-
ع
+

هل يجوز تغيير الأحكام الإلهية؟

يحيى محمد

نعم.. لا.. نعم ولا!!

كثير ما يذكر من أن للأزمان تأثيراً على تغيير الأحكام. فهي قاعدة مسلّم بها لدى أغلب المذاهب الفقهية. لكن القائلين بهذه القاعدة لم يضعوا صيغاً ثابتة ومنتظمة يفهم منها حدود ما يمكن للزمان أن يؤثر فيه على تغيير الأحكام. فإذا كانت الأحكام الإضطرارية التي تعنون ضمن العناوين الثانوية هي مما يدخل ضمن هذه القاعدة، وكذا الأحكام التي يتحدد نوعها ضمن طبيعة العرف المؤثر، فإن غيرها مما يعد من الأحكام الوسيلية تواجه صورتين مختلفتين من الموقف في الفقه التقليدي: إحداهما ترى أن الأحكام المنصوصة لا تقبل التغيير سواء كانت مقصدية أو وسيلية، فأي تغيير لها من غير ضرورة وإضطرار مؤقتين هو بمثابة الإجتهاد في قبال النص. ولا شك أن هذه الصورة تعد متسقة في ذاتها وإن كانت متخلفة لعدم انسجامها مع تطورات الواقع. أما الأخرى فهي وإن كانت أفضل حالاً من الأولى لما لديها من بعض المراعاة لتطور الواقع؛ إلا أنها تقف متذبذبة كدلالة على عدم إتساقها في ذاتها، فهي تتحيز لبعض الأحكام فتجيز تغييرها دون أن تفعل الشيء نفسه مع مثيلاتها من الأحكام الأخرى وبغير سبب معقول1.

نعم إن ما أجادته هذه الصورة هو ما نبهت عليه من ضرورة عدم الجمود على فتاوى القدماء وإجتهاداتهم، مراعية بهذا إختلاف الظروف وتطورات الواقع، لكن دون أن توسع ذلك إلى نواحي أحكام النصوص الشرعية.

لنلقي - بادئ الأمر - نظرة أولية على مجموعة لنصوص الفقهاء المجددين وهم يؤكدون على لزوم العمل بتغيير الفتوى تبعاً للأحوال والظروف والزمان والمكان:

يقول شهاب الدين القرافي (المتوفى سنة 684هـ) في (الفروق): ‹‹تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه... وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل اقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين››2.

ويقول إبن عابدين في رسالته (نشر العرف): ‹‹اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص وهي الفصل الأول، وإما أن تكون ثابتة بضرب إجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولذا قالوا في شروط الإجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف بإختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً؛ للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد. ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نصّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه››3.

وكذا يقول: إن ‹‹المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام وأنه مخالف للنص أو لا››4. ويقول أيضاً: ‹‹فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعات الزمان وأهله وألا يضيع حقوقاً كثيرة ويكون ضرره أعظم من نفعه››. ونقل عن البعض قوله: ‹‹الفتوى على عادة الناس››5.

وقال السيوطي: ‹‹تعتبر العادة إذا اطردت، فإن اضطربت فلا››6.

كما جاء في (الفواكه العديدة) للتميمي النجدي أنه ‹‹من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على إختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من تطبب للناس كلهم على إختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل والمفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان››7.

وقال أبو ليث: ‹‹إن كثيراً من المسائل أجاب بها أصحابنا على عادة أهل بلدهم ومعاملاتهم، فينبغي لكل مفتي أن ينظر إلى عادة أهل بلده في زمانه، فيما لا يخالف الشريعة.. وقد يرجع أحدهم عما كان يفتي به سابقاً لتغير الزمان فيفتي بغير ما كان يفتي به آنفاً››8.

وصرح الزيلعي نقلاً عن فقهاء بلخ بأن ‹‹الأحكام قد تختلف بإختلاف الأزمان››9.

وقال أبو مطيع البلخي: ‹‹من لم يكن عارفاً بأهل زمانه جاهل››10. كما عرّف البعض الفقيه بأنه ‹‹المقبل على شأنه، العارف بأهل زمانه››11.

وجاء في كتاب (الهوامل والشوامل) أن ابا حيان التوحيدي سأل مسكويه عن علة إختلاف الفقهاء في الإفتاء في المسألة الواحدة، فيفتي أحدهم مثلاً بتحليلها، وآخر بتحريمها. فأجاب مسكويه بأن العبرة في ذلك هو إختلاف الزمان والعادة ومصالح الناس12.

وقال إبن القيم الجوزية: ‹‹الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا إجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا إجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة›› 13.

ومن المحدثين قال محمد عبده: ‹‹كان ينبغي أن يكون للفقهاء جمعيات يتذاكرون فيها ويتفقون على الراجح الذي ينبغي أن يكون عليه العمل، وإذا كان بعض المسائل رجح لأسباب خاصة بمكان أو زمان ينبغي لهم التنبيه على ذلك، وأن هذا الحكم ليس عاماً وإنما سببه كذا، لا أنهم يجعلون كل ما قيل عن فقيه واجب الإتباع في كل زمان ومكان››14.

