-
ع
+

إبن تيمية والصراع مع الدائرة العقلية

يحيى محمد

مثلما جرى الصدام الذاتي بين إتجاهي الدائرة العقلية، فهناك صدام آخر حدث بين هذه الدائرة والدائرة البيانية، ويتحدد هذه المرة بنزاع الإعتبارات المتعلقة بفهم الخطاب، وهو النزاع الحاصل بين الإعتبارات العارضة والذاتية. إذ يعتمد الفهم لدى الإعتبارات العقلية على ما للعقل من مضامين قبلية، في حين أنه يعتمد لدى الإعتبارات البيانية على الظهور اللفظي للمسائل الخاصة بالخطاب الديني. ومعلوم أن النزاع بين هذين النوعين من الإعتبارات قد ظهر بعد التنظير الذي أسست له الدائرة العقلية حول علاقة العقل بالخطاب، ليس في الساحة السنية فحسب، بل والشيعية أيضاً، واتخذ أشكالاً شتى كان أعمقها ما ظهر لدى مدرسة إبن تيمية (المتوفى سنة 728هـ) كردّ فعل على التنظير المشار إليه.

ويلاحظ أن هناك نوعين من الصراع للبيان ضد العقل، أحدهما ينكر مصداقية العقل وممارساته، كالذي ينحو إليه محمد أمين الإسترابادي (المتوفى سنة 1033هـ) في الساحة الشيعية. في حين لا ينكر الآخر هذه المصداقية، بل يحددها بما يوافق البيان، كالذي ذهب إليه إبن تيمية في عدد من كتبه، أهمها (درء تعارض العقل والنقل)، إذ كشف فيه عن انتفاء المعارض العقلي للخطاب الديني، كردّ فعل على ادعاء العقليين بوجود هذا المعارض الذي استندوا إليه لتبرير الممارسات التأويلية التي حاربها أصحاب البيان بقوة.

ويتحدد موقف الدائرة البيانية من نظيرتها العقلية أساساً؛ لا بما قدّمته الأخيرة من إعتبارات التأسيس القبلي للنظر، ولا إعتباراتها حول تأسيس الخطاب من الخارج، بل بما لها من إعتبارات للفهم وتأسيس الخطاب من الداخل. فأهم ما فرض على الدائرة البيانية مواجهته هو المنهج العقلي لفهم الخطاب، إذ فيه يتحكم العقل بتحديد مضامين الأخير دون العكس.

فالصراع بين الدائرتين يدور حول العلاقة التحكمية بين العقل ونص الخطاب، فمَن يحكم مَن: العقل أم النص؟ فإذا كانت الدائرة العقلية ترى العقل حاكماً على الآخر لذرائع عدة؛ منها كون لغة النص مجازية، وأن المفاهيم المستخلصة من الخطاب ظنية، خلافاً لما يتصف به العقل من الإحكام والقطع، ولهذا يعد المصدر الوحيد لتأسيس الخطاب من الخارج، وبالتالي كان لا بد من قبوله للتأسيس الداخلي والعمل بممارسات التأويل.. فإذا كانت هذه هي ذرائع الدائرة العقلية لترجيح الدلالة العقلية على اللفظية، فإن الحال مع الدائرة البيانية هو العكس، بترجيحها النص على العقل، وجعل ما تذرّعت به الدائرة العقلية مردوداً عليها.

وبعبارة أدق، إن أصل المشكل في النزاع بين الدائرتين يعود إلى تحديد نوع المرجعية المعتمدة لفهم الخطاب وتأسيسه من الداخل؛ إن كان يتمثل بالعقل أو البيان؟ فلو تمثلت المرجعية بالعقل لكان من اللازم عرض الدليل اللفظي على الدليل العقلي ليُعرف ما إذا كان هناك معارض عقلي محتمل أم لا؟ أما لو تمثلت المرجعية بالبيان فسوف لا يحتاج إلى أي عرض من ذلك النوع، بل العكس هو الصحيح، حيث يُعرض الدليل العقلي على اللفظي ليُعرف ما سيُقبل أم لا؟

وينعكس هذا التضاد على الخلاف المتعلق بمسألة تأسيس الخطاب من الخارج، فأهم الحجج المطروحة لدى الدائرة العقلية لتبرير حاكمية العقل وترجيحه على النص، هي أن الأخير يكتسب حجيته من العقل ذاته، إذ لولا تأسيسه للخطاب من الخارج لما كان للنص حجة. فهذه هي الذريعة الأساسية التي يوظفها العقليون لتبرير مرجعية العقل وحاكميته للنص ضمن القانون الكلي للتأويل؛ والذي يتضمن توقف الدليل اللفظي على عدم وجود المعارض العقلي. فالذي يثق بالممارسة العقلية في التأسيس الخارجي؛ يتحتم عليه أن يثق بها في التأسيس الداخلي وفهم الخطاب. وقد أثارت هذه القضية العديد من الردود من قبل أتباع الدائرة البيانية، كتلك التي أدلى بها إبن تيمية.

محاور الصراع ضد العقل 

للدائرة البيانية عدة محاور للإشتباك مع الدائرة العقلية، سواء في الساحة السنية، كما في مدرسة إبن تيمية وردوده ضد العقليين، أو في الساحة الشيعية كما لدى محمد أمين الإسترابادي وردوده على الممارسات العقلية قاطبة. وسنحاول فيما يلي تسليط الضوء على محاور صراع مدرسة إبن تيمية مع الدائرة العقلية، إذ يمكن تحديدها بحسب الفقرات التالية:

1ـ معارضة الدليل العقلي بمثله 

لقد سخّر إبن تيمية كتابه (درء تعارض العقل والنقل) للردّ على الدائرة العقلية في قانونها الكلي للتأويل كما أفاده الفخر الرازي، والذي أشار إليه جملة من العلماء السابقين، كالجويني والغزالي، إذ ردّ على هذا القانون بأربع وأربعين وجهاً؛ ليبين انتفاء المعارض العقلي وينقض قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقاً وما يفضي إليه من تأويل حين المعارضة[1].

وقد استهدفت ردود إبن تيمية الواسعة على القانون الكلي للتأويل؛ اظهار عجز الدائرة العقلية من معالجة وتفهم مسائل الخطاب الديني التي تعرّضت للتأويل والإستبعاد، وعلى رأسها مسألة الصفات الإلهية. وأظهر إبن تيمية أن الطريقة العقلية المتبعة لا تستوعب كافة الإحتمالات الممكنة للقضية التي تعالجها، مما دفعه إلى تفصيل البحث في القضية الواحدة دون أن يولي لها صورة مطلقة كالذي فعله أصحاب هذه الدائرة. وكان من مؤاخذاته عليها أنها كثيرة الإختلاف والتضاد، بحيث تقع القضية الواحدة تحت حكمين متناقضين؛ كإن يعتبرها البعض بديهية أو مبرهناً عليها، في الوقت الذي يحيلها البعض الآخر بالبديهة أو البرهان.

لذلك فقد عارض إبن تيمية منطق العقليين بذات السلاح الذي استخدموه، وهو العقل، فكانت ردوده عليهم متشعبة، سيما حول مسألة صفات الله التي أجروا عليها التأويل، مثل الغضب والفرح والضحك والإستواء والنزول والعلو واليد والوجه والعينين والأصابع وما إليها.

ومعلوم ما للصفات الإلهية من أهمية لدى البيانيين، حيث قُدّر عددها بأكثر من ثلاثين صفة[2]، بعضها ورد في السنة دون الكتاب، ومنها ما جاء بأسانيد كثيرة مثل حديث النزول الذي رواه عشرون صحابياً كالذي صرّح به إبن الجوزي[3]، وزاد على ذلك إبن القيم فعدد رواة الحديث وأوصلهم إلى ثمانية وعشرين صحابياً ذكرهم بمسانيدهم[4]، وذكر في محل آخر أنه جاء في النزول أكثر من سبعين نصاً[5].

وعادة ما تبلغ الردود العقلية لدى إبن تيمية وتلميذه إبن القيم العشرات؛ منها ما قدمه إبن القيم من ردود على تأويل الدائرة العقلية لآية الإستواء، والتي بلغت إثنين وأربعين وجهاً من الرد[6].

ومن الناحية المنهجية وظف إبن تيمية مبدأ عدم التناقض في رده على العقليين، كما هو الحال فيما يتعلق بالموقف من الصفات الإلهية، حيث انتهى إلى النتيجة التي دلّ عليها الخطاب الديني من الكتاب والسنة. وملخّص طريقته هي أنه إذا لم يكن الشيء موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم إتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم. وأضاف إلى ذلك الفرح والغضب وعدهما من صفات الكمال، فهو يوصف بالفرح دون الحزن، والضحك دون البكاء. وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات، فتنزيه الخالق عنها أولى. فإذا قيل أن الرب إما أن يكون حياً أو عليماً أو سميعاً أو بصيراً أو متكلماً، أو لا يكون، كان مثل قولنا إما أن يكون موجوداً أو لا يكون، وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب، فيكون الآخر مثله، وبه يحصل المقصود.

