-
ع
+

خصائص الدائرة البيانية

يحيى محمد

يمكن تحديد خصائص الدائرة البيانية تبعاً للفقرات التالية:

أولاً:

أهم ما يميز الدائرة البيانية عن غيرها هو أن أصلها المولّد قائم على الإعتبارات الذاتية، إذ تكون معطيات الفهم والتوليد مستمدة من المصدر الذاتي المتمثل بالنص، خلافاً للاصول المولّدة لدى الدوائر المعرفية الأخرى، والتي تقوم على إعتبارات عارضة غير ذاتية. رغم أنه لا يمكن الاستغناء عن سائر المصادر والإعتبارات، سواء فيما يخص الدائرة البيانية أو غيرها من الدوائر، حيث يستحيل الاكتفاء بالمنهج الأحادي، فكل منهج يستعين بدرجة ما بعناصر غيره من المناهج، لكن تظل الخصوصية محددة بما للمنهج من عناصر متميزة غالبة. فمثلاً يستحيل على الدائرة البيانية التجرد كلياً عن مصادر المعرفة الأخرى، كالعقل والواقع، حتى في حال عملها وفقاً للإعتبارات البيانية الصرفة. فعلى الأقل أنها تتأسس على قاعدة الفهم العرفي للنص، وأن هذه القاعدة مدينة بدورها إلى قاعدة الإستقراء العقلية[1].

إذاً تتخذ الدائرة البيانية من الفهم العرفي للنص أصلاً مولّداً وقاعدة كبرى للفهم والتوليد. فعلى هذا الأصل تتحدد معاني الجمل النصية، وعليه تقام القواعد الأخرى، كتلك المناطة بأصول الفقه، مثل قاعدة حجية الظهور وتخصيص العام وتقييد المطلق والنسخ وغيرها من القواعد.

فالنص بما له من إعتبارات عرفية للفهم والتوليد هو مرجع أساس للتكوين المعرفي لدى الدائرة البيانية. فللنص مرجعية تكوينية وتقويمية، بمعنى أن العقل البياني يتكون من إفرازات نصية، وأن المصادر الأخرى ليس لها إعتبار ما لم يتم عرضها على مرجعية النص وإحراز موافقته. وإذا كان من الممكن للبياني أن تنقطع صلته بالمصادر الأخرى التي قد يكون لها شيء من الأثر على فكره؛ فإن ذلك لا يمكن أن يحصل مع علاقته بالنص. فلدى البياني أن مصادر المعرفة والتشريع تبدأ بالنص، حيث القرآن الكريم، ثم السنة النبوية، وبعدهما الإجماع ككاشف عن النص أو مستدل عليه به، وقد يضاف إلى ذلك قول الصحابي وسلوكه ككاشف آخر، وبعد ذلك تأتي سائر مبادئ الإجتهاد الأخرى التي حرص البيانيون – عادة - على جعلها مستمدة من النص مباشرة وغير مباشرة.

يبقى أن نلاحظ الفارق بين النص كشيء في ذاته، وبين الإعتبارات القائمة عليه كشيء لذاتنا. إذ لا ضرورة تجعلهما متطابقين. فليس النص والإعتبارات القائمة عليه شيئاً واحداً كما يتوهم الكثير من الناس[2].

وتظل الآلية الإجتهادية لدى العقل البياني آلية لغوية تبدأ بالنص وتنتهي إليه. والغالب فيها أنها مسخرة في اطار الرواية والحديث، سواء كانت هذه الرواية نبوية كما لدى أهل السنة، أو إمامية كما لدى الشيعة. فبحسب العقل البياني أنه لا بد من الخضوع إلى الضوابط التي يراعى فيها فهم النص وإعتباراته اللغوية وما يقتضي ذلك من آليات عديدة؛ كالجمع بين المتعارضات ومعرفة السند وأحوال الرجال وقضايا كثيرة أخرى مبثوثة في علوم القرآن والحديث والرجال وأصول الفقه. والإشكالية التي يواجهها البياني لا تتجاوز في الغالب إشكالية البحث في السند والدلالة.

ثانياً:

في النظام المعياري هناك من يمارس الدور البياني الصرف، سواء على صعيد الأصول والعقائد، أو على صعيد الفروع والفقه. كما هناك من يقتصر على ممارسة الدور البياني ضمن دائرة الفروع، ويرى الأصول من مهمة العقل لا البيان. وهو النهج الذي يعود إلى أكثر اتباع هذا النظام، لأن اغلبهم فقهاء ينتمون إلى مدارس كلامية عقلية، فبعضهم معتزلة، وبعض آخر أشاعرة، وبعض ثالث أصوليون من الإمامية.. الخ. وربما يكون أبو حنيفة (المتوفى سنة 150هـ) هو أول من حمل هذا الطابع المزدوج، فرغم أنه صاحب مذهب فقهي، إلا أن له ممارسات كلامية ذات صبغة عقلية كالتي دوّنها في كتابه (الفقه الأكبر). كما وله نصوص تتناسب مع منطق الحق الذاتي، كما لدى المعتزلة. مما يعني أنه كان يمارس لونين مختلفين من الإعتبارات، إحداهما ذاتية بيانية، والأخرى عارضة عقلية.

في حين أن البيانيين الذين سمحوا للبيان أن يشغل كافة مساحات التفكير من الأصول والفروع، لم يقعوا في ذلك الفصل والإزدواج. فهم في الأصول لا يعولون على العقل في حل الاشكالات التي تعترضهم، كما انهم في الفروع لجأوا إلى بيان النص، وبعضهم ضيّق من دائرة هذا البيان، كما أن البعض الآخر وسّع منها بالإتكاء على بعض المبادئ المعتمدة على النص في الغالب، لغرض تغطية القضايا التي لا نص فيها.

هكذا فكل من يعتمد على البيان في مجال الأصول والعقائد؛ يعتمد عليه في الفروع أيضاً، لكن من غير عكس، فليس كل من يعوّل عليه في الفروع يتقبله في الأصول. مما يعني أن الدائرة البيانية بحسب الإعتبار الأول اوسع منها حسب الإعتبار الأخير.

وبهذا نحن نواجه لونين من البيان، أحدهما البيان الصرف ويشغل مساحات الفهم الديني من الأصول والفروع كلها، وهو ما يتمثل بالعلماء الذين نقدوا علم الكلام العقلي أو حرّموا الإشتغال فيه، ومنهم علماء السلف والإخبارية. أما الآخر فهو البيان المخصوص والذي يشغل مساحة الفروع دون الأصول، كما يتمثل بنهج الفقهاء المنتمين إلى المدارس العقلية لعلم الكلام. ولمّا كان مجال الفقه هو المورد الذي يتفق على بيانيته جميع أقطاب النظام المعياري، سواء من خضع منهم لسلطة البيان وحده، أو من زاوج بينه وبين التفكير العقلي، لذا سنوليه جلّ إهتمامنا لهذا القسم، أما مجال الأصول والعقائد فإنها لا تختلف منهجاً لدى البيانيين عن دائرة الفروع، سوى بعض الإعتبارات المتعلقة بإختلاف الموضوع.

فمثلاً تعوّل الدائرة البيانية، ومنها دائرة الفقه، على الجمع بين النصوص المتعارضة ما أمكنها لذلك سبيلاً، فتأخذ بقواعد التخصيص والتقييد والحكومة والنسخ وما إليها، وهو ما لا يجري عادة لدى الدائرة العقلية ومنها دائرة علم الكلام. فهذه الأخيرة لا تمارس الجمع بين النصوص عند التعارض إبتداءاً، بل تقوم بعرض هذه النصوص على مرجعية العقل، فتقبل بعضها عند الموافقة معه، وتأوّل البعض الآخر عند المخالفة. وكمثال على ذلك موقف الدائرتين من الصفات الإلهية، فالدائرة البيانية تجمع بين النصوص المتعارضة، وبالتحديد أنها تجمع بين قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) وبين سائر النصوص التشبيهية، فتخرج بنتيجة مفادها أن لله جميع الصفات التشبيهية المذكورة ولكن من غير تشبيه ولا تمثيل. في حين لا تمارس الدائرة العقلية هذه العملية من الجمع ما لم تعرض ذلك على العقل سلفاً، فتأخذ ببعض النصوص الموافقة للمعطيات العقلية وتأول النصوص الأخرى، فتأخذ مثلاً بقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) بإعتبارها موافقة للمسلمات العقلية، في حين تعرّض النصوص التشبيهية للتأويل والتوجيه.

ثالثاً:

بحسب التفكير البياني أن العقل، سواء في الأصول أو الفروع، مستبعد الإعتبار غالباً. ففي الأصول أنه لا يمكن أن يرجح على الدلالة البيانية للنص، كالذي أفاده إبن تيمية وغيره، وهو بنظر الإسترابادي ليس مورداً للإعتماد والإطمئنان بإطلاق. وسواء كان العقل خاضعاً لسلطة البيان كما يرى إبن تيمية، أو مستبعداً تماماً لعدم افادته القطع والإطمئنان، فإنه في كلا الحالين ليس مورداً للإعتماد المستقل في الأصول لدى البيانيين. فحتى في مجال إثبات المسألة الإلهية يبتعد أصحاب البيان الصرف عادة عن الأدلة العقلية المستقلة، حتى قال بعضهم: إن الله لا يعرف بالعقل، بل يعرف الله بالله لا بغيره، لقوله تعالى: ((إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء)) (القصص/56) [3]. ومع أن بعض البيانيين يعد أصحابه لا ينكرون أدلة العقول والتوسل بها إلى المعارف، لكنه يعترف بأنهم لا يذهبون في توظيفها إلى المدى الذي سلكه أصحاب الدائرة العقلية، كما يتبيّن من إستدلالاتهم بالأعراض وتعلقها بالجواهر في إثبات المسألة الإلهية، خلافاً للتوجه الذي يراه البيانيون من التعويل على ما نبّه عليه القرآن الكريم وما جاء به النبي (ص)، بما في ذلك المعاجز المروية عنه، مثل تسبيح الحصى في كفه، وحنين الجذع لمفارقته، وزحف الجبل تحته وسكوته لما ضربه برجله، وجذب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه، وسجود البعير له، ونبوع الماء من أصابعه حتى توضأ به بشر كثير، وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه جم غفير، وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة، وغير ذلك من المعاجز المروية الدالة على نبوته ووجوب التصديق بكل ما يرد عنه من وحدانية الله وإثبات صفاته[4]. وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على حرص البيانيين على جعل الدليل العقلي غير مستقل عن بيان النص. وقد عبّر أبو أحمد بن محمد الخطابي عن ذلك معتبراً أن الحاجة إلى بيان أمر التوحيد وإثبات الصانع من الخطاب الديني ماسة في كل وقت وزمان، ولو تأخر البيان عن ذلك لكان التكليف واقعاً بما لا سبيل إليه، وهو فاسد غير جائز[5].

