أزمة الإجتهاد الشيعي

يحيى محمد

اقترن ظهور الإجتهاد في الدائرة الشيعية مع إغلاق بابه في الدائرة السنية. وقبل هذه الفترة كان علماء الشيعة -عدا من شذ منهم- يعولون على محض النصوص والأخبار الواردة عن الأئمة. لكن بعد إنقطاع الإمامة في منتصف القرن الثالث الهجري ظهرت الحاجة للإجتهاد لدى عدد من الفقهاء، فانقسم العلماء إلى مسلكين؛ إلتزم أحدهما بما كان عليه السلف من اتباع محض النصوص والأخبار، في حين لم يجد الثاني بداً من ممارسة بعض صور الإجتهاد، مثلما أشار إلى ذلك عدد من العلماء، كالشهرستاني والعلامة الحلي وغيرهما[1].

وقد أدى الحال إلى انتصار تيار المجتهدين المعبّر عنهم بالأصوليين، حيث خرج الإجتهاد من المرحلة النقلية البحتة إلى عمل قائم على تمحيص الرواية ومقارنتها بغيرها مما يعارضها، ومن ثم انتزاع الحكم والفتوى. ومع ظهور المصطلح الجديد في تقسيم الحديث، وكثرة نقد الرواية ونقد رجال الحديث ومن ثم تضعيف الكثير من روايات الكتب المعتبرة؛ برز إتجاه الإخبارية الذي استهدف العودة إلى ما كان عليه الأمر قبل التنظير الإجتهادي، وذلك برفض فكرة الإجتهاد وإعادة الإعتبار للأحاديث وعدم نقد الرواة والروايات الواردة في تلك الكتب، كرد فعل على التكريس الإجتهادي وتوسّعه خلال القرون. لكن الأمر ولّد فعلاً معاكساً، وهو الإمعان في الطريقة الإجتهادية ونقد الرواية إلى الدرجة التي وصلت إلى طريق مسدود، كالسلوك الذي اتّجه إليه أصحاب دليل الإنسداد. ثم آل الأمر بعد نقد هذا الدليل للعودة إلى الطريقة الإجتهادية المعمول بها قبل ظهور الإخبارية، ومازالت هذه المرحلة قائمة إلى يومنا هذا.

وأول ما بدأ به الإجتهاد لدى الشيعة هو العمل بالقياس، وذلك على يد فقيهين كبيرين هما إبن الجنيد وإبن أبي عقيل العماني. ومن الغرابة حقاً أن يحصل ذلك في وسط معبأ بكثرة الرواية والأخبار ونقد القياس والرأي والإستحسان وسائر صور الإجتهاد. وهذا ما جعل المحاولة تموت في مهدها، سيما وأنه لم يحتفظ بكتب هذين الفقيهين فتعرضت للضياع[2]، كما أهمل العلماء أمر الفقيهين واعتبروهما من الشواذ في الوسط العلمي.

وأغرب من ذلك ما نُقل عن وجود جماعة من أصحاب الأئمة كانوا يعملون بذلك النوع من الإجتهاد، ومنهم من عُرف بقوة الوثاقة والجلالة، كالذي يطلعنا عليه الشريف المرتضى، وهو أن في رواة الشيعة من يقول بالقياس ويذهب إليه في الشريعة، كالفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن وجماعة معروفين[3]. ويؤيده اتهام الشيخ الصدوق للفضل بن شاذان بأنه كان يعمل بالقياس[4].

أما سائر القدماء فقد عُرف عنهم المنع من العمل بالقياس وسائر صور الإجتهاد الظني فيما لا نص فيه، ومنهم المنظّرون للفكر الشيعي خلال عصر الغيبة، وهم المفيد والمرتضى والطوسي.

بل هناك من اعتبر بعض من أخذ بالقياس إنما ليتظاهر بموافقة الخصم دون الإعتقاد به. فمثلاً احتمل العلامة الحلي بأن يكون إبن الجنيد ممن ينطبق عليه هذا الأمر، مستشهداً على قوله بما أشار إليه الشيخ الطوسي من أن بعض القدماء من فعل ذلك، وقصد إبن الجنيد وإن لم يُسمّه[5]. رغم أن الطوسي قد أُتهم هو الآخر بممارسة القياس والعمل بسائر صور الإجتهاد الأخرى، وبررها البعض أيضاً بأنها كانت لموافقة الخصم فحسب. إذ جرى اتهامه على لسان أحد المتأخرين من مشايخ المحدث البحراني، وهو أنه كان يسلك مسلك العمل بالقياس والإستحسان في كثير من مسائلهما[6]، واعتذر عنه البعض بأنه كان يجاري المخالفين ظاهراً دون أن يعتقد بما يظهر منه حقيقة، فاعتبره سلك في كتابيه (المبسوط والخلاف) مسلك العامة تقية واستصلاحاً ومماشاة لهم، حينما شنّعوا على فضلاء الشيعة بأنهم ليسوا من أهل الإجتهاد والإستنباط ولا لهم قدرة على التفريع والإستدلال[7]. ومعلوم أنه سبق لإبن ادريس الحلي أن أشار في نقده للشيخ الطوسي بأنه جمع كتب الشافعية ولخص منه (المبسوط) وذكر فيه الأقوال والأدلة على إختلافها ورجح ما اختاره[8]. لهذا قيل أن كلامه اضطرب أحياناً حتى توهم المتأخرون من الشافعية أنه منهم[9].

ومن الناحية المبدئية صرح المنظرون الأوائل للشيعة، ومنهم الطوسي، بتحريم القياس وغيره من القواعد الإجتهادية المعروفة. بل أن لفظة الإجتهاد آنذاك لم تكن مقبولة لدى علماء الشيعة، بإعتبارها توحي إلى القواعد الظنية كما يمارسها علماء السنة. فقد كان الطوسي يشير إلى أن الإجتهاد والقياس ليسا دليلين، بل محظور إستعمالهما[10]، كما صرح في (عدة الأصول) أنه لا يجوز العمل بالإجتهاد ولا بالظن في الشريعة[11]. وكذا ما ذهب إليه استاذه الشريف المرتضى، وهو أن القياس محرم شرعاً[12].

ويلاحظ أن العملية الإجتهادية لدى المنظرين الأوائل للشيعة قد انقسمت في بدئها بين موقفين متميزين، أحدهما يؤكد على ضرورة العلم بالحكم الشرعي، وأن العمل بلا قطع لا يستند إلى مبرر شرعي، كالذي يذهب إليه الشريف المرتضى، والآخر يكتفي بالظن المعتبر شرعاً ولو لم يكن هناك قطع في الحكم الشرعي، وهو ما يذهب إليه الشيخ الطوسي، رغم أن كلماته يبدو عليها - أحياناً - عكس ذلك. واصل الخلاف يعود إلى الموقف من خبر الآحاد. وقد أفضى النزاع حول هذه المشكلة إلى انتصار خط الظنية قبال القطعية، رغم أن المسلك العام للقدماء كان يؤيد منحى القطعية، حتى أن منهم من كان يدعي: «أن من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلاً واضحاً مادام الإنسان مكلفاً والشريعة باقية»[13].

لكن في جميع الأحوال لم يشعر هؤلاء المنظرون ومن جاء بعدهم بالحاجة إلى الإجتهاد الظني فيما لا نص فيه. بل تحفظوا على لفظة الإجتهاد حتى مجيء المحقق الحلي، إذ اعتبر المقبول منه إنما ذلك الذي لم يرد حوله نهي وكان متعلقاً بدائرة الموارد النظرية للنصوص[14]. أما القضايا التي لا نص فيها فقد عولجت معالجة أخرى تقوم على قطعيات العقل وما يطلق عليها (الأصول العملية).

