالذي صرح به إبن السمعاني في (القواطع). وهو موقف يتسق مع قبليات الأشاعرة، خلافاً لمن ذهب منهم إلى الحظر أو الإباحة.

أما المواقف الفقهية التي لا تتسق مع ما يؤصل له في علم الكلام، فهي كثيرة، وقد ظهرت لدى أتباع المنطقين السابقين، ومن ذلك تعويل بعض المعتزلة على الوقف[25]، ومثله ما ذهب إليه الشيخ المفيد من الإمامية كما في (شرح عقائد الصدوق)[26]، والطوسي في (عدة الأصول)[27]، مع أن هذا الموقف يتسق مع منطق الأشاعرة لا العدلية. ومثله الرأي القائل بالحظر، كالذي ذهب إليه عدد من المعتزلة والإمامية، كالكعبي وأتباعه. ويعد المفكر الصدر ممن ذهب إلى هذا الإتجاه حديثاً فيما اطلق عليه مسلك (حق الطاعة) [28].

وفي القبال ذهب بعض الأشاعرة إلى البراءة والإباحة، رغم أن ذلك يتسق مع منطق العدلية. فمثلاً تبنى الغزالي منطق الاشاعرة، لكنه مع ذلك اعتقد بالبراءة العقلية قبل ورود السمع[29]، وهو موقف يناقض القبليات التي تبناها. ومثله ما ذهب إليه إبن فورك وإبن كنج وأبو اسحاق المروزي[30].

وتتكرر حالة المفارقة بين العلمين حول نظرية المقاصد. فرغم أن الأشاعرة يعولون في علم الكلام على نفي الغرض والتعليل والحكمة في الفعل الإلهي التكويني، لكن فكرة المقاصد حاضرة لدى المتأخرين منهم على الصعيد الفقهي. فهي غائبة على صعيد الخلق والإيجاد، لكنها حاضرة على صعيد الأمر والتشريع، أو أنها غائبة على نحو الكلام والعقيدة وحاضرة على نحو الفقه والشريعة.

ونجد شبيه بهذه المفارقة لدى الإمامية الإثنى عشرية. فهي في علم الكلام تؤمن بمبدأ الغرضية، وأن العقل قادر على كشف الغرض والحكمة من الفعل الإلهي، كما وتؤمن تبعاً لذلك بغرض التكليف وحكمة التشريع على النحو الإجمالي[31].. لكنها في علم الفقه ترى العقل عاجزاً عن إدراك مقاصد الأحكام الشرعية وعللها. فالعقل الذي تؤمن بقدرته الكشفية المفتوحة في علم الكلام هو غير ذلك العقل الذي تعترف بعجزه عن إدراك مقاصد التشريع وملاكات الأحكام إلا على نحو ما ينص عليه الشارع. وهذا يعني أن المقاصد والعلل المصلحية وإن سلّمت بوجودها في التشريع؛ إلا أنها كالمنفاة لعدم إمكان إدراكها ومن ثم توظيفها، خلافاً لما عليه الحال في الكلام. الأمر الذي يفضي إلى نوع من المفارقة، فالعقل قادر على الإثبات في علم الكلام، وعاجز عن ذلك في الفقه[32].

ومن الناحية الإبستيمية، رغم الإختلاف الحاصل بين الكلام والفقه منهجياً، إلا أن هناك ما يجمعهما في العلاقة العامة مع الواقع، وهو أنهما يمارسان معاً عملية الاسقاط والتنزيل المعرفي من سماء التجريد إلى أرض الواقع. فعلم الفقه يعمل على تنزيل البيان المستخلص من وحي النص إلى أرض الواقع، فيفرض البيان على كل من العقل والواقع معاً. كما أن علم الكلام يقوم هو الآخر بفرض العقل على كل من النص والواقع، وبالتالي فهما يمارسان الاسلوب ذاته من التنزيل المعرفي إلى الواقع، من غير تصعيد في الغالب.

وعلى العموم يمكن ايضاح الفوارق بين علم الكلام وعلم الفقه بحسب الجدول البياني التالي:

 

علم الكلام

علم الفقه

ليس ناضجاً

يتصف بالنضج التام

لا يعد علماً لاهوتياً بحسب طبيعته الذاتية

هو علم لاهوتي بحسب طبيعته الذاتية

انتهى دوره تقريباً

ما زال نشطاً

موضوعاته مجردة عن الواقع

موضوعاته تمس الواقع

مطروح لأجل النخبة

مطروح لأجل الأمة

اختلف القدماء حول شرعيته

متفق على شرعيته ماضياً وحاضراً

أصوله متناقضة

أصوله متسقة

يستمد مبرر جعله من العقل

يستمد مبرر جعله من الشرع

يتعلق بحثه بتأسيس الخطاب خارجاً وداخلاً

ينحصر بحثه بتأسيس الخطاب داخلاً

يتحدد موضوع بحثه بالتكليف وغيره

ينحصر موضوع بحثه بالتكليف فحسب

أحكامه التكليفية عقلية

أحكامه التكليفية بيانية

يبدأ بالعقل

يبدأ بالنص

العقل فيه محكم، والنص متشابه

العقل فيه متشابه، والنص محكم

يمارس التأويل في النص

لا يمارس التأويل في النص

ينحاز إلى بعض النصوص المتعارضة دون بعض

يجمع بين النصوص المتعارضة قدر الإمكان

العقل فيه مصدر البداهة والقطع

العقل فيه مصدر الهوى والضلال

دليله قطعي لا يقبل الشك والإحتمال

دليله ظني يقبل التشكيك

بمقدور العقل الكشف عن الأحكام الكلامية

يتعذّر على العقل الكشف عن الأحكام الفقهية

النص مدين للعقل بالتأسيس

النص غير مدين للعقل بشيء

يُعرض النص على العقل في الفهم دون عكس

لا يعرض النص على الغير

العقل مقدم على النص مطلقاً

النص مقدم على غيره مطلقاً

الإجتهاد وارد في قبال النص

لا إجتهاد في قبال النص

المخطيء في العقائد الكلامية إما ضال أو كافر

المخطيء في الفقه له أجره على سعيه وإجتهاده

الكلام هو زاد الدائرة العقلية

الفقه هو زاد الدائرة البيانية

للكلام تاثير على الفقه

ليس للفقه تأثير على الكلام

من وظائفه اسقاط العقل على النص والواقع

من وظائفه اسقاط النص على الواقع

عادة ما يكون المتكلم فقيهاً

أغلب الفقهاء ليسوا متكلمين

 

 

المقارنة مع الفلسفة

قلنا أن تراثنا المعرفي لا يحمل سوى اتجاهين للعقل المستقل، وكل منهما يشكل منظومة او اكثر من المنظومات العقلية. لكن الفكر الاسلامي اعم من التراث وان من الممكن صياغة منهج عقلي اخر مختلف لا يعود الى ما هو معروف من المنظومات التراثية، كما سنبين ذلك اخر هذه الدراسة.

والمتتبع للمنظومتين الفلسفية والكلامية يجدهما مختلفتين على اصعدة عديدة، فهما وان اشتركا بالركون الى مرجعية العقل قبل كل شيء، كما ورغم انهما مارسا التفكير في الكثير من القضايا المشتركة، لكن مع ذلك فانهما مختلفان غاية الاختلاف، وهذا ما يمكن توضيحه عبر الفقرات التالية:

 

1- الاختلاف من حيث النشأة

سبق ان اشرنا الى ان للفلسفة نشأة خارجية حيث سبقت ولادة الاسلام بقرون طويلة، وبالتالي فان موضوعاتها المطروحة ليست فقط انها خارج التفكير الاسلامي، بل وانها لم تكن موضوعات دينية بالمعنى الدقيق، وهي اشبه ما تكون بالعلم الطبيعي.

فما تم نقله داخل الثقافة الإسلامية لم يكن مجرد رؤى ومضامين فكرية بقدر ما هو طريقة خاصة للنظر والتفكير يحددها - أساساً - دينامو التفكير الوجودي المتمثل بقانون (الأصل والشبه) او السنخية. وإذا ما كانت عملية النقل قد تمت بالحفاظ على هذا الدينامو كأساس، فإن ما يسمى بالفلسفة الإسلامية والعرفان الإسلامي النظري، كلاهما يعبّر عن «عقل مفصّل» للعقل المجمل الذي سبقت إليه الثقافة اليونانية وغيرها من الثقافات القديمة. فمع أن هناك العديد من القضايا التي واجهتها «الفلسفة الإسلامية» لأول مرة والتي لا يمكن إرجاعها بسهولة إلى فلسفة الاغريق والرومان وغيرهما، إلا أن تحديدها من زاوية منهجية على ضوء دينامو التفكير أو الأصل المولّد الفعّال يجعل من النسق الفلسفي داخل الثقافة الإسلامية معبّراً عن «العقل المفصّل» للأصل المؤسس.

فما تمّ نقله داخل الثقافة الإسلامية هو كل ما انتجه فلاسفة اليونان والرومان ومن على شاكلتهم وفق قانون (الأصل والشبه)، منذ آدم الفلاسفة طاليس، أو من سبقه من حكماء الحضارات القديمة، وحتى افلوطين والهرمسية. وقد استفاد المتأخرون من جمع آراء المتقدمين وتنظيمها، فضلاً عما أفاضته قريحتهم الخاصة، مما جعل تأثير القدماء حاسماً وعميقاً داخل الثقافة الإسلامية.

هذا مع الفلسفة، أما مع علم الكلام فالملاحظ أن نشأته داخلية، وان الموضوعات المطروحة لديه بدأت متأثرة تماماً بالقضايا الدينية، خلافا للفلسفة. فاقدم ما وصلنا من الموضوعات الكلامية هو الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمد بن الحنفية في القدر، ويرجع تأليفها إلى (سنة 73هـ)، وتمتاز بأنها ذات منحى جدلي لا تختلف في العموم عن الطريقة العامة لعلم الكلام. أما عملية التنظير الأولى لهذا العلم فتعود إلى بداية القرن الثاني للهجرة، كما برزت لدى جهم بن صفوان الذي أسس منظومته المعرفية طبقاً للعقل، وهو بذلك يسبق المعتزلة من حيث المنهج العقلي، كما أنه يسبقهم في العديد من قضايا المحتوى. إذ كان كثير الإعتماد والتعويل على الحركة العقلية في التفكير والاستدلال. كذلك ظهرت المدرسة الاعتزالية، وهي قديمة، وقد طرحت اصولها، وجميع هذه الاصول متعلق مباشرة بالقضايا الدينية، وهي الاصول الخمسة (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

على ذلك فان تاريخ العقل (المعياري) في الفكر الإسلامي يعود إلى تاريخ علم الكلام قبل أي علم آخر، رغم أن بداية نشوء هذا العلم مرتبطة أساساً بالأحداث السياسية والإجتماعية التي عصفت بالدولة الأموية خلال النصف الثاني من القرن الأول.

 

2- الاختلاف من حيث البنية

من حيث الدقة، أن الفارق بين النظرتين الوجودية كما في الفلسفة، والمعيارية كما في الكلام، هو أن النظرة الوجودية ترى الأشياء من حيث ذواتها وصفاتها وعلاقاتها الكينونية. في حين تترصد النظرة المعيارية البحث في الفعل الإرادي ودوافعه النفسية وما ينطوي عليه أو يقتضيه من صفات وعلاقات انشائية أخلاقية لا كينونية. فشرط الوجود هو الذات، وبالأساس الذات الإلهية، فمن خلالها تتشخص طبيعة النظرة إلى سائر الوجودات. بينما شرط «المعيار» هو القدرة والإرادة، فبها يمكن الحديث عن الخصال المعيارية للفعل أو السلوك الحر. وبالتالي فلولا الذات ما كان للوجود وجود، كذلك فلولا القدرة والإرادة ما كان للمعيار عيار. وبهذا التمايز بين النظرتين (الوجودية والمعيارية) يمكننا أن نتفهم طبيعة التفكير لدى كل منهما.

فميزة النظام الوجودي عن النظام المعياري هو أن الأول لا يشرّع إلا بأخذ إعتبار «الوجود» ولأجله. فحتى القضايا المعيارية تكون محددة ومقاسة طبقاً لـ «الوجود». بينما ينعكس الحال في النظام المعياري، ومنه علم الكلام، فتشريعه قائم على «المعيار» ولأجله؛ بما في ذلك تحديد قضايا الوجود وإعتباراته. إذ يتمثل اهتمام هذا العلم بالعلاقة التكليفية التي تربط المكلِّف بالمكلَّف، وهو حتى في تعامله مع القضايا الوجودية، كبحثه في الأمور الفيزيقية والميتافيزيقية، ينطلق في الغالب من الدافع اللاهوتي.

فغرض علم الكلام هو تحديد العلاقة المعيارية لنظرية التكليف، فهي قطب الرحى الذي يدور حوله هذا العلم. فليس هناك موضوع في ذاته ولأجله تقوم عليه تلك العلوم أشد وأقوى من هذه النظرية بما تنطوي عليه من تحديد لعلاقات الحق بين المكلِّف والمكلَّف.

وعندما نبحث عن الكلام كهوية ذاتية نجد ان له موضوعاً هو العقيدة الدينية، وبالتحديد مبادئ التكليف. وكذا ان له وظيفة هي التحقيق في أرجاء هذه المبادئ. فمبادئ التكليف التي تبشر بها الاديان لا تعدو عن اربعة هي: المكلِّف (التوحيد)، والمكلَّف (العبودية)، والواسطة او الصلة بينهما (الرسالة)، ومن ثم ثمرة التكليف (الجزاء). وبالتالي فكل علم يبحث في اطار العقيدة الدينية او مبادئ التكليف فهو من علم الكلام، والا كان خارجاً عن هذه الهوية. فمثلاً ان البحث الدائر حول التحقيق في وجود إله لهذا الكون بشكل منفصل ومستقل عما تقوله العقيدة الدينية التي تتضمن الاطار المعياري لنظرية التكليف؛ لا يمكن ان يكون بحثاً كلامياً بالمعنى الذي تحدده تلك الهوية الذاتية من الموضوع الكلامي، انما يمكن ان يكون بحثاً فلسفياً او منطقياً او أي بحث آخر مختلف.

وعموماً ان الممارسة العقلية لعلم الكلام تقف على الضد والتنافي مع الممارسة العقلية للفلسفة التقليدية. فالنظام الذي ينتمي إليه كل منهما هو على الضد من الآخر. فبحسب الفهم الطريقي (المنهجي) أن العقل الكلامي هو عقل معياري خلافاً لما يتصف به العقل الفلسفي من صفة وجودية غير معيارية. وبالتالي فإن الروح المعرفية وطريقة التفكير ونوع النتائج لكل منهما هي مختلفة تماماً.