بل إن ‹‹الواقع›› الذي نبّه الفقهاء على مقالة الزمان والمكان في تأثيرهما على تغيّر الأحكام هو ذاته الذي فرض نفسه على الشافعي ليغير الكثير من آرائه وفتاويه حين انتقل إلى مصر فأطلق عليها المذهب الجديد في قبال مذهبه القديم. وهو ذاته الذي جعل الأخذ بالمصالح المرسلة والإستحسان مشروعاً. ويكفي أن نعلم أنه بحكم الخبرة والممارسة العملية لأبي حنيفة بالسوق والتجارة اتخذت فتاويه طابعاً خاصاً، حيث كان يترك العمل بالقياس لصالح العرف والإستحسان، لا سيما عندما يتعلق الأمر بموارد البيع والشراء15. وكذا كان الإمام مالك يعمل بالإستحسان والمصلحة المرسلة تأثراً بتعامل الخلفاء الراشدين مع الأمور المستجدة16، مما يعني تأثره بواقع الدولة وأحكامها التي فرضها الواقع بقوة17. وهو يتسق مع قوله بأن الإستحسان هو تسعة أعشار العلم18، حيث من مصادر الإستحسان الترجيح بالعرف والمصلحة، وكلاهما ينضمان تحت لواء الواقع، وبالتالي فصياغة الأحكام قائمة على مبدأ مراعاة الواقع وجعل الأحكام مصطبغة به من غير تعال، استناداً إلى مقاصد الشرع. لذلك صرح اصبغ بن الفرج (المتوفى سنة 225هـ) إعتماداً على الإمام مالك من أن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة، وأن الإستحسان عماد العلم19. وروي - بهذا الصدد - عن إياس بن معاوية أنه قال: قيسوا القضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا20.

لكن رغم قيمة وأهمية ما نقلناه من أقوال العلماء المنبهة على ضرورة إعتبار الواقع في الإفتاء دون الجمود على ما عليه إجتهاد السلف؛ إلا أن ذلك لا يحل المشكل من أساسه، بل يبعث على صور التذبذب والإزدواجية كما هو حاصل فعلاً لدى هذه الطريقة، فهي تتبنى موقفاً واضحاً إزاء تعاملها مع الأحكام الوسيلية للخطاب الإلهي، فالكثير من الأحكام الشرعية قد عالجت أوضاعاً مخصوصة يصعب سحبها إلى واقع آخر، بله إلى مختلف الظروف والأمكنة والأزمنة، رغم أن دلالاتها اللفظية الظاهرة تفيد الإطلاق وعدم التقيد بظرف ما أو بسياق تاريخي محدد.

فإزاء هذا المشكل نجد العلماء المجددين وإن أقروا مبدئياً تقسيم الأحكام إلى ثابتة ومتغيرة كالذي نصّ عليه إبن القيم21؛ إلا أن قصدهم بالأحكام المتغيرة يأتي على أنواع: منها تلك التي تعود إلى تطبيقات الحكم الشرعي الكلي والتي يصح تغييرها تبعاً لتغير بعض قيودها من العادات والأحوال والأعراف وما شاكلها. كما منها ما كانت في الأصل تعالج موضوعات طارئة واضحة الخصوصية لا يصح سحبها وتعميمها على مختلف الظروف. وعلى هذه الشاكلة ما يقوله جماعة من أن إختلاف الأحكام فيما بينها يأتي أحياناً تبعاً لإختلاف التدابير السياسية المتبعة؛ كل بحسب ظرفه وزمانه وما تقتضيه المصلحة، وهي التي أطلق عليها البعض (الأحكام الولائية) والتي يمارسها المعصوم بصفته حاكماً ورئيساً للمسلمين لا بصفته نبياً ـ أو ما على شاكلته كالإمام المعصوم ـ مبلغاً للأحكام، كممارساته لشؤون الإدارة والقضاء والسياسة.

وقد أخذ هذا التمييز للأحكام يروج في العصر الحديث تبعاً لضغط الحاجات الزمنية - إن لم نقل أنه مستحدث لدى بعض المذاهب الإسلامية -. لكن الإقرار به صراحة تمّ منذ زمن بعيد. فهناك عدد من العلماء أشاروا إلى الحدّ الفاصل بين الأحكام العامة الثابتة التي يأتي بها النبي للتبليغ حسب ما أُوحي إليه من تشريع ثابت، وبين الأحكام المؤقتة التي يمارسها النبي بإعتباره قاضياً تارة، وإماماً ورئيساً للمسلمين تارة أخرى؛ كالذي أشار إليه القرافي في تفريقه ‹‹بين قاعدة تصرفه (ص) بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى، وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة››22، وكالذي تعرض له إبن القيم صراحة في كتابيه (أعلام الموقعين والطرق الحكمية). بل ونقل عن (الفنون) أنه ‹‹جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه الحزم، ولا يخلو من القول به إمام. فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال إبن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان للمصاحف، فإنه كان رأياً اعتمدوه على مصلحة الأمة، وتحريق علي الزنادقة في الأخاديد.. ونفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج››23.

وإن كنّا نرى في جواب إبن عقيل بقوله بأن السياسة يشترط فيها إلا تخالف ما نطق به الشرع، شيئاً من الملابسة، ذلك أن العديد من الأحكام التي نصّت عليها الشريعة وجدت تغييراً لدى الصحابة والفقهاء بتبرير ينساق من تغيّر الظروف والأحوال والمصالح، مع مراعاة مقاصد الشرع، ويكفي شاهداً على ذلك ما أجراه عمر حول حكم سهم المؤلفة قلوبهم المنصوص عليه في القرآن، وكذلك قضية طلاق الثلاث ومسألة التسعير وغيرها مما وردت فيها النصوص الصريحة. لهذا كان الأولى أن يقال بأن شرط السياسة هو أن لا تخالف روح الشريعة ومقاصدها، وليس الجانب الحرفي منها.

أما الأحكام العادية فقد أقرّ العلماء تبعيتها للعادات في الثبات والتغير. وسبق أن نقلنا نصاً للقرافي يؤكد فيه ضرورة الأخذ بهذا القانون، وكشفه عن لزوم تغيير فتاوى المجتهدين عند تجدد أعراف الناس وعاداتهم. مع ذلك فقد تناول الشاطبي موضوع علاقة العادات بالأحكام الشرعية مباشرة بغير وساطة إجتهاد المجتهدين. فهو يرى لزوم النظر إلى العوائد وأن إقامة التكليف لا يستقيم إلا بإعتبارها، ومع إختلاف العوائد تختلف الأحكام، فالشرع ذاته ‹‹جاء بأمور معتادة، جارية على أمور معتادة››. وحيث أن منها ما هو ثابت وما هو متغير، لذا فإن الأحكام المناطة بهذه الأحوال تتبع ما عليه من ثبات أو تغير، فتكون ثابتة بثباتها ومتغيرة بتغيرها24. لذلك عبّر الشاطبي بقوله: ‹‹ تنزيل العلم على مجاري العادات تصحيح لذلك العلم، وبرهان عليه إذا جرى على إستقامة، فإذا لم يجرِ فغير صحيح››25.