وقد ساعد الشيعة على العمل بالإجتهاد في دائرة النصوص أمران، أحدهما وجود الكثرة الخبرية من الأحاديث، فقد عدت كافية في تغطيتها للواقع ومستجداته، دون حاجة للقياس وما إليه من القواعد الظنية. بمعنى أنه إذا كان مبرر العمل بالإجتهاد لدى السنة هو محدودية النصوص مقارنة بالواقع، الأمر الذي جعل ممارسة القياس وما على شاكلته أمراً لا غنى عنه، فإن الحال لدى الإجتهاد الشيعي شيء مختلف ومعاكس. فمبرر هذا الأخير ليس محدودية النصوص، بل كثرتها. فهذه الكثرة هي التي دعت المجتهدين للرجوع إلى النصوص في كل واقعة جديدة دون أن يطبقوا عليها مبادئ الإجتهاد المعمول بها لدى السنة، وأن ما يخرج عن هذه الدائرة يُجرى عليه العمل ببعض الأصول والقواعد القطعية. ولازالت بعض الأقوال تردد ما بدأه الشيخ الطوسي من القول بكفاية النصوص الموجودة لتغطية قضايا الواقع[15]، كالذي يشير إليه السيد الصدر في (الفتاوى الواضحة) وما اليه[16]. لكن المتأخرين بدت عليهم الحاجة إلى بعض القواعد التي تسدد النقص الموجود في النصوص الموثقة، ومن ذلك أنهم اعتمدوا على دليل السيرة العقلائية، وعلى بعض أشكال القياس، فضلاً عن إعتمادهم على الأصول العملية في الكثير من الأحيان.

أما الأمر الثاني الذي ساعد فقهاء الشيعة على الإجتهاد في دائرة النصوص فهو كثرة التعارض بين الأخبار. وواقع الأمر أن هذا التعارض يحمل سلاحاً ذا حدين، كالذي توضحه الفقرتان التاليتان:

1ـ لقد سهّل التعارض بين الأخبار فتح المجال للإجتهاد على مصراعيه. ويعد الشيخ الطوسي أول من وظف ذلك عبر محاولاته الجمع والتوفيق بين الأخبار المتعارضة من غير طرح شيء منها ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً، وصرح بهذا النهج في عدد من كتبه[17]، وبرر عمله بما نقله من الخلاف الحاصل بين أصحاب الطائفة في الفقه، فقال في (عدة الأصول): «إني وجدتها - الطائفة - مختلفة المذاهب في الأحكام، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى أبواب الديات، من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك.. حتى أن باباً منه لا يسلم إلا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه، أو مسألة متفاوتة الفتاوى. وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام في الأحاديث المختلفة التي تختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها إختلاف الطائفة في العمل بها، وذلك أشهر من أن يخفى، حتى انك لو تأملت إختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على إختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك»[18].

لذا نذر الطوسي نفسه لحل هذا المشكل بإعتبارات التضعيف والترجيح والتوجيه بما لم يسبقه أحد، وهي الطريقة التي ورثها عنه المتأخرون فأصبحت قطب الرحى من العملية الإستنباطية للفقه. ومع أن هذه المهمة لم تكن ذات جدوى بنظر استاذه المرتضى؛ لإعتبارات عديدة، أهمها أنها أخبار آحاد لا تفيد القطع، وأن الرجال الذين رووها ليسوا محل إعتماد وتوثيق، لكن التابعين عولوا عليها، وأصبحت الممارسة التي دشنها شيخ الطائفة أهم صيغ الإجتهاد لديهم، فجعلوا لذلك باباً يعد من أهم المباحث الأصولية للفقه والإجتهاد إلى يومنا هذا، ويطلق عليه باب التعارض والترجيح.

ولهذا كان الطوسي أول مجتهد مطلق في الفقه، حيث قُدّر له أن يفتح باب النظر والإجتهاد المطلق على مصراعيه، بل ويؤصل الأصول ويفرع المسائل ويقارن بين الأحكام[19]. وقد كانت مؤلفاته تُدرّس حتى مجيء المحقق الحلي خلال القرن السابع الهجري، حيث استعاض الفقهاء عنها بكتابه (شرايع الإسلام) [20]، رغم بقاء الطريقة الفقهية على ما هي عليه حتى يومنا هذا.

2ـ إن للتعارض بين الأخبار مردوده السلبي، إذ سبّب أزمة تشكيكية في الأخبار وما بُني عليها من الأحكام الفقهية. وقد يكون إبن طاوس هو أول من أشار إلى هذه الأزمة بعد الطوسي. وكما قال: ‹‹اني كنت قد رأيت مصلحتي ومعاذي في دنياي وآخرتي من التفرّغ عن الفتوى في الاحكام الشرعية، لاجل ما وجدت من الاختلاف في الرواية بين فقهاء أصحابنا في التكاليف الفعلية، وسمعت كلام الله جلّ جلاله يقول عن أعزّ موجود عليه من الخلائق محمد (ص): ((ولو تقول علينا بعض الاقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه عاجزين)) فلو صنّفت كتاباً في الفقه يعمل بعدي عليها كان ذلك نقضاً لتورّعي عن الفتوى ودخولاً تحت حظر الآية المشار إليها، لانّه جلّ جلاله إذا كان هذا تهديده للرسول العزيز الاعلم لو تقوّل عليه، فكيف يكون حالي إذا تقوّلت عليه وأفتيت أو صنّفت خطأً وغلطاً يوم حضوري بين يديه››[21]. وتبعاً لهذه الأزمة ظهر استحداث التقسيم الرباعي للحديث على يد إبن طاوس ذاته أو على يد تلميذه الحلي. مع الأخذ بعين الإعتبار أنه كلما تباعد الزمن كلما اشتدت الأزمة وزاد تعارض الأحكام.

وكان الفيض الكاشاني يرى بأن هذه الأزمة ما هي إلا نتاج تأثر طائفة من الشيعة بالإجتهاد السني، سيما بعدما رأوا وجود الكثير من الإختلاف في ظواهر الآيات والأخبار، مع كثرة الوقائع التي لا نص فيها رغم مسيس الحاجة إلى معرفة أحكامها، وبعدما رأوا من اشتباه بعض الأحكام وما فيها من إبهام الذي لا ينكشف ولا يتعين إلا بالإجتهاد وتحصيل الظن، فكل ذلك وغيره جعلهم يأولون الآيات والأخبار المانعة من الإجتهاد والعمل بالرأي بتخصيصها بالقياس والإستحسان ونحوهما من الأصول التي يختص بها أهل السنة، كما جعلهم يأولون الآيات والأخبار الناهية عن تأويل المتشابهات ومتابعة الظن بتخصيصها بأصول الدين، كذلك جعلهم يأولون الأخبار الواردة في ذم الأخذ باتفاق الآراء - الإجماع - بتخصيصها بالآراء الخالية من قول المعصوم، لمّا ثبت عندهم أن الزمان لا يخلو من إمام معصوم، فصار كله سبباً لكثرة الإختلاف بينهم في المسائل، وازداد التعارض كلما طال الزمان، حتى انتهى الأمر «الى أن تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولاً أو ثلاثين أو أزيد، بل لو شئت أقول: لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها»[22].

كما نقل الشيخ البحراني عن بعض مشايخه المعاصرين أنه كان يقول في بعض مصنفاته: «إن مناط أكثر الأحكام لا يخلو من شوب وريب وتردد، لكثرة الإختلافات في تعارض الأدلة وتدافع الأمارات، فلا ينبغي ترك الإحتياط للمجتهد فضلاً عمن دونه»[23].

وهناك من حمّل الشيخ الطوسي مسؤولية ما حدث من التشعب في الأقوال، حتى نُقل عن بعض محققي المتأخرين وكأنه المحقق الخوانساري أنه قال: إن علماء الشيعة قبل الشيخ الطوسي لم يختلفوا كثيراً، لأن مدار عملهم بأحاديث كتاب (الكافي)، ولم يكن بين أحاديث كتابه إختلاف، لكن لمّا صنّف الطوسي مصنفات كثيرة وجمع الأحاديث المختلفة واختلف ضمن كتبه في فتاويه اجترأ الإمامية على الإختلاف، فيكون كل قول في الفتوى يوافق لأحد أقوال الطوسي، وقلّما كان هناك قول يخرج عن أقواله لعدم اجترائهم على ذلك[24]. سيما وقد نسب إبن ادريس إليه في (النهاية) قوله: «إن ما أورده حق وصواب لا يحل ردّه ولا خلافه»[25]. مع أن إبن ادريس هو أول من شنّع عليه واتهمه بأنه روّج للإجتهاد وفق الطريقة السنية على ما أشرنا إليه من قبل. لكن ذلك لم يمنع جريان طريقته وسط رجال الطائفة إلى يومنا هذا، مثلما لم يمنع ذلك ما حملته من تزايد الأقوال والتعارضات باضطراد. وقد أفضى الأمر إلى حلول أزمة حادة عبّر عنها عدد من الفقهاء بوجود إنسداد في الطريق المؤدي إلى الأحكام الشرعية، إذ احتجوا بتعذّر الوثوق بالأخبار التي تردهم بعد طول الزمان وفقدان القرائن. وقد يكون للأخبار المتعارضة الدور الأعظم في حدوث مثل هذه الأزمة الكبرى. يضاف إلى ما جرى التسليم به من الرأي بعدم حجية ظواهر الكتاب والسنة لغير المشافهين بعد عصر الخطاب، حيث اعتقدوا بأنه طرأ عليهما عند الأئمة ما يخالفهما من تقييد ونسخ وتخصيص وما إلى ذلك، كالذي استدل عليه المحقق القمي وغيره[26]، وذهبوا إلى منع التكليف بالمجمل، كما حكموا بعدم الإحتياط علينا كغائبين[27]، وعولوا على الأخذ بمطلق الظن وليس المعتبر فحسب، وبعضهم صرح بجواز العمل حتى بالقياس المنهي عنه صراحة، لكن البعض الآخر استثنى ذلك بإعتبار أن النصوص واردة في تحريمه. بل وحكى الأنصاري عن أحد مشايخ معاصريه أنه جعل قبول حجية ظواهر النصوص متوقفاً على عدم وجود المعارض من مطلق الظن؛ بما في ذلك القياس وأشباهه[28].

