-
ع
+

مقارنة بين علم الكلام والفقه

يحيى محمد

يعد الفقه على رأس العلوم النقلية لكونه يعتبر النص الديني الأساس في الأخذ والتعويل. وهو مقنن الى درجة كبيرة مقارنة بغيره من العلوم الاسلامية، وهو علم لاهوتي يتصف بالنضج التام، وفيه الاصول والقواعد التي تعمل على توجيهه. كذلك ان له اهمية تاريخية وواقعية لا يخلو منها زمان او مكان وسط المسلمين. اضافة الى أن أغلب المشاكل التي حددها التراث المعرفي الاسلامي ترجع اساساً الى وضعية الفقه وكيفية علاجه لمشاكل الامة، وقد اتفق العلماء على شرعيته ماضياً وحاضراً. وهو بذلك يختلف عن علم الكلام الذي لا يحمل النضج الكافي[1]، وينحصر دوره ضمن إطار >النخبة< ويتصف بالتعالي على الواقع، ولم يتفق العلماء القدماء على شرعيته، وغالباً ما تتصف أُصوله بالتناقض، لذلك فقد انتهى دوره اليوم تقريباً، خلافاً للفقه الذي ما زال نشطاً وحيوياً.

كما يتصدر علم الفقه قائمة المصادر المعتمدة في الفهم والاستنباط، وهي تختلف عن تلك التي يتصدرها علم الكلام. فاذا كان الاخير يبدأ بالعقل كأساس للانتاج المعرفي، فان الفقه يبدأ بالنص، اي الكتاب والسنة، ويضع مرتبة العقل او الرأي موضعاً متأخراً عن مرتبة النص.

وبعبارة أخرى، إن طبيعة العلاقة التي دشنها علم الكلام في اشكالية العقل والنص جعلته يختلف مساراً عن العلاقة التي صيغت من قبل علم الفقه. فرغم انهما يعدان علمين معياريين، وانهما يهتمان اساساً بنظرية التكليف تحديداً؛ الا ان تقنين العلاقة التي تربط العقل بالنص جاءت مختلفة ومتعاكسة. فالعقل في علم الكلام هو المحدد في الغالب للعلاقة التي تربطه بالنص. فأول ما يبدأ الدليل في هذا العلم بالعقل، فيتقدم على الدليل المستمد من النص، وانه يباشر كلا التأسيسين الخارجي والداخلي للخطاب الديني. وهو امر يختلف تماماً عما يجري في الفقه، اذ فيه يتقدم النظر في النص على غيره من المصادر الاخرى مما يطلق عليه الاجتهاد والقياس والعقل وما الى ذلك. بل غالباً ما ينظر للعقل في علم الكلام بانه مصدر البداهة والقطع والاحكام، وان الدليل فيه قطعي لا يقبل التشكيك، خلافاً للفقه، حيث لا يملك العقل تلك المنزلة ولا دليله، فضلاً عن ان يتقدم فيه على الدليل المستنبط من النص.

مع هذا يلاحظ انه رغم النفور العام للفقهاء الاوائل ازاء الكلام، الا ان ما تم ترسيمه فيما بعد هو الموافقة عليه إسوة بالفقه، فلم يشهدا الصدام بوصفهما علمين رغم ما لكل منهما - في الغالب - من اتجاه مختلف ومعاكس للآخر، سواء في المنهج المتبع او المصدر المعتمد او الأصل المولد. وقد بدت مظاهر الازدواج حتى لدى الشخصية العلمية الواحدة، فغالباً ما يكون المتكلم فقيهاً، وأحياناً يكون الفقيه متكلماً، فأغلب الفقهاء ليسوا متكلمين، لكن تبقى مظاهر الازدواج واردة عبر القرون، ولها ما يبررها اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار طبيعة كل علم منهما، فيفترض أن يكون موضوع علم الكلام يتمثل بمجموع التأسيسين الخاصين بالنظر القبلي والبعدي للخطاب، وهو في ممارسته لهذا الموضوع يحتاج لا محالة الى العقل، سيما فيما يتعلق بالتأسيس القبلي الذي يتوقف عليه فهم الخطاب برمته. هكذا فالعقل ملاصق للحقل الكلامي تبعاً لموضوعه المتعلق بالتأسيس الخارجي للخطاب. أما الحال في علم الفقه فمختلف، لأنه يتوقف على فهم الخطاب فحسب، وهو ما لا يحتاج فيه الى أداة العقل المستقل، سيما وان دائرة الفقه أجمعت على ان العقل عاجز عن تحديد مصالح الاحكام، تبعاً للبيان الناهي عن تدخل الممارسات العقلية المستقلة.