ومن الناحية المبدئية يضع الشاطبي رباطاً متسقاً بين العوائد الوجودية والشرعية، فلما كانت العوائد الوجودية منقسمة إلى عامة مطلقة لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، كالأكل والشرب والفرح والحزن والنوم واليقظة وما إلى ذلك، وإلى عوائد تختلف من حيث تلك الظروف والحالات وتندرج ضمن هيئات تلك العوائد العامة أو الكلية، كهيآت اللباس والمسكن وما إليها.. لذا توجد في قبالها عوائد شرعية تتخذ ذات التقسيم من الثبات والتغير، أو الكلية والجزئية. فالعوائد الشرعية تابعة للعوائد الوجودية، وحيث أن العوائد الكلية هي الأصل والأساس الذي ترجع إليه العوائد الجزئية في العالم الوجودي الكوني؛ فإن الأمر ذاته متحقق في عالم التشريع الذي جاء على وفاق ذلك، لهذا يظل الحكم الكلي الشرعي ثابتاً أبداً. فالعوائد الكلية أبدية قد وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بيّن ذلك الإستقراء، وجاءت الشريعة على وفاقها، حيث أن أحكامها ثابتة لا تتغير. وعلى خلاف ذلك ما جاء في الضرب الآخر من العادات الجزئية التي يتعلق بها الظن لا العلم، الأمر الذي لا يصح أن يحكم بها على ما مضى لإحتمال التبدل والتخلف، خلافاً لما هو الحال مع العوائد الأولى (الكلية)26.

على هذا فإن الشاطبي وإن رأى بطلان رفع العوائد الشرعية بإعتبار أن النسخ بعد النبي باطل27، إلا أن ما قصده هو الرفع المطلق، أو تغيير الحكم بكليته، وهو ما يعبر عنه بالنسخ لدى المتأخرين، أما إبدال تطبيقات الحكم الكلي لإرتفاع قيودها أو عاداتها فالأمر يختلف. لهذا فالأمثلة التي يستعرضها الشاطبي في علاقة العادة بالأحكام هي من الموارد البينة التي تتعلق بالتطبيقات وليس بالحكم الشرعي الكلي. فليس المراد من تغيير الأحكام الشرعية هو تغيير الحكم الكلي بما هو حكم عام، وإنما تطبيقاته المتأثرة بتغاير الأعراف والعادات، كما في موارد الألفاظ والمعاملات السلوكية، كالألفاظ المستخدمة بالشتم والنذور والأيْمان والطلاق والوصية، وكذا في المعاملات السلوكية، إذ يظل الحكم عند الشاطبي متنزلاً تبعاً لعادة الناس، فكيفما تكون العادة فالحكم يكون بحسبها لا غيرها، ومن ذلك كشف الرأس، إذ يختلف فيه الحكم بحسب إختلاف عادات الناس وتصوراتهم، فالنظر إليه في البلاد المشرقية هو غير النظر في غيرها من البلاد المغربية28. وعلى هذه الشاكلة يتقرر الحكم بحسب العادة والعرف في قبض الصداق لصالح أحد الزوجين المتنازعين بعد الدخول، فلو أن هناك مجتمعين يعملان بعادتين متضادتين لكان الحكم مختلفاً، فهو لصالح الزوج بحسب إحدى العادتين، ولصالح الزوجة بحسب العادة الأخرى، مع أن الحكم من الناحية المبدئية - أو الأصل - واحد لا إختلاف فيه رغم تغاير تطبيقاته29.

هكذا تظل الأحكام الكلية لدى الشاطبي ثابتة لا تتغير، إذ على رأيه أن ‹‹إختلاف الأحكام عند إختلاف العوائد ليس في الحقيقة بإختلاف في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي.. لم يحتج في الشرع إلى مزيد. وإنما معنى الإختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها››30.

وعليه فكل ما سبق لا يعد تغييراً للحكم الشرعي بكليته، وإنما تغيرت مصاديقه وتطبيقاته، أي أن التغير في الأحكام - هنا - هو تغيّر بموارد التطبيق، وأن للحكم الكلي الواحد قابلية على التطبيق لصور كثيرة عديدة بحسب مواصفات سببية خاصة. وهو ما أكد عليه السيوطي بقوله: ‹‹إن المفتي حكمه حكم الطبيب ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان، فالمفتي طبيب الأديان وذلك طبيب الأبدان، وقد قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس أحكام بحسب ما أحدثوا من الفجور. قال السبكي ليس مراده أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان بل بإختلاف الصور الحادثة، فإنه قد يحصل بمجموع أمور حكم لا يحصل لكل واحد منها، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكماً خاصاً.. ثم قال السبكي في فتاويه ما معناه: يوجد في فتاوى المتقدمين من أصحابنا أشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة لأنها وردت على وقائع، فلعلهم رأوا أن تلك الوقائع يستحق أن يفتى بها بذلك ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره››31.

ونشير إلى ما سبق إليه القرافي من تعليقه على مقولة عمر بن عبد العزيز (تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور)، فقال بأنه ‹‹لم يرد رضي الله عنه نسخ حكم بل المجتهد فيه ينتقل له الإجتهاد لإختلاف الأسباب››32. وكذا يمكن أن يقال الشيء نفسه فيما نصّ عليه مالك بقوله: ‹‹تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا››. وعلى هذه الشاكلة قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ‹‹يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم››33.