بل يمكن القول بأن منهج علم الكلام هو أقرب للتفكير الديني، أو أنه ممزوج بهذا التفكير، وأن أتباعه يحملون عقيدة آيديولوجية مذهبية دينية، وعلى خلافه منهج الفلسفة المتحرر غالباً من هذه المذهبية، وأنه أقرب للمنهج العلمي، سيما وأن العلوم الطبيعية كانت في ذلك الوقت تُبحث وتُدرس ضمن الفلسفة، وأن العلماء كانوا إما فلاسفة أو دائرين في فلكهم. لذلك فالتطور العلمي الذي حصل خلال تاريخ الإسلام إنما كان بفعل الفلسفة لا الكلام، رغم بعض مؤاخذاتنا على علاقتها بعلوم الطبيعة، كما سجلناها في كتاب (مدخل الى فهم الاسلام). لذا ففي فهم القضايا الدينية يسهل الإنفكاك تماماً من الفلسفة، لكن من الصعب الإنفكاك من الهوية الذاتية لعلم الكلام وتفكيره الديني، بإعتباره مختصاً في أسس وأركان هذه القضايا خلافاً للأولى.

وحقيقة، لولا أن الفلسفة ومعها العرفان قد تعرضا للخطاب الديني بالفهم والتبعية كمنهج؛ لكُنّا قد اعتبرناهما يقعان عرضاً وموازاة في منافسة منطق الدين ذاته. فهما ينافسان هذا المنطق ومدعياته الأساسية. لذا يصعب عليهما تبرير أصول المسألة الدينية ومبادئها الأربعة، خلافاً لعلم الكلام.

 

3- اختلاف الأصول المولدة

نقصد بالأصول المولّدة بأنها قضايا قابلة لتفسير أكبر عدد ممكن من القضايا العائدة إلى ذات المنظومة المعرفية، سواء من حيث التوليد أو التوجيه أو الإتساق. إذ نفترض وجود انتظام تتولّد فيه المعرفة بعضها من بعض، إعتماداً على عدد من القضايا المتصفة بالتوليد والتوجيه والتفسير ضمن اطار المنظومة نفسها. وكأن الأصل المولّد يستبطن سائر المعارف الأخرى، وكأنه الماهية التي تتحدد بها التفاصيل، مثلما يتحدد من إسم افلاطون كل ما نعرفه عن هذا الرجل الحكيم. وكذا الحال في الأصل المولّد، إذ ننتزع منه معارف كثيرة مختلفة، أو نفسرها طبقاً له دون غيره لإمتيازه بالتفوق. ويشترط أن يكون أساس فهم النص وليس نتاجاً عنه.

فالصفة التي نبني عليها هذا الحكم هي صفة (هندسية) أو منطقية، بحيث تندرج سائر القضايا؛ إما كمشتقات نابعة من الأصل المولّد، أو أنها على الأقل تتسق معه بما لا ينافسه عنصر آخر. على ذلك قد تكون الأصول المولدة هرمية، حيث يتربع الأصل المولد على قمة هرم المنظومة المعرفية، كما هو حال الفلسفة والعرفان. كما قد تكون هذه الأصول قاعدية أفقية، حيث أنها داخلة في المساحة العريضة للمنظومة المعرفية، كما هو حال الدائرة البيانية للنظام المعياري.

وطبقاً لهذه الاصول فان ادعاء بعض المنظومات بأن طريقتها تفضي الى القطع واليقين لا يعني أنها قطعية وبرهانية حقاً، لكونها ليست محايدة، بل موجهة من قبل الأصول المولّدة. فالطريقة البرهانية في الاستدلال والوصول إلى النتائج القطعية قد تدعيها أحياناً حتى العلوم التي يكثر فيها الظن، كما هو الحال مع علم الفقه المتمثل بممارسات كل من إبن حزم الاندلسي والشريف المرتضى وإبن ادريس الحلي ومحمد أمين الاسترابادي وغيرهم، فكيف الحال مع علم الكلام الذي ينافس الفلسفة في ادعائه بكشف الحقائق، أو حتى استخدام طريقتها المنطقية للبرهان، كما فعل المتأخرون من المتكلمين؟! مما يعني أن هناك شروطاً موجهة غير محايدة تكمن خلف ما يُدعى من طرق برهانية؛ هي التي تضفي على السلوك المعرفي نهجه البرهاني. فالشروط المشار إليها هي مصادرات قبلية تحقق للجهاز المعرفي ما يطلبه من قطع وبرهان، وهو ينطبق على النظام الفلسفي (البرهاني)، إذ لولا ما يحمله من مصادرات قبلية خاصة لا يتفق عليها الجميع؛ لما تمكّن من الوصول إلى نتائج هي بمثابة المقطوع بها والمبرهن عليها مع أخذ إعتبار شروطها من المصادرات القبلية. ونفس هذا الحال ينطبق على طريقة أهل الكلام، فهي أيضاً تُعدّ برهانية أو مفضية إلى القطع مع أخذ إعتبار شروطها من المصادرات القبلية، حتى مع إعتمادها على الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد.

وعليه لا يقال بأن للفلسفة المنهج البرهاني، إذ لا تسلّم بشيء ما لم تقم الدليل عليه، خلافاً للكلام. ذلك أن كلاً منهما يقيم المنهج الاستدلالي طبقاً للمسلمات الخاصة به، مثلما أشار إلى ذلك إبن رشد[33]. بل يمكن القول أن الفلسفة ليست برهانية بإطلاق، بل أنها مقيدة ضمن ما تفترضه من ماهيات كلية في الذهن، فهي بالتالي ليست برهانية من حيث علاقتها بالواقع أو انطباقها معه. ويمكن تصوير هذه الناحية بمثال يعود إلى الهندسة الكونية، فحينما نقول أن مجموع زوايا المثلث هو (180 درجة)، فهذا القول صحيح قياساً إلى ما نحمله من تصور وإفتراض ذهني، لكنه ليس معنياً بالواقع الموضوعي فعلاً. فنحن نتعامل مع سطح مستو على الصعيد الذهني، في حين ليس بالضرورة أن يكون مبنى الواقع بمثل هذا السطح، وبالتالي قد لا يكون مجموع تلك الزوايا بالقدر المذكور. فمثلاً أن نظرية اينشتاين في النسبية العامة قد عوّلت على السطح المنحني للهندسة الكونية، وأخذت تصور الواقع بأنه أشبه بقطعة البطاطس، لهذا كان مجموع زوايا المثلث حسب هذا الإفتراض مغايراً للدرجة السابقة، خلافاً لنظرية نيوتن في تصورها لتلك الهندسة[34]. وهكذا الحال يمكن قوله حول ما يتعلق بالفلسفة التقليدية.

ويترتب على ذلك أن الفلسفة والكلام لم يتعاملا تعاملاً محايداً إزاء القضايا التي اعترضتهما، سيما القضايا الرئيسة للعقيدة الدينية. ومع ذلك فإن لكل منهما إجتهاداته الخاصة، إلى الدرجة التي يتفقان فيها غالباً على ترجيح الرؤية العقلية على النص، إذ يعتبرانها قاطعة خلافاً للأخير، لكنهما يختلفان في مضامين تلك الرؤية تماماً.

فاذا بدأنا بالفلسفة نجد انها تقوم من حيث الاساس على أداة التفكير العقلي في الكشف عن علاقات الوجود تبعاً لنظام الأسباب والمسببات. ويعدّ هذا النظام حجر الزاوية التي تتأسس عليه الفلسفة، ليس لأنه موضوعاً دراسياً يمارس فيه العقل قراءته الخاصة فقط، بل الأهم من ذلك هو أنها تراه عين العقل من غير إختلاف. وهذا يعني أن هناك نوعاً من الإتحاد بين القارئ والمقروء.

إذ ترى الفلسفة الوجود مرتباً ترتيباً سببياً تحدده الطبيعة العقلية لدى مبدأ الوجود الأول؛ تبعاً لقانون الشبه والسنخية. فمثلما أن للمبدأ الأول طبيعة عقلية، فكذا أن ما يصدر عنه من معاليل يحمل هذه الطبيعة أيضاً، إذ تتدرج بالنزول إبتداءاً من العقول المفارقة المعبّر عنها بالصور الإلهية حتى تنتهي إلى العقل الفعال الأخير المعبّر عنه بواهب الصور لدى المشائين، أو العقول العرضية لدى الإشراقيين، فبهذه الأخيرة أو بذاك تتمظهر العناصر المادية بتشكلات الصور المختلفة، سواء كانت جمادية أو نباتية أو حيوانية أو بشرية. إذ تُعتبر حتى الصور المادية رتبة من مراتب تنزلات العقل، أو هي - كما يُعبّر عنها - عقل مغشّى بالمادة. فهذا الترتيب العقلي للوجود ككل واقع بين الأسباب والمسببات لا غير، وبالتالي فإن النظام السببي في العالم يحكي ويتبع نظام العقول المفارقة، وهي تستمد نظامها ووجودها من ذات المبدأ الأول.

وإذا كان الوجود كله عبارة عن نظام عقلي قائم على الأسباب والمسببات، فإن العقل القارئ له سوف لا يكون أكثر من هذا النظام ذاته. وهو المعنى الذي التزم به إبن رشد صراحة، فاعتبر العقل عبارة عن إدراك نظام الأسباب والترتيب في الأشياء[35]، وإن النفس هي بالقوة جميع الموجودات[36]. فالعقل البشري يتبع ما يدركه من الترتيب والنظام للموجودات.

هكذا فالوجود كله عبارة عن عقل متفاوت الكمال، والعقل كله عبارة عن وجود، وهو عين النظام السببي. وبالتالي فهما متطابقان، إذ ما من موجود إلا وهو عقل، وما من عقل إلا وهو وجود. لكن حيث أن هناك تفاوتاً بين مراتب الوجود أو العقل، فالذي يحدد التطابق بينهما هو قانون الشبه والسنخية. وهو أمر يصدق حتى على مستوى الأحكام والبراهين والقوانين، إذ لا مبرر غيره يحكم مثل هذه العلاقة. وعليه فالمعتبر لدى الفلاسفة - كما هو الحال عند إبن سينا - أن حدس المبادئ العقلية متوقف على العلاقة بالعقل الفعال، فهذا الأخير هو الذي يرسم الصور الذهنية في النفس بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى أو البراهين[37]. وأن هذا الترتيب بين المقدمات والنتائج كما يتضمنها البرهان المنطقي يعكس ما عليه علاقة الوقائع في الوجود، أي أن لكل منهما لوازمه، ويكون البرهان المنطقي صورة مستنسخة عن الوجود.

ومثل ذلك ما قرره الغزالي من أن الحد الأوسط في القياس يحصل على ضربين بالحدس والتعلم. والحدس هو فعل الذهن يستنبط بذاته الحد الأوسط. أما ما يبتدئ بالتعلم فينتهي لا محالة إلى الحدس. وأن الحدس ينتج عبر الاتصال بالعقل الفعال الذي ترتسم فيه صور الأشياء مع الحدود الوسطى والبراهين اللائحة والدلائل الواضحة، وكل ذلك تكتسبه النفس البشرية من خلال الاتصال بالعقل الفعال[38].

لكن ليس لهذا التفسير من تبرير سوى الارتكاز على قانون السنخية كمصدر يحدد التطابق بين ما يحصل في النفس من صور ذهنية من جهة، وبين ما يحمله العقل الفعال من صور جميع الموجودات. وهو ما يعني التطابق بين الذهن والوجود الخارجي الذي يحدده العقل الفعال، ومن ثم فالذهن يرى ذاته في الوجود.

ويمتد أثر السنخية عند الفلاسفة أحياناً حتى على العلاقة التي تربط اللغة بالمعاني، والمعاني بالوجود الخارجي. فعند الفارابي أن الألفاظ تحاكي المعاني، وأن المعاني تحاكي الأشياء في الطبيعة[39].

أما علم الكلام فموضوعه مختلف، ذلك انه يتأسس على قاعدة معيارية لها علاقة بنظرية التكليف، وهي مبدأ (الحق) المتضمن لفكرة الإلتزام والواجب التكليفي. لكن هذا المبدأ منقسم إلى أصلين مولّدين ينشأ عنهما إتجاهان متضادان يستقطبان أغلب نشاط هذه الدائرة، نطلق على أحدهما (الحق الذاتي)، وعلى الآخر (حق الملكية). إذ يراعي الأول منهما إعتبارات (الحق في ذاته) دون قيد أو شرط، وأبرز من يمثله المعتزلة والزيدية والإمامية الإثنا عشرية. أما الثاني فيقيد فكرة الحق بمبدأ الملكية، حيث يرى - من الناحية العقلية - أن المالك المطلق له حق التصرف بملكه ما يشاء، والأشاعرة هم أبرز من يمثل هذا الإتجاه.

ويُقصد بالحق أنه الفعل الحسن، والباطل هو الفعل القبيح. وأن معنى الحسن هو ما يستحق فاعله المدح والثناء، وعلى خلافه معنى القبيح. ويلاحظ في هذا التعريف أن كلاً من الحسن والقبح يتوقف على الاستحقاق، وهو مشتق من لفظة (الحق)، فيكون التعريف بذلك دائرياً، حيث يصبح الحق هو الحسن، والحسن هو الحق، كذلك أن الباطل هو القبيح، والقبيح هو الباطل. وهو تعريف الشيء بنفسه.

وبغض النظر عن التعريف، بإستطاعتنا ايضاح الفكرة بإفتراض أنه لو كانت هناك سلطة فوقية (حكيمة) تشرف على الأفعال، فتسمح لبعض الأفعال وتحاسب على البعض الآخر، فسيكون الفعل الحق أو الحسن - بمقتضى الإفتراض المذكور - هو ما تسمح به هذه السلطة، والفعل المخالف هو ما تذمه أو تحاسب عليه. ونرى أن الدساتير القانونية المعمول بها على مر العصور إنما تستمد شرعيتها بايحاء من هذه الفكرة الايضاحية. وبعبارة أخرى نقول: إن الحق هو ما يأذن بفعله العقل العملي دون إنكار، وإن الباطل هو ما يشجبه هذا العقل ولا يأذن به.

وطبقاً لذلك يصبح معنى «الحق الذاتي» هو أن الفعل في نفسه أو من حيث صفاته واحواله يكون منشأً للسماح والقبول دون قيد أو شرط (خارجي). كما يصبح معنى «الحق المشروط بالملكية» هو أن الفعل لا يكون منشأً للسماح والقبول بمقتضى ذاته وأحواله، بل تبعاً للقيد الخارجي المسمى (الملكية الحقيقية).