وبعبارة اخرى، إن الغالب على علم الكلام هو الممارسة العقلية في التفكير، اذ يقوم بانتاج المعرفة طبقاً للموجهات العقلية من تأسيس النظر، ويوظف البيان لخدمة هذه المعرفة، كما ويقوم بتأسيس مفاهيم النص عليها بتحويله الى متشابه يحتاج الى النظر العقلي. وهذا الحال ينطبق على كثير من القضايا التي كانت مثارة من قبل النص ذاته، كمسائل خلق القرآن وقدمه، والقضاء والقدر، والحسن والقبح، والعدل الالهي وغيرها.

فمن الواضح أن علم الكلام لم يمارس التفكير وفهمه للنص ـ في مثل هذه القضايا ـ بنوع من الاستقلالية، بل ولم يتعامل معه طبقاً للبيان، بل جعل النص محكوماً بسلطة الموجهات العقلية، او قام بتأسيس النص على العقل، أي بتأسيس الخطاب من الداخل. لذلك جاء عن الامام احمد بن الحسين بن ابي هاشم وهو يعلق على ما استدل به القاضي عبد الجبار الهمداني من نصوص قرآنية حول عدم جواز خلق افعال العباد من قبل الله تعالى، فذكر وقال بأن الهمداني لم يورد الآيات القرآنية «على طريقة الاستدلال والاحتجاج، فان الاستدلال بالسمع على هذه المسألة متعذر، لأنا ما لم نعلم القديم تعالى وانه عدل حكيم لا يُظهر المعجز على الكذابين لا يمكننا الاستدلال بالقرآن»[2].

وعليه يتسق السلوك الكلامي في كلا التأسيسين الداخلي والخارجي للخطاب. وفي جميع الأحوال أنه يؤسس للنظر القبلي ويفرضه كمرجعية للقبول والرد في كل ما ما له علاقة بفهم الخطاب.

لكن الحال في علم الفقه يختلف تماماً، سيما وأن هذا العلم ليس لديه تأسيسان للخطاب، خارجي وداخلي، او قبلي وبعدي، انما له تأسيس واحد هو التأسيس الداخلي المعبر عنه بفهم الخطاب وما يترتب عليه من انتاج معرفي، وان كان قد يستعين ببعض القضايا العقلية في الحدود الثانوية من الانتاج المعرفي الفقهي. لهذا فهو ينحو ناحية البيان، موظفاً العقل باتجاهه، خلافاً لما يلجأ اليه علم الكلام. فالبيان في علم الفقه مقدم ـ دائماً ـ على الاجتهاد ومنه الاجتهاد العقلي. لذلك ضاق الكثير من الفقهاء بالقياس ذرعاً، بالرغم من أن القياس عندهم ليس متحرراً ومستقلاً في ذاته، بل هو ظل النص لاعتماده عليه، وأنهم استعانوا به اضطراراً، شأنه في ذلك شأن تناول الميتة عند الضرورة. ويصدق هذا الحال على اصحاب المذاهب الاربعة وغيرهم[3].

وبعبارة اخرى، ان ترتيب الأدلة والمصادر المعتبرة في علم الفقه تبدأ بطريقة معاكسة لما متعارف عليه في علم الكلام. ففي علم الفقه تبدأ الأدلة بالبيان وتنتهي بالرأي او الاجتهاد، كما هو الحال مع القياس الفقهي وغيره. ففيه يصبح الاجتهاد موظفاً لخدمة البيان ومؤسساً عليه، اذ لا يعد الاجتهاد دليلاً عقلياً مستقلاً في الغالب، بل يعتمد على النص، فهو ظل النص، والكاشف عن علته، وهو ما يجعل الطريقة الفقهية عبارة عن دائرة بيانية تدور مدار النص حيثما دار. في حين تبدأ الأدلة في علم الكلام بالعقل قبل النقل والبيان، لكون الأخير مؤسساً على الاول وموظفاً له.