لهذا يرى إبن القيم أنه ما لم تراع الشروط والقيود الخاصة بالحكم فإن إسقاطه على الواقع سيسبب الضرر والمشقة خلافاً لمقصد الشرع في تحقيق مصالح الناس، إذ تكون الأحكام - في هذه الحالة – مطبّقة على غير مصاديقها الحقيقية، أو تلك التي لا يلتفت إلى أسبابها الخاصة. فكما قال في فصل عنوانه (في تغيّر الفتوى وإختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) من كتابه (أعلام الموقعين): ‹‹هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل››34.

اذ يلّوح إبن القيم في هذا النص إلى ضرورة مراعاة القيود والشروط المتعلقة بالحكم الشرعي كي لا ينشأ منه ضرر عند تطبيقه على نحو تعسفي، وكمثال على ذلك ما سبق إليه عمر بن الخطاب في وقفه لحد السرقة عام المجاعة.

على أن مثل تلك النصوص التي نقلناها تثبت ضرورة أخذ إعتبار الأحوال الخاصة المرتبطة بالحكم، أي الشروط والقيود التي ينبغي على المجتهد تحديدها إعتماداً على صريح النص الشرعي أو بنوع من الإجتهاد. مما يعني أن ذات الحكم يجد مجاله من التطبيق بحسب شروطه الخاصة، وهو ليس بصدد البحث عن إشكالية تغيير الحكم الشرعي بكليته مما يطلق عليه النسخ أو النسأ، إستناداً إلى زوال كافة ظروف الحكم وأحواله المؤثرة وإن لم يتضمنها النص بالذِكر.

ويلاحظ أن تغيير الأحكام المستندة إلى تطبيقات الحكم الشرعي الكلي يجعل أغلب الفتاوى والأحكام قابلة للتبديل، وهو أمر يبرر ما قاله عمر بن عبد العزيز ومالك من أنه تنشأ فتاوى للناس بقدر ما أحدثوا. والى ما سبق يحتمل أن يكون مراد ما علّقه أحمد الناصري على ما حكاه القرافي عن الشافعي قوله بما معناه: دأبت في قراءة علم التاريخ لأستعين به على الفقه، حيث علّق عليه الناصري بقوله: ‹‹إن جل الأحكام الشرعية مبني على العرف، وما كان مبنياً على العرف لا بد أن يطرد بإطراده وينعكس بإنعكاسه، ولهذا ترى فتاوي الفقهاء تختلف بإختلاف الأعصار والأقطار بل والأشخاص والأحوال، وهذا السبب بعينه هو السر في إختلاف شرائع الرسل عليهم الصلاة والسلام وتباينها››35.

وقد كان الشيخ محمد عبده يقول: ‹‹ما أضرّ بالفقه شيء كالجهل بالتاريخ، لأننا لو حفظنا تاريخ الناس، ومنه عاداتهم وعرفهم ومصالحهم في البلاد التي كان فيها المجتهدون الواضعون لهذا الفقه؛ لكنا نعرف من أسباب خلافهم ومدارك أقوالهم ما لا نعرفه اليوم. فما كان ذلك الخلاف جزافاً ولا عبثاً. ألم تر أن الشافعي وضع بعد مجيئه إلى مصر مذهباً جديداً غير المذهب القديم الذي كان عليه أيام لم يكن خبيراً بغير الحجاز والعراق. وكذلك كان ما خالف به أبو يوسف استاذه أبا حنيفة مما يرجع الكثير منه إلى ما اختبره من حال الناس في مصالحهم ومنافعهم وعرفهم››36.

على هذا فإن الإختلاف الحاصل بين الفقهاء طبقاً لما سبق قد ينشأ بما كان يعرف لديهم بأنه إختلاف عرف وزمان لا إختلاف نظر وبرهان37.

 

مشاكل الطريقة التقليدية

عرفنا، كما هو واضح، بأن علماءنا المجددين لا يقفون عند حد المسطور من فتاوى غيرهم من السلف، كما أنهم يقرون تغيّر الأحكام الشرعية ضمن ضوابط، إما لضرورة مؤقتة، أو طبقاً لكون الأحكام عادية أو لأنها ولائية تختلف بإختلاف الأوضاع. لكن رغم ذلك لا يخلو الأمر من جملة إشكالات أساسية كالاتي:

 

أولاً:

الملاحظ أنه لا يوجد تمييز حاسم يفصل الأحكام العادية المتغيرة والولائية عن غيرها من الأحكام. فحول الأحكام الولائية سبق لإبن القيم الإشارة إلى أن ما أجراه النبي وخلفاؤه من سياسة جزئية بحسب المصلحة قد أوهمت الكثير بأنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة38. بل يزداد الأمر فضاعة عند أولئك الذين لا يعوّلون إلا على ما نطق به الشرع، فيرفضون كل ما يستند إلى مرجعيات أخرى لمعرفة الحق والصواب، وذلك للوهم السائد بأن كل ما ليس مستمداً من الشرع فهو مخالف له، وبالتالي فهم غير مستعدين لتفسير أحكام النصوص تبعاً للنحو الولائي أو العرفي أو غير ذلك. مما جعل إبن القيم يندد بهم، معولاً على ضرورة فهم كل من الواقع والشريعة وتنزيل أحدهما على الآخر بلا إنفصال ولا قطيعة، حيث يقول تحت عنوان (وجوب تحري الحق والمصلحة): ‹‹وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام. وهو مقام ضنك. ومعترك صعب. فرطت فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق وجرّؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً: أنها حق مطابق للواقع، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع. لعمر الله أنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته بإجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر. فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شراً طويلاً وفساداً عريضاً، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعزّ على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك››39.