هذا ما نعنيه بميل البيانيين إلى جعل الدليل العقلي غير مستقل عن بيان النص. فهم يعدّون أنفسهم ممن طلب الدين بالدين، لهذا فهم يعرضون كل ما يأتيهم من الآراء العقلية والخواطر النفسية على الدين، فإن كانت موافقة له قبلوها، وإلا ردّوها، خلافاً لغيرهم من الفرق الأخرى التي طلب أصحابها الدين بغيره، عبر إستخدام الدليل العقلي وعرض كل ما يرد عليهم من بيان النص على العقل، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم بحسب ما يتصورونه من الدليل العقلي ردّوه أو قاموا بتأويله[6]. وكما يقول إبن السمعاني: إن الفصل بيننا وبين «المبتدعة» هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الإتباع والمأثور تبعاً له. وأما أهل السنة فقالوا: الأصل في الدين الإتّباع والعقول تبع. ولو كان أساس الدين مبنياً على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي والأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولوجب أن لا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا، كذكر عذاب القبر وسؤال الملكين والحوض والميزان والصراط وصفات الجنة والنار وتخليد الفريقين فيهما، وهي أمور لا تدرك حقائقها بعقولنا، إنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها[7].

أما في المجال الفقهي فالعقل بنظر البيانيين جميعاً عاجز بمفرده عن إدراك المصالح الحقيقية للأحكام، ويعد لديهم منبع الأهواء، والإعتماد عليه في التشريع يفضي إلى نسخ الشريعة أو تعطيلها، وأنه في حد ذاته يثير الإختلاف لارتفاع الضوابط. فمهمة البياني في هذا المجال تتحدد بإثبات كون الشريعة بينة وكافية لتغطية كل شأن من شؤون الحياة. فما من حادثة إلا ولها حكمها بالنص، أو بدليل مستظل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعوّل عليه غير الأهواء والميول الذاتية، حيث لا ضابط للعقل الذي يغلب عليه الهوى كما يخفى عليه وجوه الضرر والفساد. وبنظر جماعة من الفقهاء أن الأحكام تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها، وأن العقلاء قد يتوهمون ما هو أقرب إلى واقع الشرع على أنه أبعد، وما هو أبعد عن هذا الواقع على أنه أقرب، وبالتالي فلا مناص إلا الاحتماء بنفس الشارع لكونه محيطاً بكل الجهات وعالم بكثير مما لم تصل إليه العقول[8].

رابعاً:

يتصف الأصل المولّد لدى التفكير البياني بخصوصيتين متلازمتين يعبران في الوقت ذاته عن طبيعة الآلية المعرفية كآلية صورية: الأولى هي أن هذا الأصل له خصوصية حرفية بإعتباره قائماً على لغة النص. فالطابع الحرفي هو طابع معرفي مولّد؛ سواء من حيث فهم النص ذاته، أو من حيث ما يترتب على هذا الفهم من توليد للقضايا المعرفية الأخرى. أما الخصوصية الثانية فتتجلى في المجال الفقهي، حيث أن الشكل الحرفي للتوليد هو شكل جزئوي وتجزيئي، كالذي يتبين أدناه:

1ـ يتميز التوليد لدى التفكير البياني بالجزئوية، فهو لا يعتني بالمبادئ والقضايا الكلية عادة، لكثرة الصيغ الجزئية التي حملها النص حيال تعامله مع الأحداث والقضايا. فمع أن للبيان الفقهي صوره الكلية المنتزعة عن النص والتي يمكن أن تُتخذ كقواعد وأصول توجيهية شمولية تتحكم في القرارات والأحكام لدائرة البيانيين المعرفية؛ لكن ما آل إليه البيانيون شيء آخر، إذ لم يظهر لديهم إهتمام لجعل الموازنة دائرة بين الأصول الكلية العامة وتلك التي تتصف بالجزئية، لعدد من المبررات، منها أنهم يعتبرون الجزئيات الواردة في النص تطابق الكليات ولا تعارضها مهما طال الزمن وتغيرت الظروف والأحوال. كذلك أنهم يظنون بأن التعويل على الكليات ما هو إلا ذريعة للخضوع لحكم النظر العقلي الصرف. يضاف إلى ما قد يفضي إليه الأمر من نسف الجزئيات المصرح بها عند حصول التعارض المستقطب بينها وبين الكليات، إذ لا يُحل إلا لحساب إحداهما على الأخرى. وعموماً يرى البيانيون أن التعويل على فئة الجزئيات يحافظ على التمسك بمقولات النص، خلافاً للتعويل على الكليات التي يطالها العقل بالإدراك والاكتشاف مباشرة، وبالتالي كان لا بد من الإعتماد على المولّدات الجزئية وترك إعتبار ما يقابلها من موجهات كلية، ومن أمثلة ذلك موقف الفقهاء من الأحكام الخاصة بالقرض والمقدرات المالية وما إلى ذلك مما عالجناه في (فهم الدين والواقع) [9].

2ـ كما يتميز التوليد لدى التفكير البياني بالشكل التجزيئي، إذ يعمل على تجزئة النص بأخذه للحكم الظاهر مع إهماله لكلا السياقين الدلالي والواقعي الذين يؤطران مدار الحكم المنزل فيهما، ومن الأمثلة على ذلك الأحكام الخاصة بالنهي عن التصوير لكل ما له روح، ووجوب لبس الجلباب، وكون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، والأحكام المتعلقة بأهل الكتاب، وغير ذلك مما عالجناه في أكثر من دراسة[10].

إذاً إن هذه الخصوصيات من الحرفية البيانية والشكلية الجزئوية والتجزيئية تجعل الأصل المولّد للدائرة البيانية يحمل صفة الماهية بما تتضمنه من طابع كلي. فالبيان في هذه الدائرة هو بيان ماهوي كلي ممنطق؛ بالمعنى الذي تتحول فيه جزئيات النص إلى ماهيات كلية ممنطقة، وبالتالي أنها لا تخضع لإعتبارات العوامل الخارجية من العقل والواقع عادة. وهي طريقة استعلائية تستمد صور تفكيرها من البيان الفوقي ومن ثم تسقطها على الواقع دون مراعاة ظروف هذا الأخير وتغيراته. فهي تجعل من الإعتبارات البيانية إعتبارات ماهوية تتصف بالثبات والتعالي عن ظروف الزمان والمكان. وهي تفعل الشيء نفسه في مجال العقائد والأصول، لكن المجال الأخير يختص بالقضايا الغيبية غالباً، لذلك لا تبدو فيه مشكلة مع الواقع، إنما تثار المشكلة مع العقل، كالذي نبّهت عليه الدائرة العقلية، وتبقى المشكلة مع الواقع مناطة بالمجال الفقهي للتماس بينهما.

ومن بين المشاكل التي يعانيها المجال الفقهي طبقاً للطريقة البيانية، أنه يفتقر إلى الحس التاريخي والسياسي والإجتماعي والنفسي، والتي يُفترض أن يتأثر بها الحكم الشرعي. كما أنه غالباً ما يعاني من النقص وعدم مواكبة تغيرات الواقع، ومن ذلك الواقع الحديث الذي فرض الكثير من الأحكام الجديدة غير المألوفة لدى الفهم البياني[11]. بالإضافة إلى أن فهمه للنص لا يتقوم عادة بإعتبارات الظروف الخاصة بشبه الجزيرة العربية في عصر الرسالة. كما أنه لا يعوّل أيضاً على إعتبارات المقاصد وتأثيرها على تغيير الأحكام، وكذا تغيرات الواقع وتأثيره، بل يضطر إلى الإعتراف بالأخير عند الحاجة، كالذي فصلنا الحديث عنه في عدد من الدراسات.

خامساً:

يقوم النهج البياني - في الأصل - على الزعم القائل بتحقق الوضوح والكفاية في لغة النص الديني. فالبيانيون يبررون نهجهم بما يدّعونه من الوضوح والكفاية في الكتاب والسنة لكل ما يحتاج إليه المسلم لفهم الدين. وسبق للشافعي أن صرح قائلاً: ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها[12]. وكان إبن حزم يعلن في كثير من المناسبات تحقق ذلك دون حاجة لأي إعتبارات خارجية. فعنده أن النص بيّن تماماً وهو يكفي لسد حاجات المسلم، سواء في الأصول أو الفروع، حيث اعتبر النصوص محيطة بجميع الحوادث، وقيل أنه تمسك بذلك ربما لقول أحمد بن حنبل: ما تصنع بالرأي وفي الحديث ما يغنيك عنه[13]. أما القرآن الكريم فقد نفى أن يكون فيه تشابه بإستثناء الحروف المقطعة في أوائل بعض السور والأقسام الواردة في مثل هذه الأوائل[14].