والبيان الذي تتبعه الطريقة الفقهية له درجات ومراتب تفاضلية. فهو يبدأ بالقرآن باعتباره السبيل الاول الدال على كل شيء، وكما يقول الشافعي: «ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة الا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها»[4]؛ استناداً الى قوله تعالى: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)) [5]. ثم يأخذ البيان بالتناقص شيئاً فشيئاً حتى ينتهي أخيراً الى الاجتهاد. وفي جميع الاحوال يظل البيان - بنظر الدائرة البيانية - يعبّر عن العلم الحقيقي الذي لا يوازيه علم آخر، فكما حدده الشافعي بقوله: «ليس لأحد ابداً ان يقول في شيء: حلّ ولا حُرمَ الا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في الكتاب او السنة أو الاجماع او القياس»[6]، وقوله ايضاً: «العلم طبقات شتى: الاولى الكتاب والسنة اذا ثبتت، ثم الثانية الاجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة ان يقول بعض اصحاب النبي (ص) قولاً ولانعلم له مخالفاً منهم، والرابعة اختلاف اصحاب النبي (ص) في ذلك والخامسة القياس. ولا يصار الى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وانما يؤخذ العلم من اعلى»[7].

هكذا يبدأ البيان أولاً بالقرآن ثم السنة، ومن بعدهما الاجماع فقول الصحابي. لكن اشترط بعض علماء السلف كالإمام احمد بن حنبل أن يكون بيان القرآن من السنة، واعتبر تفسير القرآن من غير السنة محض الضلال[8]. وهو يقول: «لا تفسير الا من أثر»[9]، ويعني بالأثر السنة او ما يكشف عنها مما ينقل عن الصحابة. كما جاء عن مكحول انه قال: القرآن أحوج الى السنة من السنة الى القرآن. وقال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب قاضياً على السنة[10]. وهو المروي ايضاً عن ابن شهاب الزهري[11].

ويكاد ينطبق هذا التحديد لطريقة البيان الفقهي على الممارسات الفقهية داخل حقل الفضاء الشيعي. فاذا كان الاتجاه الاخباري داخل هذا الحقل متمسكاً ببيانيته المتسقة سواء في علم الفقه او الكلام، فان الاتجاه الآخر (الأصولي) وإن كان ينحو في علم الكلام باتجاه الدائرة العقلية من التفكير، الا انه يتجه في علم الفقه صوب البيان في أغلب ممارساته، فقد عدّ للعقل مرتبة أخيرة بعد البيان، فهو يأتي بعد الكتاب والسنة والاجماع. فالاصوليون منذ بداية التنظير الفقهي يقدمون العمل بالنص بأشكاله البيانية ويمنعون من الممارسة العقلية فيما لو كان هناك نص على الحادثة، او كان يمكن ارجاع الحادثة الى شكل ما من الاشكال البيانية، أما عند عدم إمكان ذلك فانهم يجعلون الممارسة العقلية محددة ببعض القواعد والاصول، كأصل البراءة والاستصحاب والاحتياط. لكن منذ الوحيد البهبهاني (المتوفى سنة 1208هـ) اصبحت هذه الاصول ليست كاشفة عن الحكم الشرعي، بل مجرد اصول عملية وظيفتها تبرئة الذمة فيما لو كان هناك عجز عن الوصول الى ذلك الحكم. وقد اعتبرها المحقق القمي من الأدلة الظنية لا القطعية[12].

اذاً فمصادر الفقه الاستدلالية تعتمد اساساً على النص، فتارة يُكتفى بهذا المصدر دون غيره كما هو الحال عند الظاهرية في الوسط السني والاخبارية في الوسط الشيعي، واخرى يُعول على مصادر اخرى تتدرج بعد مرتبة النص وتسمى بالرأي والاجتهاد، وينحصر الرأي عند البعض بمجرد القياس لا غير كما عند الشافعي، لكنه يمتد عند البعض الاخر ليشمل مصادر اخرى ثانوية كالمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب والبراءة الاصلية والاحتياط والعرف وسد الذرائع وغيرها. واحياناً يكتفى بالعقل القطعي كما لدى الفقه الشيعي.