إذاً فالحق في التعريف الأول مستمد من ذات الفعل أو صفاته وأحواله، وعلى خلافه يكون الحق حسب التعريف الثاني، حيث يستمد من القيد الخارجي المتمثل بالملكية.

وقد يضاف إلى ذلك أن معنى الحق الذاتي هو أن يكون الفعل في نفسه، أو صفاته واحواله، مقتضياً للغرض والمصلحة. وعلى خلافه الحق المشروط بالملكية، حيث لا يكون الفعل في نفسه منشأً للغرض والمصلحة.

وإستناداً إلى هذين الأصلين تتجلى مظاهر التوليد المعرفي ومن ثم يتجلى الصراع بين الإتجاهين على صعيد كل من الإنتاج المعرفي وفهم النص أو الخطاب، كالذي فصلنا الحديث عنه في (العقل والبيان والاشكاليات الدينية).

 

4- الاختلاف حول المعرفة والوجود والقيم

يمكن التمييز بين العقلين الفلسفي والكلامي من خلال المباحث العامة لكل من: المعرفة (الإبستمولوجيا) والوجود والقيم. كما هناك تمايز آخر يتعلق بالفكر الغربي الحديث أو بعض تياراته الهامة.

فقد دار البحث في الفلسفة وعموم النظام الوجودي حول إشكالية (الوجود)، ومنه تعدى إلى المبحثين الآخرين. فقد انعكس تأثير الإشكالية الوجودية على كل من نظرية المعرفة والقيم، فأصبحت المعرفة العقلية ذات أبعاد مطلقة وضرورية بفضل التطابق مع الواقع، سيما وأنها مستلهمة من العقل السماوي الفعال، فهو ما يضفي على نتائج البحث المعرفي قطعيتها ومنطقيتها البرهانية كما عرفنا. كذلك أصبحت القيم لدى هذا النظام مجازية لأنها محكومة بالحتمية الوجودية. فمثلاً ان معنى العدل، وهو صفة معيارية، يأخذ طابعاً وجودياً حتمياً لا يدل على هويته الحقيقية. فكل ما في الوجود هو فعل محتم وهو من هذه الناحية يشكل عين العدل. لذا اعتبر الفارابي العدل هو ان يوفى كل كائن بما مهيأ له من الوجود، حيث جرى العدل بان يحصل كل ممكن على قسطه من هذا الوجود[40]. وكذا ما ذهب اليه السهروردي من معنى كون الحق قائماً بالقسط، او كما اشار اليه المحقق الدواني من ان هذا العدل يقتضي ايصال كل قابل الى ما يقبله من الوجود وما يتبعه من الكمالات[41].

أما الفكر الغربي الحديث فقد تجاوز هذه النظرة وتأسيساتها. فالكثير من تياراته الهامة اشتغلت على نظرية المعرفة، ومنها تعدى البحث إلى اشكاليتي الوجود والقيم، كالذي يظهر لدى كل من ديكارت وبيكون ولوك وهيوم وستيوارت مل وعمانوئيل كانت والوضعيين المنطقيين وفلاسفة العلم وغيرهم. والذي جعل هذا الفكر يهتم بنظرية المعرفة هو أنه كان يشكك بالمسلمات المعرفية، وغلب عليه عدم التسليم بوجود تطابق بين العقل والوجود، خلافاً للنظام الوجودي الذي برر التطابق وفقاً لمبدأ السنخية كأصل مولّد كما عرفنا. فرؤية الفكر الغربي للوجود هي رؤية ينتابها التردد والشك وأنها لا تتوغل صوب القضايا الميتافيزيقية كما يفعل النظام الوجودي. كما أن تأثيرها على القيم بيّن هو الآخر، بإعتبارها تخضع للتحليل المعرفي لدى هذا الفكر، وهو غالباً ما يراها ذاتية وليست تجلياً من تجليات الحتمية الوجودية. فهي بنظره ليست منعكساً إعتبارياً وفق ما تدور عليه العلاقات الوجودية كالذي يصوره النظام الوجودي.

أما بحث العقل الكلامي وعموم النظام المعياري فقد استند إلى مبحث (القيم) كما تتمثل في نظرية التكليف، ومنها تعدى إلى إشكاليتي المعرفة والوجود. فالغرض من (المعرفة) لدى هذا النظام هو عبادة الله والالتزام بتكاليفه، لذلك كان النظر المعرفي من الواجبات. والكثير من علمائه يذهبون إلى أنه أول الواجبات الملقاة على عاتق الإنسان[42]. وكذا هو الحال مع مبحث الوجود، فالغرض منه هو التوصل إلى معرفة الله وصفاته وعلاقته بالإنسان لتحديد موارد تكليفه. إذ يعتقد هذا النظام بأن الله خلق الإنسان لإبتلائه وإمتحانه طبقاً لنظرية التكليف، فأوجد فيه الشهوات والعقل، وأمده بقوى الخير والشر، وأرسل إليه الملائكة والشياطين؛ لإلهامه بالخير وتضليله بالشر، كما سخّر له سائر المخلوقات الطبيعية.. كل ذلك لذات الغرض من التكليف والإمتحان. وبالتالي فالقيم لدى علم الكلام وعموم النظام المعياري ليست مجازية في اعتباراتها، بل لها حقيقتها رغم اختلاف دائرتي هذا العلم حول شروطها.

ومع وجود الاختلاف بين العقلين الفلسفي والكلامي حول القيم فان بعض العلماء خلط بين الفهمين، كما هو الحال مع البحث الجاري حول الحسن والقبح، اذ انها لدى الفلاسفة القدماء من المشهورات، في حين انها لدى أصحاب منطق الحق الذاتي من العلوم الضرورية التي تتوقف عليها متفرعاتها من الأحكام[43]. لكن البعض خلط بين هذين الإتجاهين ونقل لنا المفهوم الذي تبنّاه أصحاب منطق الحق الذاتي (العدلية) ودافع عنه دفاعاً تاماً، في الوقت الذي رآه بعين الفلاسفة واستشهد عليه ببعض عباراتهم، كالذي نقله عن إبن سينا في (الإشارات والتنبيهات) وما وافقه عليه شارحه نصير الدين الطوسي. لذا اتصفت عباراته بالتهافت وعدم الإتساق أحياناً، كما يظهر مما ذكره الشيخ المرحوم محمد رضا المظفر[44].

 

5- الاختلاف حول فهم الدين

وهو يتجلى على مستويين، احدهما يتعلق بالقضايا الدينية الاصولية، والاخر يخص فهم النص الديني، وذلك كالتالي..

 

أـ الاختلاف حول القضايا الدينية الاصولية 

نقصد بهذه القضايا أركان نظرية التكليف الأربعة كما يتأسس عليها التفكير الديني. فالفلسفة وعلم الكلام يختلفان حول هذه الأركان اختلافاً واسعاً وحاداً. فالاولى تسبغ عليها رؤيتها الوجودية الحتمية، فتراها مجازية غير حقيقية، خلافاً لعلم الكلام الذي يضفي عليها الطابع المعياري. فالمكلِّف لدى الفلسفة يتجسد بعلاقة الذات بغيره عبر آصرة العلية، فهو محض العلم الوجودي والعلة الحقيقية تبعاً لعلاقة العلة والمعلول، خلافاً لما هو الحال لدى علم الكلام الذي يقرّ بوجود الارادة والقدرة الحقيقيتين للمكلِّف، ومن ثم يعترف بحقيقة التكليف والجزاء المترتب عليه، من غير حتم ولا مجاز. وكل ذلك يعارض الفهم الفلسفي كالذي سنكشف عنه خلال الفقرات التالية:

 

1ـ غياب القدرة الحقيقية لدى المكلِّف 

لا يعتقد الفلاسفة بالقدرة الحقيقية لواجب الوجود لاعتبارات عديدة، اهمها مقالتهم حول علاقة العلة بالمعلول، وان واجب الوجود هو صرف العلة الواجبة، كذلك قولهم باتحاد القدرة والارادة بالعلم، والعلم لديهم لا يخرج عن حد ما هو موجود، وانه علة للغير، وكذا قولهم بان القدرة هي محض الفعل بلا قوة، حيث لا توجد جهة امكان في ذات الواجب. حتى ان شيخ الاشراق السهروردي اعترف بان الفلاسفة لا يعتقدون بابداع الاشياء بناء على ارادته، لان هذه الارادة لا تكون الا عند ترجيح احد الجانبين على الاخر؛ فتقتضي بذلك الغرض اما لذاته او لغيره، وهو منزه عنه، حيث ان ذاته بنفسها مما تقتضي الوجود ، وهو تعبير اخر عن اصالة الحتمية في علية المبدأ الاول.

فالمبدأ الحق بنظر الفلاسفة هو واجب من جميع الجهات، وهو فعل تام من دون قوة، ذلك لانه عين الوجود بلا عدم. اذاً هناك تساوق بين الوجود والقدرة الالهية. فحيث الوجود طارد للعدم، فانه لا شيء الا وهو مقدور عليه بالايجاد والتكوين. وبالتالي كانت القدرة متعلقة بكل شيء، اذ لو كانت متعلقة ببعض الاشياء دون البعض الآخر لما كانت صرف حقيقة القدرة وتمامها[45]. فالمعتبر في قدرة المبدأ الحق، وكذلك ارادته، انما صرفها من غير شائبة امكان او عدم، وهو ما يساوق معنى الوجود.

 

2ـ التكليف والطابع التكويني الحتمي

بحسب الرؤية الفلسفية ان للتكليف اعتبارات وجودية حتمية تبعاً لمنطق السنخية ونظرية الامكان الاشرف. فاصل التكليف عائد الى ما يحدث في عالم الافلاك السماوية من اوامر فوقية، ومن ثم انعكس ذلك على ما يحدث في العالم الارضي، ومنه العالم الانساني، وفقاً لتبعية وخضوع العوالم السفلية للعوالم العلوية المفارقة. وكل ذلك يحدث طبقاً لحتمية مبدأ العلية.

فمثلاً اعتقد ابن رشد بأن التكليف الارضي عائد في الاصل الى التكليف السماوي الحتمي، فاعتبر بأن لله أمراً «وجودياً» حكم فيه على الفلك الذي يخصّه بالحركة وأمر سائر المبادئ المفارقة بأن تأمر جميع الأفلاك الأخرى بالحركات، وهو الأمر الذي قامت عليه السماوات والأرض «وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيواناً ناطقاً»[46]. ويقارب هذا المعنى ما اشار اليه صدر المتألهين الذي اعتبر صلاة الانسان هي نتاج تشبّه ما للنفس البشرية بنفوس الاجرام السماوية في تعبدها الدائم من الركوع والسجود والقيام والقعود طلباً للثواب السرمدي وتقرباً الى المعبود الصمدي[47]، وان حركة الاجرام انما تجري طلباً لعبادة الله وطاعته[48]. وعلى هذه الشاكلة ذكر الجنابذي بان الاوامر التكليفية متسببة عن الاوامر التكوينية وموافقة لها رغم اننا لا ندرك احياناً طبيعة هذا التوافق، لعدم العلم بالتكوين[49]. وكذا فان صدر المتألهين اعتبر العبادة على ضربين احداهما وجودية والاخرى تكليفية، فاما الاولى فهي محتمة بحسب ما عليه طبيعة الوجود والغاية التي تطلبها كل الكائنات نحو كمالاتها الخاصة، وبالتالي سعيها باتجاه الحق، واليها الاشارة بقوله تعالى: ((وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه)) الاسراء/23. في حين ان العبادة الاخرى تخص الانسان باعتبارها لا تخلو من التكلّف والتعمل تبعاً للامر والنهي[50]. وفي تفسيره للقرآن اعتبر التكليف وبعث الرسالات من القوانين العامة التي تقتضيها عملية الايجاد والتكوين، حيث لها فائدة بحسب ما يفرضه القضاء الوجودي في سابق الأزل[51].

وفي جميع الاحوال ان الفلاسفة يقرون بأن التكليف في الارض لم يكن يعرف الوجود لولا وجوده السابق في العالم العلوي السماوي؛ تبعاً لمنطق السنخية ونظرية الامكان الاشرف. وكل ذلك مما لا يقره المتكلمون.

 

3ـ العبادة وهرم الإلهة

بحسب الرؤية الوجودية ليس الغرض من بعث الرسالات السماوية هداية الناس عامة، بل لا يوجد في واقع الامر ما نعده غرضاً حقيقياً سوى انه فعل محتم يقع في دائرة تسلسل الافعال التي تؤدي دورها في هداية بعض الناس وفقاً لسلطة المفارقات التي تحكم السفليات، سواء فسّرنا الامر تبعاً لنظام العلة والمعلول كما يقول الفلاسفة، او تبعاً لارتباط المظاهر السلوكية بالاسماء الالهية، او نتيجة تبعية الوجودات للاعيان الثابتة كما يقول العرفاء. وفي جميع الاحوال ليس لبعث الرسالات اي علاقة بالتكليف والبلاء والقاء حجة الحق على العباد، وانما هو من الاسباب الموضوعية المترتبة على ما ذكرناه من الاعتبارات الوجودية.

بل بحسب المنظور الفلسفي تتصف علاقة العلية بالإلوهة، فالمعلول يتبع علته ويتشبه بها، ويُأوّل هذا الاتباع والتشبه بأنه عبادة. فالعلة رب، والمعلول مربوب، وان علة العلل هي رب الارباب التي تختزل في ذاتها جميع كمالات سائر الارباب، ولهذا تعد المعبود الحقيقي، وكل ما عداها فانه معبود على نحو الظاهر والمجاز، رغم ان المعلول ليس بوسعه ان يتعلق ويتشبه بأعظم من علته، وبالتالي فهو لا يتعبد بغير هذه العلة الناقصة. ومع هذا فان جميع العبادات التي تؤديها المعاليل لعللها هي عبادات صحيحة تعبّر عن تابعيتها لاربابها، ومن ثم تابعيتها لرب الارباب، ذلك لأن كمالاته تفيض على كل شيء، مما يجعل اي شيء يشابه كل شيء، وان عبادة الجميع مشروعة ومؤدية الغرض بعبادة المبدأ الحق عبر الوسائط من العلل الناقصة. فلا يصح من الناحية التكوينية ان يتعبد المعبود بالمبدأ الحق مباشرة اذا ما استثنينا الصادر الاول المسمى بالعقل الاول. وهذا يعني ان جميع العلل بعد العلة الاولى هي أرباب وآلهة لما دونها، وهكذا يتسلسل الامر بالتسافل حتى اخر مراتب الوجود. فالوجود كله عبارة عن هرم من الآلهة والمألوهات، والارباب والمربوبات، فمنها الكبار ومنها الصغار.