كما ذهب إبن تيمية إلى وجوه أخرى للإستدلال العقلي، ومن ذلك أنه اعتبر المحل الذي لا يقبل الإتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها؛ هو أنقص من المحل الذي يقبلها ويخلو عنها، ولهذا كان الحجر ونحوه أنقص من الحي الأعمى. وحينئذ إذا كان الباري منزهاً عن نفي هذه الصفات مع قبوله لها، فتنزيهه عن إمتناع قبوله لها أولى وأحرى، إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين وإتصافه بالنقائص ممتنع، فيجب إتصافه بصفات الكمال، وبتقدير عدم قبوله لا يمكن إتصافه؛ لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص، وهذا أشد إمتناعاً فثبت أن إتصافه بذلك ممكن، وأنه واجب له، وهو المطلوب.

ومن الوجوه الإستدلالية الأخرى اعتباره بأن الخصم إذا جعل التقابل هو تقابل العدم والملكة وذلك فيما يمكن إتصاف الشيء بالثبوت، فعلى هذا يلزم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها حية ولا ميتة، ولا ناطقة ولا صامتة، في حين وصف القرآن الأصنام بالموت رغم أنها من الجماد، كما في قوله تعالى: ((والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون)) (النحل/20ـ21)، كما جرى وصف الأرض بالميتة في قبال الأرض الحية، ولو قيل أن الأرض تسمى مواتاً بإعتبار قبولها الحياة بإحيائها، أُجيب أن هذا يقتضي بأن الحياة أعم من حياة الحيوان، وأن الجماد يوصف بالحياة، إذا كان قابلاً للزرع والعمارة، وكذا هو الحال مع الأوصاف الأخرى مثل الخرس والنطق وما إلى ذلك. وبالتالي فإنه إذا كان من الممكن إتصاف الجامدات بما سبق، وأن الله قادر على أن يخلق في الجمادات الحياة، كما جعل عصى موسى حية تبتلع الحبال والعصي، وكذا بخصوص توابع الحياة، فتكون جميع المخلوقات قابلة للإتصاف بذلك.. فإذا كان هذا الإتصاف ممكناً في المخلوقات فإنه في الخالق أولى بهذا الإمكان.

كما يقال من وجه آخر أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ثابتة للموجودات المخلوقة وممكنة لها، فإمكانها للخالق أولى وأحرى، حيث أنها صفات كمال وهو قابل للإتصاف بها، وإذا كانت ممكنة في حقه ولم يتصف بها لإتصف بأضدادها. ومن وجه آخر يمكن أن يقال أن مجرد سلب هذه الصفات هي نقص لذاته، سواء سميت عمى وصماً وبكماً أو لم تسمَّ، والعلم بذلك ضروري، إذ لو افترضنا كائنين أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم، والآخر ليس كذلك، كان الأول أكمل من الثاني[7].

وعلى العموم، قرّر إبن تيمية جملة من القواعد العقلية التي تتفق مع ما عليه البيان، وبعضها ينافي ما لدى الدائرة العقلية، إذ قال: «قد علم بالعقل إمتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين. وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك، كإتفاقهما في مسمى الوجود، والقيام بالنفس، والذات ونحو ذلك، فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لا بد من إثبات خصائص الربوبية»[8].

مع هذا فلو أننا أخذنا بالإستنتاجات العقلية التي أدلى بها إبن تيمية حسب طريقته المستحدثة من «عدم التناقض» لأفضى بنا الأمر إلى نتائج غير مقبولة لنا ولإبن تيمية ومدرسته أيضاً. إذ قد يقال أن الشيء إما أن يأكل ويشرب، أو لا يأكل ولا يشرب، وأن الآكل والشارب أكمل من مقابله، وبالتالي كان الأولى أن يتصف الرب بذلك. كما قد يقال أن الشيء إما طويل أو قصير، وأن الطويل أكمل من القصير، وبالتالي فالأولى أن يتصف الرب بالطول دون القصر... الخ. فهذه النتائج تأتي على خلاف ما قرره هذا الشيخ بأن الرب لا يتصف بالأكل والشرب لا لشيء إلا لأنه لم يرد ذلك عن الخطاب الديني، وبه يتضح ما تتضمنه هذه الطريقة الإستدلالية من إزدواجية وتناقض.

2ـ تحليل الدليل العقلي 

عرفنا بأن من الحجج التي قدّمها العقليون في ترجيح العقل على السمع عند التعارض بينهما؛ هي أن العقل موثوق به ومعتمد عليه في التأسيس الخارجي للخطاب، وبالتالي يلزم الوثوق به والإعتماد عليه في التأسيس الداخلي. فهذا ما صرّح به العقليون. لكن الأمر لدى إبن تيمية مختلف، إذ قرّر بأنه ليس كل ما يعود للدليل العقلي ينبغي قبوله وإعتباره قطعياً، فإذا كان الإعتماد عليه في التأسيس الخارجي مقبولاً؛ فلا توجد ضرورة تجعله ينسحب على التأسيس الداخلي، لإختلاف القضايا العقلية في التأسيسين، فمن الممكن أن تكون بعض القضايا صحيحة وغيرها خاطئة، أو يمكن قبول الأدلة العقلية في الحالة الأولى لكونها صحيحة، مع رفضها في الحالة الثانية لخطئها ومخالفتها للبيان. فليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلاً للسمع ودليلاً على صحته، فالمعارف العقلية أكثر من أن تحصر، وبالتالي أن غاية ما يتوقف عليه صحة السمع وإثباته هو العلم بصدق النبي، وواضح أنه ليس كل العلوم العقلية معنية بالكشف عن هذا الصدق، بل هناك قضايا يسيرة يثبت بها الأخير مع مجمل الرسالة، كمسألة إثبات الصانع وتصديق الرسول بالآيات وما إليها، سيما عندما يكون بعضها من المعارف الضرورية. وكما يرى إبن تيمية أن الإقرار بالصانع فطري ضروري. وقد نسب هذا الإعتقاد إلى أكثر الناس، ومنهم عامة فرق أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، معتبراً أن تحصيل هذه المعرفة الضرورية لم ينازع فيه إلا شذاذ من أهل الكلام، وأن بحدوث المعجزات تتحقق معرفة ثبوت الصانع وصدق رسوله معاً. كما واعتقد بأن العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات هو علم ضروري، مما يعني أن ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي هو سهل يسير، رغم وجود الطرق الكثيرة الدالة عليه.

وينتهي إبن تيمية إلى تقرير أن القدح في بعض العقليات لا يعتبر قدحاً في أصل المسألة الدينية المعتمدة على بعض القضايا العقلية، خلافاً لما صوّره العقليون لتمرير إعتباراتهم الذهنية للفهم وتأويل النص. إذ على رأيه أن القدح في بعض القضايا العقلية لا يعني قدحاً في غيرها من العقليات، ولا يلزم من صحة بعضها صحة جميعها، وبالتالي فإن صحة ما يستند إليه إثبات المسألة الدينية لا تنسحب بالضرورة على البقية من العقليات[9].

واكثر من ذلك ذهب هذا المفكر إلى إمكان معارضة العقليين بنظير ما قدموه وعكسه، وهو أن «يقال إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دلّ على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول (ص)، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه فلا يجوز تقديمه، وهذا بيّن واضح فإن العقل هو الذي دلّ على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يُتبع بحال، فضلاً عن أن يُقدّم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته، كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه على النقل وهو المطلوب»[10].

ومثل ذلك ما قاله في معارضة العقليين: «أن يقال إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، ومعلوم أن هذا إذا قيلَ أوجَه من قولهم، كما قال بعضهم (من البيانيين) يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول ومعاني كلامه، وقال بعضهم (الآخر) العقل متول ولى الرسول ثم عزل نفسه؛ لأن العقل دلّ على أن الرسول (ص) يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، والعقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة»[11].

وعلى هذه الشاكلة ذهب تلميذه إبن أبي العز إلى حصر الوظيفة العقلية ضمن حدود التأسيس الخارجي للخطاب فقط. فبسْطها على التأسيس الداخلي كما تفعل الدائرة العقلية يفضي بها إلى التناقض، إذ العقل الذي يعترف بحجية النص عند التأسيس الخارجي لا يمكنه نكرانها عند التأسيس الداخلي، وإلا حصل التناقض، لإجتماع الإعتراف بقبول صدق النص من جهة، مع إنكاره من جهة ثانية، تبعاً للإعتبارين الآنفي الذكر. وعليه لا بد من تقديم النقل على العقل عند التعارض، إذ لا يمكن الجمع بينهما ولا رفعهما، كما أن تقديم العقل على النقل ممتنع على رأيه، بإعتبار أن العقل قد دلّ على صحة النقل ووجوب ما أخبر به النبي، فلو أبطل النقل لأبطل العقل أيضاً، وبالتالي صار تقديم العقل على النقل مفضياً إلى القدح في العقل[12].

وعلى رأي إبن أبي العز فإن العلاقة بين العقل والنقل هي كالعلاقة بين العامي المقلد والعالم المجتهد، مع استدراكه بأن العقل في قبال النقل دون ذلك التمثيل بكثير، حيث أن «العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن العالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً، فدل عليه عامياً آخر. ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي، دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدّمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرف أنه مفت، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت، ودللت عليه، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطىء»[13].