هكذا فإن تغييب الواقع ومنعه من المشاركة في الفهم كقرين للخطاب؛ هو السبب الرئيس وراء الكثير من المخلّفات الفقهية الخاطئة التي ينطبق عليها ما ندد به إبن القيم، إن لم نقل أن هذه السقطة ظلت عالقة بالنتاج الفقهي دون أن تنفع معه مقالات التعويل على الأحكام الولائية والعادية، إذ لم يتم إخضاع الأحكام لهذه الأخيرة إلا عند الحاجة والإضطرار، أو على الأقل أنه لم يتبين المنحى المنهجي الذي يتحدد فيه ما هو قابل للتغيير عن غيره، بسبب الخلل المتعلق بعدم إخضاع الواقع للفهم والدرس ومن ثم تنزيل الشريعة عليه. ويزداد الأمر خطورة بالنسبة للقضايا العامة، كالشؤون السياسية وما إليها.

وسبق لابن خلدون أن لوّح إلى ذلك في نقده للطريقة الفقهية، إذ جاء في فصل من مقدمته بعنوان: (في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها) ذكر فيه بأن العلماء معتادون على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات ومن ثم تجريدها في الذهن بشكل أمور كلية عامة ومطلقة ثم يطبقونها على الوقائع الخارجية، أو يقيسون الأمور بما اعتادوه من القياس الفقهي المجرد في الذهن، لكن ما يجردونه لا يطابق الواقع، الأمر الذي يجعلهم يقعون في كثرة من الغلط حين ينظرون في السياسة؛ بإعتبارها تتطلب مراعاة الواقع، والنظر في كل حالة جزئية بما يلائمها من الأحكام، خلافاً لما يفعله الفقهاء ومن على شاكلتهم من أهل الذكاء والكيس من أهل العمران40

مع هذا فمن الفقهاء من كان يدرك أهمية الواقع في الإفتاء، فمثلاً قال البعض: ‹‹لا بد للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع››41. وعلى شاكلته قال بعض الفقهاء المعاصرين: ‹‹والمجتهد الحق هو الذي ينظر إلى النصوص والأدلة بعين، وينظر إلى الواقع والعصر بعين أخرى، حتى يوائم بين الواجب والواقع، ويعطي لكل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها››42.

 

ثانياً:

مثلما لا توجد تفرقة منهجية محددة بين كل من الأحكام الولائية والعادية العرفية، وبين غيرها من الأحكام؛ فإنه لا توجد كذلك تفرقة في المعاملة المبدئية بين الأحكام الموضوعة وضعة وسيلية وبين غيرها المعدة مقصدية. فكلا النوعين من الأحكام منظور اليه نظرة الثبات، فهما معتبران من الأحكام المطلقة المغلقة طبقاً للنهج الماهوي، باستثناء القليل منها والتي تعامل معها الفقهاء معاملة ‹‹انتقائية››. فمن الفقهاء من يعترف أحياناً بعرفية بعض الأحكام أو ظرفيتها غير الثابتة رغم إطلاقية النص، وقد مرّ علينا عدد من ذلك؛ مثل ما روي عن النبي (ص) نهيه عن تدوين الحديث: ‹‹من كتب عني غير القرآن فليمحه››، حيث استمر العمل بهذا النهي أو كراهته حتى مطلع القرن الثاني للهجرة، ثم عاد العلماء إلى التدوين بأمر من عمر بن عبد العزيز أو من جاء بعده من الخلفاء العباسيين. وكذا مثل موارد الزكاة لدى البعض، وشرط القرشية لدى جماعة، وكيفية المبادلة في الأصناف الستة التي عليها حديث الربا، كما عند الشيخ أبي يوسف الذي خالفه جمهور المجتهدين، بل واتهمه البعض بمخالفته للنص الصريح دون أن يوافقوا على تنزيل النص منزلة العرف والعادة.

ويلاحظ أيضاً أن الفقهاء أقروا بمشروعية ما فعله الخليفة الثاني من تغيير بعض الأحكام بسبب تجدد الظروف، كما هو الحال مع سهم المؤلفة قلوبهم المصرح به في القرآن. والواقع لولا أن هذا الخليفة فعل ما فعل لكان من الصعب أن يجرؤ فقيه على التحرش بمثل هذه الأحكام، تحسباً من السقوط في حبال الإجتهاد في قبال النص، لا سيما عندما يكون الحكم منزلاً في القرآن الكريم وصريحاً غير مقيد بشيء. لهذا ما زال الإجتهاد العمري في سهم المؤلفة قلوبهم لم يفسر تفسيراً موحداً لدى الفقهاء، فإذا غضضنا الطرف عمن يتهم الخليفة العادل بأنه اجتهد في قبال النص الصريح، كما هو رأي جماعة من الفقهاء43، نرى الفقهاء الآخرين بين موقفين، حيث ذهب البعض إلى أن ما فعله كان من النسخ المجمع عليه لدى الصحابة، فقيل أن ما حكم به لم ينكره أحد من هؤلاء، مما يدل على إجماعهم في نسخ الحكم القرآني44، وبالتالي حكم الكثير من الفقهاء بعدم عودة هذا السهم، كما هو الحال مع الإمام مالك وفقهاء الكوفة45. أما البعض الآخر فلم يتقبل رفع الحكم القرآني كلية، وبرر هذا الرأي استناداً إلى إجتهاد عمر في الموضوع فاستتبع ذلك حكمه الجديد، حيث أن الحكم يتبع سببه، وعند معرفة السبب يتحدد الحكم، وهذا ما حصل مع الخليفة الراشد، إذ حدد السبب بالذات فبنى عليه حكمه46. لهذا قيل بجواز عودة حكم ذلك السهم عند الحاجة إليه وعندما يرى الإمام الحاكم ذلك، وهو قول إبن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز والشافعي47. لكن سواء هذا الرأي أو ذاك فقد ظل الحكم العمري هو السائد واقعاً تماشياً مع السلوك الإستصحابي للفقهاء في ثبات الأحكام وديمومتها.