ان الفهم الوجودي للعبادات والعقائد جار على نحو تكويني. وهو من هذه الناحية لا يخضع للخطأ والصواب واللوم والعقاب. اذ الكل محكوم بحسب ما عليه الحال في المفارقات او الاسماء الالهية او ارباب الانواع او غير ذلك من الاعتبارات. وبالتالي فالعبادة حسب الفهم الوجودي لها طابع مجاز؛ تعبّر فيه عن حتمية الارتباط والتبعية للعلل والارباب. مما يعني ان التكليف بدوره امر مجاز، وذلك سواء من حيث الرؤية الفلسفية او العرفانية، وان السلوك المتبع هو السلوك المتجه نحو الحق؛ إما بعبادة المفارقات والنفوس الجرمية او الخضوع تحت احكامها كالذي عليه الرؤية الفلسفية، او باعتبار الحق المتجلي في كل شيء، بما في ذلك نحن السالكين، حيث نكون من ضمن هذا الحق المتجلي فينا، فكيف نكلَّف ونحن هو، وهو نحن، والعين واحدة؟!

وكل ذلك بعيد عن التصور الكلامي للعبادة.

 

4ـ حتمية الجزاء

لدى الفلاسفة ان النفس عند مفارقة البدن تظهر عليها اعمالها السابقة، فإما ان تكون حياتها سعيدة بفعل ارتباطها بالمفارقات السماوية واتصالها بالعلويات عن طريق التعلم والتعقل، او ان تكون حياتها معذبة بفعل جهلها وسوء اعمالها، فالثواب والعقاب انما هو بهذا المعنى. ويصور الفلاسفة العقاب في الاخرة بأنه كالمرض الذي يصيب البدن، فهو لازم للنفس على ما ارتكبته من خطايا خلال الحياة الدنيا، دون ان يكون هناك معاقب خارجي او منتقم منفصل عنها[52].

ويكتسب هذا التصور مبرراته بحسب الرؤية الفلسفية من العلاقة التي تربط المعلول بالعلة، تبعاً لمنطق المناسبة والسنخية. حيث يكون العقاب مناسباً لعلته من الجهل المعرفي وارتكاب الخطايا، مثلما يكون الاجر والثواب مناسباً لعلته من العلم والتعقل وممارسة الخيرات، وفي جميع الاحوال فان النتيجة المترتبة على ذلك ليست منفصلة عن العلة التي افضت اليها، مما يعني انه لا يوجد معاقب مستقل خارجي، ولا مثيب منفصل.

وعموماً أن الفلاسفة يجعلون من امر المعاد امراً دالاً على ما له علاقة بكمال النفس من الناحية المعرفية والعقلية. وانطلاقاً من هذا الموقف فسّروا المسألة الدينية الخاصة بالثواب والعقاب، وكذا الايمان والكفر والجنة والنار، بالاستناد الى وجود العلم والحرمان منه. فالجهل العلمي في الفلسفة يمثل سبباً اصيلاً لمختلف الكفر والعذاب والشقاء، حيث تدرك النفس ما يفوتها من كمال العلم فتعذّب بتلك الحسرة[53]. وعلى العكس ان النفس حين تحصل على العلوم العقلية اليقينة فإن ذاتها تصير عقلاً قدسياً ونوراً الهياً من حزب الملائكة المقربين[54]. وقد افضى الحال الى ان يكون العلم باعثاً على السعادة والايمان حتى مع عدم مزاولة العمل الصالح في الحياة.[55]

وكل ذلك خلاف ما يراه المتكلمون وعموم النظام المعياري، اذ يرون بأن سعادة الانسان ونجاته تتوقف على طاعته لأوامر المكلِّف. او أن الطاعة والعبادة كما يريدها المكلِّف تمثل لديهم هدفاً ومطلباً لنيل السعادة.

لهذا تتصف اللغة التي يستخدمها هؤلاء ضد خصومهم بأنها (معيارية) تتمثل بالتضليل والتكفير والتفسيق، وهي مستمدة من منطق (حق الطاعة) كما تقتضيها نظرية التكليف، إذ تمثل الطاعة والعبادة كما يريدها المكلِّف هدفاً ومطلباً للنجاة والسعادة. في حين تتصف لغة الفلاسفة والعرفاء ضد خصومهم بأنها (معرفية) مستمدة من الغاية التي صوروها للإنسان، وهي كمال العلم والعقل أو العرفان، وبالتالي فلغة الإدانة لديهم هي التجهيل لا التضليل والتكفير.

وفي جميع الأحوال انه تبعاً للرؤية الوجودية تتخذ مسائل الحساب من الثواب والعقاب شكلاً مجازاً، وفقاً لعلاقة الفعل الانساني بما يترتب عليه من نتائج، سواء فسرنا الامر بحسب الرؤية الفلسفية من ارتباط العلة بالمعلول، او بحسب الرؤية العرفانية من ارتباط المظاهر الفعلية باسمائها الالهية، او ارتباط الوجودات باعيانها الثابتة السابقة، فسواء بهذا او بذاك فان هناك نمطاً من الحتمية السنخية يعمل على تحديد ما عليه الكائنات من نعيم وعذاب، او ثواب وعقاب، وهو ما لا يتسق مع حقيقة التكليف التي أكدت عليها النصوص الدينية وأيدتها الطريقة الكلامية وعموم النظام المعياري.

***

ويمكن اجمال ما سبق بهاتين النقطتين:

 1ـ ان الفهم الفلسفي لنظرية التكليف هو فهم مجاز، فلا يوجد - بنحو الحقيقة - مكلِّف ومكلَّف ورسالة تكليف وثمرة تكليف، كالذي تبشر به النصوص الدينية وتؤيدها الطريقة الكلامية.

 2ـ ان الرؤية الوجودية – ومنها الفلسفة – تقيم فهمها لنظرية التكليف من منطلق الإلوهة لا العبادة التي يستند اليها النظام المعياري ومنه علم الكلام. فهي تستند الى الإلوهة عبر قراءتها لقضايا التوحيد، وتبتغي تحقيقها كغاية من خلال فهمها لقضايا المعاد، كما انها تتوسل بها كواسطة عبر تحريها عن النبوة والولاية، واخيراً انها تنظر الى كل شيء بما يعبر عن هذه الإلوهة وتجلياتها وصورها.

 

ب ـ الاختلاف حول فهم النص

يمكن تحديد الاختلافات الرئيسية بين الفلسفة وعلم الكلام حول كيفية فهم النص عبر الفقرات التالية:

أولاً: تتخذ الممارسات التفسيرية للفلسفة طابعاً توكيدياً، بمعنى انها تؤكد على معرفة معنى النص حقيقة دون ادنى ريب. ومما يدل على ذلك ان ابن رشد اعتبر المعنيين في آية (الراسخون في العلم) هم الفلاسفة وحدهم، اي انهم المعنيون بتفسير النص الديني تفسيراً صحيحاً لا شك فيه، وانهم القيّمون الحقيقيون على الشريعة، ذلك أنهم على حد تعبيره: «الذين قيل فيهم إنهم ورثة الأنبياء»[56]. سيما أن العقل الفلسفي لدى الفلاسفة هو اعظم من الخيال النبوي، لكن دون ان يمنع ذلك اعتبار الانبياء هم فلاسفة ايضاً، رغم ان ما يأتون به من نصوص دينية لا يتعدى رتبة الظن والخيال مراعاة لعقول العامة من الناس كالذي يقوله الفارابي وابن سينا واتباعهما. على ذلك أقر ابن رشد تأويل النص الشرعي فيما لو عارض البرهان الفلسفي[57]. بل وأوجب أن تكون عملية التأويل من اختصاص الفلاسفة دون غيرهم من أهل الكلام والحشوية والباطنية[58]. فالفلاسفة بنظره أصحاب القياس البرهاني من بين أشكاله الثلاثة، أحدها يفيد أهل الكلام، وهو الجدل، والآخر هو الخطابة التي اعتبرها من شأن الجمهور الغالب[59] .

هذا بالنسبة للطابع التوكيدي للممارسات التفسيرية للفلسفة، أما الممارسات التفسيرية لعلم الكلام، وبالخصوص ما ورد عنهم من تأويلات، فهي ممارسات احتمالية امكانية غير توكيدية. فهم لا يؤكدون على المعنى المطلوب كما هو، بل ما يهمهم هو دفع الظاهر المنافي للعقل كما يعتقدون. وكما ذكر الكوثري بأن المتكلمين اضطروا الى التأويل وتحديد المراد «دفعاً لتمويهات المشبهة»[60]. ومثل ذلك اشار بعض العلماء الى هذا المعنى لكثرة المبتدعة من المشبهة وغيرهم، وجاء عن كثير منهم عدم تعيين التأويل في شيء معين، بل اوكلوا ذلك الى علم الله تعالى[61].

وقد اعتمد المتكلمون قاعدة (الإمكان والإستحالة) العقلية. فكل شيء يراه العقل في النص ممكناً فهو مقبول، وكل شيء يراه مستحيلاً فإما أن يتم طرحه أو يمارس في حقه التأويل. وبالتالي فحقيقة التأويل لديهم هي النفي لا الإثبات والتوكيد. فالتأويل لا يقطع بمضمون حقيقة ما يتضمنه النص الديني، لكن يكفيه نفي الظاهر منه فحسب. وعليه اعتاد المتكلمون بأن يطرحوا وجوهاً ممكنة متعددة للتفسير والتأويل، كالذي فعله المفسر الزمخشري في (الكشاف)، والشريف الرضي في (حقائق التأويل). وقديماً سأل الخياط جعفر بن بشر المعتزلي عن معنى قوله تعالى: ((يضل من يشاء ويهدي من يشاء)) (النحل/93)، وعن (الختم والطبع)، فقال في جوابه: «أنا مبادر إلى حاجة، ولكني أُلقي اليك جملة تعمل عليها، أعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها، ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها، وتأوّل الآيات بعد هذا كيف شئت»[62]. وواضح من العبارة الأخيرة أنه ليس الغرض إثبات التأويل وتحديد معنى النص كما هو، بل يكفي نفي الظاهر المتعارض مع قبليات العقل المعياري، خلافاً للفهم الجاري وسط النظام الوجودي بشقيه الفلسفي والعرفاني، والذي يقوم بإثبات وتعيين صور التفسير من التأويل والإستظهار والإستبطان وفق ما تحدده منظومة القبليات الوجودية[63]. فمثلاً تختلف نظرية التمثيل الفلسفي عن التأويل الكلامي بأن ظاهر اللفظ وإن كان ليس مراداً لدى كلا المسلكين، إلا أن الأخير لا يعتقد بالظاهر ولا بالباطن، بل يرى الظاهر مجازاً لغوياً يرمي إلى حقيقة أخرى ليست باطنية بالمعنى المألوف، وإنما تشير إلى معنى آخر قد تدل عليه المناسبات اللفظية والسياقية تبعاً للإستعارة والتشبيه. في حين تعترف نظرية التمثيل الفلسفي بوجود لون من المماثلة والتشابه بين ظاهر اللفظ والحقيقة، فمع أن الظاهر غير مراد لكنه شبيه بالحقيقة لتقريب المعنى إلى أذهان العوام. وليس في التأويل الكلامي مثل هذا التقريب إلى الأذهان، إذ الظاهر يعارض الحقيقة المرادة، وبالتالي ليس بقدرة العوام معرفة المراد، لا على نحو الحقيقة، ولا على نحو التشبيه.

وقد انعكس هذا الفارق على تحديد علة وجود ما يعرف بالمتشابه، أو كون الظاهر اللفظي غير مراد. فالتبرير الكلامي قائم على أن ذلك جاء لتعريض العباد لتحصيل الثواب بالإجتهاد والبحث والنظر لمعرفة المطلوب[64]. في حين أن التبرير الفلسفي قائم على رعاية مشاعر الجمهور لقصورهم عن استيعاب الحقيقة كما هي، فقرّبها لهم الخطاب الديني على شكل صور محسوسة وخيالات وهمية[65]، كالذي فصلنا الحديث عنه في (الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية).

ثانياً: تندرج الممارسات التفسيرية للفلسفة ضمن آليات ثلاث هي: الاستظهار والتأوبل والاستبطان.

ونقصد بالاستظهار الأخذ بظاهر النص، وبالتأويل عدم الأخذ بالظاهر مع الحفاظ على المجال العام لسياق النص. أما الاستبطان فانه لا يعمل بالظاهر ولا يحافظ على ذلك المجال، بل يطرح مجالاً اخر بعيداً او غير ظاهر.

ويتفق الفلاسفة والمتكلمون على العمل بالاستظهار والتأويل، لكن الفلاسفة يزيدون على ذلك العمل بآلية الاستبطان دون المتكلمين. فمثلاً على الاستبطان الفلسفي ما ذكره الاهري بأن معنى التين في قوله تعالى: ((والتين والزيتون وطور سنين)) التين/1ـ2، يرمز الى الحدس، حيث لا نواة له وهي عقدة التعب والمشقة، والزيتون هو الفكر المنوي لنواة التعب، وطور سنين هو مبدأ النفس الناطقة النافخ لها، وهذا البلد الامين هو النفس الناطقة الامينة على اسرار الملكوت المودعة فيها كنز المعرفة[66]. وكذا جاء فيما يرمز اليه قوله تعالى: ((والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور.. والبحر المسجور)) الطور/1ـ6، حيث ان الطور هو العقل الاول، والكتاب المسطور هو النفس الاولى، والبحر المسجور هو الهيولى، حيث انها بحر مسجور لتصلية الصور. ومثله قوله تعالى: ((ن والقلم)) القلم/1، حيث النون ترمز الى النفس، كما ان القاف من القلم يرمز الى العقل. كما ويرمز قوله تعالى: ((المر)) الرعد/1، بأن الألف دالة على اله العقول، وأن اللام هي جبريل مبدأ النفوس، وان الميم هي محمد مدبر الأرواح، وأن الراء هي صفة الرسالة لمحمد[67]. ومثل ذلك صرح الفلاسفة بأن آية النور ترمز الى مراتب العقول، ومُثّلت المشكاة بالعقل الهيولاني والنفس الناطقة، والمصباح بالعقل المستفاد بالفعل، كما اعتبرت الزجاجة دالة على وجود مرتبة اخرى بين العقلين الهيولاني والمستفاد، و((يوقد من شجرة مباركة زيتونة)) بانها القوة الفكرية.. الخ[68].