كما إعترض هذا الشارح على ترجيح الدليل العقلي الذي يقدمه أصحاب الدائرة العقلية، وذلك بعد أن نقل رأي من ينكر بداهة العقل تعويلاً على ما اختلف فيه العقلاء، وطرح بهذا الصدد ما افترضه من منازعات مع الدائرة العقلية تبعاً لمعيار «العقل» ذاته إن كان يتقبل النهج البياني، أو النهج العقلي، فخاطب أصحاب هذه الدائرة بقوله: «أن يقال: إنّ العقل إنْ قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإنْ رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم، فإن كان قولنا باطلاً في العقل، فقولكم أبطل، وإنْ كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل، فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل. فإن دعوى الضرورة مشتركة، فإنّا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؟ قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس - ليسوا منكم ولا منا - موافقون لنا على هذا، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاء به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم»[14].

والنتيجة التي ينتهي إليها إبن تيمية هي أن من أقرّ بصحة السمع تعويلاً على العقل يستحيل معارضته بالعقل ألبتة، لأن العقل قد شهد على صحة السمع، فلو أنه شهد مرة أخرى على فساده لكانت دلالته متناقضة، مما يفضي إلى كونه لا يصلح لإثبات الخطاب الديني من الخارج ولا لمعارضته من الداخل[15].

مع ما يلاحظ من أن الحجة التي ذكرها إبن تيمية في معارضة العقليين تنعكس عليه وعلى البيانيين أيضاً. فهو يعتبر العقل يحمل قضايا مختلفة، منها قضايا صحيحة كتلك التي يُعتمد عليها في التأسيس الخارجي للخطاب، كما منها ما هو خاطئ، كالذي يعارض البيان النصي. لكن في القبال يمكن أن يوظف على هذه الشاكلة ما يناقض حجة إبن تيمية ومقالة البيانيين عموماً، وهو أن للنص قضايا مختلفة، بعضها بيّن كالذي تفيده الأدوات اللغوية والعرفية دون إلتباس، والبعض الآخر ملتبس وهو ما يحتاج إلى عناصر خارجية للكشف، وهنا يأتي دور العقل لتحويله من المتشابه إلى البيان، سيما وأن البيانيين يعترفون بأن بعض النصوص لا يمكن فهمها بالبيان اللغوي وحده دون العقل، ومن ذلك قوله تعالى: ((قل الله خالق كل شيء)) (الرعد/ 16)، وقوله: ((واوتيت من كل شيء)) (النمل/ 23)، وقوله: ((ان الله على كل شيء قدير)) (البقرة/ 148). فمثل هذه الآيات لا يمكن حملها على الإطلاق اللغوي الظاهر.

كذلك إن من غير الصحيح الحكم على طريقة العقليين بالتناقض عند تعاملهم المختلف لتأسيس الخطاب من الخارج والداخل. فإثبات المسألة الدينية شيء، والتعامل مع مضامينها شيء آخر، فالقضية الأولى غير الثانية. صحيح أن الثانية لازمة عن الأولى، وبالتالي فالإعتراف بالأولى مع إنكار الثانية يعد من التناقض الواضح، لأنه يقتضي الجمع بين شهادة العقل بصدق رسالة النبي من جهة، ورفض مضامينها وتكذيبها من جهة ثانية. لكن ما حصل لدى العقليين غير هذا، فليس هناك من ينكر مضامين المسألة الدينية التي جاء بها النبي، إنما الجاري هو العمل على فهم الكثير من هذه المضامين فهماً مختلفاً عما هو ظاهر، لإعتبارات التعارض مع العقل المزعوم. وإذا سلمنا أن البيانيين يقومون أحياناً قليلة بمثل هذا الدور من الفهم المخالف للظاهر، فسيتساوى أمرهم مع خصومهم العقليين، إذ يمكن أن يعارضوا بمثل معارضتهم للعقليين وأكثر، فهم وصفوا خصومهم بالتناقض طبقاً لإعتباراتهم المزدوجة من إثبات المسألة الدينية من جهة، والتعامل المنكر مع مضامينها لعدم استنادهم إلى البيان من جهة ثانية. لكن هذا الأمر ينطبق على البيانيين أيضاً، بإعتبارهم تخلّفوا أحياناً عن الأخذ بالبيان النصي، لإعتبارات مختلفة ومنها الإعتبارات العقلية. بل أكثر من هذا فإن معارضتهم للعقليين كانت بدافع التمسك بالبيان، رغم النكوص الذي أصابهم أحياناً مما جعلهم أشد تناقضاً عما لاح العقليين.

هذا بالإضافة إلى أن العقليين يعتبرون القضايا الهامة التي تربط بين التأسيسين الخارجي والداخلي للخطاب؛ ليست تلك المتعلقة بإثبات الصانع، ولا بمعجزة النبي، بل تلك التي لها صلة بالأصل المولّد، كمسألة الصدق والإخبار، ومنه الكلام الإلهي والكلام البشري المتمثل بدعوى بعض البشر للنبوة مع قرينة المعجزة، أو إعتبارات الحسن والقبح العقليين كما لدى منطق الحق الذاتي. فالعقليون يعولون على هذه القضايا في كلا التأسيسين الخارجي والداخلي للخطاب من غير تفكيك ولا تعارض. وبالتالي فالمسألة أعقد من الصورة التي بسّطها إبن تيمية ليبرر التفرقة بين علاقة العقل بالتأسيسين الأول والثاني.

3ـ كشف البيان عن الدليل العقلي 

تتخذ العلاقة التوافقية بين العقل والبيان لدى إبن تيمية صيغتين متكاملتين، إحداهما تقر بموافقة العقل الصريح للنقل الصحيح، والأخرى تعتبر النقل الصحيح مرشداً إلى الطرق والأدلة العقلية السليمة.

وبحسب الصيغة الأولى أكّد إبن تيمية بأن الأدلة العقلية الصحيحة وكذا العلوم الفطرية الضرورية، كلها توافق ما جاء به الخطاب الديني، حيث المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وكذا هو العكس، أي أن العقل الصريح لا يخالفه النقل الصحيح. وقال بهذا الصدد: «وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال أنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول، ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته»[16].

أما بحسب الصيغة الثانية فقد أكّد إبن تيمية على قابلية البيان للكشف عن الدليل العقلي، فرأى أن كثيراً مما يثبت عبر الخطاب الديني يعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبيّن ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه في مواضع عدة، ومن ذلك الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وعلمه، وكذا ما يدل على النبوة والمعاد. لذا اعتبر هذه المطالب شرعية من جهتين: إحداهما أن الشارع أخبر بها، والأخرى أن الشارع بيّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها. كما اعتبر الأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، مثلما هي عقلية لكونها تعلم بالعقل أيضاً. وعليه إعترض على أصحاب الكلام الذين سموا هذه القضايا أصولاً عقلية لإعتقادهم أنها لا تعلم إلا بالعقل لتوقف العلم بصدق النبي عليها، مؤكداً بأنها تُعلم عبر السبيلين: العقلي والبياني[17].

وكرر إبن تيمية هذا المعنى في محل آخر، واعتبر أن الشارع أخبر عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد ما يبين الطرق التي يعلم بها ثبوت هذه الأمور، ويرشد بها العقول، حتى جاء من الآيات والأمثال المضروبة التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية ما لا يقاربه شيء مما يذكره أهل الكلام والفلسفة، بل «من تدبّر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد طريقاً عقلياً يعرف به وجود الصانع أو شيء من أحواله من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء»[18]. وقال في بعض رسائله: «بيّنا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر، كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزاباً..»[19].

ومن إعتراضات إبن تيمية على أتباع الدائرة العقلية إتهامهم بأنهم لا يستدلون بالكتاب والسنة عند التعارض مع أقوالهم وعقولهم، بل يقدّمون العقل على البيان ويأولون النص، أو على الأقل يعملون على تفويض أمر الأخير إلى علم الله. مع أن القرآن برأيه قد بيّن من الدلائل اللفظية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، وبالتالي كان العلم بهذه المطالب جامعاً للأمرين الشرعي والعقلي من غير فصل[20].

هكذا يرى إبن تيمية أن إثبات المسألة الدينية يمكن أن يحصل عبر المضامين اللفظية لهذه المسألة. وبعبارة أخرى إن تأسيس الخطاب من الخارج يصح برأيه عبر النظر إلى ما يفيده الخطاب من الأدلة المقدّمة بهذا الصدد، وبالتالي فهو لا يفصل بين العقل والبيان حتى في القضايا التي يحتاج فيها البيان إلى الإثبات والتأسيس، خلافاً لما تراه الطريقة العقلية من أن ذلك يسفر عن الدور والمصادرة على المطلوب لا محالة.

ويظل أن العقل الصحيح الذي يتحدث عنه إبن تيمية هو ذلك الذي يتفق مع بيان النص. فالحكم عائد إلى البيان لا العقل، كالذي يكشف عنه موقفه من الصفات الإلهية، فهو يرى أن منها ما يعلم بالعقل ككونه عالماً وقادراً وحياً مثلما ترشد إلى ذلك بعض النصوص القرآنية؛ كقوله تعالى: ((ألا يعلم من خلق)) (الملك/14).. كما ويعلم بالعقل أيضاً كونه مريداً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً، ومثل ذلك صفات الحب والرضا والغضب وما إليها، وكذا مما يعلم بالعقل علوه على المخلوقات ومباينته لها. وبالتالي فهو يزعم بأن جميع ما ورد من صفات إلهية عبر النص هي مما يمكن أن تعلم بالعقل عند التحقيق. وسبق أن عرضنا نظريته في المقابلات، إذ يرى بأن الله ما لم يتصف بتلك الصفات لإتصف بمقابلاتها. وهو يتوقف عند الحدود البيانية التي أخبر بها الخطاب الديني دون تجاوزها ولا إثبات غيرها من النظائر، مثل الأكل والشرب والأعضاء الجسمية الداخلية، ولم يبق إلا التبرير وإعمال العقل في الجدل ضد النفي والتأويل الذي يمارسه اتباع الدائرة العقلية.