ومثل ذلك صرح إبن تيمية بتحقق الوضوح والكفاية في النص، واعتبر أن النبي (ص) قد بيّن جميع الدين؛ أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله[15]. وأشار إلى أن القرآن الكريم بيّن وواضح، لذلك اعتبر الإعتماد عليه أفضل مراتب التفسير وأصحها، وهو تفسير القرآن بالقرآن، فما أُجمل في مكان فقد فُسّر فى مكان آخر، ثم يأتي بعد ذلك تفسير القرآن بالسنة، حيث أنها شارحة للقرآن وموضحة له، ثم أقوال الصحابة، وأخيراً أقوال التابعين[16].

وعلى العموم عدّ إبن تيمية الخطاب الديني بيّناً بعضه يفسر البعض الآخر دون حاجة إلى من يكمله أو يبينه. لذا رفض المحاولات العقلية التي تُسقط المعاني الأجنبية على الخطاب[17]. كما اعتبر «أن الرسول بلغ البلاغ المبين وبيّن مراده وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه أنه يحتاج إلى التأويل الإصطلاحي الخاص، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فلا بد أن يكون الرسول قد بيّن مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر؛ لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان مراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لإمكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين؛ الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرّق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي»[18].

كما اعتبر بعض آخر أن الوضوح والكفاية ليسا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، بل بنصوص الأئمة من أهل البيت، كالذي عليه الطريقة الإخبارية بزعامة محمد أمين الإسترابادي. فنصوص القرآن والسنة بنظر هذا المحدث كلها متشابهة تحتاج إلى بيان، وبالتالي فهي بحاجة إلى نصوص الأئمة التي عدها بينة وكافية لكل ما يحتاج إليه المكلَّف من الأمور الدينية. وإن كان الفيض الكاشاني من الإخبارية إعترض على هذا المبنى، ولم يجد فارقاً في البيان والوضوح بين ما يعود إلى نص الأئمة وما يعود إلى الكتاب والسنة.

وعموماً يرى البيانيون بأن طبيعة البيان تدعو إلى القطع والإطمئنان، وقد كان السلف يلجئون إليه ليستخلصوا منه الدلالات الواضحة القاطعة. فالخطاب واضح ومفيد للقطع والإطمئنان، وهذا ما أشار إليه الشافعي في رسالته ليؤكد قوة البيان وحيويته لكل من يعرف لسان العرب، وأن الإجتهاد الذي يتضمن الظن كما دعا إليه السلف لم يكن موضوعه النص، بل ما لا نص فيه. أما الخلف فقد انقسموا بين إعتبار الخطاب مفيداً للقطع، وبين إعتباره مفيداً للإحتمال، فذهب العقليون منهم إلى تبني الأخير؛ تعويلاً على ما اطلقوا عليه المعارض العقلي. وعلى العكس من ذلك ذهب أصحاب البيان إلى إعتبار دلالات الخطاب واضحة وقطعية؛ بإستثناء ما اختص الله به من علم خاص. لذلك حسبوا أنفسهم لا يقعون في الخلاف، على عكس غيرهم من أتباع الدوائر الأخرى. وكما قال إبن السمعاني وهو يصف أهل البيان والحديث: «مما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق؛ انك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع إختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، وجدتهم في بيان الإعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد، لا ترى بينهم إختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم نقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد وهو على الحق دليل أبين من هذا.. وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين شيعاً وأحزاباً لا تكاد تجد إثنين منهم على طريقة واحدة في الإعتقاد.. وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الإتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المعقولات والأراء فأورثهم الإفتراق والإختلاف»[19].

لكن من حيث التحقيق نعتبر هذا القول غير صحيح، ذلك أن البيانيين وأصحاب الحديث هم أيضاً اختلفوا حول فهمهم لقضايا العقيدة، واعترض بعضهم أحياناً على ما قبله الآخر من النقل. وينطبق هذا الحال حتى على علماء السلف أنفسهم.

إذاً من وجهة نظر الدائرة البيانية يتحدد البيان قبال العقل بعدد من الإعتبارات، منها: إعتبار القطع قبال الظن، والمحكم قبال المتشابه، والحقيقة قبال المجاز، والتفسير قبال التأويل، والخبر قبال الرأي، والاقتداء بالسلف قبال الخلف، والعمل بالإتباع قبال الإبتداع.

وحقيقة الأمر أن ما يتحدث عنه البيانيون من تحقق الوضوح والكفاية في النص؛ إنما ينطبق على عصر الرسالة الدينية، أما خارج دائرة هذا العصر فيحتاج إلى دليل. صحيح أن البيانيين يستشهدون على مدعاهم من الوضوح والكفاية بالنصوص الدينية مثل قوله تعالى: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)) النحل/89، وقوله: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) الانعام/38، وما على هذه الشاكلة من النصوص، لكن كما تبين لنا في (جدلية الخطاب والواقع) أنه لا يفاد من هذه الآيات التفصيل إلا بالقدر الدال على المبادئ العامة وتلك التي كانت معنية بعصر نزول النص، بدلالة أن الكثير من الآيات التي ظاهرها يفيد الإطلاق والعموم إنما تتحدث عن تلك المرحلة من العصر الذهبي، وقد تبين بما لا يقبل الشك أنها ليست معنية بسائر العصور الأخرى المختلفة. لذلك دار النقاش حول حجية الخطاب الديني لغير المشافهين به من ذوي العصور التالية[20]، فما كان بيّناً أصبح غير بيّن لدى الغائبين من أصحاب العصور المتأخرة، وما كان كافياً أضحى غير كاف لما عدا ذلك العصر. الأمر الذي يدل على ما للواقع من دور وتأثير على المسألة المتعلقة بالوضوح والكفاية. فقد تمّ إنزال الخطاب الديني في واقع محدد زماناً ومكاناً، وظهر بينهما من التفاعل والجدل ما هو معلوم، لكن لمّا زال الواقع وغاب؛ فقد أصبح النص مجرداً لا يعكس تمام الصورة التي كانت مرسومة لدى ذلك العصر، إذ أضحى الفهم مستنداً إلى فردية النص دون شراكة الواقع، وصار من المعلوم أن هذا الغياب للشريك الآخر قد أفضى إلى أن يكون النص - بما عليه من إنفراد وتجريد - غير بيّن وكاف طالما غاب عنه شريكه. وفي جميع الأحوال يتوقف الوضوح والكفاية على الشراكة الزوجية بين (النص والواقع)، وأن غياب أحدهما يعني غياباً للوضوح والكفاية. وأصبح الإجتهاد مما لا غنى عنه للتعويض عما فات منهما، وهو الدرس الذي وعاه الفقهاء جيداً!

سادساً:

على الرغم من أن البيانيين يبررون نهجهم استناداً إلى الوضوح والكفاية في النص الديني، إلا أنهم يواجهون مشكلتين تخصان الفقه والفروع، إحداهما أن الممارسة الفقهية لا تدعي بوظيفتها تحصيل القطع في الأحكام، فهي عادة ما تقر بظنية الحديث سنداً ودلالة، فكيف يوفَّق بين هذا الإقرار وبين ما يدعى من الوضوح البياني؟

والجواب هو أن مبرر الممارسة الفقهية قائم على إحراز الحجة القطعية حتى لو أفضى الحكم إلى الظن. وهي تدعي أن هذا الإحراز حاصل. وبالتالي ترى سلوكها قائماً على الوضوح، وهي لا تستعين بنظر قاصد إلى مقصد كلي أو واقع أو عقل. فهذا هو معنى الوضوح البياني، وهو لا يقتضي حالة القطع لدى ممارسة الفهم والتوليد.

أما المشكلة الأخرى فتتعلق بالكفاية البيانية ولها ارتباط بالواقع غير المحدود، إذ أنّى يمكن تغطية ذلك والنصوص محدودة؟ وبعبارة أخرى: من أين تستمد الدائرة البيانية التفصيل الذي يغطي كافة شؤون الواقع ومتغيراته؟ فمن المعلوم أن هذه الدائرة لا تواجه مشكلة حول الأصول والعقائد، بإعتبارها غيبية يكفيها ما جاء حولها من بيان النص دون حاجة إلى إضافات أخرى من الرأي والعقل. لكن المشكلة تنحصر بالفقه لإرتباطه المباشر بالواقع غير المحدود. فرغم أن مصادر التشريع أربعة أو خمسة، هي القرآن والسنة والإجماع والإجتهاد بألوانه المختلف حولها، وأخيراً العقل كما لدى الأصوليين من المذهب الإمامي، إلا أنه ليس لجميع هذه المصادر علاقة بالتفصيل الذي تعوّل عليه الدائرة البيانية لتغطية تغيرات الواقع، بل ينحصر التفصيل في عدد قليل منها. فهو لا يتحدد بالقرآن الكريم، لإعتراف الجميع بأن آياته الخاصة بالفقه والأحكام ليست كثيرة أو كافية. كما أن موارد الإجماع قليلة، ومثله العقل الذي اعتمد عليه الأصوليون من المذهب الإمامي. لذا لم يبقَ إلا الحديث والإجتهاد، وقد اقتصر البعض على الحديث مدعياً عدم الحاجة إلى الأخير لكونه لا يحظى بالحجية والمشروعية الدينية، كالذي عليه تيار الإخبارية في الوسط الشيعي، لكن الغالبية ذهبوا إلى التعويل على الإثنين معاً كمصدرين يستلهم منهما الكفاية لتغطية مستجدات الواقع وليبرروا بهما عملهم من الناحية الدينية. فالسؤال المطروح: هل لهذين المصدرين حجية كافية لأنْ يعوّل عليهما في تسديد حاجات الواقع؟ وهل أنهما يحملان الوضوح كما يتمناه أصحاب البيان؟ إذ تتحدد الإعتبارات التي يقوم عليها الأصل المولّد بكل من الكفاية التفصيلية والوضوح البياني، فلو قبلنا هذين الإعتبارين لكنا مسلمين بصحة الأصل المولّد القائم عليهما، لكن الإعتراض عليهما يعني إعتراضاً عليه.

