-
ع
+

جواب على سؤال مطروح

 يحيى محمد

 

سؤال:

ما تعليقك على الرأي الذي يقول: بأن الله في التنزيل الحكيم يخاطب الناس كافة ولكل الأزمان في حين أن خطاب الرسول الأعظم محمد (ص) هو خطاب لمعاصريه فقط ؟

الجواب:

حول خطاب الرسول (ص) فواضح لدينا انه خطاب يخص معاصريه مثلما بينا ذلك بالادلة في كتابنا (مشكلة الحديث)، وان ما وصل الينا لا يُعتمد عليه كما اثبتنا ذلك في الكتاب المشار اليه.

أما التنزيل الحكيم فهو وان كان خطاباً يتعلق بكافة الناس لكنه لم يتعال عن مجتمع الجزيرة العربية خلال القرن السابع الميلادي، سيما فيما يتعلق بالاحكام، كالذي كشفنا عنه بالتفصيل في كتابي (جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع). حيث اعتبار الأحكام الإلهية احكاماً «نموذجية» جاءت مناسبة لظرف محدد بداية القرن السابع للميلاد، أي أنها ليست «مركزية» كالتي يصورها الفقهاء. والأحكام بهذا الاعتبار ليست قابلة للقياس ولا الاستصحاب. ومن ثم فإن ما عولنا عليه يتنافى مع تردد الأصوليين حول ما اذا كانت العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ فطبقاً لمبدأ «النمذجة» الآنف الذكر؛ يصبح العمل بمنطق (المقاصد الدينية والواقع) عملاً لا غنى عنه، وهو يخالف كلا المقولتين الأصوليتين: عموم اللفظ وخصوص السبب.  وقد بينا في الكتاب الاول أن للواقع علاقة جدلية مع الخطاب الديني أو النص، فلكل منهما أثره على الآخر. وإذا كان من المعلوم تأثير الخطاب على الواقع الخاص بالتنزيل، كقلب واقع الكفر والشرك إلى الإيمان، وتحويل واقع الدعوة في مكة المكرمة إلى دولة إسلامية في المدينة، وغير ذلك من الوقائع التي أثر فيها الخطاب الديني على الواقع، ومثلها تأثير النص المدوّن على الأخير إلى يومنا هذا، إلا أن ما لم يبيّن بشكل واضح هو تأثير الواقع على الخطاب وأحكام النص، وهو ما اوليناه أهمية خاصة في الكتاب المشار اليه.

وعموماً بينا بأن النص الديني رغم أنه كلام الله المنزل، إلا أنه مع ذلك لم يفارق ملابسات الألفاظ والعبارات الدارجة بكل ما تحمله من معاني عرفية سائدة في مكان وزمان محددين، وبكل ما تتضمنه من فكر لا يتعالى غالباً عن فهم وإدراك الجماعة التي خوطبت به مباشرة. فالنص بهذا الإعتبار خطاب يتصف بنوع من الإزدواج، ذلك أن مصدره علوي مجرد عن الواقع بما يحمله من معاني الوحي، لكنه من جانب آخر ملابس للواقع كل الملابسة. فهو من حيث كونه تنزيلاً لم يعد مجرد وحي سماوي يحمل صفات التجريد، بل أضحى خطاباً يتذرع بالواقع ليتخذ منه مسلكاً للغاية التي أُنزل لأجلها. لذلك نزل بلغة بشرية لها معاني مشخصة في بيئة محددة هي البيئة العربية بكل ما تحمله من ظروف وملابسات خاصة. الأمر الذي أفضى - ولا بد - إلى نوع من الجدل بين الخطاب والواقع، بل وأدى إلى أن يكون النص حاملاً لصور الواقع الذي جاراه بالجدل والاحتكاك. لكن رغم هذا ظل الهدف الذي ينشده الخطاب هدفاً شاملاً ومطلقاً لم تؤثر عليه إعتبارات التنزيل من اللغة والاحتكاك بالواقع. ذلك أن الرسالة التي حملها الخطاب هي رسالة تكليف للإنسان بكل ما تحمله هذه اللفظة من معاني الامانة والمسؤولية، وبكل ما تتضمنه من علاقة بين المكلِّف والمكلَّف وما تستهدفه من استخلاف وحساب. وهي معاني عامة ومطلقة لا تتقيد بظروف وأحوال، وإن كانت وسائل تحقيق ذلك عاجزة عن تجاوز ما عليه ظروف الزمان والمكان، أي أنها لا تتجاوز الواقع. لذلك فقد استصحب الاسلام أحكاماً وأعرافاً سابقة، مع ما يلاحظ من الطريقة الخاصة للخطاب في العمل على تغيير الأحكام، سواء بالتدرج أو النسأ أو النسخ أو غيرها، كل ذلك يؤكد حقيقة عدم تعالي الخطاب عن الواقع الذي نزل فيه، وهو واقع المجتمع العربي وظروفه الخاصة المحددة بأُطر الزمان والمكان. فمع أن للخطاب علامات ومؤشرات عديدة تؤكد أنه جاء للناس كافة، وأن فيه حقائق علمية مذهلة ظلت خافية حتى انكشف أمرها في العصر الحديث، وأنه يحمل رسالة عظمى فيها من الهدى والأحكام الشمولية والمقاصد الكلية ما يجعله مناسباً لكل زمان ومكان.. إلا أنه رغم كل هذا لم يسلك طريق التحرر من ظروف هذا الواقع، كما لم يكبّل نفسه بقيود مطبقة فيه، بل سعى لإقامة الجدل بين هذا وذاك.