هكذا جعل إبن تيمية الطرق العقلية تستظل بإعتبارات البيان. فهو يثبت ما أثبته البيان، وينفي ما نفاه، ويحيل غير ذلك إلى علم الله، فلا يثبته ولا ينفيه؛ توقفاً عند حدود البيان دون تجاوزه وتعديه.

4ـ الكشف عن دلالة القطع قبال الظن 

اعتبر إبن تيمية أن مشكلة العلاقة بين العقل والنص لا تكمن في تعارضهما كما يخيل للعقليين، بل تنحصر في تعارض القيم المعرفية للأدلة المطروحة؛ أيّاً كان مصدرها سواء كانت عقلية أو نقلية. فقد تحظى الأدلة - سواء في العقل أو النقل - بقيم قطعية، كما قد تحظى بقيم ظنية أو شكية أو وهمية. ويسلّم هذا المفكر مع غيره من المسلمين بنفي التعارض بين الدليلين القطعيين، لأنه يفضي - برأيه - إلى التناقض، سواء كان الدليلان عقليين أو سمعيين، أو أحدهما عقلي والآخر سمعي. وبالتالي يبقى التعارض المتصور هو بين ما تبقى من الإمكانات المطروحة، كإن يكون بين القطعي والظني، أو بين الظني وآخر مثله، وهكذا. ومن الناحية المنطقية تترجح الدلالة القطعية على الظنية، أيّاً كان مصدرها. وبالتالي فالعبرة بالكشف عن القطع، سواء كان ذلك لازماً عن العقل أو عن البيان الديني. فمن هذه الناحية يعترف إبن تيمية بجواز تقديم الدليل العقلي على البيان الديني، مثلما يجوز فعل العكس، دون أن يولي أيّاً منهما أمراً مطلقاً، إعتماداً على ما يستكشف من الدلالات القطعية فيهما، حيث يوجب تقديم القطعي على غيره لكونه قطعياً فحسب، لا لأنه بياني أو عقلي أو أنه أصل للسمع. كما أنه يقدّم الدلالة الظنية المرجحة قبال غيرها من الدلالات المرجوحة، أيّاً كان مصدرها؛ العقل أو البيان[21].

وبعبارة أخرى أنه يعد الدليل العقلي إما قطعياً أو ظنياً راجحاً أو مرجوحاً، فإن كان قطعياً يؤخذ به لا لكونه عقلياً، بل لأنه قطعي. لهذا أنكر على أصحاب الدائرة العقلية تحيزهم التام نحو الدلالة العقلية على حساب السمع والبيان.

وأخذ يعدد - في هذا الإتجاه - أخطاء العقليين لتقديمهم العقل على النقل مطلقاً، إذ يرى أن هذا التقديم خطأ لا مبرر له، وأن جعل سبب التقديم متمثلاً بكونه عقلياً هو خطأ آخر، كما أن إعتبار الدليل العقلي قطعياً بإطلاق هو خطأ ثالث. فالصحيح عنده أن يقال بأن التقديم يعتمد على ما هو قطعي، وأن الدليل العقلي ليس قطعياً على الدوام، وبالتالي قد يُقدّم عليه الدليل السمعي إذا ما كان قطعياً. وهكذا يبطل القانون العقلي الذي يستند إليه العقليون في الترجيح والتقديم. بل وتبطل القسمة التي ذكروها ضمن هذا القانون، وهي أنه لا بد من تقديم الدليل العقلي مطلقاً، أو الدليل السمعي مطلقاً، أو الجمع بين النقيضين العقلي والسمعي، أو رفع النقيضين. فبرأيه أن هناك قسماً آخر ليس من هذه الأصناف، وهو التقديم بحسب ما هو قطعي من غير حصر بأي من المصدرين المشار إليهما: العقل والبيان[22].

هذا ما قدّمه إبن تيمية من الناحية المبدئية، لكنه من الناحية الفعلية إلتزم بذات الإطلاق الذي إلتزم به نظراؤه العقليون، حيث لم يجرأ على تقديم الدلالة العقلية على البيانية؛ ما لم تكن الأولى بديهية وجدانية، أو مدعمة بدليل آخر مستمد إما من بعض مقاطع بيان الخطاب ذاته، أو من سيرة السلف وأقوالهم. فكلا الإعتبارين الأخيرين يشكلان العمود الفقري لنهجه البياني. فهو في إتّباعه لنهج السلف كثيراً ما يلجأ إلى أقوالهم، إلى الحد الذي لا يمانع من ممارسة التأويل أحياناً إتّباعاً لما كان عليه السلف الصالح خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة. أما إهتمامه بالدلالة البيانية فهو واضح من ممارسته لتفسير النصوص بعضها بالبعض الآخر، ومن ذلك تفسير القرآن بالقرآن، كتفسيره للصفات الإلهية من حيث الجمع بين دلالاتها الظاهرة وبين قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) (الشورى/11)، وهي الطريقة التي تعود إلى طائفة من السلف كأحمد بن حنبل وغيره.

هكذا فإن إبن تيمية لا يعوّل - في الغالب - على العقل وغيره من الأدوات الخارجية، فعلى العكس أنه يجعل الدلالة العقلية محكومة بالدلالة البيانية. فالبيان هو معيار التمييز، فتُقبل به الدلالة العقلية عند الإتفاق، وتُنكر به عند الإختلاف. كذلك أنه معيار التوجيه، إذ يرشد إلى الطرق المقبولة للممارسات العقلية، وبه يمكن توظيف هذه الطرق في التأسيس الخارجي للخطاب. وهو أيضاً معيار الحكم، إذ يتحدد الحكم على الدلالة العقلية إن كانت صائبة أو خاطئة. وبالتالي فإن إعتبارات القطع في العقل لدى إبن تيمية تخضع لما تقرّه الدلالة البيانية. فالعقل تابع لهذه الدلالة وغير مستقل. لهذا تذرع بأخطاء العقل الكثيرة ليبرر ترجيح البيان عليه. فبرأيه أن العقل يصيب ويخطئ، وفي بعض دلالاته ما يفيد القطع دون البعض الآخر، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البيان، فهو واضح وقطعي ويرشد إلى الدلالات العقلية القطعية ويميزها عن غيرها من الدلالات الظنية والوهمية.

وقد اعتبر إبن تيمية أن ما يعتقده العقليون من أن في الخطاب إحتمالات متعددة للمعنى؛ ما هو إلا وهم ذهني. فعلى رأيه أن الخطاب واضح تمام الوضوح؛ لا تعتريه الإحتمالات المخالفة. وإذا كان العقليون يوردون الإحتمالات العديدة الممكنة لمعنى النص تعويلاً على الدلالة العقلية التي يعدونها محكمة وقطعية لا تقبل الإحتمال.. فإنه على العكس منهم يعتبر الدلالة اللفظية للنص لا تقبل إلا معنى واحداً يفيد القطع، وأن الدلالة العقلية كما يعوّل عليها العقليون هي التي يصدق عليها الإحتمال والظن وكثرة الإمكانات دون أن تفضي إلى نتيجة محددة، بدلالة الإختلاف الملحوظ لدى أصحابها، فرغم أنهم يعدون هذه الدلالة قطعية، لكنهم يتناقضون فيما يفيدون ويقولون حولها. فالظنون والإحتمالات ليست لازمة – برأيه - عن بيان النص، وإنما عن الممارسة العقلية المجردة ذاتها. مما يعني أن النص هو مصدر القطع الحقيقي لا العقل، وذلك إذا ما استثنينا البديهات العقلية المعروفة. وبالتالي يمكن القول أن هذا الإتجاه لا يملك ضابطاً يميز به الأدلة العقلية القطعية عن الوهمية والظنية؛ سوى اللجوء إلى ما يرشد إليه البيان الديني، دون اكتراث لما يفضي إليه الأمر من دور.

5ـ قضايا الحسن والقبح بين العقل والنقل 

اختلف أصحاب البيان حول مسألة الحسن والقبح؛ إن كانت في الأصل عقلية كما يقول أصحاب منطق الحق الذاتي، أو أنها شرعية كما يقول أصحاب منطق حق الملكية. ونقل إبن تيمية أنه تنازع المتأخرون من عامة الطوائف حول هذه المسألة، فلكل طائفة من أصحاب الحديث والصوفية وأصحاب مالك والشافعي وأحمد قولان، لكن الأمر مع الحنفية يختلف إذ أطبقوا على القول بعقلية الحسن والقبح، وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى[23]. وكان صاحب (الكبريت الأحمر) من الحنفية يقول: مذهب أصحابنا وجميع المعتزلة أن أصول الواجبات والحسن والقبيح في الأفعال كلها مدركة بالعقل سواء ورد عليها حكم الله بالتقرير أو لم يرد[24].