ونفس الشيء يقال فيما خلّفه هذا الخليفة من حكم حول قضية طلاق الثلاث، إذ ذهب جمهور الفقهاء إلى إبقاء هذا الحكم، رغم ما في الأمر من تناقض، ذلك أن الفقهاء بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أن يعوّلوا على لزوم ابقاء الأحكام الشرعية كما هي من غير تغيير وتجديد، وهو أمر يفضي بهم إلى ترك ما فعله عمر (رض) وعدم الإلتفات إليه، كالذي صنعه الإتجاه الشيعي، أو يعوّلوا على تجويز تغيير الأحكام بحسب الظروف والمصالح، وفي هذه الحالة ليس من حقهم أن يستصحبوا الحكم الذي رآه عمر. أي في كلا الأمرين لا يصح الجمود عند الإجتهاد العمري، فهو إما أن يُرفض طبقاً للفرض الأول، أو يُقر ولكن يسمح بتجاوزه عند تغيّر الظروف. مع أن ما فعله الفقهاء هو غير هذين الأمرين فسقطوا في شباك التناقض، تأثراً بفعل النهج الماهوي والجمود على حرفية الأحكام، إذ انقلب الحال من التوقف عند حدود النص الشرعي إلى تجاوز ذلك بالجمود على فتاوى السلف طبقاً لمقولة ‹‹ليس لنا أن نزيد شيئاً على ما قاله السلف الصالح››48، فأصبح الإجتهاد بمنزلة النص المنزل، والنص بمنزلة الإجتهاد، فهل هناك تناقض أكبر من هذا؟!

ومن الجدير ذكره هو أن بعض المعاصرين إلتفت إلى مفاد ما صنعه عمر (رض) من إجتهاد رغم وجود النص الصريح، فبنى على ذلك رأيه في صحة الإجتهاد حتى مع وجود النص القطعي الدلالة والثبوت مع قيد أن يكون متعلقاً بالمتغيرات الدنيوية، إذ يكون الحكم متوقفاً في مثل هذه الصورة على ما يحققه من مقصد ومصلحة وليس على صراحة النص وحرفيته49.

 

ثالثاً:

لقد اختلف الفقهاء في شرعية تغيير الأحكام تبعاً للصور التي سبق الحديث عنها، وهم حتى في دائرة المتفقين لا يتفقون على موارد تطبيق المنهج المتبع، فما يراه بعضهم من أن الحكم يجوز تغييره قد لا يراه غيره ممن يتفق معه من حيث المبدأ. يضاف إلى أنه حتى في دائرة الفقيه الفرد قد يعمل على تغيير بعض الأحكام التي ظاهرها الإطلاق في النص من غير قيود خاصة تقيدها، لكنه لا يعمم ذلك على مثيلاتها من الأحكام المندرجة تحت طائلة الأحكام الوسيلية والتي يمكن فهمها طبقاً للسياق الظرفي. على هذا لا يوجد منهج محدد يميز بين الأحكام التي يصح تغييرها عن غيرها من الأحكام الثابتة، بل الأصل لدى الفقهاء هو بقاء الحكم وإطلاقيته ما لم يدل دليل يفرض نفسه على تغيير الحكم. وسبق أن صرح المحقق القمي في (قوانين الأصول) معتبراً أغلب الأحكام مستمرة بالظن القوي، ومؤكداً بأن العقل والنقل يمكنهما رفع هذا الإستمرار50. لهذا فإن العلماء لا يرفعون يدهم - في الغالب ولمزيد من الحيطة - عن الحكم المنصوص إلا عند الضرورة، أو عند كشف الواقع يقيناً بأن الحكم مرحلي لا يفيد الدوام والثبات، أو بسبب تقليد السلف كما يشهد عليه موقف الفقهاء من الأحكام التي غيّرها عمر بن الخطاب. وتظل القاعدة العامة لدى هؤلاء هي عدم تنزيل التشريع ‹‹الوسيلي›› منزلة الظرف أو الواقع السائد. وكمثال على ذلك موقفهم إزاء الحديث النبوي المتعلق بموارد الرهان في السبق، أو تفسيرهم لآية القوة ورباط الخيل: ((واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل))، وما ينطوي عليه من بعض الأحكام الخاصة بلزوم إعداد رباط الخيل والقوة وفقاً للمعنى الوارد في الأحاديث الصريحة، وعلى هذه الشاكلة تعاملهم مع الحكم الوارد في آية المصابرة، وغير ذلك مما له إرتباط بالأحكام الوسيلية التي تبيّن اليوم بأنها ظرفية لا مطلقة.

***

هكذا يتبين لنا تناقض الطريقة الفقهية التي تقبلت مقالة جواز تغيير الأحكام طبقاً للعرف والعادة، أو تبعاً لتأثير الزمان والمكان. فهي من ناحية تعترف بضرورة تغيير الفتاوى التي عليها الفقهاء القدماء حين يتغير الواقع أو الزمان والمكان، كما أنها تتقبل أحياناً العمل بتغيير الأحكام الشرعية بفعل تغيرات الواقع أو الظروف تبعاً لربط الحكم بعادته أو بمقصده ومصلحته.. لكنها مع ذلك لا تضع ضوابط خاصة يفرز من خلالها ما يقبل التغيير عن غيره. بل لمّا كان الأصل لديها هو بقاء الحكم ثابتاً ما لم يثبت خلافه طبقاً للنهج الماهوي، وحيث أن إثبات الخلاف هو أمر إجتهادي قد يُعوَّل عليه إستناداً إلى أمارات أخرى غير النصوص الشرعية، لذا فغالباً ما يتعرض القائل بالخلاف إلى التشنيع باتهامه أنه يجتهد في قبال النصوص الصريحة، كما جرى الحال مع أبي يوسف الذي حاول أن يربط بعض ما ورد حول الربا بالعرف السائد في عهد الرسالة.