ويمكن إعتبار موارد الأصول الإجتهادية عبارة عن تدخلات غير مستقلة لكل من العقل والواقع. فالتدخل العقلي للإجتهاد هو ذلك الذي يعتمد على العقل في وظيفته الاستدلالية عندما لا يرد في القضية شيء من الشرع، أو يرد ذلك بصورة غير بينة، كإن ترد نصوص متعارضة حول القضية فيُحكم على ضوئها ببعض الإعتبارات والقواعد العقلية (غير المستقلة) مثل قاعدة أصل البراءة والاحتياط والاستصحاب، وترد القاعدة الأخيرة فيما لو كان هناك شك في بقاء الحكم على قضية محددة، فيُعمل بسريان الحكم. ومثل ذلك حكم العقل بلوازم ومقتضيات ما يرد من نص؛ كقاعدة مقدمة الواجب واجبة وقاعدة الإجزاء وغيرها.

وينطبق هذا الحال من بعض الوجوه على القياس ايضاً، اذ ليس عليه دليل قطعي من الشرع، بل هناك اعتبارات عقلية وواقعية تبدي ضرورة الاعتماد عليه، مثل كون النصوص محدودة لا تفي بما يتجدد من الوقائع غير المتناهية، لذلك كان لا بد من رد هذه الوقائع الى النصوص المحدودة عبر بعض القواعد العقلية، كقاعدة رد الفرع الى الاصل تبعاً للشبه بينهما، او الظن بوجود علة مشتركة لكلا الموردين. ومع ان هذه الاعتبارات مركبة على العقل والواقع، لكنها غير مستقلة، اذ لا يمكن للفقيه ان يحكم بالقياس ما لم يعول سلفاً على حكم النص كأصل معتمد، ومنه يمرر الحكم الى الواقعة الجديدة لما تملكه من مواصفات مناسبة للقضية التي عليها حكم النص.

أما التدخل الواقعي للاجتهاد غير المستقل فهو ذلك الذي يعتمد على الواقع في وظيفته الاستدلالية. ومن ابرز الشواهد عليه قاعدة المصلحة والعرف والاستحسان. ففي هذا الاجتهاد تعتبر الحاجة والمصلحة مهمة لتحديد الحكم الشرعي، وهي من الامور التي يراعى فيها الواقع. لكن هذا التحديد لا يتم بمعزل عن النص. فعادة ما يؤخذ بالمصلحة والحاجة إما كإستثناء لما ورد من عموم النص، وهو ما يطلق عليه التخصيص الذي يدخل ضمن عنوان الاستحسان، او يؤخذ بها عند لحاظ عدم تعرض النص لتلك المصلحة بشيء من الذكر، لا بالايجاب ولا بالتحريم[13].

*** 

هكذا يختلف الفقه عن الكلام حول العلاقة بين العقل والنص تبعاً لمراتب الدليل. فأول ما يبدأ به علم الكلام هو البحث في الدليل العقلي قبل النص، ثم يعرض هذا الأخير على الأول للحاظ إن كان له معارض أم لا، وبذلك يكون فهم النص متوقفاً على النظر القبلي للعقل، خلافاً لما يحصل في علم الفقه الذي يقدم البحث في النص على النظر في العقل او الاجتهاد، ويتحكم به أخداً ورداً، توظيفاً وتأسيساً.

وهنا يتبين الخلاف حول موارد العمل بين العلمين، ومن ذلك عند لحاظ التعارض بين النصوص، فطبقاً لعلم الكلام فإن الأخيرة تُعرض على العقل، وعادة ما يتم تأويل بعضها لحساب البعض الآخر وفقاً للتوجيه العقلي، كما هو الحال في الموقف من نصوص الصفات الإلهية. في حين أول ما يتبادر العمل به في علم الفقه هو الجمع بين النصوص المتعارضة عبر الأدوات البيانية؛ كالتخصيص والتقييد والنسخ وما إليها. وعند عدم القدرة على الجمع بينها فقد يتوقف الفقيه عن الحكم، أو يعمل بالأصول العملية أو غير ذلك من الوسائل الأخرى. كما قد يلجأ إلى التأويل أحياناً، لكن دون أن يكون له علاقة بالمنظومات العقلية عادة.