التنظير لمسألة الوضوح 

يعد إبن تيمية أبرز البيانيين الذين نظّروا لمسألة الوضوح في النص الديني. وقد دلل على هذه المسألة بمبدئين، أحدهما يتعلق باللغة وتقسيمها إلى حقيقة ومجاز، والآخر يرتبط بالتفسير والتأويل. ونطلق على الأول مبدأ الحقيقة، وعلى الثاني مبدأ التفسير. ومن الواضح أن المبدأ الأخير قائم على الأول. وسنتعرف على التنظير الخاص بكلا المبدئين الآنفي الذكر كالتالي:

1ـ مبدأ الحقيقة اللغوية والوضوح 

تدور الإشكالية التي تطرح بهذا الصدد حول ما إذا كانت لغة النص قائمة على الحقيقة أو المجاز؟ وقد أورد إبن تيمية مع تلميذه إبن القيم العديد من الإعتراضات التي تنفي وجود المجاز في لغة النص قبال ما يسمى (الحقيقة)، ورأى أن إصطلاح المجاز بالمعنى الذي يقابل الحقيقة لم يكن وارداً خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وأن تسمية المجاز بإطلاق لم ترد إلا بعد انتهاء القرن الثاني على الأقل. ومن الناحية التاريخية رأى هذا المفكر أن الشافعي (المتوفى سنة 204هـ) مع كثرة مصنفاته ومباحثه مع محمد بن الحسن لم يأتِ على ذكر لفظ المجاز البتة، وهذه رسالته في أصول الفقه ليس فيها لفظ المجاز إطلاقاً. كما لم يرد عن الأئمة فيما دوّنوه أي تقسيم للفظ إلى حقيقة ومجاز. فأول من استخدم هذه اللفظة هو أبو عبيدة معمر بن المثنى (المتوفى سنة 209هـ) الذي صنف كتاباً في تفسير القرآن سماه (مجاز القرآن)، وكان يقصد بهذه اللفظة ما يعبّر به عن اللفظ ويفسر به، وجاء في كلام أحمد بن حنبل (المتوفى سنة 241هـ) شيء من ذلك؛ حين قال بصدد قوله تعالى: ((إني معكم)) بأنه من مجاز اللغة، بمعنى أن هذا الإستعمال مما يجوز في اللغة لا ممتنعاتها، ولم يقصد بالمجاز أنه ليس «حقيقة» أو مستعمل في غير ما وضع له. وقد تمسك بكلام أحمد كل من نسب إليه قوله أن في القرآن مجازاً بالمعنى السابق، كالقاضي أبي يعلى وإبن عقيل وإبن الخطاب وغيرهم، في حين منع آخرون من أصحابه ما نسب إليه، كأبي عبد الله بن حامد وأبي الحسن الجزري وأبي الفضل التميمي. كذلك ظهر الإختلاف بين أتباع الإمام مالك، فكثير من متأخريهم قال أن في القرآن مجازاً، وأما المتقدمون كإبن وهب وأشهب وإبن القاسم فلا يعرف عنهم في ذلك لفظة واحدة. وقد صرح بنفي المجاز في القرآن محمد بن خواز منداد البصري المالكي وغيره من المالكية، وصرح بنفيه داود بن علي الاصبهاني وابنه أبو بكر، ومنذر بن سعيد البلوطي، والبعض يحكي عن أحمد روايتين في الأمر. أما تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز، أو أخذ المجاز بغير المعنى السابق، فقد عدّه إبن تيمية حادثاً بعد القرون الثلاثة الأولى، وكان منشأ التقسيم راجعاً للمعتزلة والجهمية وغيرهم من المتكلمين، وأشهر ضوابطهم قولهم: إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً، ويطلق على ذلك المواضعة، ثم زاد بعضهم في العرف الذي وقع به التخاطب، لتدخل الحقائق الثلاث: اللغوية والشرعية والعرفية[21].

هكذا اتخذ إبن تيمية موقفاً مضاداً لطريقة العقليين حول مسألة المجاز وعلاقتها بفهم النص الديني. فهو كما عرفنا يميز في إستخدام لفظ المجاز بين ما كان عليه عند الأوائل، وبين ما استحدثه المتأخرون من معنى، إذ المقصود به عند الأوائل ما يجوز إستخدامه في اللغة. لكن المتأخرين من أصحاب الدائرة العقلية ابتدعوا له معنى جديداً يتعدى الإستخدام الخاص بالحقيقة، فكان اللفظ عندهم إما أن يدل على الحقيقة، أي إعتبار اللفظ موضوعاً لمعنى محدد، أو يدل على المجاز، بمعنى تجاوز هذه الحقيقة، أي إعتبار اللفظ موضوعاً لمعنى آخر غير ذلك المحدد، أو هو كما يراه العقليون عبارة عن صرف اللفظ من معناه الأصلي المتواضع عليه إلى معنى آخر يجوز إستخدامه في الكلام.

وعليه لم يعترض إبن تيمية على المعنى الأول للفظ المجاز، بل إعترض على معناه الأخير، إذ اعتبر تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز مبتدعاً غرضه تبرير تأويل النصوص وإخراجها عن ظاهرها بدعوى المعارضة مع العقل.

لكن على خلاف ما زعمه إبن تيمية؛ نقل إبن الرفعة نص الشافعي في كتابه (الأم) وهو يعبّر عن جوازه لإستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وحمله عند الإطلاق عليهما. إذ أشار إبن الرفعة إلى أن ذلك ما ذهب إليه الشافعي في (الأم) عند الكلام فيما إذا عقد لرجلين على امرأة ولم يعلم السابق منهما[22]. كما نقل إمام الحرمين الجويني وإبن القشيري أن ذلك هو ظاهر إختيار الشافعي، فإنه قال في مفاوضة له في آية اللمس: هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازاً. وأضاف آخر بأن الشافعي احتج بقوله تعالى: ((لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)) على جواز العبور في المسجد لقوله: ((إلا عابري سبيل)) وقال: أراد مواضع الصلاة، وحمل اللفظ على الصلاة وعلى مواضعها، ودلّ على الصلاة قوله: ((حتى تعلموا))، وعلى مواضعها قوله: ((إلا عابري سبيل)) (النساء/43) فحمل اللفظ على حقيقته ومجازه[23]. وهو في (الرسالة) رأى أن معنى (القرية) كما في قوله تعالى: ((واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت)) (الأعراف/163) هو أهل القرية، فعلى حد قوله أن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، بل أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون، ومثله قوله تعالى: (((وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين)) (الأنبياء/11)، حيث قصد بأهل القرية دون منازلها التي لا تظلم، وعلى هذه الشاكلة قوله تعالى: ((واسأل القرية التي كنّا فيها)) (يوسف/82)[24]. في حين رأى إبن تيمية أن مثل هذه الآيات لا تدل على المجاز، واعتبر القرية في القرآن تأتي بمعنى الساكنين[25]. وهو خلاف ما سبق إليه الشافعي.

كما يبدو أن ما قاله إبن حنبل في تعليقه على بعض النصوص القرآنية أنه من مجاز اللغة؛ هو مما يقابل الحقيقة، لا كما زعم إبن تيمية أن قصده هو مما يجوز في اللغة. بدليل أن داود الاصفهاني وابنه وغيرهما ممن عاصر إبن حنبل قد أنكروا المجاز في اللغة ومن ثم في القرآن والحديث، مما يعني أن مفهوم المجاز في قبال الحقيقة كان متداولاً في ذلك العصر، وإلا لا معنى للإنكار المشار إليه، خلافاً لما ادعاه إبن تيمية. ويشهد عليه بعض ما ورد من محاورات تفيد الغرض[26].

ولدى إبن تيمية أن اللفظ إذا جُرّد من كل شيء فإنه لا يفيد - في الغالب - معنى، ما لم يدخل في قيد أو عبارة مفيدة تضفي عليه المعنى. فمثلاً ليس لمفهوم (الرأس) من معنى محدد، لكن يكون له هذا المعنى عندما يدخل في عبارة أو يضاف إلى مضاف آخر، مثل القول: رأس دابة، ورأس مال، ورأس قوم، ورأس العين، ورأس الأمر... الخ[27]. خلافاً لما يقوله أصحاب الدائرة العقلية من أن للفظ المجرد معنى هو معناه الحقيقي، وأنه إذا دخل في عبارة مفيدة قد يتحول المعنى إلى المجاز.

ومن ذلك ما قدّمه الآمدي من محاولة إثبات المجاز في اللغة قبال الحقيقة، وهو أن أهل اللغة يطلقون اسم الأسد - مثلاً - على الإنسان الشجاع، والحمار على الإنسان البليد، وقولهم ظهر الطريق ومتنها، وفلان على جناح السفر، وشابت لمة الليل، وقامت الحرب على ساق، وكبد السماء وغيرها من العبارات. وكل ذلك يدل على المعنى المجاز، فهم يطلقون تلك الألفاظ مجردة فتأتي مفهومة على معانيها الحقيقية، أو هكذا تتبادر إلى الفهم من أول سماعها، فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع، والحمار في البهيمة، والظهر والمتن والساق والكبد في الأعضاء المخصوصة بالحيوان، واللمة في الشعر إذا جاوز الأذن[28].