وقد أُخضعت العديد من الالفاظ القرآنية لهذه الآلية من الاستبطان، كالقرآن والفرقان والكتاب المبين وأم الكتاب والصحف المكرمة وخزائنه تعالى والحروف المقطعة وغيرها. فمثلاً اعتبر صدر المتألهين ان القرآن هو العلم الاجمالي المعبر عنه بالعقل البسيط، وهو العلم بجميع الموجودات على وجه بسيط اجمالي، وهو فعال تفاصيل العلوم النفسانية. أما الفرقان فانه اشارة الى العلم النفساني المتكثر بصور عقلية حاصلة في النفوس الفاضلة. كما اعتبر كلا هذين الوصفين للقرآن عبارة عن نفس النبي في مقامين، مقام عقل بسيط قرآني متحد مع المعقولات كلها، ومقام لوح نفساني فيه تفاصيل العلوم وصور الحقائق المرسومة[69]. وهذا التقابل بين القرآن والفرقان، من حيث ان القرآن هو ذات العقل الاول، والفرقان هو الجوهر النفساني، هو ذات التقابل بين القلم واللوح لدى هذا الفيلسوف، فالقلم موجود عقلي متوسط بين الله وبين خلقه، فيه جميع صور الأشياء على الوجه العقلي، وهو ايضاً عقل بسيط، الا انه دون الحق الاول في البساطة والشرف. وأما اللوح فهو جوهر نفساني وملك روحاني يقبل العلوم من القلم ويسمع كلام الله بواسطته.[70]

ثالثاً: إن منظور الفلسفة للآيات والنصوص إما على نحو التبعية للعقل الفلسفي الموصوف بالبرهاني، واعتبار النص لا يتعدى الخيال والظن من الناحية الوجودية الحتمية طبقاً لمقام النبوة الذي يتصف بأنه أقل من مقام الفلسفة. او انه مأخوذ على مستوى الحقيقة وانه بياني صرف دون حاجة للتأويل كالذي يصرح بذلك صدر المتألهين.

وفي كلا الحالين يختلف هذا المنظور عن منظور علم الكلام للآيات والنصوص، فهو ليس معنياً بمرتبة الوجود الحتمي ولا بدرجة الخيال، كما لاعلاقة له بالقوة النبوية الخيالية التي هي اقل من القوة العقلية الفلسفية كما يراها الفلاسفة، كذلك فانه لا يرى للنص قوة بيانية مفصولة عن الاعتبارات العقلية، بل يرى العقل قيماً على النص، ومرجعاً يعرض عليه الأخير إن كان يقبل ظاهره او لا يقبل، وكل ذلك بعيد عن البيان الصرف الذي يتحدث عنه الفلاسفة المتأخرون من أمثال صدر المتألهين.

رابعاً: لما كان علم الكلام ذا نزعة معيارية، وأن موضوعاته دينية، لذا فهو أقرب للتفكير الديني من الفلسفة التي لها مشاغل أخرى بعيدة. بمعنى أن لهذا الاختلاف انعكاساته على فهم النص او الخطاب.

 

نقد التراث العقلي

 

تلفيقات العقل الفلسفي ومفارقاته

من الناحية المنهجية ليس لدى المنطق الفلسفي من مشكلة تخص اصوله المولدة، فهو لا يعاني مشكلة في انقسام الاصول واختلافها، وهو من هذه الناحية متسق مع ذاته، كما انه متسق مع شريكه الوجودي المتمثل بالعرفان، لكن مشكلته تظل محصورة في التطبيق والتعارض في الرؤى، واحياناً التناقض حتى على مستوى الفيلسوف الواحد، واهم من ذلك الانزلاق نحو التلفيق مع الرؤية الدينية.

وسنقتصر على ذكر مجموعة من المفارقات والتلفيقات بنحو الاجمال، كتلك التي ذهب اليها صدر المتألهين وغيره من الفلاسفة[71]، كما يلي:

1ـ الجمع بين اصالة الحتم والوجوب في العلة الاولى، وبين اعتباره ذا حكمة ومشيئة وارادة وغرض، مع انهما لا ينسجمان كما عرفنا.

2ـ الجمع بين اعتبار المبدأ الاول محض الوجود، وبين اعتباره جسماً ونوراً الهياً جاءت على شاكلته سائر انواع الاجسام والانوار تبعاً لمنطق السنخية، كالذي ذهب اليه صدر المتألهين.

3ـ الجمع بين كون المبدأ الحق عبارة عن حيثية واحدة لتبرير عدم صدور الكثرة عنه تعالى، وبين كونه منزهاً ومشبهاً. فصدر المتألهين لم يتدارك ما يستلزم به القول الاخير من جواز صدور الكثرة عنه باعتبار هاتين الحيثيتين، استناداً الى ما هو متفق عليه من القواعد الفلسفية.

4ـ الجمع بين الاعتراف الفلسفي بان المادة هي اصل الشرور تبعاً لقاعدة (كل ما هو اكثر برائة من المادة فهو اقل شراً ووبالاً)، وبين الاعتبار الديني من ان ابليس والشياطين هما اصل الشر والضلال، رغم ان رتبتهما الوجودية اعظم من رتبة المادة وكثافتها.

 5ـ الجمع بين الاعتبار الفلسفي من ان الوجودات كلما كانت اكثر تجرداً كانت اشد كمالاً وتماماً، وبين الاعتبار الديني من ان الانسان قد ينزل الى مستوى يكون فيه منكوصاً اقل من الانعام درجة، او يتحول في ان يكون بمستوى القردة والخنازير.

6ـ الجمع بين الاعتبارات الوجودية التي تثبت ارادة الله تعالى لجميع اثاره وحبّه اياها باعتبارها افعاله، وبين الاعتبارات الدينية التي تؤكد بغضه ولعنه لبعض منها. وقد حاول صدر المتألهين ان يرفع هذا التعارض بان عدّ اسباب اللعن والبغض عائدة الى الاعتبارات الوجودية المتمثلة بالعدم، اذ حينما تكون الاشياء مشوبة بالعدم فانها تصبح مبغوضة ومطرودة من رحمة الله الخاصة. مع ان هذا الاعتبار لا يمكن تطبيقه على افراد البشر عند مقارنتهم بالكائنات التي هي اقل منهم وجوداً واكثر عدماً، كالحيوانات والنباتات، باعتبارها ليست موضعاً للعن والبغض مثلما هو الحال مع الناس الاشرار.

7ـ الجمع بين اعتبار الموت امراً كمالياً، وبين تقرير كون الكافرين ينتابهم العذاب عند الموت الى الدرجة التي يتمنون فيه ان يكونوا تراباً.

 8ـ الجمع بين الاعتبار الوجودي من كون العذاب هو من اللوازم الفعلية للاعمال القبيحة، وبين الاعتبار المعياري في نفي العذاب الدائم.

9ـ الجمع بين الاعتبارات الفلسفية القائلة بضرورة ازلية الفيض وابديته واستحالة عدم الكائنات او خلقها من العدم تبعاً لمنطق السنخية، وبين الاعتبارات الدينية التي تقر بان الله قادر على ان يخلق السماوات والارض في لحظة واحدة، كما وله القدرة على افنائهما متى شاء في اي لحظة، وان الدنيا ستفنى بقيام الساعة الكبرى، كالذي صرح به صدر المتألهين.

 

تهافت العقل الكلامي

ليس هناك أدلّ على فشل علم الكلام العقلي وتهافته من الإعتراف الذي سجله الكثير من أصحابه المتأخرين، وهو إعتراف جرى لدى كل من أتباع المنطقين لهذا العلم، وأغلبهم كان ينتمي إلى المنطق الذي سميناه بمنطق (حق الملكية) والمتمثل بالأشاعرة. فتارة كان هؤلاء يعبّرون عن فشل طريقتهم بما هو معهود لدى الممارسة الكلامية، وأخرى بما هو صريح لدى الممارسة العقلية بإطلاق. ووصفت هذه الممارسة بأنها مضرة تبعث على إثارة الشبهات، وتحريف العقائد ومحوها، وكما صرح الإمام الغزالي في (احياء علوم الدين) أنه تبعاً لتبحره في الكثير من العلوم ومنها علم الكلام فإن الطريق إلى حقائق المعرفة من الوجه الخاص بعلم الكلام مسدود. وهو وإن رأى أن هذا العلم لا ينفك عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، لكن على رأيه أن ذلك لا يكون إلا في النادر[72].

والذين تضرروا من الممارسة العقلية الصرفة لهذا العلم كثيرون. وما يجمعهم هو الإعتراف بأنهم لم يحصلوا على شيء من الدراية والحقيقة، رغم طول هذه الممارسة، وكل ما جنوه هو الندم على ما أصابهم من الشك وتضييع العمر. وكما قال شمس الدين الخسروشاهي، وهو من تلامذة الفخر الرازي: والله ما أدري ما أعتقد، مكرراً ذلك ثلاث مرات ثم بكى[73]. وكان الخونجي المصنف في أسرار المنطق والذي سمى كتابه (كشف الأسرار) قال لما حضرته الوفاة كما حكى عنه التلمساني: أموت ولم أعرف شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب، والإفتقار وصف عدمي، أموت ولم أعرف شيئاً[74]. ومثل ذلك نُقل عن التلمساني والكاشي[75]. وقال آخر: «اضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء، ومن يصل إلى مثل هذا الحال إن لم يداركه الله بالرحمة والإقبال تزندق وساء له المآل»[76]. واستغفر آخر حين دنت وفاته بعد ما خاض في الكلام ويأس، وقال: «نهاية ما علمتُ بالنظر والفكر أني علمت أنني ما علمت شيئاً». وقال البعض: «أكثر الناس شكاً عند الموت أرباب الكلام»[77].. واستغاث آخر بأرباب الفكر فلم يجد من يغيثه سوى رب العامة، وكما وصف حاله بقوله: «استغثت برب الفلاسفة فلم يغثني، واستغثت برب الجهمية فلم يغثني، ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني، ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني، لكني استغثت برب العامة فأغاثني»[78].

ولم يكتف البعض بندامته، بل دعا في نهاية المطاف إلى دين العجائز، ومن ذلك ما نُقل عن الجويني أنه قال: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام. فلو عرفت أن الكلام يبلغ إلى ما بلغ ما اشتغلت به». وقال عند موته «لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لإبن الجويني. وها أنذا أموت على عقيدة أمي وعلى عقيدة عجائز أهل نيسابور»[79]. كما فعل محمد عبد الكريم الشهرستاني ذات الشيء فدعا إلى «دين العجائز» وعدّه «من أحسن الجوائز»[80].

ومنهم من عبّر عن هذه النهاية من الإفلاس والندم بأبيات من الشعر، كالشهرستاني وإبن أبي الحديد المعتزلي.

لكن أعظم من تجسدت في نفسه هذه المحنة هو الفخر الرازي. فهو بعد طول البحث وعمق التبحر في العلوم العقلية وتتبع حججها جنى كل تلك النتائج من الندم والشك والإعتراف بالضياع، وبرر حالة الشك في العلوم العقلية بمبررات منطقية. ومما نُقل عن ندمه قوله: «ياليتني لم أشتغل بعلم الكلام»، وبكى. وجاء في هذا الصدد أن بعث إليه إبن عربي رسالة قال فيها: «لقد أخبرني من أثق به من إخوانك وممن له فيك نية حسنة جميلة أنه رآك وقد بكيت يوماً فسألك هو ومن حضر عن بكائك، قلت مسألة اعتقدتها منذ ثلاثين سنة تبين لي في الساعة بدليل لاح لي أن الأمر على خلاف ما كان عندي فبكيت، وقلت ولعل الذي لاح أيضاً يكون مثل الأول..»[81].

وتعدّ مرحلة الفخر الرازي مرحلة حاسمة بالنسبة إلى الحركة الكلامية. فهي تمثل شكلاً من المفارقة بما تحتضنه من مظهرين متنافيين، فقد بلغت هذه المرحلة أقصى حد ممكن من التطور، وظهر أثرها لدى الصياغة الكلية لقانون علاقة العقل بالنص، لكنها مع ذلك أنهت دور العقل الكلامي من الحياة الفكرية الفاعلة. فقد تمّ التخلي عن العقل والقضاء عليه بعد الإعتراف بعجزه وتناقضاته، وذلك من قبل ذات الشخص الذي سبق له أن بالغ في قيمة النتائج العقلية المحضة ورجحها على النص فيما سماه بالقانون الكلي للتأويل.

والملفت للنظر هو أن أغلب من وقع في الشك والندم هم الأشاعرة، والكثير منهم لجأ إلى العرفان والتصوف كتعويض لما فقدوه من قطع ويقين عند ممارستهم للكلام الأشعري. ويعود سبب ذلك إلى طريقتهم المضطربة، فلا هي عقلية ولا هي بيانية، خلافاً للطريقة البيانية بإعتبارها متسقة، وكذا هو الحال مع طريقة المعتزلة ومن على شاكلتها.

وعموماً أصبح علم الكلام علماً ميتاً شُلّت حركته نهائياً، ولم يعد ثمة من يجدد هذه الحركة طبقاً للموازين المعهودة سابقاً. فقد جسدت الممارسة العقلية جملة من التناقضات كان آخرها تلك التي اعترف بها الفخر الرازي. فمنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لم يكن هناك من يجدد للعقل إعتباراته ويصحح مفاهيمه ومنهجه، بل ظلت الممارسة العقلية تتحرك على نفسها باللف والدوران، وتضاءلت هذه الحركة شيئاً فشيئاً باضطراد، وأخذت المفاهيم الاجرائية التي وظفها هذا العلم بالضمور والإختفاء، كما ذهب الكثير من موضوعاته ولم يعد بالإمكان احياؤها من جديد. بل ولم يعد هناك من يحتفي بهذا العلم أو يشيد بإعتباراته مقارنة بغيره من علوم البيان ضمن دائرة النظام المعياري، أو حتى ضمن النظام الوجودي كعلم العرفان مثلاً. لكن رغم هذا وذاك فقد نجح هذا العلم فعلاً في تحقيق ما استهدفه من تكوين عقائد مذهبية مغلقة يصعب زحزحتها أو الإجتهاد فيها رغم مضامينها الضيقة والضعيفة.