ولولا ما بذله الشيخ الأنصاري من سعي لتفنيد حجج أصحاب هذا المسلك ومساندته لدعوى الإخباريين من صحة صدور الروايات عن الأئمة بإستثناء القليل منها، لكان إتجاه دليل الإنسداد هو الغالب اليوم دون غيره، ولكانت الحجة التي ذكرها بعض من برر العمل بالقياس طبقاً لدليل الإنسداد مقبولة، فدليله أنه إذا كانت الأخبار بصدد القياس متواترة في معنى الحرمة، فإن بعضها جاء في مقابلة المعاصرين للأئمة من أهل السنة، وبعض آخر له دلالة على الحرمة من حيث أنه ظن لا يغني عن الحق شيئاً، وآخر دال على الحرمة من حيث استلزامه لمحق السنة وإبطال الدين للوقوع غالباً في مخالفة الواقع، وبعضها يدل على الحرمة ووجوب التوقف، لكن كل ذلك لا يدل عنده على حرمة العمل بالقياس الكاشف عن صدور الحكم عن المعصوم مع عدم التمكن من تحصيل العلم به ولا الطريق الشرعي، كما اعتبر دعوى الإجماع والضرورة على حرمته في كل زمان ممنوعة[29].

ولو سلّمنا بدليل الإنسداد لكان لا معنى للجدل اللفظي الخاص بالحديث، طالما أنه لا يرقى إلى درجة الإطمئنان، سواء من حيث الصدور أو من حيث الملابسات الحالية المناطة به. ويزداد الأمر إلحاحاً عند الأخذ بعين الإعتبار بُعد الزمان عن عصر النص وقرينة عدم حثّ المشرع على تدوين الحديث، أو على الأقل عدم الإلتزام بتدوينه وعدم التعهد بضمان حفظه كما حصل مع القرآن الكريم. أما ما جرى للفقهاء فهو نوع من التقليد الذي فرضته «الصنعة» عليهم بالعمل بالروايات، أو إجراء القوانين التقليدية للتوثيق والترجيح والجمع والتوفيق، رغم ما تتضمنه هذه الصنعة من تسامح في الكثير من الشروط الخاصة بقبول الرواية. وماذا عساهم أن يفعلوا غير ذلك؟!

وقد كان المفكر الصدر يرى أننا «مهما حاولنا أن ندقق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل، فإننا لن نتأكد بشكل قاطع من صحة النص ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلا تاريخياً، لا بشكل مباشر، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدم إلينا النص محرّفاً، خصوصاً في الحالات التي لا يصل إلينا النص إلا بعد أن يطوف بعدة رواة، ينقله كل واحد منهم إلى الآخر، حتى يصل إلينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فإننا لن نفهمه إلا كما نعيشه الآن، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً. ولدى عرض النص على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق، فنقدم هذا النص على ذاك، مع أن الآخر أصح في الواقع، بل قد يكون للنص إستثناء في نص آخر ولم يصل إلينا الإستثناء، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا للنصوص، فنأخذ بالنص الأول مغفلين إستثناءه الذي يفسره ويخصصه. فالإجتهاد - إذاً - عملية معقدة، تواجه الشكوك من كل جانب. ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع، ما دام يحتمل خطأه في إستنتاجها، إما لعدم صحة النص في الواقع وإن بدا له صحيحاً، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل الممارس أو عاثت بها القرون»[30].

وقد يكون المفكر الصدر ذاهباً إلى مبدأ دليل الإنسداد عند كتابته النص الآنف الذكر (عام 1960).

وقديماً سجل العلماء إعترافاً بضياع الحقيقة الخاصة بواقع الحكم الشرعي، بسبب كثرة التعارض بين الروايات، وقد اتخذ العلماء مواقف عديدة إزاء هذا المشكل. وكان أول من اعترف بذلك وسعى لمعالجته هو الشيخ الكليني بداية القرن الرابع الهجري، حيث صرح بالعمل بما وسع إليه الإختيار. ثم جاء من بعده الشيخ الطوسي فبشّر بطريقته في جمع المتعارضات، ونجح في جعل مسلكه هو المعوّل عليه لدى الأتباع، لكن هؤلاء أضافوا إلى هذا المسلك ما استحدثوه من تقسيم الحديث، فوسّعوا به دائرة الإجتهاد عبر محاولات التهذيب والجمع والتوفيق. وفي المحصلة كانت النتيجة أبعد ما تكون عن الحقيقة. فالنهج الذي سلكه الفقهاء من الجمع والتوفيق يفضي إلى نتائج لا تعبّر عن حقيقة ما يريده الأئمة. فمثلاً إذا كانت لدينا مائة رواية تتضمن الكثير من التعارضات، ولنفترض جدلاً أنه لم يكن لدينا تشكيك بمصدرها، كما لنفترض أن نصف هذه الأحاديث لا يعبر عن حقيقة ما يريده الأئمة دون علم منّا، بسبب التقية أو غيرها، لذا فإن ممارسة عملية الجمع والتأليف يجعل من الممكن انتزاع أعداد كبيرة من القضايا لا تعبّر عما يريده الأئمة. فمثلاً لو انتزعنا ألف قضية منها، فستتكون لدينا نسبة كبيرة من هذه القضايا هي توليفات ملفقة بين ما هو حق وما هو باطل. ويصدق الحال عندما نسعى لانتزاع ما نريد من المنظومات المعرفية المتضادة، إذ من الممكن أن ننتزع الكثير منها، رغم تعذّر صدق أكثر من واحدة، وقد تكون باطلة جميعاً. ومن الناحية المنطقية أن إحتمال الحصول على منظومة صادقة هو إحتمال ضعيف إن كان المقياس هو الإعتماد على الأخبار فحسب، ولو بإعتبارات التصحيح التي استحدثها المتأخرون من العلماء.

الإجتهاد الشيعي وما لا نص فيه 

قلنا أن مذهب الإمامية قد نادى ببطلان الإجتهاد الظني للقضايا غير المنصوص فيها، كالقياس والمصلحة والإستحسان وسائر ضروب الرأي والإجتهاد، وعنده أن الظن مساو للشك في غير المعتبر شرعاً[31]. فرغم أن هناك شخصيات شيعية قديمة عملت بالقياس مثل إبن الجنيد وإبن أبي عقيل العماني، وكذا بعض المحدّثين ممن عرّضهم الشريف المرتضى للنقد، ومثلهم بعض العلماء المتأخرين ممن عاصروا الشيخ الأنصاري، ورغم أن بعض الفقهاء كما يذكر المحقق الحلي ذهب إلى الترجيح بالقياس في حالة تعارض خبرين متكافئين وأيّده على ذلك بعض المتأخرين[32]، وأن معظم الأصوليين يظهر منهم الترجيح بمطلق الظن[33]، إلا أن عموم الإمامية منذ القديم وحتى اليوم ينادون ببطلان هذا النوع من الإجتهاد، تبعاً للنصوص المتضافرة التي تنهى عنه صراحة، كما تنهى عن العمل بالرأي والظن عموماً، إلى الدرجة التي ذهب فيها البعض إلى بطلان العمل بكافة أنواع القياس، بما في ذلك قياس الأولوية، ومثله قياس المنصوص العلة. لكن عموم الإمامية يتقبلون هذين النوعين من القياس لقطعيتهما.