وقد ردّ إبن تيمية على ذلك بأن اللفظ عندما يُركّب تركيب مزجٍ أو إسناد أو أضافة فإنه يكون غير اللفظ المجرد من حيث المعنى، فلا هذا هو ذاك، ولا ذاك هو هذا، ومثله كالفارق بين الخمسة كلفظ مجرد وبين الخمسة عشر كلفظ مركّب، حيث لا يعقل أن يقال أن الخمسة في الخمسة المجردة من الإضافة تفيد المعنى الحقيقي، وأنها في الخمسة عشر تفيد المعنى المجاز، حيث أن هذا اللفظ ليس هو ذاك رغم وجود الخمسة في الموضعين. وكذا يقال بخصوص قول اللغويين: جناح السفر والذل وظهر الطريق، حيث في كل تركيب حقيقته الخاصة به، ولا علاقة له باللفظ المجرد. فهذه الأسماء المذكورة مثل لفظ الظهر والمتن والساق والكبد لا يجوز أن تستعمل في اللغة إلا مقرونة بما يبين المضاف إليه، وبذلك يتبين المراد. فقولك: ظهر الطريق ومتنها، ليس كقولك: ظهر الإنسان ومتنه، بل ولا كقولك: ظهر الفرس ومتنه، ولا كقولك: ظهر الجبل. كذلك كبد السماء ليس مثل كبد القوس، ولا هذان مثل لفظ كبد الإنسان.

كما رأى إبن تيمية أنه سواء ثبت وضع متقدم للفظ على الإستعمال، أو كان المراد بالوضع هو ما عرف من الإستعمال، فعلى التقديرين أن اللفظ المضاف لم يوضع ولم يستعمل إلا في معناه المناسب دون غيره، وبالتالي لا يحتاج لفهمه أن تكون هناك قرينة غير ما عليه من الإضافة[29].

هكذا يتبين أن الدائرة البيانية قائمة على بيان اللغة، والبيان يستلزم الحقيقة لا المجاز، خلافاً لما لو اعتبرنا اللغة مجازية كالذي يرمي إليه العقليون. وبالتالي فإن الصراع بين الدائرتين البيانية والعقلية يتجسد في الصراع بين الحقيقة والمجاز، فلو اعتبرنا لغة النص تفيد المجاز لكنا قد ناصرنا الطريقة العقلية، وبالعكس فيما لو اعتبرناها تفيد الحقيقة، فذلك يعني أنها بيانية تكفي دلالتها الإفادة المحددة بعيداً عن الإعتبارات العقلية، مثلما أنها بيانية واضحة المعنى والتفسير من غير تشابه.

لكن لنا على ذلك وقفة نقدية من جهتين كالتالي:

فمن جهة، لو أخذنا بوجهة نظر إبن تيمية من أن الصحيح في معنى لفظ المجاز هو الجواز في إستخدام اللغة، فإن ذلك سوف لا يضر بممارسة الدائرة العقلية للتأويل، فهي كثيراً ما تبدي إستخدام اللغة لمعنى اللفظ الذي تأول به مراد النص. فمثلاً أنها تستشهد على معنى (الإستواء) بالاستيلاء بعدد من أبيات الشعر الجاهلي، ونفس الشيء تفعله عندما تأول آيات الصفات الأخرى، مثل قوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) (القيامة/22ـ23)، حيث ترى أن معنى (ناظرة) لها دلالة على الانتظار، وتستشهد على ذلك ببعض أبيات الشعر[30]. وعليه فإن أصحاب هذه الدائرة لا يمارسون التأويل في الغالب كيفما كان، وإنما بحسب ما يعتقدون أنه وارد في إستخدام اللغة. وإذا كان مبرر العقليين في التأويل هو وجود المعارض العقلي، فإن قريباً منه قد يحدث قليلاً مع أصحاب الدائرة البيانية، ومن ذلك تأويل إبن تيمية لجملة من النصوص لمعارضتها للوجدان العقلي تارة، وللحس تارة أخرى. وبالتالي يصبح الخلاف حول ما إذا كان هناك تقسيم للفظ إلى حقيقة ومجاز أو لم يكن؛ خلافاً نظرياً لا يؤثر على الممارسة الفعلية لكلا الدائرتين العقلية والبيانية.

أما من جهة أخرى، فقد نُقل عن إبن تيمية أنه يعترف بعدم إنكار التقسيم اللفظي إلى حقيقة ومجاز. وكذا أن تلميذه إبن القيم يعترف أحياناً بالتقسيم الحاصل للفظ إلى حقيقة ومجاز. مما يعني أنهما قد هدما كل ما بنياه في معارضتهما للدائرة العقلية.

ومن ذلك ما نُقل عن إبن تيمية أنه لا يمانع من التأويل والمجاز، سيما عندما يرد ذلك عن السلف، حيث قال في بعض فتاويه: «نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله، وبالتأويل الجاري على نهج السلف، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منّا إنّا لا نقول بالمجاز والتأويل، والله عند لسان كل قائل. ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب وما فتح به الباب إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرفة أهل الكتاب. والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز، ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة، وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود وأبي الحسن الخرزي وأبي الفضل التميمي وإبن حامد فيما أظن وغيرهم، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز، وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز، فقابلوا الضلال والفساد بحسم المواد، وخيار الأمور التوسط والإقتصاد»[31].

كما وضع إبن تيمية شروطاً أربعة للتأويل؛ يقوم بعضها على أصل التقسيم اللفظي إلى الحقيقة والمجاز، وهي كالتالي:

1ـ أن يكون اللفظ مستعملاً بالمعنى المجازي، حيث أن الكتاب والسنة وكلام السلف جاؤوا باللسان العربي المبين، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، لذا لا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا إستطاع كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى ناسخ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.

2ـ أن يكون هناك دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا إذا كان إستعمال المعنى قابلاً للنحوين الحقيقة والمجاز، فإنه لا يصح حمله على هذا الأخير ما لم يظهر دليل يوجب الصرف عن الحقيقة بإجماع العقلاء. وإذا كانت هناك دعوى بوجوب صرف اللفظ عن الحقيقة، فلا بد من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب هذا الصرف والحمل على المجاز.

3ـ لا بد أن يسْلَم ذلك الدليل الصارف عن المعارض الديني، وإلا إذا قام دليل قرآني أو ايماني يبين أن الحقيقة هي المراد، امتنع تركها.

4ـ إن الرسول (ص) إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلا بد أن يبين كلامه وأنه لم يرد حقيقته بل أراد مجازه، سواء عيّنه أو لم يعيّنه، لا سيما الخطاب العلمي الذي يراد منه الإعتقاد دون عمل الجوارح. وبالتالي لا يجوز أن يتكلم النبي بكلام ويفهمه الآخرون خلاف ظاهره؛ ما لم يأتوا بالدليل الذي يمنع حمله على الظاهر، حيث إما أن يكون الدليل عقلياً مثل قوله تعالى: ((واوتيت من كل شيء)) (النمل/ 23)، وقوله: ((خالق كل شيء)) (الزمر/ 62)، حيث يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم.. أو يكون الدليل سمعياً مثل بعض الدلالات السمعية التي تصرف الأخذ بظواهر بعض النصوص[32].

وعلى هذه الشاكلة رأى إبن القيم أن صرف اللفظ إلى مجازه لا يتم إلا بعد أربعة مقامات، وبدونها تصبح الدعوى باطلة، وهي كما يلي:

أحدها: بيان إمتناع إرادة الحقيقة.

الثاني: بيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى الذي عيّنه وإلا كان مفترياً على اللغة.

الثالث: بيان تعيين ذلك المجمل إن كان له عدة مجازات.

الرابع: الجواز عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة[33].

كذلك أنه اعتبر المجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص، وإنما في الظاهر المحتمل له، ورتب على ذلك قاعدة تمكّن من معرفة اللفظ المنصوص (المبين) بشيئين، أحدهما عدم إحتماله لغير معناه وضعاً، كالعشرة. والثاني ما أطرد إستعماله على طريقة واحدة في جميع موارده، فإنه نص في معناه لا يقبل تأويلاً ولا مجازاً. وقد اعتبر هذه القاعدة نافعة للدلالة على خطأ الكثير من التأويلات التي لاحت النصوص المطردة الإستعمال، حيث رأى التأويل مناطاً بالظاهر الشاذ المخالف لغيره، والغرض منه موافقة الغير، في حين إذا اطردت النصوص كلها على وتيرة واحدة فإنها تصير بمنزلة النص وأقوى، ويكون تأويلها ممتنعاً[34].

وبهذا يعترف إبن القيم ضمناً بوجود المجاز وقبول التأويل، ولو ضمن الإستثناء المعبر عنه باللفظ الشاذ، لذلك استدل على اللفظ المنصوص، ولولا الإعتراف بوجود المجاز لما استدعاه ذلك أن يستدل على الأول ويميزه عن هذا الأخير.

كما نُسب لإبن القيم كتاب اسمه (الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان) قال فيه: «إعلم وفقنا الله واياك إن اللفظ إذا استعمل فيما وضع له فهو حقيقة، وإنْ استعمل في غير ما وضع له فهو الموكل، وإن كان لمناسبة فإن حسن فيه أداة التشبيه فهو مجاز التشبيه، وإنْ لم يحسن فيه إظهار أداة التشبيه فهو إستعارة». وقد اعترف بأن العرب كانوا يستخدمون المجاز أكثر من الحقيقة[35].