إن إختيار الخطاب لأمة ما وتطبيق الشريعة عليها لا يمكن أن يحصل بمعزل عن أخذ إعتبارات الظروف والأحوال والعادات، كما لا يتحقق هذا الإختيار والتطبيق ما لم يفرز عنه جدل خاص بين المنزّل والمنزّل عليه. وطبيعة هذا الجدل تولد ولا شك أحكاماً جديدة متأثرة بكل منهما، وهو معنى كون الأحكام يصنعها كل من النص وأحوال الموضوع وظروفه. وهذا يعني أن من الصعب كلياً أن تصاغ قوالب جاهزة يؤخذ بها كمبادئ يُعمل بها حرفياً، طالما أن لكل ظرف أحواله الخاصة، فما ينفع هنا قد لا ينفع هناك. وإذا كان من الصعب أو المستحيل الإتيان بقواعد شاملة وكاملة تطبق على كافة الظروف والمجتمعات والأحوال؛ لذا لا بد من تحديد الأحكام وقواعد السلوك إما بحدود الظرف والمجتمع ولو ضمن لحظة زمنية معينة دون غيرها، أو تحديد الأحكام عبر عملية الجدل بين القواعد العامة التي لها القابلية على الشمول لكنها تفتقر إلى القابلية على التطبيق الموحد لإختلاف الظروف والأحوال من جهة، وبين الأحكام الجزئية التي لها القابلية على التطبيق الجزئي ضمن ظروفها الخاصة من حهة ثانية. ولا شك أنه لا مفر من الأخذ بالفرض الأخير لكل شريعة تعد نفسها شاملة ومستوعبة لكافة الظروف والأحوال، حيث من المحال أن يطبق التشريع بحرفيته المنزلة وقواعده الخاصة على كل الظروف والبيئات، لا نقصاً في التشريع وإنما عجز في الواقع الخارجي من أن يستوعب ذلك، فكان لا بد من ايجاد محورين للأحكام، أحدهما كلي وعام يفتقر إلى التطبيق على صيغة موحدة بسبب إختلاف الظروف وتغيرها، وهو محور يشمل المقاصد الأساسية من التشريع تنطوي فيه كافة قواعد السلوك العامة التي تتسق مع فطرة الإنسان الإلهية. أما الآخر فهو جزئي له قابلية التطبيق والتقلب بحسب الظروف والعادات والأحوال. وإذا ما كنّا نعد التشريع عاماً وشاملاً لا يحدّه مكان أو زمان فإن من البداهة أن يتموضع التشريع الجزئي ضمن كليات القواعد العامة الثابتة، وأن يتقلب طبقاً لما يناسب تلك الكليات دون أن ينحرف عنها، فالإنحراف هو ضِيق في التشريع وحقيقته الظلم لعدم مراعاته حقوق الإختلاف والتباين في الأحوال والظروف، ومناقضته لتلك الكليات. فالأمر لا يخلو من إثنين؛ فإما أن يكون التقلب في المبادئ الكلية التي يفترض ثباتها، وفي هذه الحالة نكون قد جعلنا التشريع مما يصطدم مع هدف الرسالة السماوية والفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها. أو أن يكون التقلب من خاصية التطبيق تبعاً للحكم الذي تفرضه المبادئ العامة، وهو الصحيح. أما أن يكون التشريع الجزئي ومبادؤه الكلية ثابتين دائمين فهذا ما لا يصح، بإعتباره يفضي إلى تصادم التشريع مع تلك المبادئ تبعاً لتغيرات الواقع وتجدداته.