وقديماً كان الشريف المرتضى يبطل العمل بهذين النوعين من القياس، ويرى بعض التطبيقات القطعية نابعة عن الفهم العرفي للغة، لا أنها نتاج القياس، وهو بذلك يتفق مع عدد من علماء السنة، حيث عدوا بعض القضايا الواضحة الفهم من النص عائدة إلى فحوى الخطاب لا القياس[34]. وأجرى البعض تفرقة بين المفهومين، وهو أن القياس عبارة عما خفي حكم المنطوق عنه حتى عرف بالإستدلال من المنصوص عليه. أما ما خرج عن الخفاء ولم يحتج إلى الإستدلال فليس بقياس[35]. فعلى رأي الشريف المرتضى أن «علل الشرع إنما تنبئ عن الدواعي إلى الفعل أو عن وجه المصلحة، وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة ويكون في أحدهما داعية إلى فعله دون الآخر، مع ثبوتهما فيه، وقد يكون مثل المصلحة مفسدة، وقد يدعو الشيء إلى غيره في حال دون حال، ووقت دون وقت، وعلى وجه منه دون وجه، وقدر دون قدر». وعليه اعتبر أن لا مجال للتخطي والقياس في النص، بل يظل مجرى النص مقتصراً على موضعه، معمماً ذلك على حالتي قياس الأولوية والمنصوص العلة. لهذا تساءل عما إذا بطل قياس الأولوية فكيف يمكن استفادة تحريم الضرب وباقي أنواع الأذى من آية التأفيف الخاصة بالوالدين؟ وأجاب على ذلك بقوله: «إن القرآن إنما أنزله الله سبحانه بلغة العرب، وأجراه على مقتضى محاوراتهم وإصطلاحاتهم، وكل أحد يعلم من تتبع كلامهم أن فيه الدلالة اللغوية والعرفية والمطابقة والتضمن والإلتزام، وحينئذ فمثل قوله تعالى: ((ولا تقل لهما أُف)) إذا صدر من آحاد العرب لا يكون الغرض منه في الإصطلاح إلا شمول جميع أنواع الأذى من الضرب وغيره، فالضرب داخل في مفهوم الكلام عرفاً.. وأما قياس منصوص العلة فقد تكون القرائن الحالية قائمة على دخول الفرد الغير المذكور في الحكم المذكور ويكون المذكور من قبيل اللفظ العام المتناول لغير المذكور، وحينئذ فدلالته عليه كالأول». وقد سار المحقق الحلي بنفس هذا الإتجاه[36].

كذلك فإن المحدث الجزائري أفاد هذا المعنى من الإعتراض على قياس الأولوية والقياس المنصوص العلة، معتبراً الأول هو الذي قاسه ابليس وأبطله الإمام الصادق. لذا منع العمل به وبنظيره منصوص العلة، سيما وأن هناك نصوصاً عن الأئمة تنهى عن العمل بالقياس مطلقاً من غير تقييد ولا تخصيص[37].

لكن أغلب علماء الإمامية يأخذون بالقياسين السابقين لقطعيتهما. ويبقى الإتفاق بين هؤلاء هو إبطال العمل بالإجتهاد المفيد للظن فيما لا نص فيه. وكما يقول الشيخ المفيد: «إن الإجتهاد والقياس في الحوادث لا يسوغان للمجتهد ولا للقائس، وأن كل حادثة ترد فعليها نص من الصادقين (ع) يحكم به فيها ولا يتعدى إلى غيرها، بذلك جاءت الأخبار الصحيحة والاثار الواضحة عنهم (ع)، وهذا مذهب الإمامية خاصة، ويخالف فيه جمهور المتكلمين وفقهاء الامصار»[38].

أزمة الإجتهاد الشيعي

لقد اعتبر فقهاء الشيعة الأصل في الإجتهاد هو القطع. فالأصل الذي لا يحظى بحجة القطع مردود، سواء كان ذلك بحسب الإعتبارات البيانية أو العقلية. فحتى الإعتبارات الظنية للأحكام والنصوص كما تفضي إليه العملية الإجتهادية إنما مردها إلى الحجة القطعية[39]. فمثلاً أن خبر الآحاد هو من القضايا الظنية الذي لا يجوز العمل به لولا وجود المنشأ القطعي لإعتباره. لكن مع هذا فقد اضطر الفقهاء إلى العمل بعدد من الطرق الظنية وإن لم يثبت الدليل القطعي عليها، ومن ذلك قضية الإجتهاد برمتها، بإعتبارها تفضي إلى الظن وأنه لا دليل عليها عقلاً وشرعاً[40]. بل أن قبول مصطلح الإجتهاد لدى الشيعة على يد المحقق نجم الدين الحلي يتضمن هذا المعنى، وهو أنه «يبتني على إعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر»، وقد استثنى منه القياس وما إليه لما ورد فيه من نهي وتحريم[41]. وهذا ما جرى عمله لدى الفقهاء رغم أنه لا دليل عليه، بل أن معاني الأخبار والأحاديث تعطي دلالة عكسية، وهي أنها تنهى عن العمل بكل ما يفضي إلى الظن؛ سواء سُمي إجتهاداً أم قياساً أو رأياً أو غير ذلك من المسميات.

والعجيب أن الأصوليين من الشيعة رغم أنهم وجدوا نهياً واضحاً من قبل الأخبار على كل من الرأي والقياس والإجتهاد لكونها تفضي إلى الظن؛ فقد حملوها على بعض صور الإجتهاد التي يعمل بها الإتجاه السني؛ لا سيما القياس، وكان أول من صرح بذلك المحقق نجم الدين الحلي، وعاضده إبن اخته العلامة الحلي[42].

كذلك أجرى المتأخرون من الفقهاء عدداً من الطرق الإجتهادية للقضايا التي لا نص فيها، ومنها الطرق القياسية التي اعتبروا نتائجها قطعية، مع أنها ليست دائماً كذلك، فالقاعدة العامة شاخصة، وهي أنه إذا قام الإحتمال بطل الإستدلال. فهناك اجتهادات لم يختلف حولها العلماء بإعتبارها مفهومة من حيث الظهور العرفي فهماً قاطعاً وإن لم يُنص فيها، فمثلها في ذلك مثل قياس الأولوية وقياس المنصوص العلة. وقد تدخل ضمن قياس المثل والمساواة، أو يعبّر عنها بعبارات أخرى لا علاقة لها بالقياس، كالفهم العرفي والإجتماعي للنص، أو مناسبات الحكم والموضوع.

ففي رواية - مثلاً - سئل الإمام الباقر عن فأرة وقعت في السمن فماتت؟ فقال: ألقها وما يليها إن كان جامداً، وكلْ ما بقي، وإن كان السمن ذائباً فلا تأكل، واستصبح به، والزيت مثل ذلك. واستدل الفقهاء بهذه الرواية على نجاسة الماء المضاف عند ملاقاة النجاسة له بالغاً ما بلغ، رغم أن الرواية وردت في الزيت والسمن الذائب، وأنهما ليسا من الماء المضاف. لكنهم اعتبروا الزيت والسمن الذائب يشاركان الماء المضاف في بعض أوصافه، وهو سريان النجاسة ووصولها إلى الذائب، وهذا السريان والوصول هو علة الحكم بالنجاسة[43].

ويدخل هذا الإنبساط من الحكم ضمن ما أُطلق عليه حديثاً (الفهم الإجتماعي للنص). وكان الفقهاء يطلقون عليه (مناسبات الحكم والموضوع). إذ يخضع الحكم إلى الفهم المشترك العام للمرتكز الذهني للناس نتيجة الخبرة واتحاد الذوق. وهو بالتالي يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي المناط بتحديد الدلالات الوضعية والسياقية للنص، وإن كان مبرر الإعتماد على كل منهما هو ذاته المتمثل بمبدأ حجية الظهور، ففي الحالة الأولى يضفي الإرتكاز الإجتماعي على النص ظهوراً للمعنى المناسب، مثلما يبدو الأمر ذاته عبر المعنى اللفظي واللغوي في حالة الفهم الآخر. ففي الحالتين يتحقق الظهور وهو حجة لدى العقلاء وقد أمضاه الشارع. ويتحدد المجال الذي يطبق فيه الأول بمسائل المعاملات من الشؤون الحياتية والإجتماعية دون أن يتعداها إلى العبادات بإعتبارها غيبية لا يستكشف منها الفهم الإجتماعي أو مناسبات الحكم والموضوع، بل تخضع إلى الفهم اللفظي واللغوي للنص فحسب[44].