***

أما تحديد مشاكل علم الكلام، والتي كان بعضها كفيلاً بأن يفضي به للوقوع في الشلل المزمن من غير قدرة على النهوض، فهي كما يلي:

1ـ يعاني علم الكلام من مشكلة الانقسام على نفسه بين منطقين متعارضين تمام التعارض، وهو ما لم نجده لدى الفلسفة. فرغم ان علماء الكلام العقليين يتفقون على أصالة العقل بكونه الأساس المعتمد عليه في حل المشاكل التي تعترضهم، إلا أنهم غير متفقين على قواعد هذا العقل وأصوله المعرفية المعتمدة، فهي اصول بعضها يعارض البعض الاخر، وكان من أبرز وأهم ما اختلفوا حوله هو قاعدة الحسن والقبح، وهي قاعدة يترتب عليها الكثير من المسائل والنتائج. في حين انه لدى الفلسفة هناك اتحاد في هذه الاصول، او ان هناك اتفاقاً على الاصل المولد رغم الاختلاف حول التفاصيل، وهو امر عادي يحصل في كل علم. لكن التلفيق الذي ابتلى به الفلاسفة قد يصعب أن نجد له شاهداً لدى المتكلمين.

2ـ الوقوع في خندق الآيديولوجيا (المذهبية). فقد بنى علم الكلام بنياناً أصبحت فيه المذهبية، كإنتماء إجتماعي، أساس تكوين العلم لا العكس.

فحيث أن الشاغل الأعظم للكلاميين الأوائل هو ليس تأسيس العقيدة الإسلامية من الخارج والرد على خصومها، بل هو تأسيسها من الداخل بالفهم والإجتهاد، لذا فقد سهّل ذلك على صياغة منظومات تعددية أفضت إلى أن تكون مذاهب كلامية متبعة بحسب الإنتماء الإجتماعي، وكذا السياسي، وليس بمحض البحث والتحقيق. الأمر الذي ولّد حالة من الإنغلاق حجبت الممارسات العقلية الكلامية عن القيام بدور إجتهادي، ولم يعترف للكلام بالطابع العلمي بعد أن انتهى إلى ممارسات جدلية ممذهبة، وأصبح العمل المعرفي مساقاً بآيديولوجيا المذهب عوض أن يساق بإبستيميا الحقيقة، ومن ثم أُغلق باب البحث والتفكير وعلا مكانه باب التضليل والتكفير، رغم ما انطوت عليه تلك الممارسات من تناقضات مفضوحة.

3ـ يلاحظ أن علم الكلام لم يقم بتحليل العقل الذي اعتمد عليه في البحث الكلامي، ولم يكشف عن أبعاده وما يترتب عليها من نتائج. ومن ذلك أنه لم يفرّق بين العقلين القبلي والبعدي، فكلاهما تمّ التعامل معهما بنفس النسق والإعتماد، بل غالب الأمر أنه اتخذ من العقل القبلي أداة للنظر في توليد النتائج الإخبارية الكاشفة عن الأبعاد الخارجية ومنها مداليل النص والواقع الموضوعي. وهو ما جعله يحمل مضامين هشة وضعيفة، فأفضى به الأمر إلى الإعتراف بالعجز والتناقض مثلما حصل مع الفخر الرازي وغيره كما أشرنا.

4ـ يلاحظ أن المتكلمين بمختلف إتجاهاتهم وإعتباراتهم القائمة على فكرة الحق بين المكلِّف والمكلَّف - كما عرفنا - لم يعالجوا موضوعاتهم إلا على ضوء تبرير الفعل الإلهي، وبالتالي فإن شاغلهم المعرفي كان مكرساً في إطار المكلِّف لا المكلَّف، وأن دائرة (الحق) يراد بها أساساً البحث في إشكالية حق المكلِّف، مما يعني تغييب البحث المخصص بإشكالية الحق العالق بالمكلَّف. فالجهد الكلامي هو جهد (ميتافيزيقي) حجب ذاته عن التفكير في الواقع ومعالجة إشكالياته.

5ـ طالما أن لعلم الكلام اعتبارات متضادة ومتناقضة؛ فإن ذلك قد جعل من فهم النص وفقاً لضابط (الإمكان والإستحالة) عسيراً. فما يكون لدى بعض الإعتبارات ممكناً، يكون لدى البعض الآخر مستحيلاً. فالإعتبارات التي يعوّل عليها منطق الحق الذاتي هي غير تلك التي يعوّل عليها منطق حق الملكية. والأمر لا يتوقف عند حدود التباين والإختلاف بين هذين النوعين للإعتبارات، بل يصل إلى حد التضاد والتناقض في تطبيق القاعدة العقلية الخاصة بـ (الإمكان والإستحالة). فالكثير من قضايا النص التي يفهمها المنطق الأول بأنها مستحيلة؛ يراها المنطق الثاني ممكنة، والعكس بالعكس.

وبعبارة أخرى، إن المعارض العقلي للدليل اللفظي يخضع لإعتبارين متضادين وفقاً للمنطقين السابقين، فتأويل النص الذي يحدده أحدهما طبقاً لإعتبارات المعارض العقلي هو غير ما يراه الآخر، لإختلاف طبيعة هذا المعارض. وهكذا فإن العقل يتناقض بتناقض إعتباراته، ومنه ينشأ التناقض في القانون الكلي للمعارض العقلي (أي ترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي)، ومن ثم التناقض في فهم النص الديني.

لذا فالتعارض في الإعتبارات العقلية يخلّ بهدف علم الكلام في ترجيحه للدليل العقلي على اللفظي. إذ لما كانت هذه الإعتبارات متعارضة؛ فكيف يمكن جعلها مرجعاً يُستند إليه في الحكم؟ وكيف يُعتمد عليها في إثبات المسألة الدينية أو تأسيس الخطاب من الخارج؟ وما هو نوع العلم والقطع الذي تفضي إليه كما يدعيه أصحابها؟ وبالتالي ما المانع من أن تكون هذه الإعتبارات، الموصوفة بالأدلة والبراهين العقلية، زائفة وهمية كما يصورها لنا أصحاب الدائرة البيانية؟

إذاً لا يمكن قبول القاعدة المنهجية لدى أصحاب هذه الدائرة والقائلة بضرورة القطع بعدم وجود المعارض العقلي في الدليل اللفظي. إذ أن هذا المعارض لا يستغني بدوره عن الحاجة للفحص والنظر بمنطق آخر مختلف لملاحظة ما إذا كان مقبولاً أو لا[82]؟

***

وعموماً ان طرق التفكير التي جرت في تراثنا الاسلامي كانت تعاني من مشاكل مزمنة ثلاث كالتالي:

أولاً: إنها لم تمارس المراجعة النقدية المتواصلة لفحص مفاهيمها ومقولاتها، لكونها من المذاهب الدوغمائية التي لا تشكك في مقالاتها.

ثانياً: إنها غيبت الإعتبارات الخاصة بالواقع، فحتى الإتجاهات العقلية كانت إتجاهات تجريدية، أو أنها تعاملت في الغالب وفق العقل القبلي وليس البعدي، بل لم يحصل آنذاك تمييز بين هذين النوعين من العقل.

ثالثاً: إنها إستندت في الأساس إلى الإعتبارات المعرفية الخاصة دون المشتركة. بل وأن إعتباراتها والنتائج المترتبة عليها كانت تجريدية في كثير من الأحيان، الأمر الذي يصعب إخضاعها للإختبارات الواقعية المباشرة. وهذا يعني أنها تقوقعت ضمن دوائر مغلقة من التصورات والمنظومات الذهنية التي يتعذّر إختراقها وفحصها من الخارج، أو جعلها تحتكم إلى المنطلقات العامة المتمثلة بالواقع والأصول العقلية المشتركة، وكل ما يمكن فعله هو الفحص المنطقي غير المباشر[83]، وكذا الفحص الضمني لتبيان ما قد تفضي إليه من تعارضات ذاتية أو ضمنية، كالذي فعلناه في عدد من كتبنا.

 

العقل المطلوب

ليس العقل المطلوب هو العقل المجرد كما يتمثل بالمنظومتين الفلسفية والكلامية، بل نرى ان هناك نوعين من العقل يتوجب حضورهما، هما العقل البعدي القائم على دراسة الواقع والتزود بنتائجه، والعقل الوجداني والبديهي.

فابتداءاً لا غنى عن المراجعة النقدية المتواصلة للفكر الديني، أي مراجعة نقد الذات على التواصل. إذ لا يمكن تحقيق تطور نوعي ملحوظ من غير هذا المبدأ، كالذي حصل مع العلم الحديث في قطيعته مع القديم[84].

كما لا بد من تأسيس المعرفة – بما فيها تلك المعنية بتأسيس الخطاب من الخارج والداخل - طبقاً للإعتبارات المشتركة لا الخاصة، إذ كانت المشكلة التي واجهت الدوائر المعرفية للفكر الديني، ومنها الدائرتين الفلسفية والكلامية، هي أنها شيدت أنظمتها وفقاً للإعتبارات الخاصة لا العامة، وهذا ما جعلها تلاقي الكثير من المشاكل والإعتراضات، وكان أهمها إفتقارها للوثوق المعرفي. وبعبارة اخرى، لقد جرّب الفكر المتحقق الديني العمل وفق الإعتبارات الخاصة دون نجاح، وهو لم يجرّب بعد العمل وفق الإعتبارات المشتركة. وحيث أن هناك نسقاً منطقياً يتحكم في العلاقة بين المعرفة والوجود والقيم، لذا كانت المهمة الملقاة على عاتق الإعتبارات المشتركة؛ الإنطلاق من البعد المعرفي ليتم بناء كل من النسقين الوجودي والقيمي.

ويمكن تحديد الإعتبارات المشتركة بكل من:

1ـ إعتبارات حقائق الواقع الموضوعي.

2ـ الإعتبارات الرياضية الثابتة.

3ـ الإعتبارات المنطقية الواضحة كمبدأ عدم التناقض.

4ـ الإعتبارات العقلية المشتركة كمبدأ السببية.

5ـ الإعتبارات الوجدانية المشتركة كالتسليم بحقيقة الواقع الموضوعي العام.

6ـ الإعتبارات القيمية المشتركة، مثل الإعتبارات الأخلاقية وعلى رأسها قاعدة العدل.

كذلك لا بد من التمييز بين العقل القبلي والعقل البعدي، وهو ما لم يكن معروفاً لدى التراث العربي الإسلامي. فما يعتمد على أحدهما هو غير ما يعتمد على الآخر، وأن القضية المدعمة بالأول لا تكون بقوة تلك المدعمة بالثاني؛ ما لم تكن من القضايا الوجدانية والبديهية واللوازم المستنتجة عنها، وعدا ذلك فإن القوة المعرفية التي يحظى بها العقل البعدي هي أكثر وثوقاً مما يحظى به العقل القبلي. وبحسب العقل البعدي فإن للدلالة الواقعية أهميتها الخاصة للكشف المعرفي، كما أن للدلالة النصية أهميتها للكشف عن مضمون الخطاب وبنيته. ويستعان في كلا الحالين بمنطق قرائن الإحتمال والإستقراء.

وما سبق سيضطرنا للدخول للتعرف على العقل البعدي أو الواقعي، ومن ثم النظام القائم عليه. وأول ما سيتم تحديده هو (الواقع) الذي يستند اليه هذا العقل..

إذ تتضمن جميع الدراسات الفلسفية والإنسانية والطبيعية معالجات مختلفة حول (الواقع). ورغم إختلاف مفهوم الأخير من دراسة لأخرى، إلا أنها جميعاً تتفق على مفهوم عام يعبر عن المعطى الموضوعي للأشياء، رغم ما لدلالة ‹‹المعطى الموضوعي›› من التباس. فجملة من المدارس الأدبية تركز على المعطى الموضوعي للطبيعة والحياة الإجتماعية المعاشة، وهي من هذه الناحية تعد نفسها واقعية بإعتبارها تلجأ إلى (الواقع) بعيداً عن الرومانسية الذاتية. وبعض المدارس الفلسفية ترى أن الواقع أو المعطى الموضوعي محدد بكل ما هو حسي وقابل للتجربة المباشرة. في حين ترى مدارس أخرى أن الواقع أعم من هذه الحدود، فهو ينبسط على إمكانات بعيدة عن الحس والتجربة المباشرة، كعالم الجسيمات الإلكترونية وما شاكلها. وقد يختلط الواقع هنا بعوالم أخرى مفترضة لا يعلم إن كان لها حقيقة موضوعية أم لا؟ فالأبعاد الهندسية للكون، كما يتحدث عنها العلم اليوم، تتجاوز حدود الحس والتجربة لتضفي صوراً أخرى يعدها العلماء مهمة للتقدم العلمي رغم أنها افتراضية ذهنية. ناهيك عن أن هناك مفهوماً آخر للواقع تضيفه الدراسات القيمية والمعيارية، كدراسات الأخلاق والفن والجمال، إذ لا علاقة للواقع الذي تتحدث عنه بالأمور الكونية، بل لها علاقة بالإعتبارات الموضوعية طالما أنها ليست صنيعة الذات البشرية.

على هذا، فرغم شدة وضوح مفهوم الواقع لدى بعض الأبعاد والمعطيات، لكنه يكتنفه الغموض في أبعاد أخرى. ومن وجهة نظرنا أن للواقع أبعاداً واسعة تغطي المعاني الكونية والنفسية والإجتماعية والمقتضيات المعيارية وما تتضمنه من سنن وعلاقات، ويمكن أن نصفها - جميعاً - بعالم الشهود. فأدنى أبعاده مرتبة العالم المادي المحسوس، لكنه يزيد على ذلك فيشمل كل ما هو قابل للكشف المعرفي الموضوعي وإن ابتعد عن الإدراكات الحسية. ومن خصائص الواقع الكوني أنه موجود بغض النظر عن الإدراك العقلي، فسواء أدركته الذات البشرية أم لم تدركه، وسواء كان الإنسان موجوداً أو معدوماً، فإنه يمتلك وجوداً مستقلاً أخص من الوجود العام الذي تتدارسه الفلسفة القديمة عموماً. وهو بهذا المعنى يختلف عن عالم الغيب رغم أنهما موضوعيان يقابلان الذات أو العقل البشري. لكن يضاف إلى ذلك الواقع النفسي، بما يعبر عن مختلف الحالات التفسية للبشر كالتي يدرسها علم النفس وتبنى عليها العلوم الإنسانية الأخرى، وميزته أنه غير مستقل عن الإنسان.

وعموماً ينقسم الواقع إلى قسمين: وصفي وإعتباري. ويختص الأول بالواقع التقريري أو الإخباري، سواء كان محسوساً أو غير محسوس، وهو يشمل كلاً من السنن والحقائق، الكونية منها والبشرية، مثل سنة الحياة والموت، وسنة تفاعل الإرادة البشرية مع القوانين الكونية، وحقيقة كروية الأرض، وجريان الشمس، ومختلف حقائق عالم الحس والفضاء وغيرها. يضاف إليها الحقائق التاريخية، والتقاليد والأعراف العامة وما إليها. وبالتالي فالواقع الوصفي على أنواع ثلاثة: حقائق خاصة محسوسة وغير محسوسة، وحقائق عامة من السنن والقوانين الحتمية، وسنن إجتماعية وتقاليد وأعراف عامة؛ مما لا يصل مداها إلى الحتم واللزوم[85].