ورغم أن قائمة تغيير الأحكام الشرعية للنصوص عديدة، وجميعها لها موجهاتها الإجتهادية، ورغم أن التعويل على تخصيص حكم النص وتقييده بالإجتهاد مسلّم به لدى الكثير من المذاهب الفقهية، كما رغم أن الصحابة كثيراً ما كانوا يجتهدون في النصوص الصريحة وينسبونها إلى ظروفها الخاصة مثلما هو حال الممارسات العمرية.. فرغم كل ذلك فإن الفقهاء ظلوا ينادون بعدم جواز تغيير حكم النص القاطع الصريح، بل ويشنعون على كل من يسعى لفهم جديد بجعل أحكام النص مرنة وقابلة للتغيير. وشاهد الطوفي الحنبلي (المتوفى سنة 716هـ) ليس ببعيد عنّا، حيث لقي من العنت والتشهير والإتهام الشيء الكثير لدى الفقهاء، حتى شوّهت الطريقة التي دعا إليها ولم تفهم على ما هي عليه51.

هكذا نعود فنقول:

إننا نقف في مفترق طرق: فإما أن نتبع الطريقة الحرفية ونرفض أي إمكانية لتغيير الأحكام الوسيلية كتلك التي تحدد موارد الزكاة أو السبق والرهان بدعوى أنها منصوصة من قبل الشرع ولا إجتهاد في قباله52، أو اننا نمدد المساحة لقبول مبدأ جواز التغيير ليشمل مختلف الأحكام الوسيلية عندما يقتضي الأمر ذلك. ومن الخطأ أن نجزئ في الأمر فنحكّم مبدأ التغيير على بعض الأحكام دون غيرها مع إنتفاء علة الترجيح.

فالسؤال المطروح هو: متى لا يجوز تبديل الأحكام ؟ فالفقهاء يتفقون على أن النص إن كان صريحاً وقاطعاً في سنده ودلالته فإن حكمه يكون ثابتاً، وكما يقول الاستاذ بدر المتولي عبد الباسط: ‹‹فالأحكام التي اعتمدت على دليل قطعي في ثبوته كالقرآن والأحاديث المتواترة، والإجماع الذي توفرت شروطه، ونقل إلينا نقلاً متواتراً، وقطعي في دلالته على معناه، بمعنى أن النص لا يحتمل إلا هذا المعنى الواحد، الأحكام التي اعتمدت على هذا الدليل أحكام ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل مهما تعاقبت الأزمان وتغيرت الأحوال، كقوله تعالى: ((وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً))53، وكقوله جلّ شأنه: ((وأحلّ الله البيع وحرم الربا))54، فهذه الآية قاطعة في حل البيع وحرمة الربا، ولكن ما هي البيوع التي أحلها الله وما هو الربا الذي حرمه الله فهذا مجمل تكفلت السنة بيانه بما اعطي الرسول (ص) من حق البيان، ومثل ذلك ما أجمع عليه علماء الإسلام من أحكام كحرمة زواج المسلمة بغير المسلم وإن كان كتابياً وكتوريث الجد والجدة عند عدم الأب والأم إلى كثير من الأحكام التي أجمع عليها ونقل إلينا هذا الإجماع نقلاً متواتراً››55.

والنص الذي نقلناه لا يخلو من إيهام. فإبتداءاً أن الأمثلة المذكورة ليست قاطعة في دلالتها التفصيلية على خلاف ما صوره النص، كما في الربا والبيوع الذين هما من حيث التفصيل مورد إختلاف بين العلماء، فموارد الربا مختلف حولها، كما أن بعض البيوع قد تحرم رغم عدم وجود نص خاص عليها، بل لما يعلم أو يظن أنها تجلب ضرراً معتداً به، وعليه ففي كلا الحالين أن النص الشرعي لا يفيد الدلالة القاطعة على المعنى الواحد، بل هو لذات السبب ليس بمنئى عن تخصيص العلماء له بأدلتهم الإجتهادية، كما في الإستحسان وغيره. ولو غضضنا الطرف عن ذلك فسنلاحظ أن النص يتوقف مبدئياً عند الموارد التي يفترض فيها دلالة قاطعة للنص الشرعي بما لا تخرج عن المعنى الواحد، بينما يسكت عن الحالات التي يحتمل للواقع أن يكون له دور لتحديد دلالة النص. فنحن نجد نصوصاً صريحة المعنى، لكنها ساكتة عما إذا كان للواقع أو الظرف دور لتحديد هذا المعنى؟ وهي ما تشكل أغلب الأحكام، لا سيما تلك المعتبرة من أحكام الوسيلة. فما هو العمل إزاءها؟ هل تُعامل مثل الأحكام القليلة التي لا تقبل التغيير إكتفاءاً بالنص طبقاً للنهج الماهوي؟ أو يلاحظ ما عليه الواقع تبعاً للنهج الوقائعي، وبالتالي تكون عرضة للتغيير والتبديل؟ وبحسب الفرض الأخير تصبح صفة القطع ووضوح الدلالة للأحكام نسبية. إذ يتعين على هذا الفرض أن يكون معنى الأحكام واضحاً عند أخذنا بنظر الإعتبار علاقة النص أو الخطاب بالواقع الخاص بالتنزيل، الأمر الذي يختلف فيه الحال عند النظر إلى علاقته بواقع آخر مغاير، وبالتالي لا بد من مراعاة هذا الواقع مع أخذ المقاصد الشرعية بعين الإعتبار، مما يجعل الأحكام عرضة للتغيير والتبديل بنوع من القطع أو الإطمئنان.