ويعد الشيخ محمد جواد مغنية أبرز من استظهر هذا المعنى وميّزه عن الفهم اللغوي واللفظي للنص، حتى أثنى عليه المفكر محمد باقر الصدر وقال: «أكبر الظن أنها أول مرة أقرأ فيها لفقيه إسلامي من مدرسة الإمام الصادق (ع) أوسع نظرية لعنصر الفهم الإجتماعي للنص، يعالج فيها بدقة وعمق الفرق بين المدلول اللغوي - اللفظي - للنص، والمدلول الإجتماعي، ويحدد المدلول الإجتماعي حدوده المشروعة. وبالرغم من أن الفقهاء في ممارستهم للعمل الفقهي ومجالات الإستنباط من النص يدخلون عنصر الفهم الإجتماعي ويعتمدون عليه في فهم الدليل، إلى جانب العنصر الآخر الذي يمثل الجانب اللفظي من الدلالة، غير أنهم لا يبرزون في الغالب الجانب اللفظي من عملية فهم الدليل والجانب الإجتماعي بوصفهما جانبين متميزين لكل منهما ملاكه وحدوده، بل يبرز الجانبان في مجالات التطبيق مزدوجين وتحت اسم واحد وهو الظهور. كانت هذه المرة الأولى التي قرأت فيها ذلك عن عنصر الفهم الإجتماعي للنص، هي حين قرأت بعض أجزاء المجدد الخالد (فقه الإمام الصادق) الذي وضعه شيخنا الحجة الكبير الشيخ محمد جواد مغنية الذي حصل الفقه الجعفري على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان»[45].

وقد ميز المفكر الصدر بين الفهم الإجتماعي للنص وبين القياس الثابت حرمته في الفقه الجعفري، معتبراً الأول لا يعدو أن يكون عملاً بظهور الدليل، فحين نعمم الحكم مثلاً - لغير ما ذكر في النص - لا نريد بذلك أن نقيس غير المنصوص على المنصوص، بل نستند في التعميم إلى الإرتكاز الذي يشكل قرينة على أن المذكور في النص إنما جاء على سبيل المثال، فيكون الدليل نفسه ظاهراً في الحكم العام. وبهذا المعنى اعتبر أن ما قدّمه الشيخ مغنية من قاعدة الفهم الإجتماعي للنص يمكن أن يحل مشكلة كبيرة في الفقه. فالكثير من الأحكام وصلتنا بهيئة أجوبة على أسئلة الرواة، دون أن يكون منشؤها بدئياً ولا كانت لغتها تقنينية، والرواة إنما يسألون في الغالب عن الحالات الخاصة التي يحتاجون إلى معرفة أحكامها، فيجيء الجواب وفقاً لحدود السؤال دون أن يتعدى خصوصيته. وبالتالي إذا اقتصرنا في إستنباط الحكم من النص على الفهم اللغوي فحسب، كان معنى ذلك أن نجعل تلك الأحكام في أكثر الأحيان وقفاً على الحالات الخاصة التي هي موضع ابتلاء السائل في حياته العملية، مع أننا قد نكون واثقين بأن الأحكام التي وردت بشأن تلك الحالات الخاصة ليست مختصة بها، وإن جاءت بصورة مضيقة بسبب اختصاص السؤال بتلك الحالات[46].

أما الأمثلة التي عرضها المفكر الصدر بهذا الصدد فهي مثالان نعتقد انهما ليسا متساويين من حيث الفهم الإجتماعي للنص. ففي المثال الأول ذكر قول الفقهاء أن الدليل إذا دلّ على أن من حاز ماءاً من النهر أو خشباً من الغابة ملكه. وقد عدّ الصدر هذا المثال مما ينطبق عليه الفهم الإجتماعي للنص، حيث يفهم منه أن كل من حاز شيئاً من الثروات الطبيعية الخام ملكه، دون فرق بين الماء والخشب وغيرها، لأن مناسبات الحكم والموضوع لا تسمح بجعل موضوع الحكم محصوراً في نطاق الخشب والماء فحسب[47].

لكن قد يُعترض على هذا التطبيق بأنه قائم على إستقراء ناقص، إذ قد تكون هناك خصوصية لدى ماء النهر أو خشب الغابة غير تلك التي تتعلق بالثروات الطبيعية الخام، فمثلاً قد يكون ملاك الحكم متعلقاً بالحالات التي تقع ضمن الاحتياجات المتعارف عليها عند الناس، ومن بينها ماء النهر وخشب الغابة، ولا يمتد هذا الملاك إلى خارج هذا النطاق فيلوح المعادن الثمينة وما إليها من تلك الثروات، وبالتالي كيف جاز للحكم أن ينبسط ليشمل جميع الثروات المذكورة؟ لذا نتوقع أن لا يحظى هذا المثال بالقبول لدى الكثير من فقهاء الشيعة.

أما المثال الثاني فقد ذكر الصدر أنه إذا تضمنت الرواية الأمر بغسل الثوب الذي أصابه ماء متنجس، فإنه يفهم من ذلك أن الماء المتنجس إذا أصاب شيئاً آخر نجّسه، سواء كان ثوباً أو غير ثوب، وذلك لأن مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة في الذهنية العرفية العامة لا تقبل أن يكون تنجيس الماء - المتنجس - مختصاً بالثوب، فهذا الأخير جاء على سبيل المثال لا التحديد[48]. ولا شك أن هذا المثال هو مما ينطبق عليه الفهم الإجتماعي للنص، وهو يشاكل المثال الذي عرضه الشيخ مغنية حول رواية الفأرة الميتة في السمن كما عرضناها سابقاً، وعلة الحكم في الحالتين هي سريان النجاسة. والجميع يدرك أن هذا السريان لا تحدده تعيينات الأسماء المذكورة في النص، بل يتبادر إلى الفهم على سبيل المثال.

وإذا بعدنا عن الفهم الإجتماعي للنص، سنجد اجتهادات وقياسات أغلبها مختلف حوله بين فقهاء الشيعة، فهي ليست مفهومة عرفاً على نحو القطع، بل تحتاج إلى تحقيق للمناط القطعي وإثبات الوحدة بالغاء الخصوصية. وأغلبها يعود إلى قياس التمثيل، وبعضها يعود إلى قياس الأولوية، كما أن بعضاً آخر يعود إلى القياس الخاص بترجيح الطريقية على التعبدية، يضاف إلى الإجتهاد الخاص بانطباق الكبرى على الصغرى.

فمثلاً على قياس التمثيل قام عدد من الفقهاء بتمديد الحكم الخاص بالأعلمية في القضاء إلى مجال المرجعية والفتوى، وكما يرى المحقق الخوئي أن ذلك من القياس[49]، وكذا ما ذهب إليه الآخوند الخراساني في (الكفاية)، حيث اعتبر الترجيح في القضاء لأجل رفع الخصومة لا يستلزم الترجيح في مجال الفتوى[50]. وفي جميع الأحوال أن التعدي من باب القضاء إلى الفتوى يتوقف على إلغاء خصوصية الأول والقطع بعدم تأثيرها، مع أنه في القضاء لا بد من حل النزاع بالحكم ولو كان ظناً، أما مع الفتوى فالأمر يختلف إذ لا نزاع فيها[51]. كذلك تمّ تمديد الحكم في شرط الذكورة من الباب الأول إلى الثاني. وقد حصل لدى بعض علماء السنة العكس من ذلك في كل من الإتجاه والنتيجة. فالإمام الطبري أجرى القياس بالفتوى على القضاء متوصلاً إلى أن الذكورة ليست شرطاً واجباً؛ لا في الباب الأول ولا في الثاني[52].

كما أجرى البعض القياس بولاية الأب والجد على ولاية الحاكم، فمثلما أن ولاية الأب والجد على الإبن غير قابلة للإسقاط؛ فكذا لا يحق للحاكم الذي تنصبه الأمة برضاه أن يستقيل فيما بعد. ومثل ذلك إجراء القياس بين بعض مسائل النكاح ومسائل الحكومة، فقد تقرر في النكاح سقوط إعتبار إذن الولي إن غاب أو سجن، وقيس عليها وجوب انتصاب المفضول للحكومة إن تعذر الفاضل[53]، رغم الفوارق الكبيرة بين باب الحكومة وباب النكاح وكذا ولاية الأب والجد.