أما الواقع الإعتباري فهو يختص بقضايا القيم مثل إعتبارات المصالح والمضار، إذ يمكن إعتبار القيم الحسنة منشأً للغرض والمصلحة الواقعية، فالقيم من هذه الناحية ترتبط بالواقع إرتباطاً وثيقاً. فللقيم الحسنة آثارها الواقعية من المصلحة الأكيدة، وأن كشف العقل عن قضايا الحسن هو كشف عن المصالح أيضاً، فما من شيء حسن إلا وفيه مصلحة راجحة. فمثلاً يعتبر مبدأ الصدق حسناً إذ تترتب عليه آثار المصلحة العامة؛ حتى وإن كان مفصولاً عن النية والدافع الأخلاقي، فلو أن الأصل في الحياة هو الكذب لعجز الناس عن معرفة الحقائق إلا ما ندر، ولترتب على ذلك فقدان الثقة التي يتوقف عليها إمكان التواصل في العلاقات الإنسانية. وقد اتضح من خلال الدراسات الحديثة مدى أهمية مبدأ الثقة في العلاقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والعلمية وغيرها[86].

وننبّه إلى أن النهضة الغربية لم يكن بمستطاعها أن تنجح لولا ما شكّله الواقع من حضور في الوعي الاوروبي. ودلّ على هذا الحضور أن الغربيين جعلوا الواقع أساساً للحقائق المستخلصة عبر الإستقراء والتجربة، بعد الإنتفاض على الطريقة الأرسطية ذات التفكير المتعال. فقد كانت الأخيرة تعد العقل أساس الواقع؛ وجوداً وحكماً، فمن حيث الوجود اعتبرت الواقع إفرازاً للعقل لا العكس، أما من حيث الحكم فقد اعتبرت العقل مرآةً للواقع، وأن للأول قدرة على كشف الثاني، وكذا فإن قوانين الأول مطابقة للآخر من غير حاجة لإعمال الفحص والتجربة. وقد أعاد الفكر الغربي تركيب الصياغة بين المحورين لصالح الواقع بنقض المقولتين معاً. فلا العقل أساس الواقع، ولا أنه مرآة مطابقة له بالضرورة، بل الأمر يعود إلى ما يمكن كشفه من حقائق عبر مبدأ الإستقراء والتجربة.

أما الفكر الإسلامي فهو وإن استحضر ‹‹الواقع›› بين جوانحه بنوع ما من الحضور، إلا أنه مختزل إلى حد بعيد، لذا لم يتشكل عليه وعي كاف يبدي قيمته، بل كان غيابه أقرب للحقيقة من حضوره. فإذا نظرنا إلى العلوم العقلية نجد أن ما شغلها كان بمعزل عن الواقع، إذ هيمنت إشكالية العقل والنص على هذه العلوم دون إلتفات إلى أهمية الأخير. يضاف إلى أن القضايا المطروحة كانت متعالية على الواقع وإشكالياته. فمثلاً لم يكن هناك إهتمام بعالم الإنسان وعلاقاته الإجتماعية والحضارية. أما على صعيد العلوم النقلية فنحن وإن وجدنا جملة من الإعتبارات التي تمّ فيها توظيف الواقع بمظاهر متعددة، كما في مبدأ العرف والمصلحة الفقهية، إلا أن ذلك كان يجري ضمن جدول ثانوي مهمش مقارنة بالجداول الرئيسة المعتمد عليها، مثلما هو الحال مع نمط التفكير المستمد من دوائر البيان النصي والقياس. ناهيك عن أن هذه المظاهر كانت مكبّلة بقيود خاصة لا تتلائم مع آلية الإنفتاح على الواقع بكافة أبعاده. وعليه لم يكن للأخير من دور ولا حضور، بل ولم يلتفت إليه على مستوى الوعي الكافي، باستثناء عدد من الشذرات المنبهة على بعض إعتباراته وخصوصياته، هنا وهناك، لكنها مع هذا لم تستطع أن تتغلب على الحركة العامة التي سارت بإتجاه آخر مختلف.

وبعبارة أخرى أن ما وصفه (فرانسيس بيكون) من أن المنطق الأرسطي لم يعر أهمية للواقع، بل سرعان ما كان يصدر أحكامه وإطلاقاته[87]، هو عينه ينطبق على الفكر الإسلامي وصلته بالواقع. فلم يستعن هذا الفكر بالأخير ولم يحتكم إلى مرجعيته في الأحكام وتمحيص المقدمات، بل كان مقيداً ضمن دائرة العقل والنص دون أن يتعداهما، الأمر الذي جعل مصيره يؤول إلى ‹‹الإفلاس›› والسقوط في خندق التناقض، مثلما انكشف الحال لدى الفخر الرازي وغيره من أصحاب علم الكلام. فقد أخذ ‹‹العقل›› يصطدم بذاته ضمن حلقة مفرغة من التناقض دون خلاص، سيما أنه لم يُطرح على بساط التحليل لتتحدد إمكاناته وأنماطه وقيمه، إنما عُوّل عليه تعويلاً مطلقاً كمصدر للحقيقة، وكأساس تبنى عليه المعارف الأصولية، رغم ما تضمّنه من مقدمات متناقضة أو غير متفق عليها. لذلك عجِزَ العقليون عن أن يثبتوا أصول الدين وعدد من القضايا العقائدية الأخرى؛ طالما أظهر ‹‹العقل›› تناقضاته ولم يستعن بالواقع وأدواته لحل ما إعترضه من قضايا، كالحال مع مسألة القضاء والقدر التي لم تطرح من زاوية البحث الواقعي، بل عوّلجت عقلياً، فاختلفت العقول واصطدمت فيما بينها، ووظفت لأجل ذلك النصوص من الآيات، وكانت النتيجة أن جُعل بعضها يضرب البعض الآخر. مع أنه كان من الممكن تفادي كل ذلك فيما لو اُستنطق الواقع واُستلهمت حقائقه. فهو كتاب الله التكويني، مثلما أن النص القرآني كتابه التدويني.

ونفس الحال نجده مع الدائرة البيانية التي راهنت أن ترى الحقيقة من زواية النص فحسب. فقد شهدت هي الأخرى قصوراً وتناقضاً لعدم إتخاذها الواقع مصدراً معتمداً في التحقيق. وأصبح من الواضح أنه كلما امتد الزمن كلما تحول البيان إلى متشابه، فلم يعد البيان بياناً. فالذين قيدوا أنفسهم بالبيان وإعتباراته اللفظية وجدوا أنفسهم بعيدين عن حركة الحياة ومسار الأحداث، حتى إعترف بعضهم بمنطق الإنسداد لشدة التشابه مع تقادم الزمن.

فالذي أسقط البيان في القصور هو ذاته الذي أسقط العقل في المآل نفسه، وذلك لعدم الإحتكام إلى منطق الواقع وإعتباراته في التحقيق، ومن ثم رسم العلاقة التي تربط هذه الأبعاد الثلاثة ببعضها.

لذا نشدد على ضرورة أخد ‹‹الواقع›› في الإعتبار وإحضاره بوعي على مستوى التأسيس، كنظام ومنهج غرضه دفع الفكر الإسلامي نحو آفاق مفتوحة غير قابلة للإنغلاق، بعد رفع اليد عما ساد من نمط التفكير الذي حدده النظام المعياري، سواء في منهجه العقلي، أو منهجه البياني وطابعه الماهوي.

فالعقل المطلوب هو ذلك المحدد بالنظام الواقعي، او بجعل الواقع أساس التفكير والتكوين المعرفي بعد البديهات العقلية والمنطقية، ومنه يمكن تقديم الرؤية الخاصة بالفهم الديني كنظام يختلف عن النُظم المتعارف عليها في الفهم. فإذا كان تراثنا المعرفي يحمل نظامين معرفيين، فإن ما نحتاج إليه هو نظام آخر يتلافى المشاكل التي لحقت بهما، وبالتالي كان لا بد من نظام جديد يوظف إشكالية الواقع كطرح مضاف إلى الإشكالية التقليدية الخاصة بالعقل والنص، وهي الإشكالية التي أفرزت علاقتين مختلفتين، إحداهما لصالح العقل في قبال النص والواقع كما في علم الكلام، والأخرى لصالح النص أو البيان في قبال العقل والواقع كما في علم الفقه. أما الإشكالية التي يبدي فيها الواقع نوعاً من السلطة والهيمنة فقد ظلت غائبة لم تظهر على مسرح الفكر الإسلامي، سواء في علومه العقلية أم النقلية، الأمر الذي جعل هذا الفكر يصل إلى نهاية مسدودة؛ لعدم سلوك الطريقة الواقعية في التفكير، وهي الطريقة التي تجند العقل ليفكر في صور الواقع وتجاربه وحالات جدله مع النص وما ينتزع عنه من فتاوى وعقائد.

وأهم ما يميز النظام الواقعي عن النظامين الوجودي والمعياري، هو أن هذين النظامين قائمين على دعاوى خاصة غير مشتركة، فهي دعاوى تحتاج في حد ذاتها إلى تحقيق؛ إن كانت تُقبل أو لا تُقبل؟ ولمّا كانت هذه الدعاوى مؤسسة على قضايا قبلية دون أن يكون لها مساس بالعقل البعدي؛ لذا كان التحقيق فيها إما غير ممكن لتجردها عن الواقع، أو أنها رهينة التحقيق الواقعي، وهو المعيار الذي يستند إليه النظام الواقعي. فالتمييز بين هذا النظام وغيره هو أنه يعتمد على العقل البعدي، ويتقوم بالقبليات المشتركة التي يقرّها الوجدان الفطري، ومن ذلك ما يتعلق بمنطق الإستقراء والإحتمال[88]، الأمر الذي يجعله قابلاً للتجديد والتطوير والإثراء؛ لإتكائه على الواقع الثري بالمعاني.

وبحسب هذا النظام فإن علاقة الواقع بفهم النص تتخذ إعتبارات متعددة كالتالي:

فابتداءاً أننا نعي بأن للواقع أثره الحاسم في تغيير آرائنا وتوجهاتنا على مختلف الصُعد المعرفية؛ بما فيها العلوم الإسلامية. فحركة الواقع أشبه بكتاب تتفتح صفحاته لتظهر الحقائق بالتدريج شيئاً فشيئاً. لذلك يمكن الإستفادة من هذه الظاهرة المتفتحة بتحويل الواقع إلى منطق عام يوظف لكسب المزيد من المعرفة وتقييم صور فهم النص المختلفة. فنحن نواجه – في هذه الحالة - صورتين مختلفتين لعلاقة الواقع بفهم النص. إذ نعمل بحسب الصورة الأولى على مراقبة جريان الواقع وعلاقته بالنص وفهمه، دون أن يكون لنا دور في هذه العلاقة الخارجية، وسواء كنّا على وعي أو على غير وعي بذلك؛ فإن للواقع حكمه وسلطته في رسم العلاقة التي يؤثر فيها على فهم النص. وهي من السنن الموضوعية، ويمكن تحديدها كالتالي: كلما تغيّر الواقع؛ كلما أدى ذلك إلى تغيّر الفهم معه بإضطراد. وعلى هذه الوتيرة كلما اشتد تغيّر الأول كلما أفضى ذلك إلى زيادة تغيّر الثاني بالتبع[89].

وأكثر من هذا نقول بأن المفاهيم الأولية للذهن البشري لما كانت تُنتزع عن الواقع، وأن النص من حيث الأساس يستعين بلغة الواقع دون التعالي عليه، وإلا كان رموزاً بلا معنى محصل، فستكون النتيجة في النهاية بأن فهم النص لا يمكن أن يتقدم على فهم الواقع، بل سيصبح الأول مستبطناً للفهم الأخير. وهذا يعني أن جميع الدوائر المعرفية للفهم ستكون مسبوقة بالقبليات المتعلقة بإدراك الواقع ومفاهيمه. وحتى الدائرة البيانية لا يسعها فعل شيء من غير التسلح بمفاهيم هذا الواقع إبتداءاً، كالذي يُطلق عليه الفهم العرفي للنص والذي تعوّل عليه هذه الدائرة كأصل مولّد للفهم، حيث تتخذ منه إطاراً كلياً ومنطقاً عاماً لتسقطه على مختلف الأحوال والظروف ضمن ما نسميه المنطق الماهوي للفهم، من دون مراعاة ما يحمله ‹‹الواقع الآخر›› الذي يوازي الواقع الخاص بالتنزيل. وهو مورد إشكالنا على هذا الفهم..

أما بحسب الصورة الثانية فنحن نعمل على انتزاع بعض المبادئ من الواقع، أثر استكشافنا للنتائج المتمخضة عن صيرورته المشار إليها في الحالة الأولى، وبذلك يُحوّل ما هو موضوعي إلى حالة معرفية يقصد منها - إبتداءاً - تقييم الأمور وتحقيقها، ومن ثم استخلاص بعض المبادئ التي تساعد على ضبط العلاقة بين الواقع والنص، بغية تحقيق ما نطمح إليه من مقاصد وأهداف.

ومن الناحية المبدئية يتقدم الواقع على غيره من مصادر الكشف المعرفي، ويتميز بكونه يساعد على التحقيق في أصول العقائد، وأن له الفضل في الكشف عن حجية النص وإثبات المسألة الدينية برمتها، لا العكس، بمعنى أنه لولا الواقع لتعذّر معرفة كونه حجة، ولتعذّر الإلزام بأحكامه. كذلك فإنه يساعد على معرفة ما يتضمنه النص من معنى، سيما أن الأخير لم يتجرد في تنزيله عن الواقع الخاص، بل ظهر بينهما جدل تجلى بأشكال عديدة كالذي كشفنا عنه في (جدلية الخطاب والواقع)، وبالتالي فما لم يؤخذ الواقع الخاص بالإعتبار؛ فلا يمكن التعرف على دلالة النص.

يضاف إلى أن الواقع يساعد على الكشف عن طاقة النص وإمكاناته للتطبيق، مثلما يساعد على معرفة ما يتضمنه الأخير من مصداقية دينية أو تزوير، كالحال مع نصوص الحديث التي يمكن تعريض الكثير منها للكشف الواقعي والتجريبي. كذلك تبرز أهمية الواقع عند الإعتماد عليه كمعيار لترجيح النظريات الدينية وأنساق الفهم، كالذي فصلنا الحديث عنه في (منطق فهم النص)[90].