 

2ـ مبدأ التفسير والوضوح 

بنى إبن تيمية اطروحته في التفسير طبقاً لما سلّم به من كون اللغة قائمة على الحقيقة؛ ناكراً تقسيمها إلى حقيقة ومجاز. واعتبر النص يمتاز بالحقيقة والوضوح وكفاية المعنى. وآل به هذا الحال إلى أن يردّ على الدائرة العقلية التي ترى التشابه في أصناف كثيرة من النص الديني، وعلى رأسها مسألة الصفات الإلهية. وبرر موقفه هذا بالتعويل على مسلك السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، حيث رأى أنه ليس فيهم أحد جعل تلك الصفات أو غيرها من المتشابه الذي تنص عليه آية المتشابهات. كما ليس منهم أحد نفى العلم بها أو جعلها بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا أنهم قالوا أن الله أنزل كلاماً لا يفهم أحد معناه، بل قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلها كما يفعل أصحاب الدائرة العقلية كالجهمية وغيرهم. أي أنهم نهوا عن صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، وهو التأويل بحسب عرف المتأخرين. وقد اعتبر إبن تيمية أن هذا المعنى من التأويل هو غير المعنى الوارد في آية المتشابهات، والتي جاء فيها أن الله استأثر بعلم تأويل المتشابهات. وأشار إلى أن طوائف من أصحابه أخطأوا عندما ظنوا أن المقصود بالتأويل في هذه الآية هو التفسير والمعنى، فاعتبر هذا الفهم يفضي إلى التسليم بما يقوله أصحاب الدائرة العقلية، حيث يصبح للآية تفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ثم فإن هذا الكلام يخالف – برأيه - ما عليه السلف الذين كانوا يعرفون معاني النصوص بما فيها معاني الصفات وغيرها مما يعدها الآخرون أنها من المتشابهات، فهم على علم بتفسير النصوص الدينية لكنهم يجهلون الكيفية الخارجية لقضايا المتشابهات، وهو المقصود بالتأويل المذكور في تلك الآية، إذ جاءت هذه اللفظة بمعنى محدد غير ما يراه أصحاب الدائرة العقلية، بدلالة أن حبر الأمة إبن عباس كان ممن يقول بأنه لا يعلم تأويله إلا الله، لكنه كان يجيب مجاهداً عن كل آية في القرآن ويفسرها له[36].

وبرأي إبن تيمية أن للتأويل أكثر من معنى، حيث ميّز بين ثلاثة معان أشار إلى بعضها القرآن الكريم، أحدها بمعنى صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهو المذكور في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم. أما المعنيان الآخران فقد نسبهما إلى ما تعارف عليه السلف، أحدهما بمعنى تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً أو مترادفاً. وهو الذي عناه مجاهد من أن العلماء يعلمون تأويله، وكان إبن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك، ومراده التفسير. أما المعنى الثالث والأخير للتأويل فهو نفس المراد بالكلام، أو هو عبارة عن الحقيقة الخارجية، سواء كانت ماضية أو مستقبلة، فإذا قيل: طلعت الشمس فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون التأويل من باب الوجود العيني الخارجي، فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وإخبار، لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما يُفهمه المتكلم من معنى؛ إما بضرب المثل وإما بالتقريب وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها وإما بغير ذلك. في حين أن المعنى الذي سبقه فهو من باب العلم والكلام؛ كالتفسير والشرح والإيضاح، فهو موجود في الذهن واللفظ والرسم، وهو يخالف المعنى الثالث الموجود في الخارج. وقد استشهد إبن تيمية على المعنى الأخير للتأويل بآيات من القرآن، وطبّق ذلك على آية المتشابهات، ليجمع بين القول بأن الصحابة وعلماء السلف كانوا على علم بفهم النص وتفسيره، وبين القول بأنهم لا يعلمون طبيعة الأمور الغيبية بما فيها الصفات الإلهية؛ طبقاً لآية المتشابهات التي جرى فيها الوقف بقوله تعالى: ((وما يعلم تأويله إلا الله)).

فمن الآيات التي فسّرها طبقاً للمعنى الثالث ما جاء في قول يعقوب ليوسف: ((وكذلك يجتبيك ربّك ويعلّمك من تأويل الأحاديث ويتمّ نعمته عليك)) (يوسف/6)، فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه كما قال يوسف فيما بعد: ((هذا تأويل رؤياي من قبل)) (يوسف/100). ومثله قوله تعالى: ((ودخل معه السّجن فتيان قال أحدهما إنّي أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطّير منه نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين)) (يوسف/36)، ومثله: ((قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما)) (يوسف/37)، فمعنى ذلك هو أن يوسف سيخبرهما قبل أن يأتيهما التأويل وهو مستقبل الحدث. وعلى هذه الشاكلة قول الملأ: ((أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين)) (يوسف/44)، ومثله: ((وقال الّذي نجا منهما وادّكر بعد أمّة أنا أنبّئكم بتأويله فأرسلون)) (يوسف/45)، وقول يوسف لما دخل عليه أهله مصر: ((آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين)) (يوسف/99)، وقوله: ((ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجّداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّي حقاً)) (يوسف/100). وكذا في قوله تعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)) (النساء/59)، حيث المعنى هو أحسن عاقبة ومصيراً، فالتأويل هو تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة. وقد كان التأويل في سورة يوسف هو تأويل أحاديث الرؤيا، وأن التأويل في سورتي الأعراف ويونس هو تأويل القرآن، وكذا هو الحال في سورة آل عمران، ومثل ذلك في قوله تعالى حول قصة موسى والعالم: ((قال هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً)) (الكهف/78)، إلى قوله: ((وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً)) (الكهف/82)، حيث معنى التأويل في هذه الآيات هو تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها ومن قتل الغلام ومن إقامة الجدار، فهو تأويل عمل لا تأويل قول[37].

لكن كما ينقل شارح الطحاوية أن في آية المتشابهات قراءتين، قراءة من يقف على قوله ((إلا الله))، وقراءة من لا يقف عندها، وبنظره أن كلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، وهي التي قال بها إبن تيمية كما عرفنا. أما الثانية فيراد بها المتشابه الأضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. وهو قد اعتبر أن من قال بالوقف عند قوله ((إلا الله)) لا يريد التأويل بمعنى التفسير للمعنى، إذ لازم هذا القول أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظّ لهم في معرفة المعنى سوى قولهم: آمنا به كل من عند ربنا. وعلى رأيه أن ذلك يتنافى أيضاً مع ما روي عن إبن عباس أنه قال: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، مؤيداً نقله بما روي عن النبي أنه دعا له وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، كالذي رواه البخاري وغيره، كذلك أنه استشهد بما قاله مجاهد: عرضت المصحف على إبن عباس، من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية أنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله. كما أنه عرض للأصحاب قولهم في معنى المتشابه، وهو أنه عبارة عن الحروف المقطعة في أوائل السور، ويروى هذا عن إبن عباس. لكنه استدرك على ذلك بأن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، لذا فعلى رأيه إن كان معناها معروفاً، فقد عرف معنى المتشابه، وإنْ لم يكن معروفاً، وهي المتشابه، كان ما سواها معلوم المعنى، وهو المطلوب[38].

هكذا يصل إبن تيمية وأتباعه إلى أن النصوص الدينية واضحة المعاني، ومن ذلك معاني النصوص الخاصة بالصفات الإلهية، حيث لا يتعارض فهم معناها مع الجهل بكيفيتها الخارجية تبعاً لآية المتشابهات. لكن ذلك غير مقنع، كالذي يتضح من خلال الفقرتين التاليتين:

أولاً:

لقد ادعى إبن تيمية أن السلف كانوا يفهمون المعنى الثالث للتأويل وأنه المراد به في آية المتشابهات، مع أنه لم يقدّم على ذلك دليلاً صريحاً. كما أنه إستعان بما جاء عن إبن عباس أنه فسّر القرآن كله لمجاهد، مع أن ما ينقل عن إبن عباس أنه قسّم التفسير إلى أربعة أنواع، أحدها ذلك الذي استأثره الله على العباد، وهو الذي يكون داخلاً ضمن المتشابه، خلافاً لغيره من التفسير الذي بعضه يعلمه العلماء، وبعض آخر يعلمه الجميع، وبعض ثالث يُعرف من كلام العرب ولغتها[39]، وظاهر هذا التمييز يخالف ما فسّره إبن تيمية من أن المقصود به المعنى الثالث للتأويل، تعويلاً على ما جاء من أن إبن عباس فسّر القرآن كله لمجاهد. رغم أن النص المنقول عن إبن عباس لا يفيد المعنى المذكور، وروي عن إبن أبي مليكة أن إبن عباس سُئل عن آية فأبى أن يقول فيها. ويؤيد ذلك ما روي عن العديد من التابعين انهم يتهيبون تفسير القرآن، ومن ذلك أنه جاء عن عبيد الله بن عمر قوله: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع. وجاء عن سعيد بن المسيب، أنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئاً. كما جاء عن إبن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن[40]. وجاء أنه سأله رجل عن آية؟ فقال: لا تسألني عن القرآن وسلْ عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه، ويعني عكرمة، وهو كلام يُشعر بالإنكار على من يزعم ذلك[41]، سيما وقد كانت بين إبن المسيب وعكرمة خصومة واتهامات[42]. وعن إبن سيرين أنه قال: سألت عبيدة السلماني عن آية؟ قال: عليك بالسداد، فقد ذهب الذين علموا فيمَ نزل القرآن. وعن الشعبي أنه قال: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله. وعن الشعبي أيضاً: ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي[43]. وعن مسروق أنه قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله. وعن ابراهيم أنه قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وعن هشام بن عروة أنه قال: ما سمعت أبي تأوّل آية من كتاب الله[44]. وجاء عن السيدة عائشة أنها قالت: ما كان النبي (ص) يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً تعد، علّمهن إياه جبريل[45].