وجاء أن المعول عليه لدى الفقهاء هو إثبات عدم الربا بين الأب والإبن للنص، واعتبر البعض كصاحب (جواهر الكلام) أنه لا يجوز تعدي ذلك الحكم إلى الأم لحرمة القياس[54]. لكن بعض المعاصرين اعتقد خلاف ذلك، وهو أن تعدي الحكم إلى الأم وارد يقيناً، لأن من الميقن على رأيه أن عدم الربا بين الأب والإبن لا علة له إلا الأبوة، وهي بين الإبن والأم أقوى منها بين الأب وإبنه[55].

كما جاء أن عيوب المرأة التي ورد فيها النص سبعة، هي الجنون والجذام والبرص والقرن والإفضاء والعمى والعرج[56]، لكن ورد في (كشف اللثام) أن المشهور لدى الفقهاء هو أن الرتق أحد هذه العيوب، لأنه بدوره يمنع من الجماع، حيث يكون الفرج فيه ملتحماً على وجه ليس للذكر مدخل فيه، لهذا ألحقوه بالقرن والعفل[57].

وذهب عدد من الفقهاء إلى جواز إستخدام لفظة (متعتك) في العقد الدائم، مع أنه يستخدم في العقد المنقطع، لذا منعه بعض الفقهاء تعبداً بالنص، لكن الذين جوزوه رأوا أنه يكفي في العقود اللازمة إجراء المجازات المتعارفة فتشملها الآية ((أوفوا بالعقود)) (المائدة\1)، ضرورة كون العقد من جملة مقاصد الإنسان، فكلما تعارف في التعبير عنه كان كافياً كغيره من المعاني والمقاصد[58].

كما ذهب الفقهاء إلى أن من سبّ النبي يُقتل، وكذا من سبّ الإمام علياً وسائر الأئمة، تبعاً لبعض الروايات. لكن البعض اعتبر إلحاق سائر الأنبياء بذلك فيه قوة، لأن كمالهم وتعظيمهم معلوم من دين الإسلام ضرورة، واعترض عليه النجفي بأن ذلك لا يثبت القتل، بل الإرتداد فحسب. مع هذا ألحق الفقهاء بالقتل أم النبي وبنته، وبعضهم حصر البنت بفاطمة الزهراء (ع) للإجماع على طهارتها بآية التطهير[59]، وهو قياس تعليله لا يفي بشيء، إذ ما الذي يبرر القتل استناداً للطهارة؟ وذكر بعض المعاصرين أن الفقهاء أضافوا حكم القتل لمن سبّ الزهراء بإعتبارها بضعة من رسول الله، والنيل منها نيل منه بالذات عرفاً وشرعاً[60]. ولا شك أن هذا الإعتبار لا يمتلك الدلالة القطعية في فتوى القتل، إذ يمكن أن يقال الشيء نفسه في سائر أولاده، مع أن هناك فارقاً جوهرياً بين النبي وغيره، من حيث النبوة وعدمها.

كما أجرى الفقهاء المتأخرون القياس في السيرة العقلائية وطبقوها على القضايا الدينية، ومن ذلك ما فعلوه حول تقليد الأعلم، رغم الفارق بين هذه القضايا والأمور الدنيوية[61].

وفي المسائل الطريقية ذهب الكثير من الفقهاء إلى عدم التوقف عند حد ما جاء به النص. فمثلاً رغم أنه وردت مجموعة من المرجحات المنصوصة حول الأخبار، كالوثوق والشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة، إلا أن عدداً من الفقهاء أجازوا التعدي إلى غيرها من المرجحات إعتماداً على الطرق المقربة للكشف عن الحكم الشرعي، وهو المنسوب إلى جمهور الأصوليين[62]، وخالفهم آخرون تعبداً بالنص ووقوفاً عند حد المذكور من المرجحات، كالإخباريين وبعض الأصوليين مثل الآخوند الخراساني[63].

كما لم يتوقف الفقهاء عند حد الموارد المنصوص عليها في طرق الإثبات التي يعتمدها القاضي في القضاء. فبحسب النص أنها عبارة عن البينة واليمين، ففي صحيح هشام عن الإمام الصادق أن رسول الله قال: «إنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض». وأضافت بعض النصوص إلى ذلك «سنة جارية مع أئمة هدى»، حيث قال الإمام علي في خبر اسماعيل بن اويس: «جميع أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة أو يمين قاطعة أو سنة جارية مع أئمة هدى». لكن مع هذا فإن الكثير من الفقهاء أفتوا بصحة عمل القاضي بعلمه، دون التوقف عند حد الحصر المذكور، وذلك لأن ملاك الحكم هو الكشف عن الأقربية للواقع. وبهذا المعنى اعتبر النجفي أن العلم أقوى من البينة المعلوم إرادة الكشف منها[64].

ومن بين الأساليب الإجتهادية فيما لا نص فيه قام الفقهاء أحياناً بانتزاع بعض القواعد من النص واعتبرها من الكبرى، وذلك بإلغاء خصوصية المورد وإعتباره ليس قيداً ولا مؤثراً في القاعدة. فمثلاً جاء في عدد من الروايات عن بعض الأئمة الدعوة إلى عدم نقض اليقين بالشك ضمن موارد سُئل عنها، كمورد أن الإنسان إذا شكّ في نومه هل يجدد وضوءه؟ فأجاب الإمام: «لا حتى يستيقن أنه قد نام.. وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقضه بيقين اخر». حيث استدل الفقهاء بمثل هذه الرواية على أن عبارة (لا ينقض اليقين أبداً بالشك) لا تختص بمورد الوضوء، بل هي كبرى تشمل الوضوء كما تشمل غيره من الموارد، وأن الألف واللام في لفظة (اليقين) هي للجنس لا للعهد، فيكون الحكم مطلقاً بعد إلغاء خصوصية المورد، وهو الوضوء، مما يعني عدم جواز نقض مطلق اليقين بالشك، سواء تعلق اليقين بالوضوء أو بغيره من الأحكام والموضوعات[65].

وحديثاً ظهرت مواقف أخرى تعمل على التشريع للواقع طبقاً للمصلحة بعناوين مختلفة، كعنوان سد منطقة الفراغ، أو عنوان تشخيص المصلحة، أو عنوان صلاحيات الحاكم الشرعي، وهي قواعد وأصول مستحدثة لدى التفكير الشيعي، وذلك لأجل سد النقاط التي لم يرد حولها تشريع، أو ورد فيها التشريع لكن المصلحة تطلبت العمل بخلافه[66].

***

هكذا اطلعنا على جملة من الممارسات القياسية والإجتهادية لدى الشيعة، ولعل الكثير منها لا يبتني على القطع. وأن بمثل هذه الممارسات ظلت شبهة الإخبارية عالقة حول الإجتهاد الشيعي، وهو أنه يقتبس ما لدى نظيره السني دون أن يتقاطع معه، فالشبهة كانت موجهة قديماً إتجاه الشيخ الطوسي، ومن ثم لاحت طريقة المتأخرين وأخذت تتسع يوماً بعد يوم. فالإجتهاد وأصول الفقه والمصلحة والقياس والتقسيم الرباعي للحديث وما إليها كلها تعد من منتجات الإجتهاد السني، وجاء الشيعة يقتبسونها دون أن يبالوا بالمعارضة مع سلف الشيعة الأوائل الذين بنوا نهجهم على الطريقة الإخبارية.

ومن حيث التحقيق لو أخذنا بنظر الإعتبار ما يعوّل عليه الفقهاء عادة من وجود المصالح الخفية في الأحكام، وأن العقل عاجز عن الكشف عنها، إذ قد يتوهم العقلاء ما هو أقرب إلى واقع الشرع على أنه أبعد، وما هو أبعد عن هذا الواقع على أنه أقرب[67]. . فلو أخذنا ذلك بنظر الإعتبار لأصبح التسليم بالنهج الطريقي، أو الأخذ بالمصلحة وسد منطقة الفراغ، أو القول بوجود وحدة مناط تسمح بتمديد الحكم من باب إلى آخر، أو غيرها من الإعتبارات، كل ذلك مما يصعب قبوله واستساغته لما فيه من التنافي مع فكرة تلك المصالح.