ومن الناحية الابستمولوجية تعود أهمية الواقع مقارنة بالنص، إلى أن الأخير ثابت لا يقبل التغيير والإفصاح عن نفسه بأكثر مما جرى فيه الأمر إبتداء، فهو يحمل نظاماً مغلقاً لا يسمح بإضافة المزيد، ناهيك عن كونه يعمّق ظاهرة الإبهام وعدم الوضوح كلما طال الزمن، خلافاً للواقع بإعتباره يملك نظاماً مفتوحاً يتقبل الإضافة دون إنقطاع، وهو بهذه الإضافة يكون أكثر وضوحاً كلما طال الزمن، مما يجعله مفتوحاً على المراجعة والتصحيح، أكثر فأكثر، كلما طرأ عليه شيء جديد. وهنا تبرز أهليته لأن يكون مرجعاً أساسياً للتصحيح. فهو يستقل بميزة القابلية على الإنفتاح الدائم، ومن ثم الكشف والتحقيق لتقييم النظريات، سواء تلك التي تُستخلص منه كالنظريات العلمية، أو تلك التي ترتبط معه بشيء من العلاقة، كالنظريات الفلسفية والدينية.

وعموماً يعاني الفكر الإسلامي من مشكلتين، إحداهما تتحدد بغياب الواقع، إما لعدم إدراك أهميته وجدواه، أو نتيجة الوهم القائل بأنه ليس من الطرق الشرعية الموصى بها. فسواء لهذا السبب أو ذاك فإن العلماء لم يفكروا في الإفادة من المبادئ التي يمكن انتزاعها من الكشف الواقعي والتي تحل لهم أزمة الصدام بين النص والواقع كلما تغيّر الأخير. أما المشكلة الأخرى فهي غياب البحث المنهجي للفهم. فلو كان هذا البحث حاضراً لأضحت العلاقة بين النص والواقع غير ما عهدناه في تراثنا المعرفي. وعليه فالفكر الإسلامي يعاني من مشكلة مزدوجة، لكن تظل المشكلة المباشرة التي يعانيها هذا الفكر تتمثل بالواقع بالذات.

 

 



[1]  قُدّمت هذه الدراسة لندوة عقدت لدى مؤسسة الفكر الاسلامي المعاصر ببيروت، يوم 21\10\2010.

[2]  تاريخ إبن خلدون، الطبعة الثالثة، مكتبة المدرسية ودار الكتاب اللبناني،1967م، ج1، ص821 وما بعدها.

[3]  محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 1988م، ص120.

[4] أمالي الشريف المرتضى، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي في قم، 1403هـ، ج2، ص125ـ126.

[5] المرتضى: رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف أحمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم في قم، 1405هـ. وتنزيه الأنبياء، منشورات الشريف الرضي في قم، ص14 و24 و93.

[6]  رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص56.

[7]  أبو جعفر الطوسي: الإقتصاد في الإعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون، طهران، ص162. والرسائل العشر، تقديم محمد واعظ زادة الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم، ص325.

[8] انظر بهذا الصدد مصادر فخر الدين الرازي التالية: أساس التقديس في علم الكلام، مطبعة كردستان العلمية في مصر، ص 210–211 . وأُصـول الدين، راجـعه وقـدم له وعلّـق عـليه طـه عـبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ ـ 1984م، ص25. ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، راجعه وقدم له وعلّق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، الطبعة الأُولى، 1404هـ ـ 1984م، ص71. كذلك انظر: چلبي، المولى حسن: شرح المواقف، طبعة حجرية قديمة، ج 1، ص 209.

[9]  ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل، تحقيق محمد رشاد سالم، ج1، ص20.

[10]  إبن الموصلي: مختصر الصواعق المرسلة لإبن القيم الجوزية، تصحيح زكريا علي يوسف، مطبعة الإمام 13، مصر، ص84ـ187.

[11]  المصدر السابق، ص60ـ83. 

[12]  ابن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، مكتبة الانجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص .227 – 226  

[13]  انظر حول ذلك كتابنا: نقد العقل العربي في الميزان، مؤسسة افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2009م.

[14]  صدر المتألهين: تفسير القرآن الكريم، حققه وضبطه وعلق عليه محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف، 1419هـ ـ 1998م، ج8، ص181.

[15]  تفسير صدر المتألهين، ج6، ص123.

[16]  صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري والسيد محمد حسين الطباطبائي، دار احياء التراث العربي في بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج3، ص127، وج6، ص302-303 و315، وج8، ص396. وأسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن إسلامي حكمت وفلسفه ايران، 1402هـ، ص95.

[17]  انظر حول ذلك كتابنا: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الثانية.

[18] جميل صليبا: المعجم الفلسفي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1414هـ ـ 1994م، ج2، مادة (المعيار)، ص399ـ400.

[19] انظر الفصل الأخير من كتابنا: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر، دار افريقيا الشرق، الطبعة الثالثة، 2010م.

[20]  نقل الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض المشايخ قوله: العلوم ثلاثة: علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو، وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الفقه والحديث (بدر الدين الزركشي: المنثور في القواعد، تحقيق تيسير فائق أحمد محمود، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، 1405هـ، عن مكتبة المشكاة الإسلامية الإلكترونية، ج1، ص71).

[21]  عن: متشابه القرآن للقاضي الهمداني، ج1، مقدمة المصحح عدنان محمد زرزور، ص38 و14.

[22]  انظر كتابنا: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر.

[23]  انظر حول ذلك كتابنا: فهم الدين والواقع، دار الفريقيا الشرق، الطبعة الثانية.

[24] الفارابي: احصاء العلوم، تصحيح وتقديم وتعليق عثمان محمد أمين، مطبعة السعادة في مصر، 1950هـ ـ 1931م.

[25]  بدر الدين الزركشي: البحر المحيط، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، فقرة 89.

[26]  المفيد: شرح عقائد الصدوق، وهو ملحق خلف أوائل المقالات، نشر مكتبة الداوري، قم، ص244. والطبعة الحديثة بعنوان: تصحيح الإعتقاد، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (5)، ص143.

[27]  أبو جعفر الطوسي: عدة الأصول، تحقيق محمد مهدي نجف، مؤسسة آل البيت، الطبعة الأولى، 1403هـ ـ 1983م، ص750. ومحمد امين الاسترابادي: الفوائد المدنية، ص238ـ239.

[28]  محمد باقر الصدر: بحوث في علم الأصول، تحرير محمود الهاشمي، المجمع العلمي للأمام الصدر، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج5، ص42. كذلك: دروس في علم الأصول، دار الكتاب اللبناني ـ دار الكتاب المصري، الطبعة الأولى، 1978م، ج3، ص35 وما بعدها.

[29]  ابو حامد الغزالي: المستصفى من علم الأصول، بحاشيته (فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه)، المطبعة الأميرية في مصر، الطبعة الأولى، 1322هـ، ج1، ص100 و217ـ218.

[30]  البحر المحيط، فقرة 1533 و1527. كما انظر التفصيل في: العقل والبيان والإشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الاولى، 2010م.

[31]  انظر مثلاً: ابو جعفر الطوسي: تمهيد الاصول في علم الكلام، انتشارات دانشگاه طهران، 1362هـ.ش، ص161. والسيوري الحلي: ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، ص273ـ274.

[32]  انظر التمهيد من: فهم الدين والواقع.

[33] إبن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، ص540ـ541.

[34] انظر حول ذلك:

Madden, E. H. , Introduction; Philosphy Problems of Phisics, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p. 57-58. And: Hempel, Geometry and Empirical science, in: The Structure of Scientific Thought, p. 79-80.

 

[35] تهافت التهافت، ص522 و339.

[36]  المصدر السابق، ص506.

[37] إبن سينا: الشفاء، المقالة الخامسة من كتاب النفس، طبعة جامعة اكسفورد، 1959م، ص249ـ250.

[38]  الغزالي: معارج القدس في مدارج معرفة النفس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ ـ1988م، ص142ـ144.

[39]  الفارابي: كتاب الحروف، عن الموسوعة الحرة الإلكترونية: http://ar.wikipedia.org ، ص29ـ30.

[40]  الفارابي: السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص64.

[41]  السهروردي: رسالة هياكل النور، وهي منشورة مع ثلاث رسائل للمحقق الدواني، تحقيق احمد تويسركاني، مجمع البحوث الاسلامية، مشهد، الطبعة الاولى، 1411هـ، ص87. والدواني: شواكل الحور في شرح هياكل النور، ص193.

[42] انظر حول ذلك الفصل الأول من: العقل والبيان والإشكاليات الدينية.

[43]  عبد الجبار الهمداني: المجموع المحيط بالتكليف في العقائد، تحقيق عمر السيد عزمي، مراجعة احمد فؤاد الاهواني، المؤسسة المصرية للتأليف والانباء والنشر، ج1، ص234. ولاحظ أيضاً: عدة الأصول، ج2، ص759.

[44]  انظر تفصيل هذه الرؤية وتحليلها في: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.

[45]  اللاهيجي: شرح رسالة المشاعر، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، نشر مكتب الاعلام الاسلامي في طهران، ص282. والتعليقات لابن سينا، ص50-51.

[46] تهافت التهافت، ص185ـ186.

[47]  تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج7، ص222.

[48]  تفسير صدر المتألهين، ج6، ص121.

[49]  سلطان محمد الجنابذي: بيان السعادة في مقامات العبادة، مقدمة سلطان حسين تابنده الجنابذي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1988م، ج2، ص16.

[50]  تفسير صدر المتألهين، ج3، ص138-139.

[51]  تفسير صدر المتألهين، ج4، ص234ـ235. ومفاتيح الغيب، ص167-168.

[52]  لاحظ ابن سينا: القسم الثالث من الاشارات والتنبيهات، ص311. والنجاة، ص689-690. والهيات الشفاء، ص427-428. كذلك: تفسير صدر المتألهين، ج2، ص231.

[53]  نصير الدين الطوسي: تلخيص المحصل، ص390. وصدر المتألهين الشيرازي: اسرار الايات، ص2-6 و9-10. ومفاتيح الغيب، ص115 . ومقدمة ابن خلدون، ص515 .

[54]  اسرار الايات، ص28.

[55]  لاحظ اسرار الايات، ص4.

[56]  المصدر السابق، ص.584

[57]  ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تقديم وتعليق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص .35

[58]  المصدر السابق، ص 45 و53–52 . كذلك: مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص3 .134-13

[59]  المصدر السابق، ص .53–52  

[60] عن: أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري، منشورة خلف الاربعين في دلائل التوحيد، حققها وعلق عليها وأخرج أحاديثها الفقيهي، حاشية، ص120.

[61] إستحالة المعية للشنقيطي، ص76، عن: منصور محمد عويس: ابن تيمية ليس سلفياً، دار النهضة العربية في القاهرة، الطبعة الأولى، 1970م، ص105ـ106.

[62]  عبد الجبار الهمداني: فرق وطبقات المعتزلة، دار المطبوعات الجامعية، 1972م، ص81.

[63]  أنظر الفصول الثلاثة الأخيرة من: الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية.

[64]  شرح الأصول الخمسة، ص599ـ600. والزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، ج2، ص75ـ76.

[65]  إبن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي، مصر، الطبعة الأولى، 1368هـ ـ1949م، ص50ـ51. وإبن رشد: تهافت التهافت، ص285. وصدر المتألهين: المبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح جلال الدين اشتياني، انجمن حكمت وفلسفه ايران، 1976م، ص423ـ424.

[66]  عبد القادر الاهري: الاقطاب القطبية، مقدمة وتصحيح محمد تقي دانتر بزوه، انجمن فلسفة ايران، ص60.

[67]  الاقطاب القطبية، ص88.

[68]  ابن سينا: رسالة اثبات النبوات، ص49-52. وتسع رسائل لابن سينا، ص86-87. وكذا لاحظ على هذه الشاكلة من التفسير: مجموعة رسائل السبزواري، ص441-446.

[69]  اسرار الايات، ص12-13. والمبدأ والمعاد، ص124-128.

[70]  اسرار الايات، ص46-47.

[71]  انظر التفاصيل في: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.

[72]  إبن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية، شبكة المشكاة الإلكترونية، لم تذكر أرقام صفحاته، فقرة  قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه).

[73]  شرح العقيدة الطحاوية، فقرة قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان).

[74] درء تعرض العقل والنقل، ج1، ص161. وإبن القيم: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته)، المقدمة. ومختصر الصواعق المرسلة، ص8ـ9.

[75]  جامع الاسرار، ص495ـ496.

[76] شرح العقيدة الطحاوية، فقرة قوله: فيتذبذب بين الكفر والإيمان.

[77]  ابن القيم الجوزية: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته)، الفصل الرابع والعشرون، ضمن فقرة الوجه الخامس والأربعون بعد المائة. والحسن بن محمد الشيرازي: رسالة الأذكار الموصلة إلى حضرة نور الأنوار، ضمن: رسالتان في الحكمة المتعالية والفكر الروحي، حققهما وعلّق عليهما وقدم لهما صالح عضَيْمة، باريس، 1406هـ ـ 1986م، ص93ـ94.

[78] الصواعق المرسلة، المقدمة.

[79] الصواعق المرسلة، المقدمة. وشرح العقيدة الطحاوية، فقرة قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان).

[80] شرح العقيدة الطحاوية، فقرة قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان).

[81]  رسالة إلى الإمام الرازي، ضمن رسائل إبن عربي، مطبعة جمعية دائرة المعارف، الطبعة الأولى. وابراهيم بن عبد الله القارئ البغدادي: مناقب إبن عربي، تحقيق صلاح المنجد، مؤسسة التراث العربي، 1959م، ص26.

[82]  أنظر بهذا الصدد القسم الرابع من: منطق فهم النص.

[83] انظر تفاصيل ذلك في القسم الأخير من: منطق فهم النص.

[84] انظر بشأن العلم الطبيعي:                                                                                                                   

 Wright, The Origins of Modern Science, The structure of Scientific Thought, p. 15 .

[85] انظر حول ذلك: القسم الرابع من: منطق فهم النص.

[86] انظر بهذا الصدد الفصل السابع من كتابنا: العقل والبيان والإشكاليات الدينية.

[87] فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1983م، ص364 وما بعدها. كذلك كتابنا: مدخل إلى فهم الإسلام، الخاتمة.

[88] انظر: منطق فهم النص.

[89] انظر القسم الثالث من: منطق فهم النص.

[90] انظر القسم الأخير من: منطق فهم النص. كذلك دراستنا بعنوان: فهم النص ومعايير التحقيق، مجلة المنهاج، عدد 55، 2009م.

comments powered by Disqus