ولا يتوقف الاختلاف بين العلمين عند هذا الحد، اذ يشترط في الدليل «الاجتهادي» لعلم الكلام أن يفضي الى القطع، لكونه يستند في الاساس الى العقل الذي يعد مصدر البداهة والقطع والإحكام، لذلك فالمخطئ في اصول العقائد غالباً ما يعد كافراً. وهو خلاف المنظور في علم الفقه؛ اذ ان الدليل الاجتهادي والعقلي لا يحمل فيه تلك المنزلة التي يحظاها في علم الكلام، سيما ان الممارسة العقلية الصرفة تعدّ تطفلاً على الوظيفة الفقهية، وهي الوظيفة التي تحصر العلم في البيان، نظير ما يقوم به علم الكلام من جعل العقل أساس العلم. لذلك تنعكس علاقة المحكم بالمتشابه في كلا العلمين. فاذا ما كان المحكم في علم الكلام هو العقل، والمتشابه هو النص، فان العكس هو الصحيح في علم الفقه، حيث يتموضع العقل بموضع «المتشابه» لعجزه عن الكشف عن الحكم الواقعي إلا ما شذّ وندر. في حين يكون النص مشبعاً بروح الإحكام والبيان، بالرغم من دلالاته الظنية سواء من حيث السند او المتن، وعندما يكون السند غير قطعي كما هو الغالب فإن الحكم يزداد ضعفاً. وفي جميع الأحوال إن المعول عليه لدى الأكثرية هو ان المخطئ في الفقه له أجره على سعيه واجتهاده.

فهذا الاختلاف والتعاكس في الاتجاه بين العلمين هو ذاته ما يحدد الفارق بين الدائرتين العقلية والبيانية. فبينما تقوم الدائرة البيانية بفرض الإحكام والبيان على النص، تعمل الدائرة العقلية على تفريغهما منه لحصر ذلك في مجال العقل.

ورغم الاختلاف الكبير بين المرتكزات المعرفية لكل من الكلام والفقه؛ الا أنه لم يتولد بينهما صدام، لاختلاف القضايا المطروحة لديهما. فعلى الاقل ان موضوعات الكلام تتصف بالتجريد خلافاً لما عليه الحال في الفقه. بل وأن للاتجاه الكلامي تأثيراً على المنحى الفقهي، رغم ما ظهر في قبال ذلك من المفارقات بين العلمين.

وهنا نشير إلى ما أخطأ به الفيلسوف الفارابي عند تحديده لوظيفة كل من الفقيه والمتكلم، فهو في (إحصاء العلوم) يرى أن الفقيه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلّمة، ويجعلها أصولاً فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها. في حين أن المتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولاً من غير أن يستنبط منها أشياءاً أخرى. وإذا إتفق لإنسان أن يكون ذا قدرة على الأمرين معاً فسيصبح فقيهاً ومتكلماً في الوقت ذاته، فتكون نصرته لتلك الآراء والأفعال بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فقيه[14].

ويتحدد خطأ الفارابي برسم العلاقة بين الوظيفتين الفقهية والكلامية. إذ أخطأ حينما اعتبر المتكلم يعتمد على الأصول الفقهية ويقوم بنصرتها، بل الصحيح أن كلاً من المتكلم والفقيه يعتمد على النص كمصدر معرفي، وهو مصدر يعد لدى الفقيه أساساً للمعرفة الاستنباطية، في حين أنه لدى المتكلم ليس كذلك؛ لأن حجية النص ودلالاته تتوقفان على قبليات المتكلم العقلية، وبالتالي فالعقل هو الأساس لدى الأخير وليس النص. وهذا يعني بأن علم الكلام لا يعتمد على الأصول الفقهية من حيث كونها فقهية، فضلاً عن أن يقوم بنصرتها. بل على العكس قد شهد الفقه تأثراً بالكلام دون عكس.

ومن الناحية الابستمولوجية، رغم الاختلاف الحاصل بين الكلام والفقه منهجياً، الا أن هناك ما يجمعهما في العلاقة العامة مع الواقع، وهو أنهما يمارسان معاً عملية الاسقاط والتنزيل المعرفي من سماء التجريد الى ارض الواقع. فعلم الفقه يعمل على تنزيل البيان المستخلص من وحي النص الى أرض الواقع، فيفرض البيان على كل من العقل والواقع معاً. كما ان علم الكلام يقوم هو الآخر بفرض العقل على كل من النص والواقع، وبالتالي فهما يمارسان الاسلوب ذاته من التنزيل المعرفي الى الواقع، من غير تصعيد في الغالب.