ويدل على هذه المفارقة أن الفقهاء تارة يشرعون أحكاماً جديدة لأدنى إعتبار، وفق ما يطلقون عليه وحدة المناط القطعي أو غيرها، وهي أبعد ما تكون عن القطع كبعض الأمثلة التي ذكرناها سابقاً. لكنهم تارة أخرى يتعبدون بالنص دون السماح بتمديد حكمه على ما يشابه مضمونه من القضايا، بدعوى عدم العلم بالعلة التامة للحكم، رغم دلالة الظاهر على العلة، أو بالقول بإحتمال كون موضوع الحكم مؤثراً في العلة، أو غير ذلك[68]. ومن ضمن ما يأتون به من أمثلة هو أن الحجج في المسائل الطريقية لا يستكشف منها أحياناً محض الكشف عن الحقيقة أو الواقع، لإرتباطها بالجانب التعبدي، فيكون التعويل على محض الطريقية تعويلاً قائماً على العلة الناقصة لافتقاده العنصر الآخر للمقتضي، وهو الجانب التعبدي. فمثلاً أن الإتفاق جار على ترجيح تقليد العالم العادل على الأعلم الفاسق، وكذا العالم الذكر على الأعلم الأنثى، فمع أن الإرتكاز الطريقي جار لصالح الاعلم، لكن الجانب التعبدي في صفة العدالة والذكورة تجعل عدم جواز الاستناد إليه، وكذا الحال في رفض شهادة غير المسلم تعبداً، إذ لا حجية فيها مهما كان الظن بها قوياً، ومثل ذلك التعويل على القياس حيث يرجح عليه خبر الآحاد، حتى لو كان الظن فيه أقوى من الظن الناشئ عن هذا الأخير. وعليه يمكن أن يقال أن ما يستند إليه الفقهاء في سائر الحجج الطريقية، ومثلها في مناطات الأحكام لا يعد كافياً طالما يرد الإحتمال بوجود عناصر تعبدية خافية على العقول كما يفترضه منطق المصالح الخفية، مما يعني أنه لا يجوز التعدي إلى غير ما ورد به النص.

وربما لمثل هذا التردد والتذبذب دعا المرحوم مرتضى مطهري إلى ضرورة إعادة البحث الجدي في القياس لمعرفة حدود ما يصح منه وما لا يصح، وكما قال: «لقد كان من اللازم على المتأخرين أن يحذوا حذو القدماء في بحث مسألة القياس والرأي، لتستبين حدود القياس الممنوع بصورة أفضل، لكي لا يظهر أناس يعارضون حرية العقل باسم محاربة القياس. بل كان من الأفضل لو فتحوا باباً باسم باب العقل أو باب الأدلة العقلية في الأصول، يشرحون فيه حدود تدخل العقل، ويتناولون فيه كذلك القياس الممنوع. إنني أرى أن عدم بحث المتأخرين في القياس الممنوع، وفي حدود دلالة العقل وحكمه في الأحكام الشرعية قد أصاب الفقه والإجتهاد عند الشيعة بشيء من الضرر»[69].

على أن بمثل هذا التردد المشار اليه؛ تكون الممارسة الفقهية لدى الشيعة غير متقاطعة مع القياس رغم عدم تسميتها له بهذه اللفظة، كما أنها غير متقاطعة مع الإجتهادات الظنية فيما لا نص فيه رغم حرصها على أن يكون الحال منبنياً على القطع لا الظن، الأمر الذي يجعلها قريبة من النهج السني. لكن كلا النهجين بنيا اجتهادهما على الظن تبعاً لضغط الحاجة، وأنه لا يوجد لديهما الدليل القطعي على ما يمارسانه من اجتهاد حسب الصورة المقننة التي أفضيا إليها، خاصة وأن الإجتهاد لديهما يقوم على الحديث لكونه مصدر التفصيل، وقد عرفنا فيه ما فيه.

***

في النهاية يمكن القول أن فتح الإجتهاد وإغلاقه أو إبعاده، كلها أدت إلى حدوث أزمات في النهج البياني، سواء في الدائرة السنية أو الشيعية. فبعد أن فُتح الإجتهاد في الدائرة السنية ما لبث الأمر أن أدى إلى حدوث أزمة تتمثل بكثرة الآراء والإتجاهات، وأغلب الظن أن بسببها أفضى الأمر إلى غلق باب الإجتهاد وحصره في المذاهب المعروفة. لكن غلق الإجتهاد أفضى بدوره إلى أزمة أخرى لا تقل عن الأولى، وهي أزمة التقليد التي عانت منها تلك المذاهب. وكذا الحال في الدائرة الشيعية، حيث أن فتح الإجتهاد أدى إلى أزمة تتمثل بكثرة التعارض بين الأحكام لدى الفقهاء، كالذي أشار إليه إبن طاوس وغيره. كما أن إبعاد الإجتهاد عن دائرة الإستنباط مثلما يعوّل عليه الإخباريون قد أحدث بدوره أزمة في الجمود وعدم القدرة على مجابهة تطورات الواقع. ولا شك أن بين هذه الأزمات تتبلور حالات الإنفراج وإنتاج النماذج الجديدة من التفكير. فالواقع هو الذي يفتح الآفاق الخصبة، كما أنه يخلق السدود والأزمات، فيحدث بذلك فتحاً جديداً، وهكذا..

 

 

 

 



[1]  أنظر: الشهرستاني: الملل والنحل، ص70. ومحمد أمين الإسترابادي: الفوائد المدنية، ص43ـ44.

[2]  يُنقل بأن لإبن الجنيد كتاباً حول القياس عنوانه: (كشف التمويه والالتباس على اغمار الشيعة في أمر القياس)، وعلى رأي الخوانساري أن معناه: الكشف عن جهل القائلين بالقياس من الشيعة (روضات الجنات، ج6، ص138).

[3]  مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص311. ومحمد مهدي بحر العلوم: الفوائد الرجالية، حققه وعلق عليه محمد صادق بحر العلوم وحسين بحر العلوم، نشر مكتبة الصادق، طهران، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج3، ص219.

[4]  الصدوق: من لا يحضره الفقيه، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، الطبعة الثانية، 1404هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج4، ص270.

[5]  روضات الجنات، ج6، ص147.

[6]  ومن بين ما وصفه أنه حدث للشيخ الطوسي خيالات متناقضة، وأمور متعارضة؛ لأنه كان حديد الذهن شديد الفهم حريصاً على كثرة التصانيف وجمع التآليف، وقد وقع له خبط عظيم في كتابي الأخبار (التهذيب والاستبصار) في تمحله للإحتمالات البعيدة والتوجيهات غير السديدة، وكانت له خيالات مختلفة في الأصول، ففي (المبسوط والخلاف) مجتهد صرف وأصولي بحت، وفي كتاب (النهاية) سلك مسلك الإخباري الصرف بحيث أنه لم يتجاوز فيها مضامين الأخبار، ولم يتعد مناطيق الآثار (يوسف البحراني: لؤلؤة البحرين، حققه وعلق عليه محمد صادق بحر العلوم، مطبعة النعمان، النجف، ص298. وروضات الجنات، ج6، ص218).

[7]  لؤلؤة البحرين، ص297ـ298. وروضات الجنات، ج6، ص217ـ218.

[8]  يشتمل كتاب (المبسوط في الفقه) للطوسي على ثمانين كتاباً، ورأى البعض أن اسمه جاء على غير المسمى، وأن اللفظ فيه لا يطابق المعنى، لأن أخباره منثورة غير منتظمة، ومنشورة غير ملتئمة، وترتيبه مشوش عسير التناول، ففي كثير من الأحيان تطلب منه أحاديث المسألة في غير موضعها (روضات الجنات، ج6، ص213ـ214).

[9]  حسين الكركي: هداية الأبرار، الطبعة الأولى، 1396هـ، ص136. علماً بأن السيوطي ذكره في (طبقات المفسرين) بأنه قدم بغداد وتفنن وتفقه للشافعي ولزم الشيخ المفيد مدة فتحول (رافضياً) (جلال الدين السيوطي: طبقات المفسرين، دار الكتب العلمية، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، فقرة 91، ص80).

[10]  عدة الأصول، ج1، ص39. وتمهيد الأصول في علم الكلام، ص354.