كما نقل بعض الحنابلة أن الإمام أحمد بن حنبل اعتبر المتشابه هو الذي يحتاج إلى بيان، فتارة يبين بكذا وتارة بكذا، لحصول الإختلاف في تأويله، نحو قوله تعالى: ((يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء)) (البقرة/228) لأن القرء مشترك بين الحيض والطهر[46]. كذلك نقل الغزالي في (المنخول) عن إبن عباس أنه كان يميل إلى إعتبار المتشابه هو ما عسر إجراؤه على ظاهره كآية الإستواء[47].

هذا بالإضافة إلى أن القدماء ومنهم علماء السلف قد اختلفوا في تفسير نصوص القرآن إختلافاً واسعاً. والإختلاف دال على الشك في معرفة المراد، وهو ما يلغي القاعدة التي بنى عليها أهل البيان منهجهم، وهو الوضوح البياني. فهم بذلك لا يختلفون عن أتباع الدائرة العقلية الذين أصابهم الخلاف الواسع حول القواعد العقلية التي بنوا عليها منهجهم في الفهم والتوليد.

ثانياً:

لقد استدل إبن تيمية على أن الصفات الإلهية - فضلاً عن غيرها - ليس فيها من المتشابه الذي لا يعلم معناه، فقد سمى الله نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرؤوف ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات مثلما هو الحال في سورة الإخلاص وفي آية الكرسي وأول سورة الحديد وآخر الحشر وغيرها مما له دلالة على علوه وارتفاعه واستوائه على العرش وأن له يدين ووجهاً وعيناً وما إلى ذلك، فإما أن تكون جميع هذه النصوص متشابهة وهو ما لا يعقل، أو أن بعضها يكون متشابهاً دون البعض الآخر، مع أن الدلالة فيها جميعاً واحدة، فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير علي عظيم؛ كدلالته على أنه عليم قدير؛ ليس بينهما فرق من جهة النص، وكذا ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته[48].

ولا شك أن هذا الإستنتاج يقوم على إعتبار اللغة تفيد الحقيقة دون مجاز، ولولا ذلك ما تهيأ لإبن تيمية إعتبار جميع تلك النصوص ذات دلالة متساوية من حيث المعنى، إذ لقائل أن يقول بأن اللفظ جاء في بعضها على نحو الحقيقة، وفي البعض الآخر على نحو المجاز لتقريب المعنى. لكن عند إعتبار اللغة تفيد الحقيقة دون مجاز يصبح من المتعذر ترتيب التأويل عليه، لبداهة أن التأويل قائم على مفهوم المجاز لا الحقيقة.

يبقى أن نقول بأن هذا الإتساق هو من حيث المبدأ النظري، أما من حيث الممارسة والتطبيق فشيء آخر مختلف. فقد مارس إبن تيمية التأويل وخالف ظاهر النص أحياناً لأسباب مختلفة، وكذا فعل تلميذه إبن القيم. ناهيك عن أنهما اعترفا بالتقسيم اللغوي إلى ثنائية الحقيقة والمجاز؛ بعد الإنكار الذي طال مختلف كتبهما.

فرغم الحرب التي شنّها هذان الشيخان ضد الطريقة العقلية واتهامها بممارسة التأويل بدعوى المعارضة مع العقل، إلا أنهما مارسا هذه الظاهرة بدعاوى مختلفة، فتارة بحجة الوضوح العقلي أو الحسي، مثل تأويل قوله تعالى: ((خالق كل شيء)) (الأنعام/102)، وثانية بدعوى المعارضة بأدلة لفظية أخرى وسلفية، وأبرز ما ورد حول ذلك ما يتعلق بآيات الجهة والمكان للصفات الإلهية، حيث تم تأويل هذه الآيات تبعاً لأدلة لفظية أخرى معارضة، أو تبعاً لما ورد من نصوص سلفية كالذي جاء عن الإمام أحمد بن حنبل.

فحول قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) (ق/16) ذكر إبن القيم أن هذه الآية اختلف حولها المفسرون السلف والخلف إلى قولين من التوجيه والتأويل، فمنهم من قال: نحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والإحاطة، وبالتالي كان المعنى هو قرب الله من حيث قدرته ومشيئته وإحاطة علمه به. أما البعض الآخر فقد قال بأن المراد هو قرب ملائكته، وأضاف ذلك إلى نفسه بصيغة الجمع على عادة العظماء في أضافة أفعال عبيدهم إليهم من حيث أوامرهم ومراسليهم، فيقول الملك نحن قتلناهم وهزمناهم. فمثل ذلك مثل قوله تعالى: ((فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)) (القيامة/18) وجبرائيل هو الذي قرأه على رسول الله (ص)، وكذا قوله تعالى: ((فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)) (الأنفال/17)، حيث أضاف قتل المشركين يوم بدر إليه، وملائكته هم الذين باشروهم بالقتل بأمره تعالى. واعتبر إبن القيم هذا القول أصح من القول الأول[49].

وعلى هذه الشاكلة حاول إبن تيمية أن يبرر توجيه بعض الآيات خلاف ظاهرها الدال على المعية الإلهية، حيث جاء في بعض النصوص ما يدل على المعية العامة، وفي بعضها الآخر ما يدل على المعية الخاصة، لذلك كان لا بد من تأويل بعضها لصالح البعض الآخر، وإلا برأيه لتناقضت النصوص من حيث الدلالة، حيث المعية العامة هي غير المعية الخاصة، فإما أن تصدق الأولى أو الثانية. فمما جاء في المعية العامة قوله تعالى: ((ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم)) (المجادلة/7)، وكما يقول إبن تيمية: إن الله افتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال إبن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل: هو معهم بعلمه. أما ما جاء بشأن المعية الخاصة فمثل قوله تعالى: ((إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)) (النحل/128)، وقوله لموسى: ((إنّني معكما أسمع وأرى)) (طه/46)، وقال تعالى: ((إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)) (التوبة/40) يعني النبي (ص) وأبا بكر، فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين. لذا اعتبر أنه لو كان معنى هذه الآيات أن الله بذاته في كل مكان، لتناقض الخبران الخاص والعام، أي لتناقض القول بالمعية الذاتية الخاصة مع العامة. ومثل ذلك تأويله لقوله تعالى: ((وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)) (الزخرف/84)، أي هو إله من في السماوات وإله من في الأرض، كما قال تعالى: ((وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم)) (الروم/27)، وكذلك قوله: ((وهو الله في السماوات وفي الأرض)) (الأنعام/3)، حيث فسّره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره بأنه المعبود في السماوات والأرض[50].

هكذا يتضح أن إبن تيمية لا يمانع من التأويل أحياناً، لكنه يفعل ذلك عند الضرورة دون اطناب كالذي تمارسه الدائرة العقلية. وله في التأويل والتوجيه مسالك عدة كالتالي:

ففي مسلك أنه يضطر إلى التأويل بإعتبار أن الدلالة الظاهرة من اللفظ تفضي إلى التعارض مع الوجدان العقلي والحسي، كما سبقت الإشارة إليه، فهو يوجه الدليل اللفظي لصالح الحقيقة العقلية والحسية.

وفي مسلك آخر أنه يقوم بتأويل بعض النصوص من خلال الإعتماد على نصوص أخرى، فيمارس بذلك نوعاً من الجمع وإن كان على حساب المعنى الظاهر في بعضها. فمثلاً جاء في بعض النصوص أن الله ((لا تدركه الأبصار)) (الانعام/103)، وفي بعض آخر أنه يُرى كما في قوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) (القيامة/22ـ23)، فاعتبر النص الأول له دلالة على نفي الإحاطة وليس مطلق الإدراك كالرؤية، تعويلاً على ما جاء في النص الأخير، أو لكون ذلك مما قاله السلف، إذ ذكر بصدد النص الأول: «إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قال أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى.. فهو دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها»[51]. ويلاحظ أن هذا المعنى من الجمع هو غير الجمع بين الدلالات الظاهرة للنصوص المتعارضة، كالجمع بين نصوص الصفات التشبيهية من اليد والعين والإستواء والغضب وما إليها وبين قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) (الشورى/11)، حيث الجمع بين هذه الأطراف المتعارضة لا تكون لصالح بعضها على حساب البعض الآخر، وإنما يؤخذ بالدلالات الظاهرة للجميع كالذي يزاول شأنه في القضايا الفقهية والأصولية ضمن ما يعرف بالجمع بين المتعارضات، حيث العقل معزول، خلافاً لما تفعله الدائرة العقلية التي تحكّم العقل على النصوص ولا تعمل بتلك القاعدة الجمعية عند التعارض بين النصوص إلا بعد أن تستوفي فعلها من المرجعية العقلية.

وهناك مسلك ثالث للتأويل يعمل وفق بعض النصوص على حساب نصوص أخرى، وغالباً ما يتم ذلك لإعتبارات سلفية. ومن ذلك موقف إبن تيمية من الجهة والمكان في الصفات الإلهية كما رأينا، فهو يقبل أن يكون الله على عرشه فوق السماوات السبع تبعاً لبعض النصوص، لكنه يأول سائر النصوص التي تبدي أنه في كل مكان. ولو أنه فعل العكس لكان قد جمع بين النصوص كافة، فبعضها يدل على أنه موجود في كل مكان، والبعض الآخر يدل على أنه في السماء وفي الأرض ومعنا... الخ. والحصيلة من هذا الجمع هو أنه موجود في كل مكان، وأن الآيات قيدت هذا المعنى تارة، وأخرى لم تقيده، والجمع بينهما ليس بالجمع بين المتنافيات، حيث أحدهما يتضمن الآخر ولا يعارضه. وقد كان إبن عربي يرى أن دلالات تعدد تقييده وتحديده بالأمكنة، وكذلك تنزيهه أحياناً، كلها تفيد عدم التقييد والتحديد[52].