ومن القائلين بعقلية المسألة من أهل الحديث أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما، وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري دون أن يسبقه احد. ووافقهم عليها من أئمة الشافعية أبو بكر محمد القفال الكبير الذي أُعتبر أنه بالغ في إثباتها وبنى عليها كتابه (محاسن الشريعة). واختارها من أصحاب أحمد بن حنبل أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وإبن عقيل وغيرهم، وذكروا أن هذا هو قول جمهور الناس، كما ذكروا أن الرسل جاءت لترشد إليها، وبالتالي فإن ما يعلم بالعقل من الدين هو – برأيهم - جزء من الشرع والكتاب والسنة.

ونقل أبو الخطاب في (التمهيد) إختلاف أصحابه من الحنابلة حول ما إذا كان في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا؟ فذهب أبو الحسن التميمي إلى إثبات ذلك، بل اعتبر أنه لا يجوز أن يأتي الشرع بحظر ما كان في العقل واجباً، كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة وما إليها، كما لا يجوز أن يأتي الشرع بإباحة ما كان في العقل محظوراً، نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والخيانة وما إليها، معتبراً أن هذا ما ذهب إليه عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة. كما نقل أبو الخطاب قول شيخه القاضي أبي يعلى الذي رأى أنه ليس في قضايا العقل إيجاب وتحسين وحظر وإباحة، وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع، وتعلّق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول وإنما هو الإتّباع. واعتبر أبو الخطاب أن هذه الرواية إن صحت عن إبن حنبل فالمراد بها الأحكام الشرعية التي سنّها رسول الله[25].

ومن حيث التحقيق فصّل إبن القيم الجوزية القول في هذه المسألة كما في كتابه (مفتاح دار السعادة)، فساند ما دلّ عليه النظر العقلي الصرف كما أثبته منطق الحق الذاتي، ثم أخذ يستدل على ذلك بالبيان الديني. لكنه عاب على هذا المنطق أشياء فرعية، مثلما أيّد بعض ما ذهب إليه منطق حق الملكية من تفريعات، وإن عاب عليه ما حمله من أصل. وبذلك فقد سلك إبن القيم الطريق الوسطى.

ومن حيث المبدأ أقرّ إبن القيم بذاتية الحسن والقبح كما يقول بها منطق الحق الذاتي، معتبراً أنها صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر والعقول من تحسين الحسن والأمر به، وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يأتِ بما يخالف العقل والفطرة.

كما صوّب ما أقرّه المنطق السابق من إثبات حكمة الله وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً أو خالياً من الحكمة، بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة. لكنه مع ذلك أعاب على أتباع هذا المنطق ما أوجبوه على الرب من الحكمة بعقولهم، وشبهوه بخلقه في الأفعال؛ فما حسن منهم حسن منه، وما قبح منهم قبح منه. وعلى رأيه أنه لزمتهم بذلك اللوازم الشنيعة وضاق عليهم المجال، معتبراً أن الصحيح هو إثبات أن تكون لله حكمة تليق به دون أن يكون لها شبيه، بل نسبتها إليه كنسبة صفاته إلى ذاته، فكما أنه لا يشبه خلقه في صفاته فكذا في أفعاله.

لكن من جهة أخرى صوّب ما ذهبوا إليه من أن الله لا يحب الشر والكفر وأنواع الفساد بل يكرهها، وأنه يحب الإيمان والخير والبر والطاعة، وإن خطّأهم في تفسير هذه المحبة والكراهة، إذ فسّروها بأنها «مجرد معان مفهومة من ألفاظ خلقها في الهواء أو في الشجرة ولم يجعلوها معاني ما يهدي به الله تعالى». كما أعاب عليهم ما طرحوه من تحديد مسألة الثواب والعقاب تبعاً للحسن والقبح، مثلما أعاب على أتباع منطق حق الملكية نفيهم لعقلية الحسن والقبح، وإبعادهم للغرض والحكمة الإلهية، وتقبّل منهم في القبال عدم إيجاب أي شيء من الأفعال على الله. واستدل على بعض ما ذكره من منطوقات الآيات ومفاهيمها. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)) (الأعراف/33)، وقوله: ((وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)) (الأعراف/28)، حيث اعتبر ذلك دليلاً على أن الفواحش هي فواحش في نفسها، لذلك تعلّق بها التحريم. ويصدق الحال على ما حرّمه الله من الخبيث وما أمر به من المعروف، لخبث الخبيث ولكون المعروف معروفاً، لا العكس كما يدّعي أتباع منطق حق الملكية، أي أن الفحش لم يأتِ لأن الله حرّمه، ولا أن الخبيث كان لأن الله منع عنه، حيث القول بذلك ينافي النص القرآني كما هو حال منطوق الآيتين السابقتين.

واستدل إبن القيم على عقلية الحسن والقبح بما نصّ عليه الخطاب الديني من أن الله سبحانه استخدم الأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول في الاحتجاج على فساد مذهب الشرك وعبادة الغير، وجعل ما ركّبه في العقول من حسن عبادة الخالق وقبح عبادة الغير من أعظم الأدلة. وبالتالي فلولا أن حسن عبادته وقبح عبادة الغير مستقران في العقول؛ لما احتج عليهم بذلك، بل لكانت الحجة بمجرد الأمر فحسب.

وعليه إعترض على أتباع منطق حق الملكية في تسويتهم بين الأفعال التي خالف الله بينها؛ فجعل بعضها حسناً وبعضها قبيحاً، وركّب في العقول والفطر التفرقة بينهما، مثلما ركّب في الحواس التفرقة بين المحسوسات، كالحلو والحامض، والبارد والساخن، والضار والنافع، وغير ذلك. كما إعترض عليهم في نفيهم عن الله إيجاب ما أوجبه على نفسه وتحريم ما حرّمه على نفسه بمقتضى حكمته وعدله. كما رأى أنهم أخطاوا في نفيهم هذه الحكمة في خلقه وأمره، إذ تصوروا أنه لا يفعل شيئاً لشيء ولا يأمر بشيء لشيء، وكذا عاب عليهم إنكارهم الأسباب والقوى التي أودعها الله في الأعيان والأعمال، فنفوا الحكم والغايات المطلوبة في أوامره وأفعاله.

كما خطّأهم في تسويتهم بين المحبة والمشيئة وأن كل ما شاءه الله من الأفعال والأعيان فقد أحبه ورضيه، وما لم يشأه فقد كرهه وأبغضه، حيث محبته مشيئته، وكراهته عدمها، واعتبر أنه يلزمهم على ذلك أن يكون إبليس محبوباً لله، وكذا فرعون وهامان وجميع الشياطين والكفار، بل أن يكون الكفر والفسوق والظلم والعدوان الواقعة في العالم محبوبة له مرضية، وأن يكون الإيمان والهدى ووفاء العهد والبر التي لم تصدر عن الناس مكروهة مسخوطة له، فسووا بين الأفعال التي فاوت الله بينها، وسووا بين المشيئة المتعلقة بتكوينها وإيجادها والمحبة المتعلقة بالرضى بها. وواقع الحال أن قولهم هذا يقرّبهم من النظام الوجودي، حيث يكون الحب والكره متعلقين بالإرادة التكوينية فحسب، كما عرفنا.

ثم أن إبن القيم قام بتفكيك التلازم الحاصل في مسألة الحسن والقبح وعلاقتها بالعقاب كما صورها كلا الإتجاهين السابقين؛ إعتماداً على قوله تعالى: ((ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)) (القصص/47)، فاعتبر الآية ناطقة بأن ما قدمت أيديهم قبل البعثة هي سبب أصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً، وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا عليها الاصابة بالمصيبة، وإن كان الله لا يعذب أحداً قبل إرسال الرسل. فلدى إبن القيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأن الله لا يعذب عليه ما لم يقم الحجة بالرسل. واعتبر هذه النكتة أمراً وسطاً بين الإتجاهين الآنفي الذكر، فأنكر على أتباع منطق الحق الذاتي ما أثبتوه من العذاب قبل إرسال الرسل، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي، كما أنكر على أتباع الإتجاه الآخر نفيهم للحسن والقبح العقليين وإعتبارهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلاً على انتفاء القبح وإستواء الأفعال في أنفسها، وأنه لا فرق بين أن يعذب الله الناس قبل البعثة أو بعدها، فله الأمر كله[26].

ومن وجهة نظرنا إن التفكيك بين المسألتين السابقتين يصحّ في القضايا التي لا يدركها العقل، فيكون أمرها موقوفاً على الخطاب الديني، أما تلك التي يدركها العقل، كقتل النفس البريئة والعدوان وما شاكل ذلك، فالتفكيك فيها غير وارد بإعتبارها من الواضحات فلا يشملها النص القرآني السابق، إلا إذا اعتبرنا الإدراك العقلي للواضحات وهمياً، أو أمراً نسبياً كالذي يراه منطق حق الملكية. ومع ذلك لا يصح القول بحتمية العقاب عقلاً، بل الصواب إستحقاقه فحسب.