من جهة أخرى، رغم أن القواعد العامة ذات صفة الشمول لا تقبل التطبيق والتحديد الإجرائي وسط الظروف المتغيرة للواقع المتجدد، إلا أن لها سلطة تتجلى بما يشرع من تطبيقات جزئية تقبل التغير والتبديل تبعاً لتغير الواقع وتجدده. ورغم أن التحديدات الإجرائية تتخذ طابعاً تدافعياً أو تناقضياً، حيث بعضها يدافع ويناقض البعض الآخر طبقاً لتدافع الواقع وإختلاف شؤونه، إلا أنها مع ذلك يمكن أن تنطوي - جميعاً - ضمن دائرة تلك المبادئ من غير مدافعة ولا تناقض. وبهذا يتبين تلاحم المبادئ مع التطبيقات المتباينة من حيث حاجة كل منهما إلى الآخر.

فمثلاً أن آيتي المصابرة (الانفال\65 و66) الناسخة والمنسوخة دالتان في صياغتهما المجردة الثابتة على أن الجماعة المؤمنة لا ينبغي لها أن تنهزم من المعركة إن كان لديها القوة الكافية للقتال. لكن هذه الصورة المجردة غير قابلة للتطبيق الإجرائي، حيث تحتاج إلى تقدير الكم الذي تُعرف فيه تلك القوة، فبغير هذا التقدير يصبح كل فرد يرى قوته بمنظاره الشخصي وبحسب إعتباراته الخاصة وما يحمله من أهواء أو مجال من الإجتهاد، فتختلف بذلك شؤون الأفراد وتضطرب، إن لم نقل أنه يتم التلاعب في دائرة ما يراه كل واحد منهم لما يوافق هواه، لذا فالحاجة ماسة إلى التحديد الإجرائي بما يلائم الظرف المعاش، وحيث أن الظرف يختلف من وضع لآخر، لذا كان لا بد من تغيير الحكم تبعاً لذلك. وهو أمر إنْ دلّ على شيء، فإنما يدل على أن أحكام الدستور في النظام الإسلامي للدولة أو الحركة وما شاكلها ينبغي أن تكون مرنة ومؤقتة بلا ثبات، إلا في إطار التشريعات الكلية ومقاصدها أو تلك التي لها صفة الديمومة من غير تأثر بتجدد الواقع، ولو نسبياً.

فعلى ضوء مقاصد الشرع يمكن الكشف عن الأحكام المطلقة الثابتة على النحو الكلي. فلكي تكون ثابتة مطلقة لا بد من احراز كونها تتفق مع هذه المقاصد دائماً، رغم أنه من الناحية العملية لا يمكن – في الغالب - ترجمة هذه الأحكام الثابتة إلا بأشكال متقلبة من الأحكام الجزئية بحسب ما يفرضه الواقع من تجدد وتطورات.

فمثلاً فيما يتعلق بأحكام القرض بالعملات النقدية ليس من الصحيح تشكيل قالب ثابت ودائم للفتوى التي ترى أن توفية القرض تكون بالمثل أو التساوي في النقود المقترضة، وذلك لأنه يمكن لهذه الفتوى أن تتعرض إلى هزة تجعلها تتنافى مع قصد الشرع في لزوم العدل والإنصاف في الوفاء، كالذي يحصل في أيامنا الحاضرة. وإنما تحديد الحكم الثابت المتفق دائماً مع قصد الشرع من العدل والإنصاف يناط بالقيمة المقدرة للقوة الشرائية للنقود المقترضة وقت الإقراض وليس بمقدار النقود ذاتها. فالنقود من غير قوة شرائية ليس لها قيمة البتة. وهذا يعني أن الحكم الكلي الثابت هنا، هو لزوم الوفاء بالقرض طبقاً لتحديد أو تقدير تلك القوة حال الإقراض، لكن هذا الحكم العام لا يمكن ترجمته على أرض الواقع إلا بنحو أحكام متقلبة بحسب تغيرات الواقع وما يفرضه من تغيّر في تلك القوة الشرائية للنقود. وهناك امثلة كثيرة ذكرناها في كتابنا (فهم الدين والواقع). كما ركزنا على ضرورة الفهم المجمل في قبال الفهم المفصل الذي درج عليه الفقهاء والمفسرون.