وعلى العموم يمكن ايضاح الفوارق بين علم الكلام وعلم الفقه بحسب الجدول البياني التالي:

علم الكلام

علم الفقه

ليس ناضجاً

يتصف بالنضج التام

لا يعد علماً لاهوتياً بحسب طبيعته الذاتية

هو علم لاهوتي بحسب طبيعته الذاتية

انتهى دوره تقريباً

ما زال نشطاً

موضوعاته مجردة عن الواقع

موضوعاته تمس الواقع

مطروح لأجل النخبة

مطروح لأجل الأمة

اختلف القدماء حول شرعيته

متفق على شرعيته ماضياً وحاضراً

أصوله متناقضة

أصوله متسقة

يستمد مبرر جعله من العقل

يستمد مبرر جعله من الشرع

يتعلق بحثه بتأسيس الخطاب خارجاً وداخلاً

ينحصر بحثه بتأسيس الخطاب داخلاً

يتحدد موضوع بحثه بالتكليف وغيره

ينحصر موضوع بحثه بالتكليف فحسب

أحكامه التكليفية عقلية

أحكامه التكليفية بيانية

يبدأ بالعقل

يبدأ بالنص

العقل فيه محكم، والنص متشابه

العقل فيه متشابه، والنص محكم

يمارس التأويل في النص

لا يمارس التأويل في النص

ينحاز إلى بعض النصوص المتعارضة دون بعض

يجمع بين النصوص المتعارضة قدر الإمكان

العقل فيه مصدر البداهة والقطع

العقل فيه مصدر الهوى والضلال

دليله قطعي لا يقبل الشك والإحتمال

دليله ظني يقبل التشكيك

بمقدور العقل الكشف عن الأحكام الكلامية

يتعذّر على العقل الكشف عن الأحكام الفقهية

النص مدين للعقل بالتأسيس

النص غير مدين للعقل بشيء

يُعرض النص على العقل في الفهم دون عكس

لا يعرض النص على الغير

العقل مقدم على النص مطلقاً

النص مقدم على غيره مطلقاً

الإجتهاد وارد في قبال النص

لا إجتهاد في قبال النص

المخطيء في العقائد الكلامية إما ضال أو كافر

المخطيء في الفقه له أجره على سعيه وإجتهاده

الكلام هو زاد الدائرة العقلية

الفقه هو زاد الدائرة البيانية

للكلام تاثير على الفقه

ليس للفقه تأثير على الكلام

من وظائفه اسقاط العقل على النص والواقع

من وظائفه اسقاط النص على الواقع

عادة ما يكون المتكلم فقيهاً

أغلب الفقهاء ليسوا متكلمين

 

 



[1]  نقل الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض المشايخ قوله: العلوم ثلاثة: علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو، وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الفقه والحديث (بدر الدين الزركشي: المنثور في القواعد، تحقيق تيسير فائق أحمد محمود، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، 1405هـ، عن مكتبة المشكاة الاسلامية الالكترونية، ج1، ص71).

[2]  عن: متشابه القرآن للقاضي الهمداني، ج1، مقدمة المصحح عدنان محمد زرزور، ص38 و14.

[3]  انظر كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.

[4] الرسالة للشافعي، ص20.

[5] النحل\ 89.

[6] الرسالة، ص39.

[7] الأم للشافعي، ج7، ص25. وبدر الدين الزركشي: البحر المحيط، عن شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة 1543. ومحمد ابو زهرة: تاريخ المذاهب الاسلامية، دار الفكر العربي، ص460. والرويشد: قادة الفكر الاسلامي عبر القرون، مكتبة عيسى البابي وشركاه، ص61.

[8] ابو زهرة: ابن حنبل، ص210. وابن تيمية، دار الفكر العربي، ص457ـ458.

[9] قادة الفكر الاسلامي، ص84.

[10]  الخطيب أبو بكر البغدادي: الكفاية في علم الرواية، مراجعة: أبو عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن، عن مكتبة سحاب السلفية (لم تذكر ارقام صفحاته):  www.sahab.org 

[11]  الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، عن شبكة المشكاة الالكترونية، لم تذكر ارقام صفحاته، فقرة 172.

[12]  القمي: قوانين الاصول، طبعة حجرية قديمة، ص451.

[13]  انظر حول ذلك: فهم الدين والواقع.

[14] الفارابي: احصاء العلوم، تصحيح وتقديم وتعليق عثمان محمد أمين، مطبعة السعادة في مصر، 1950هـ ـ 1931م.

 

comments powered by Disqus