مع هذا فلدى إبن القيم محاولة سعى فيها إلى نوع من الجمع والتوفيق، فهو وإن اعتبر الحق تعالى عالياً على العرش، لكن هذا «لا ينافي إحاطته بالعالم وكونه في قبضته، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر، وأن إحاطته بخلقه لا تنفي مباينته لهم ولا علوه على مخلوقاته، بل هو فوق خلقه محيط بهم مباين لهم»[53]. مع أن الإحاطة تتنافى فعلاً مع العلو، إن كانت إحاطة ذات، مثلما أن العلو علو ذات، فالمحيط موجود في كل السطوح دون جهة محددة كالفوقية والسفلية. والأمر لا يخرج عن التأويل، كالذي يظهر مما قاله شارح العقيدة الطحاوية من أن المراد بالإحاطة هي إحاطة عظمته وسعة علمه وقدرته، وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة[54].

يبقى هناك مسلك آخر لإبن تيمية يعالج فيه بعض القضايا التي يوجهها العقليون لمخالفتها للوجدان الحسي، لكنه يتعامل معها تعاملاً ظاهراً دون إضطرار إلى التوجيه والتأويل، بل يوظفها كحجة للقول بأن كل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله فهو حقيقة بلا مجاز[55]. فمثلاً جاء في قوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ)) (الكهف/77)، فاعتبر لفظ الإرادة مستعملاً في الميل الذي يكون معه شعور، وهو ميل الحي، وكذا في الميل الذي لا شعور فيه، وهو ميل الجماد، وعنده أن ذلك من مشهور اللغة، حيث «يقال هذا السقف يريد أن يقع، وهذه الأرض تريد أن تحرث، وهذا الزرع يريد أن يسقى»[56]. ومثل ذلك جاء في قوله تعالى: ((فأذاقها الله لباس الجوع والخوف)) (النحل/112)، حيث اعتبر أن كلاً من الإذاقة واللباس حقيقة، إذ كلاهما مستخدمان في المحسوسات والمعنويات[57]. ومثله ما جاء في آيات (القرية) كقوله تعالى: ((واسأل القرية)) (يوسف/82)، فبرأيه أنها لا تدل على المجاز بإعتبار أن القرية في القرآن تأتي بمعنى الساكنين[58].

لكن كما لاحظنا أنه ليس هناك إتساق فيما لجأ إليه إبن تيمية في كيفية تعامله مع نص الخطاب، إذ لا يخلو هذا التعامل من ازدواجية. كما أن نهجه في بعض ممارساته التأويلية لا يختلف عن النهج الذي اتبعه العقليون، وذلك أنه رفض الجمع بين متعارضات النصوص، ولجأ إلى قبول بعضها وتأويل البعض الآخر، وهو ذات ما يفعله خصومه من أصحاب الدائرة العقلية، مع لحاظ إختلاف المبررات والذرائع التي دفعته لذلك عن تلك التي دفعت غيره من أصحاب تلك الدائرة.

 



[1]  انظر القسم الثالث من كتابنا: منطق فهم النص، دار أفريقيا الشرق، الدرا البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2010م.

[2]  انظر القسم الثاني من: منطق فهم النص.

[3]  صون المنطق والكلام، ص179.

[4]  نفس المصدر السابق، ص94ـ97.

[5]  المصدر السابق، ص95ـ96.

[6]  المصدر السابق، ص166ـ167.

[7]  المصدر نفسه، ص182.

[8]  أنظر التفاصيل في الفصل الأول من: فهم الدين والواقع.

[9]  فهم الدين والواقع، الفصل الرابع.

[10]  لاحظ: فهم الدين والواقع، الفصل الرابع. كذلك: جدلية الخطاب والواقع، الفصلين الرابع والخامس، طبعة دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2010م.

[11]  انظر بهذا الخصوص الفصل الثامن من: جدلية الخطاب والواقع.

[12]  الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص20. كذلك: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، الباب الحادي عشر، ص40.

[13]  البحر المحيط، فقرة 1256.

[14]  إبن حزم الأندلسي: الإحكام في أصول الأحكام، قوبل الكتاب على نسخة أشرف على طبعها أحمد شاكر، 1345هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص48. كذلك: مدخل إلى فهم الإسلام، ص357.

[15]  مجموع فتاوى إبن تيمية، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج19 (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).

[16]  إبن تيمية: مقدمة في أصول التفسير، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).

[17]  إبن تيمية: إقتضاء الصراط المستقيم، مكتبة الرياض الحديثة، ص451. وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، ص41.

[18]  إبن تيمية: درء تعارض العقل والنقل، شبكة المشكاة الإلكترونية، الجزء الأول، ضمن الوجه الأول من وجوه الرد على أصحاب الدليل العقلي (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).

[19]  صون المنطق والكلام، ص167ـ168.

[20]  أنظر بهذا الصدد: جدلية الخطاب والواقع، خاصة الفصل الرابع والأخير.

[21]  إبن تيمية: الايمان، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ ـ1983م، ص80. ورسالة في الحقيقة والمجاز، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته). ومحمد بن الموصلي: مختصر الصواعق المرسلة لإبن القيم الجوزية، تصحيح زكريا علي يوسف، مطبعة الإمام 13، مصر، ص242ـ243.

[22]  البحر المحيط، فقرة 393.

[23]  البحر المحيط، فقرة 393.

[24]  الشافعي: الرسالة، ص62ـ64.

[25]  إبن تيمية: كتاب الايمان، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ ـ1983م، ص101ـ102.

[26]  قيل أنه استدل إبن سريج على أبي بكر بن داود بقوله تعالى: ((لهدّمت صوامع وبيع وصلوات)) (الحج/40)، فقال: الصلوات لا تهدم، وإنما أراد به مواضع الصلوات، وعبر بالصلوات عنها على سبيل المجاز فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، قال: فلم يكن له جواب. وعلّق على ذلك الشيخ أبو اسحاق بما ذكره أبو عبيد في كتاب (الأموال) من أن الصلوات بيوت تبنى في البراري للنصارى يصلون فيها في أسفارهم تسمى صلوتا، فعربت صلوات، ومنه قوله تعالى ((لهدمت صوامع وبيع وصلوات)) إنما أراد هذه البيوت على ما يروى في التفسير. وقد اعتبر الزركشي أن ذلك غريب، وعليه فلا حجة على داود إذ لا مجاز حينئذ (البحر المحيط، فقرة 418ـ419).

[27]  الايمان، ص80. ومختصر الصواعق المرسلة، ص243.

[28]  إبن تيمية: رسالة في الحقيقة والمجاز، ضمن فصل حول حجة المثبتين للمجاز.

[29]  المصدر السابق.

[30]   لاحظ مثلاً: شرح الأصول الخمسة، ص245.

[31]  محمد جمال الدين القاسمي: تفسير القاسمي، المسمى محاسن التأويل، دار احياء الكتب العربية، رقمه وخرج اياته وأحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، ج17، ص6156.

[32]  إبن تيمية وجهوده في التفسير، ص160ـ161.

[33]  إبن القيم: بدائع الفوائد، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، ضمن فقرة: فائدة: تجرد اللفظ عن جميع القرائن الدالة على مراد المتكلم ممتنع في الخارج (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).

[34]  بدائع الفوائد، ج1، ضمن فقرة: فائدة: المجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص.

[35]  عن: منصور محمد عويس: إبن تيمية ليس سلفياً، دار النهضة العربية في القاهرة، الطبعة الأولى، 1970م، ص37ـ39. علماً بأن الكتاب المنسوب لإبن القيم ليس له ذكر في مؤلفاته المعروفة، وإن كان كتابه (بدائع الفوائد) قد ذكر فيه ما يدل على الإعتراف بتقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز، كالذي استشهدنا به في المتن.

[36]  إبن تيمية: الرسالة التدمرية، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ص59ـ60.

[37]  إبن تيمية: رسالة الإكليل في المتشابه والتأويل، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام الصفحات ولا الفقرات). ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل الخاتمة الجامعة، القاعدة الخامسة.

[38]  شرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: ولا يصح الإيمان بالرؤية).

[39]  الطبري: جامع البيان، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص54.

[40]  جامع البيان، ج1، ص59.

[41]  تفسير القاسمي، المسمى محاسن التأويل، ج1، ص100.

[42]  أنظر بهذا الصدد: يوسف بن عبد البر النمري: جامع بيان العلم وفضله، موقع أم الكتاب للأبحاث والدراسات الإلكترونية، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض (لم تذكر ارقام صفحاته). وانظر أيضاً: مشكلة الحديث، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م، ص123.

[43]  جامع البيان، ج1، ص59ـ60.

[44]  محاسن التأويل، ج1، ص100.

[45]  جامع البيان، ج1، ص59.

[46]  البحر المحيط، فقرة 285.

[47]  البحر المحيط، فقرة 285.

[48]  الإكليل في المتشابه والتأويل.

[49]  مختصر الصواعق المرسلة، ص411.

[50]  إبن تيمية: الفرقان، ص96ـ97.

[51]  الرسالة التدمرية، ص40ـ41.

[52]  مؤيد الدين الجندي: شرح فصوص الحكم، تعليق وتصحيح جلال الدين اشتياني، انتشارات دانشگاه مشهد، ايران، ص432.

[53]  مختصر الصواعق المرسلة، ص417.

[54]  شرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: وهو مستغن عن العرش وما دونه).

[55]  إبن تيمية: كتاب الايمان، ص97.

[56]  كتاب الايمان، ص97.

[57]  المصدر السابق، ص99ـ100.

[58]  نفس المصدر السابق، ص101ـ102.

comments powered by Disqus