كما من العجب أن يستثني إبن القيم أفعال الله عن القاعدة التي ثبّتها. فهو يرى أن الإستدلال بذاتية الحسن والقبح لا يشمل دائرة حق الله، مكتفياً بتطبيق القاعدة على البشر، رافضاً أن يكون لها مصداق من التطبيق على الرب. مع أن هذه التفرقة لا يقرّها العقل المحض، فما يراه العقل من قبح القبيح، وحسن الحسن، هو أمر ثابت لا علاقة له بدرجة الوجود أو الشروط الخارجية. ولو قلنا بمثل ما يقوله إبن القيم لكان أصحاب منطق حق الملكية على صواب في الرأي القائل بنسبية الحسن والقبح وأنها لا تطبّق على الرب لأنه المالك المطلق. لكن مع وجود فارق، وهو أن إبن القيم قد تقبل ما يقوله أتباع منطق الحق الذاتي من أن الوجوب والتحريم ينبسط على الرب مثلما هو منبسط على البشر، إلا أنه حَسِبَ الإيجاب والتحريم على الرب ليس عقلياً كما يدعي أتباع ذلك المنطق، بل هو مما أوجبه الله وحرّمه على نفسه؛ استناداًً إلى بعض الآيات، كتلك التي تتحدث عن أنه كتب على نفسه الرحمة، وأحق على نفسه ثواب المطيعين، وحرّم على نفسه الظلم كما جعله محرماً بين عباده.

لكن هذا الموقف يلغي القاعدة التي اعتمد عليها إبن القيم في كون الحسن والقبح عقليين، فبغض النظر عما جاءت به النصوص الدينية، فإن العقل يدرك ما يرد على الرب من أمور حسنة أو قبيحة مفترضة، والقول أن ذلك يتوقف على ما أوجبه الرب وحرّمه على نفسه، يعيد المسألة إلى إعتبار الخطاب الديني هو المحدد للأمور بما فيها القضايا العقلية، فيصبح ما هو عقلي ليس بعقلي، وما هو ذاتي ليس بذاتي، كالذي يقوله أصحاب منطق حق الملكية.

6ـ تحليل اللغة 

استخدم إبن تيمية طريقة تحليل اللغة مع الألفاظ التي لم ترد بالشرع للرد على خصومه العقليين، فهو عند ذكر الخصوم لألفاظ معينة كالجسم والجوهر والجهة والتحيز والتركيب وما إليها، يسأل عن المقصود بها، فإن كانت توافق ظاهر الشرع لم يعترض عليها، وإلا اعتبرها منكرة مع لوازمها. فمثلاً إذا ذكر الخصم ألفاظاً مجملة مثل أن يقول لو كان الله فوق العرش لكان جسماً، أو لكان مركباً، وهو منزه عن ذلك، ولو كان له علم وقدرة لكان جسماً ومركباً، وهو منزه عن ذلك، ولو خلق واستوى وأتى لحلّت به الحوادث، وهو منزه عنها، ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض، وهو منزه عنها أيضاً.. ففي جميع هذه الحالات يقال للخصم: «ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة»؟ فإن أراد بها حقاً وباطلاً قُبلَ الحق ورُدَّ الباطل، مثل أن يقول «أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به، ونفي كونه مركّباً». وعندها يكون الجواب هو قائم بنفسه وله صفات قائمة به، سواء سمي ذلك تجسيماً أم لم يُسمَ. وأما قول الخصم أنه ليس مركّباً، فإن أراد به أن الله تعالى ركّبه مركّب، أو كان متفرقاً فتركّب وأنه يمكن تفرقه وإنفصاله، فالله تعالى منزه عن ذلك، وإن أراد أنه موصوف بالصفات مباين للمخلوقات، فهذا المعنى حق ولا يجوز ردّه لأجل الإصطلاح عليه بالمركّب[27].

على هذا أوصى إبن تيمية بأن من أراد أن يناظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح ينبغي عليه أن لا يلتزم لفظاً بدعياً، ولا يخالف دليلاً عقلياً ولا شرعياً، بل يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفي، إنما يقولون: ماذا تعنون بقولكم هذا، مثل أن يسألوا بالقول: ما تعنون بقولكم (إن كل مرئي جسم)، فإن فسروا ذلك بأن كل مرئي يجب أن يكون قد ركّبه مركّب، أو أن يكون متفرقاً فاجتمع، أو أنه يمكن تفريقه، فعند ذلك يجاب بمنع المقدمة الأولى والقول أن هذه السماوات مرئية مشهودة ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة، وإذا جاز أن يرى ما يقبل التفريق فما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته، فالله تعالى أحق بإمكان الرؤية من السماوات ومن كل قائم بنفسه، فإن المقتضي للرؤية لا يجوز أن يكون أمراً عدمياً، بل لا يكون إلا وجودياً، وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز.

ومثل هذا الأمر يمكن أن يجاب على مسألة الجهة، حيث يمكن أن يقال للخصوم: ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة على الله «أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أردتم أمراً وجودياً، وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته، لم يكن والحالة هذه في جهة موجودة، فقولكم: أن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة هو قول باطل، فإن سطح العالم مرئي وليس هو في عالم آخر». أما لو قصد بالجهة الأمر العدمي بمعنى التحيز، فهو لا يعتبر شيئاً وجودياً، وليس فيه إشكال حيث لا يوجد إلا الخالق والمخلوق[28]. وذكر في إحدى مناظراته: أنه لم يرد لديه ذكر نفي الجهة والتحيز عن الله، وقال: «ليس في كلامي إثبات هذا اللفظ، لأن إطلاق هذا اللفظ نفياً بدعة، وأنا لم أقل إلا ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه الأمة»[29].

وشعر إبن تيمية بأن التعامل مع هذه الألفاظ غير الشرعية يوقع المناظر في ورطة، بإعتبارها مجملة وكونها تتضمن حقاً وباطلاً، فالمناظر إما أن يجعل مناظرته قائمة على الإستفسار عما يقصد بهذه الألفاظ الملتبسة، وبالتالي يمكن قبولها إن وافقت القرآن، أو يردّها عند المخالفة، وإما أن يمتنع عن المناظرة والتكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً، وعند ذلك سينسبه الخصوم إلى العجز والإنقطاع، ولو «أنه تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً وأوهموا الجهال بإصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها». لذا رأى أنه ينبغي على المناظر لحاظ المصلحة لخيار أحد الأمرين: إجراء المناظرة أو الإمتناع عنها[30]. وأكد - بهذا الصدد - بأن علة نهي الكثير من السلف والأئمة عن الخوض في النزاعات التي مصدرها غير النصوص، وإمتناعهم عن إثبات شيء أو نفيه، لم يكن لقصور أو تقصير منهم في بيان الحق، بل لكون الألفاظ المستخدمة مجملة متشابهة تشتمل على حق وباطل، فإثباتها يعني إثباتاً لحق وباطل معاً، وكذا هو الحال عند نفيها، وبالتالي فهم يمتنعون عن الإطلاقين سوية، خلافاً للألفاظ الشرعية والنصوص الدينية لبيانها ودلالتها على الحق. الأمر الذي جعل السلف يعدّون النص الديني إماماً وفرقاناً يجب إتّباعه، حيث يثبتون ما أثبته هذا النص، وينفون ما نفاه، في حين كان موقفهم من العبارات المحدثة المجملة هو المنع من إطلاقها نفياً وإثباتاً، فهم لا يصرحون حولها بشيء إلا بعد الإستفسار والتفصيل، حيث إذا تبين المعنى أمكنهم الأخذ بما هو حق مع نفي الباطل. وإذا كان اللفظ الديني هو الحق الذي يجب قبوله حتى وإن لم يُفهم معناه، فإن اللفظ المحدث لا يجب قبوله حتى يُفهم معناه. وهذا هو الفارق بين اللفظ الديني وغيره[31].

هكذا يقرر إبن تيمية بأن الواجب يستدعي إثبات ما اثبته النص الديني من الألفاظ والمعاني، ونفي ما نفاه، أي يُعتصم بألفاظ النص في الإثبات والنفي. أما الألفاظ المبتدعة المتنازع حولها، كلفظ الجسم والجوهر والتحيز والجهة وغيرها، فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول؛ صُوّب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبّر عنه بألفاظ النصوص دون عدول إلى غيرها من الألفاظ المجملة المبتدعة، إلا أن يكون لها حاجة مع قرائن تبين المراد بها. أما لو أراد بها معنى باطلاً؛ لإقتضى الأمر نفي هذا المعنى، ولو جمع بين حق وباطل؛ لكان المطلوب إثبات الحق وإبطال الباطل. وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا؟ كان من الواجب التعبير عن المعنى «بعبارة يتفقان على المراد بها وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة، كتنازعهم في لفظ المركّب هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به؟ وفي لفظ الجسم هل مدلوله في اللغة المركّب أو الجسد أو نحو ذلك؟»[32].

7ـ لا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل

التزم إبن تيمية شعاراً رفعه ضد خصومه العقليين، فكان ينادي بالإيمان بما وصف الله نفسه ورسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وتشكّل جميع هذه الحالات من النفي إعتراضاً على الخصوم العقليين الذين مارسوا برأيه التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، في كل ما يتعلق بصفات الله تعالى. وفي بعض مناظراته سُئل عن مراده بالتحريف والتعطيل؟ فذكر أن المعنى هو «تحريف الكلم عن مواضعه، كما ذمّه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دلّ عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: ((وكلّم الله موسى تكليماً)) (النساء/164) أي جرّحه بأظافير الحكمة تجريحاً، ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم..»[33]. وأوضح بأنه عدل عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، بإعتبار أن التحريف اسم ذمّه القرآن، وكما قال: «إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة إتّباع الكتاب والسنة، فنفيت ما ذمّه الله من التحريف ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات، لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد، فإن معنى التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في إصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه، وغير معنى لفظ التأويل في إصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف، لأن من المعاني التي قد تسمى تأويلاً ما هو صحيح منقول عن بعض السلف، فلم أنفِ ما تقوم الحجة على صحته، فإذا ما قامت الحجة على صحته، وهو منقول عن السلف، فليس من التحريف»[34].