من هنا يمكن القول أن أغلب أحكام قضايا المعاملات لها قابلية على التغير بتغير عناصر الموضوع المستمدة من الواقع؛ حتى مع ثبات عناصر التنزيل المصرح بها نصاً. وتوضيحاً لذلك فقد سبق أن ذكرنا بأن آية المصابرة الثانية رغم أنها ناسخة أو ناسئة لما قبلها إلا أن حكمها ليس له القابلية على تجاوز الواقع الذي نزلت فيه. لذلك ليس بوسع طريقة الإجتهاد التقليدية أن تفسر هذا العجز، لأنها تعد الحكم الناسخ في الشريعة هو الحكم الأخير الذي لا يجوز أن يطوله حكم آخر. مع أنه بحسب التنظير الجديد لا ضرورة تدعو لأن يكون هناك حكم نهائي طالما أن عناصر الموضوع يمكن أن تتغير بتغير الظروف والأحوال.

وبعبارة أخرى لا يمكن عزل التنزيل عن الواقع والأحوال السائدة. فحينما يتغير التنزيل، كما في عملية النسخ، نعلم بأن هناك تغيراً ما قد طرأ على عناصر الموضوع، لكن لا شيء يدعو إلى تغيّر عناصر الموضوع المنطوقة، وبالتالي يتحدد المسؤول الأساس لآلية تغيير الحكم بعناصر الموضوع التابعة للواقع دون النص أو التنزيل. ومن ثم فإن المصدر الفاعل لتحديد الحكم يتمثل بالواقع لا التنزيل. وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن التنزيل أو التشريع لم يأت مطلقاً وثابتاً بحيث لا يحده زمان ولا مكان.

نعم، إن الأحكام الشمولية وتلك التي لا تتأثر بمجريات الواقع وتغيراته كما في العبادات، ولو بالنحو النسبي، كلها يمكن إعتبارها ثابتة وقادرة على تجاوز الواقع، بل وباستطاعتها العمل على تغيير هذا الأخير وإصلاح قيمه، الأمر الذي من شأنه أن يغيّر الأحكام بما يتفق مع ما يطرأ على الواقع من تغيير. وعليه فإن ساحة الأحكام المتغيرة هي ساحة واسعة جداً، وأن مرونة الواقع تنعكس على مرونة التشريع وتغيير الأحكام. فالأخير يتبع الأول، أي أن تغيير الأحكام يتبع تغير الواقع، كإن يكون منشأ التغيير تابعاً لوجود مصلحة عقلائية أو تسديد حاجة أو للضرورة أو لسياسة ما أو لبعد نظر يبعث على مصلحة عامة مستقبلية، أو غيرها من الموجهات التي تتسق مع مقاصد الشرع وعدالته.

هكذا ندرك أنه ليس هناك نسخ إلا بالمعنى المجازي، فتغير الموضوع إلى موضوع آخر يوجب تغيّر الحكم معه بلا نسخ. كل ما في الأمر أن ما تعده الطريقة التقليدية موضوعاً واحداً؛ يمكن أن يكون - من حيث الحقيقة - متعدداً، مما يوجب تكثر الأحكام وتغيرها طبقاً للفهم الجديد الذي طرحناه. وعليه يصبح الكثير مما يطلق عليه (الأحكام الثانوية) ليس منها. فكل ما يُعدّ موضوعاً واحداً يدور عليه حكمه الخاص كحكم أولي يقبل الحكم الإستثنائي - أو الثانوي - كما تراه الطريقة التقليدية؛ يصبح قابلاً للتشكل إلى موضوعات متكثرة ومتكافئة الحضور؛ لكل منها حكمه الخاص بلا حكم إستثنائي أو ثانوي.

وعليه فالقول بأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان؛ هو قول صحيح تماماً إذا ما إشترط فيه أن يكون الفهم غير متوقف على الصيغ البيانية الصرفة، بل لا بد من إتّباع المقاصد العامة للتشريع مع أخذ الواقع بعين النظر والإعتبار، كالذي فصّلنا الحديث عنه في (فهم الدين والواقع).

comments powered by Disqus