[11]  الحر العاملي: وسائل الشيعة، المكتبة الإسلامية، طهران، ج20، ص65.

[12]  مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص41.

[13]  محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للاصول، مكتبة النجاح، طهران، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ1975م، ص93.

[14]  نجم الدين الحلي: معارج الأصول، إعداد محمد حسين الرضوي، نشر مؤسسة آل البيت، الطبعة الأولى، 1403هـ، ص179ـ180.

[15]  أبو جعفر الطوسي: المبسوط في فقه الإمامية، صححه وعلق عليه محمد تقي الكشفي، المكتبة المرتضوية، طهران، الطبعة الثانية، 1387هـ، المقدمة.

[16]  أنظر: فهم الدين والواقع، الفصل الأول.

[17]  الطوسي: تهذيب الأحكام، تقديم حسن الخرسان، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، المقدمة.

[18]  عدة الأصول، ج1، ص136ـ138.

[19]  أنظر: مقدمة المحقق آغا بزرك الطهراني لكتاب النهاية للطوسي، انتشارات قدس محمدي، قم، ص وـ ز. وحسن الصدر: تأسيس الشيعة، انتشارات أعلمي، لم تذكر سنة الطبع ولا مكانه، ص304. والمعالم الجديدة للاصول، ص56 وما بعدها.

[20]  مقدمة المحقق آغا بزرك الطهراني لكتاب التبيان في تفسير القرآن للطوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص ط.

[21] رضي الدين بن طاوس: سعد السعود للنفوس، تحقيق فارس تبريزيان الحسّون، ص155، عن مكتبة العقائد الالكترونية www.aqaed.com

[22]  الوافي في شرح الكافي، طبعة حجرية لم يكتب عنها شيء، ج1، المقدمة، ص4ـ5.

[23]  مع هذا فقد قال في مصنف آخر ما يناقض القول السابق كما أشار إليه الشيخ البحراني، وهو أنه قال: «فان الحق لا يشتبه بالباطل، والمنطوق ليس كالعاطل، والشمس لا تستر بالنقاب، والشراب لا يلتبس بالسراب، وما ورد من التقية لا يكاد يخفى» (يوسف البحراني: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، حققه وعلق عليه واشرف على طبعه محمد تقي الايرواني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص108).

[24]  روضات الجنات، ج6، ص204.

[25]  محمد بن ادريس الحلي: السرائر، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، 1410هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص6.

[26]  مرتضى الأنصاري: فرائد الأصول، تحقيق وتقديم عبد الله النوراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثالثة، 1411هـ، ج1، ص61 و70. وابو القاسم الخوئي: التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الإجتهاد والتقليد، تحرير الميرزا علي الغروي التبريزي، مقدمة عبد الرزاق الموسوي المقرم، مطبعة الآداب، النجف، ص96.

[27]  فرائد الأصول، ج2، ص451ـ452.

[28]  فرائد الأصول، ج1، ص293.

[29]  فرائد الأصول، ج1، ص253ـ255.

[30]  محمد باقر الصدر: إقتصادنا، دار التعارف، بيروت، الطبعة الحادية عشر، 1399هـ ـ1979م، ص417ـ418.

[31]  محمد حسن النجفي: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، تحقيق وتعليق وتصحيح محمود القوچاني، دار الكتب الإسلامية بطهران، 1367هـ، ش، ج2، ص349. وفرائد الأصول، ج1، ص309.

[32]  فرائد الأصول، ج1، ص296.

[33]  فرائد الأصول، ج1، ص300.

[34]  المنخول في علم الأصول، ضمن الباب الثاني (في مراتب القياس وضبط أقسامه). قيل بهذا الصدد أن مناظرة جرت بين إبن سريج ومحمد بن داود الظاهري، إذ قال له إبن سريج: أنت تلزم الظاهر وقد قال تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)) فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟ فأجاب إبن داود: الذرتان ذرة وذرة، فقال إبن سريج: لو عمل مثقال ذرة ونصف؟ فتبلد إبن داود وظهر إنقطاعه (البحر المحيط، فقرة 1273).

[35]  في حين ذهب بعض آخر إلى أن القياس هو ما عرف حكمه من اسم غيره، وهو موجود، لأن اسم التأفيف لا يطلق على الضرب كما لا يطلق اسم الضرب على التأفيف، فتحريم الضرب مأخوذ من معنى التأفيف لا من اسمه، فإن امتنعوا من تسميته قياساً فقد خالفوا في الاسم، فإختلاف الأسماء في الوضوح والغموض لا يمنع أن يكون كلها نصوصاً، فكذلك إختلاف المعاني في الخفاء والجلاء لا يمنع كونه قياساً (البحر المحيط، فقرة 1273).

[36]  نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية، طبعة تبريز، إيران، ج1، ص236ـ237.

[37]  الأنوار النعمانية، ج1، ص235ـ236.

[38]  المفيد: أوائل المقالات، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (4) دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1414هـ ـ1993م، ص139.

[39]  التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الإجتهاد والتقليد، ص22ـ24.

[40]  لاحظ: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، ص77 وما بعدها.

[41]  معارج الأصول، ص179ـ180.

[42]  أنظر حول ذلك: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل الثاني.

[43]  محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق، إنتشارات قدس محمدي، قم، ج1، ص16.

[44]  محمد باقر الصدر: الفهم الإجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق، عن موقع الجامعة الإسلامية الإلكتروني http:uofislam/behoth ، لم تذكر أرقام صفحاته.

[45]  الفهم الإجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق.

[46]  نفس المصدر السابق.

[47]  المصدر السابق.

[48]  المصدر السابق.

[49]  التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الإجتهاد والتقليد، ص174.

[50]  محمد كاظم الخراساني: كفاية الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الأولى، 1412هـ، ص543ـ544.

[51]  الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل الرابع.

[52]  المصدر السابق.

[53]  مرتضى الشيرازي: شورى الفقهاء، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ، ج1، ص438.

[54]  جواهر الكلام، ج8، ص477.

[55]  فقه الإمام جعفر الصادق، ج3، 279.

[56]  المقصود بالقرن هو لحم ينبت في فم الرحم يمنع من الوطء، وقيل أنه العَفْل، وهو عظم كالسن ينبت في الرحم ويمنع الوطء، أما الافضاء فالمقصود به هو تصيير المسلكين واحداً (جواهر الكلام، ج10، ص827).

[57]  جواهر الكلام، ج10، ص826ـ830.

[58]  المصدر السابق، ج10، ص419.

[59]  نفس المصدر، ج14، ص549ـ550.

[60]  فقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص288ـ289.

[61]  الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، ص133ـ134.

[62]  فرائد الأصول، ج2، ص780ـ781. ومحمد رضا المظفر: أصول الفقه، دار النعمان، النجف، الطبعة الثانية، 1386هـ ـ1966م، ج3، ص261ـ263.

[63]  كفاية الأصول، ص509 وما بعدها. وأصول الفقه، ج3، ص261.

[64]  جواهر الكلام، ج14، ص53ـ54.

[65]  محمد حسين النائيني: فوائد الأصول، حرره محمد علي الكاظمي الخراساني، تعليق ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1406هـ، ج4، ص335ـ336.

[66]  لاحظ: فهم الدين والواقع، الفصل الثاني. كذلك: جدلية الخطاب والواقع، ص175ـ176.

[67]  أنظر بهذا الصدد: فهم الدين والواقع، الفصل الأول.

[68]  فمثلاً قال المحقق النائيني: «قد يتحقق المفهوم بالمساواة في غير منصوص العلة فيما إذا أحرز مناط الحكم المذكور في القضية من الخارج يقيناً فيحكم بسراية الحكم إلى كل مورد تحقق فيه مناط الحكم، وهذا القسم نادر التحقيق جداً، إذ الغالب في مناط الحكم أن لا يكون قطعياً، وإذا لم يكن المناط قطعياً كانت تسرية الحكم من موضوعه إلى غيره داخلة في القياس المعلوم عدم حجيته» (ابو القاسم الخوئي: أجود التقريرات، تقريرات محمد حسين النائيني، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص499).

[69]  مرتضى مطهري: مبدأ الإجتهاد في الإسلام، ترجمة جعفر صادق الخليلي، مؤسسة البعثة، طهران، الطبعة الأولى، 7401هـ، ص28.

قيد الإنشاء