كما بيّن بأن ما قصده في قوله من غير تكييف ولا تمثيل، هو أنه استخدم لفظة التكييف بإعتبار أن نفيه مأثور عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وإبن عُيَيْنة وغيرهم، وهو أن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وبالتالي فالمتفق عليه هو أن الكيف عند السلف غير معلوم. وعليه أكّد بأن نفيه للتكييف إنما جاء إتّباعاً لسلف الأمة، فضلاً عن كونه منفياً بالنص، إذ أن تأويل آيات الصفات يدخل فيه حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، حيث يختلف علمنا بمقصود الكلام ومعناه عن علمنا بتأويله، كالذي أشار إليه في عدد من كتبه[35]. أما التمثيل فهو منفي بالنص والإجماع القديم، مضافاً إلى دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف، لأن كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر. وقد أشار إلى كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف، وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه. إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذا هو الحال في إثبات الصفات.

وفي معرض هذه المناظرة قال له أحد المعترضين: على ذلك يجوز أن يقال عنه تعالى بأنه جسم لا كالأجسام؟ فردّ عليه بالقول: إن الله يوصف بما وصف به نفسه وبما وصف به رسوله، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال[36]. وعالج هذه المسألة في محل آخر، فاعتبر أن الشرع صرح بالوجه واليدين وسائر الصفات في كل من القرآن والسنة، وعليها ذهب الكثير من أهل الإسلام إلى الإعتقاد بأن الخالق هو جسم لا كالأجسام، بل وأُتهم على أثر ذلك كل من يثبت الصفات المذكورة كالحنابلة وغيرهم، مع أنه - كما يقول - ليس فيهم من أطلق لفظ الجسم على الله، بل شاء الخصوم أن يقوّلوا غيرهم بخلاف مقالتهم. فهو يعتبر لفظ الجسم والكثير من الألفاظ الأخرى ملتبسة، وهي لم ترد في الشرع، وبالتالي لا يقال فيها نفي ولا إثبات ما لم يعلم مقصد المناظر منها كالذي سبق عرضه[37].

والقاعدة العامة لديه هي أن «القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات. فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما: الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه. وكذلك إذا قال كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وانت لا تعلم كيفية ذاته»[38]. وضرب لذلك مثلاً في العلم والقدرة، إذ الكيفية فيهما لدى المخلوق غير ما هي لدى الخالق. وبالتالي إذا جاز إطلاق لفظ القدرة على قدرة الله، ولفظ العلم على علمه تعالى، وكلاهما لا يشابه قدرة الناس وعلمهم، فكذا يمكن إطلاق الإستواء عليه رغم إختلافه عن إستواء الناس، ونفس الشيء مع بقية الصفات؛ مثل اليد والنزول والقدم والوجه وكونه في السماء... الخ، فكل ذلك على وجه يليق بذاته الكريمة. وهذا يدل على نفي التشبيه والتجسيم، معتبراً أن ظواهر النصوص من القرآن والسنة لا تقتضي ذلك، إذ التشابه بالاسم لا يقتضي التشابه في الحقيقة[39].

والموقف السابق من الصفات هو ذاته ما ذهب إليه الكثير من السلف. وسبق للخطيب البغدادي أن صرح بأن الصفات المروية في السنن والصحاح قد سلّم بإثباتها الكثير من السلف وأجروها على ظواهرها ونفوا الكيفية والتشبيه عنها، في حين نفاها قوم، وحقق فيها قوم آخرون من المثبتين فخرجوا بذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف. وأيّد البغدادي ما أطلق عليه سلوك الطريق الوسطى، معتبراً أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات «فإذا كان معلوم أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا لله يد وسمع وبصر فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول أن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول أنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)).. ((ولم يكن له كفواً أحد))»[40].

وتكرر هذا المعنى لدى أحد تلامذة إبن تيمية، وهو الحافظ الذهبي، حينما قال: معلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقية لا مثل لها، وكذا صفاته تعالى موجودة لا مثل لها[41].

مع أنه ورد في السنة الكثير من الروايات الدالة على التشابه بين الخالق والمخلوق، ومن ذلك ما روي في صحيحي البخاري ومسلم من أن الله خلق آدم على صورته[42]. وورد في بعض الروايات شيء من المقارنة بين عيني الله وعيني المسيح الدجال، فقد روى البخاري عن أحد العبادلة أن النبي قال: إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وأن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية[43]. بل تشير الروايات إلى أن أغلب الصفات المادية التي يتصف بها البشر هي نفسها واردة في الخالق، فله وجه وعين ويد وكف وقبضة ويمين وساعد وذراع وأصابع وأنامل ورجل وساق وشعر، وأن من صفاته أنه يتكلم بصوت وحرف، وأنه يعجب ويضحك ويستحي ويغار ويهرول، وأنه رؤي فإذا هو شاب جعد قطط، أو أنه في صورة شاب أمرد، وأنه يكشف عن ساق، وأنه يضع قدمه في نار جهنم فتمتلىء ويرد بعضها إلى بعض وتقول قط قط قط، كما أنه يستلقي فيضع إحدى رجليه على الأخرى. والكثير من هذه الروايات هي مما ترويه كتب الصحاح. لذلك كان العلماء من الدائرة العقلية إما يأولون هذه الروايات، أو يكذبونها، إذ جعلوها كسائر الروايات التي تبدو فيها الخرافة ظاهرة.

والنتيجة المستفادة من ذلك هي أننا لو قبلنا أحاديث الصفات المتضمنة للتشبيه والتجسيم بدعوى عدم التكييف والتمثيل والتحريف والتعطيل، فذلك سيضطرنا إلى قبول غيرها من أحاديث الصحاح المتضمنة للخرافة الظاهرة، كالأحاديث المتعلقة بالفأرة والضب والغراب والوزغ وكبد الحوت والذباب[44]. والمنهج البياني يتقبل هذا الأمر على تهافته[45]. وقد كان جماعة من علماء الدائرة العقلية يكذبون الأحاديث التي تبدو الخرافة فيها ظاهرة، كالذي نقله إبن قتيبة عن بعضهم، مثل: «حديث عرق الخيل، وزغب الصدر، ونور الذراعين، وعيادة الملائكة، وقفص الذهب على جمل أورق عشية عرفة، والشاب القطط ودونه فراش الذهب، وكشف الساق يوم القيامة إذ كادوا يباطشونه، وخلق آدم على صورته، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثندوتي، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله تعالى». كما أورد روايات أخرى عدّها مخزية ومثاراً للطعن في الإسلام، وهي شائعة بين أتباع الدائرة البيانية، كرواية أصحاب الحديث: إن عجيزة الحوراء ميل في ميل، وأن من قرأ سورة كذا وكذا ومن فعل كذا وكذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف مهاد، على كل مهاد سبعون ألف كذا، وكروايتهم في الفأرة أنها يهودية وأنها لا تشرب ألبان الإبل كما أن اليهود لا تشربها، وفي الغراب أنه فاسق، وفي السنور أنها عطسة الأسد، والخنزير أنه عطسة الفيل، وفي الإربيانة أنها كانت خياطة تسرق الخيوط فمسخت، وأن الضب كان يهودياً عاقاً فمسخ، وأن سهيلاً كان عشاراً - أي ناقة - باليمن، وأن الزهرة كانت بغياً عرجت إلى السماء باسم الله الأكبر فمسخها الله شهاباً، وأن الوزغة كانت تنفخ النار على إبراهيم، وأن العظاية تمج الماء عليه، وأن الغول كانت تأتي مشربة أبي أيوب كل ليلة، وأن عمر صارع الجني فصرعه، وأن الأرض على ظهر حوت، وأن أهل الجنة يأكلون من كبده أول ما يدخلون، وأن ذئباً دخل الجنة لأنه أكل عشاراً، وإذا وقع الذباب في الإناء فامقلوه فإن في أحد جناحيه سماً وفي الآخر شفاء، وأنه يقدّم السم ويؤخر الشفاء، وأن الإبل خلقت من الشيطان... الخ[46].

8ـ الرد على المجاز والتأويل

لقد أورد إبن تيمية مع تلميذه إبن القيم العديد من الإعتراضات التي تنفي وجود المجاز في لغة النص قبال ما يسمى (الحقيقة)، ورأى أن إصطلاح المجاز بالمعنى الذي يقابل الحقيقة لم يكن وارداً خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وأن تسمية المجاز بإطلاق لم ترد إلا بعد انتهاء القرن الثاني على الأقل.

فقد ميّز إبن تيمية في إستخدام لفظ المجاز بين ما كان عليه عند الأوائل، وبين ما استحدثه المتأخرون من معنى، إذ المقصود به عند الأوائل ما يجوز إستخدامه في اللغة. لكن المتأخرين من أصحاب الدائرة العقلية ابتدعوا له معنى جديداً يتعدى الإستخدام الخاص بالحقيقة، فكان اللفظ عندهم إما أن يدل على الحقيقة، أي إعتبار اللفظ موضوعاً لمعنى محدد، أو يدل على المجاز، بمعنى تجاوز هذه الحقيقة، أي إعتبار اللفظ موضوعاً لمعنى آخر غير ذلك المحدد، أو هو كما يراه العقليون عبارة عن صرف اللفظ من معناه الأصلي المتواضع عليه إلى معنى آخر يجوز إستخدامه في الكلام. وعليه لم يعترض إبن تيمية على المعنى الأول للفظ المجاز، بل إعترض على معناه الأخير، إذ اعتبر تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز مبتدعاً غرضه تبرير تأويل النصوص وإخراجها عن ظاهرها بدعوى المعارضة مع العقل.

لكن مع ذلك فقد نُقل عن إبن تيمية أنه يعترف بعدم إنكار التقسيم اللفظي إلى حقيقة ومجاز. وكذا أن تلميذه إبن القيم يعترف أحياناً بالتقسيم الحاصل للفظ إلى حقيقة ومجاز. مما يعني أنهما قد هدما كل ما بنياه في معارضتهما للدائرة العقلية.

كذلك قام إبن تيمية بالردّ على الدائرة العقلية التي ترى التشابه في أصناف كثيرة من النص الديني، وعلى رأسها مسألة الصفات الإلهية. وبرر موقفه هذا بالتعويل على مسلك السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، حيث رأى أنه ليس فيهم أحد جعل تلك الصفات أو غيرها من المتشابه الذي تنص عليه آية المتشابهات. وبرأيه أن للتأويل أكثر من معنى، حيث ميّز بين ثلاثة معان أشار إلى بعضها القرآن الكريم، أحدها بمعنى صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهو المذكور في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم. أما المعنيان الآخران فقد نسبهما إلى ما تعارف عليه السلف، أحدهما بمعنى تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً أو مترادفاً. وهو الذي عناه مجاهد من أن العلماء يعلمون تأويله، وكان إبن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك، ومراده التفسير. أما المعنى الثالث والأخير للتأويل فهو نفس المراد بالكلام، أو هو عبارة عن الحقيقة الخارجية، سواء كانت ماضية أو مستقبلة، فإذا قيل: طلعت الشمس فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون التأويل من باب الوجود العيني الخارجي، فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وإخبار، لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما يُفهمه المتكلم من معنى؛ إما بضرب المثل وإما بالتقريب وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها وإما بغير ذلك. في حين أن المعنى الذي سبقه فهو من باب العلم والكلام؛ كالتفسير والشرح والإيضاح، فهو موجود في الذهن واللفظ والرسم، وهو يخالف المعنى الثالث الموجود في الخارج. وقد استشهد إبن تيمية على المعنى الأخير للتأويل بآيات من القرآن، وطبّق ذلك على آية المتشابهات، ليجمع بين القول بأن الصحابة وعلماء السلف كانوا على علم بفهم النص وتفسيره، وبين القول بأنهم لا يعلمون طبيعة الأمور الغيبية بما فيها الصفات الإلهية؛ طبقاً لآية المتشابهات التي جرى فيها الوقف بقوله تعالى: ((وما يعلم تأويله إلا الله)).

لكن ما قدّمه إبن تيمية في هذا المجال لم يكن مقنعاً كما بينا ذلك في دراسة مستقلة، سيما وأنه لم يقدّم دليلاً على ادعائه بأن السلف كانوا يفهمون المعنى الثالث للتأويل وأنه المراد به في آية المتشابهات.

 

 

 



[1]  درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص20ـ22.

[2]  درء تعارض العقل والنقل، ضمن الجزء الثاني.

[3]  أبو الفرج بن الجوزي: دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، حققه وقدم له حسن السقاف، دار الإمام النووي، الطبعة الثالثة، 1413هـ ـ1992م، عمان ـ الاردن، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص194.

[4]  مختصر الصواعق المرسلة، ص386ـ398.

[5]  أنظر: علي بن عبد الكافي السبكي: السيف الصقيل في الرد على إبن زفيل، ومعه تكملة الرد على نونية إبن القيم بقلم محمد زاهد الكوثري، تقديم لجنة من علماء الازهر، مكتبة زهران، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص136.

[6]  مختصر الصواعق المرسلة، ص320ـ336.

[7]  لاحظ الردود التي ذكرناها لإبن تيمية في كتابه: الرسالة التدمرية، ص90 وما بعدها. كما لاحظ: مجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، القاعدة السابعة ضمن قواعد الخاتمة الجامعة.

[8]  الرسالة التدمرية، ص118.

[9]  درء تعارض العقل والنقل، ج1، ضمن الوجه الثاني من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[10]  المصدر السايق، ج1، ضمن الوجه العاشر من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[11]  نفس المصدر، ج1، ضمن الوجه السادس من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[12]  إبن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: والرؤية حق لأهل الجنة).

[13]  شرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والإستسلام).

[14]  المصدر السابق، فقرة (قوله: وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه).

[15]  درء تعارض العقل والنقل، ضمن الجزء الأول.

[16]  درء تعارض العقل والنقل، ج1، ضمن الوجه السابع من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[17]  الرسالة التدمرية، ص93ـ94.

[18]  درء تعارض العقل والنقل، ج7، ضمن فصل في رد إبن تيمية على الفلاسفة والكلاميين.

[19]  مجموع فتاوى إبن تيمية، ج19، ضمن فصل أن الرسول بيّنَ جميع الدين.

[20]  الرسالة التدمرية، ص94ـ95.

[21]  درء تعارض العقل والنقل، ج1، ضمن الوجه الأول من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي. 

[22]  درء تعارض العقل والنقل، نفس المعطيات السابقة.

[23]  نُقل أن ابا حنيفة كان يقول: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه.. وأنه لو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم (البحر المحيط، فقرة 82).

[24]  البحر المحيط، فقرة 81.

[25]  درء تعارض العقل والنقل، ج9،  فصل بعنوان: (وما ذكرناه من أن الرسل بينوا للناس الطرق العقلية..). ولاحظ أيضاً: مفتاح دار السعادة، ج2، ضمن: (فصل الأسماء الحسنى والصفات العُلى مقتضية لآثارها من العبودية).

[26]  أنظر حول ما سبق: مفتاح دار السعادة، ج2، فصل بعنوان: الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسنها في العقول، وفصل: الكلام في الإيجاب في حق الله.

[27]  درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص238.

[28]  المصدر السابق، ج1، ص251 و253ـ254.

[29]  مجموع فتاوى إبن تيمية، ج5، ضمن فصل: في تمام الكلام في القرب.

[30]  درء تعارض العقل والنقل، ضمن  الوجه السابع عشر من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[31]  درء تعارض العقل والنقل، ضمن  الوجه الأول من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي.

[32]  منهاج السنة النبوية، ج2، ص554ـ555.

[33]  المناظرة في العقيدة الواسطية، شبكة المشكاة الإلكترونية. كذلك: مجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: في استكمال أصول أهل السنة والجماعة.

[34]  مناظرة إبن تيمية بعد العقيدة الواسطية، ص66ـ67. والمناظرة في العقيدة الواسطية. كذلك: مجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: في استكمال أصول أهل السنة والجماعة.

[35]  لاحظ مثلاً: الإكليل في المتشابه والتأويل.

[36]  مناظرة إبن تيمية، ص67ـ70. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: في استكمال أصول أهل السنة والجماعة.

[37]  درء تعارض العقل والنقل، ج10، ضمن فصل حول آراء الفلاسفة. ومنهاج السنة، ج2، ص555 .

[38]  الرسالة التدمرية، ص29. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: القول في بعض الصفات كالقول في بعض.

[39]  إبن تيمية، ص267ـ277.

[40]  الخطيب البغدادي: رسالة الصفات، إخراج وتعليق أبي يعلى البيضاوي،  شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام الصفحات). والذهبي: تذكرة الحفاظ، مراجعة: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1374هـ، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج3، فقرة  1015 (لم تذكر ارقام صفحاته). ولاحظ على هذه الشاكلة: الواسطي: النصيحة في صفات الرب، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص23.

[41]  سير أعلام النبلاء، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج8، فقرة 402.

[42]  جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً (صحيح البخاري، حديث 5873. ومثله: صحيح مسلم، شبكة المشكاة الإلكترونية، حديث 2841). وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته (صحيح مسلم، حديث 2612).

[43]  صحيح البخاري، حديث 6972، ومثله حديث 3256، ومثله ما روي عن إبن عمر، حديث 4141. وعلى هذه الشاكلة ما رواه مسلم عن انس بن مالك (صحيح مسلم، حديث 2933). علماً أنه سئل أحمد بن حنبل عن العبادلة فقال: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو. فقيل له: عبد الله بن مسعود؟ فأجاب: ليس عبد الله بن مسعود من العبادلة (بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم تأليف، ص91).

[44]  صحيح مسلم، حديث 2997، وحديث 1949، وحديث 315. وصحيح البخاري، حديث 1732، وحديث 3136، وحديث 3180، وحديث 3142.

[45]  أنظر الفصل الرابع من: مشكلة الحديث. وكذا دراستنا: أزمة الحديث النبوي عند أهل السنة، مجلة الإجتهاد والتجديد، العدد الأول، 1427هـ ـ 2006م.

[46]  مقدمة تأويل مختلف الحديث.

comments powered by Disqus