ونشير إلى أن من الخطأ التفرقة بين أحكام القرآن الكريم وأحكام السنة النبوية وفقاً للمطلق والنسبي، كما ذهب إلى ذلك الشيخ المعاصر المرحوم محمد مهدي شمس الدين؛ معتبراً أن الكثير من السنة النبوية وربما أغلبها نسبي لتعلقها بالظرف الخاص، خلافاً لما جاء في القرآن الكريم الذي تتصف أحكامه بالإطلاق56. وقديماً ذهب جماعة إلى التعويل على القرآن الكريم فحسب؛ ضمن مبدأ (ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض). فحيث ان في كتاب الله البيان؛ فانهم لم يقبلوا خبراً أو حديثاً مروياً عن النبي، وبحسب ما نقله الشافعي عن هذه الجماعة فإنه من أتى بما يقع عليه اسم صلاة، وكذا أقل ما يقع عليه اسم زكاة، فقد أدى ما عليه، لا وقت في ذلك، ولو صلى ركعتين في كل يوم (وربما في كل الأيام) فكل ذلك صالح للتأدية من دون تقصير أو إثم57.

وخطأ هذا الإتجاه يتمثل في إسباغه الصبغة الإطلاقية على الأحكام القرآنية، وأنه بذلك لا يدع مجالاً للعمل بالمقاصد الشرعية وفقاً لتغيرات الواقع.

لنرَ مثلاً ما جاء في آية المصابرة ((الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين))58، والتي نسخت ما قبلها في قوله تعالى: ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال أن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وأن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون))59. فالآية لها دلالة صريحة على الحكم، وهو من أحكام الوسائل لا المقاصد والغايات. لكن الغالب في الطريقة التقليدية أنها أجرت الحكم بشكل ثابت لا يقبل التغيير والتبديل، دون مراعاة لتأثير الواقع والظروف، فانكشف اليوم خطأ هذا التقليد بفضل التطورات الحديثة، وتبين أن حكم الآية لم يكن مناسباً بغير الشروط التاريخية التي نزلت فيها.

وبعبارة أخرى أنه لو صدقت مقالة عدم جواز تبدل الأحكام عند وجود النص الصريح مع بقاء الموضوع بمعناه التقليدي؛ لكان من الواجب - على الأقل - أن يظل حكم تلك الآية ساري المفعول حتى يومنا هذا، مع أن استمرار مثل هذا الحكم عبث لا يُعقل، طالما أن تطبيق الحكم غير ممكن في الغالب، إذ لم تعد للكثرة والقلة في الحرب ذلك التأثير بقدر ما يعود إلى قوة الآلة الحربية. فلو افترضنا حرباً قام العدو خلالها بمهاجمة جبهة من جبهات المؤمنين بالسلاح الجوي المتطور، ولنفترض أن المؤمنين حينها كثيرون لكن لم يكن لديهم من الآلات المتطورة ما بوسعهم الوقوف بوجه ذلك السلاح وصدّه؛ فهل يُعقل أن يطلب منهم البقاء على حالة المواجهة في المعركة من غير فرار بحجة كثرة العدد؟! ولو فرضنا العكس من حيث أن السلاح الأقوى كان بيد عدد قليل من المؤمنين، فهل يعقل تسويغ عدم تنفيذهم مهام القتال بحجة أن العدو يفوقهم من حيث العدد أضعافاً كثيرة، إعتماداً على حرفية حكم النص في الآية الآنفة الذكر؟!

مع هذا لا بد أن نعترف بأنه ليس جميع الفقهاء من فسّر الآية تبعاً لإعتبار الضعفية في العدد رغم أن النص صريح في تعيينها، ورغم ما قيل من وجود الإجماع عليها كالذي ذكره إبن رشد من أن ‹‹معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم هو الضعف، وذلك مجمع عليه لقوله تعالى: ((الآن خفف الله عنكم..))››. فهناك من شذّ عن هذا التقليد المتبع، فكما ذهب إبن الماجشون ورواه عن مالك بأن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن واحد إذا كان أعتق جواداً منه وأجود سلاحاً وأشد قوة60. كما ذكر صاحب (مواهب الجليل) بأن الجمهور حمل هذه الآية على ظاهرها من غير إعتبار بالقوة والضعف والشجاعة والجبن، وحكى إبن حبيب عن مالك وعبد الوهاب أن المراد بذلك القوة والتكاثر دون تعيين العدد61. كذلك قال المقداد السيوري من علماء الإمامية الإثني عشرية: ‹‹إن مدلول الآية وجوب ثبات الجمع لمثليه وأنه لا يجب لو كان العدو أكثر من الضعف، فعلى هذا هل يجوز انهزام مائة بطل عن مائتي ضعيف، وواحد من إثنين أم لا؟ الأولى أنه لا يجوز لأن العدد معتبر مع تقارب الأوصاف، فعلى هذا يجوز هرب مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل مع ظن العجز، وفيه نظر››. ثم قال: ‹‹لو انفرد إثنان بواحد هل يجب الثبات؟ إحتمالان من كونهما لم يزيدا على الضعف، ومن جواز اختصاص الحكم في الآية بالجماعة، إذ الهيئة الإجتماعية لها أثر في المقاومة، وهو الأقرب››62.

ورغم أهمية مثل هذه الآراء حيث فهمت الآية بشيء مضاف إلى ما نصّ عليه النص، لكنها - مع ذلك - ظلت مشدودة إلى أصالة الضعفية تبعاً لبيان الآية الكريمة، مع أن التعويل على ضعفية القوة أو تقارب الأوصاف ليس حلاً لأغلب تعقيدات الحروب الجارية اليوم. صحيح أن ذلك ينطبق في حالة الحروب البدائية أو تلك التي تعتمد على الجهود الذاتية للجماعة المقاتلة، إلا أن الحال مع الحروب ذات الأسلحة المتطورة الفتاكة لا يمكن قياسه استناداً إلى مبدأ الضعفية، ناهيك عما يمكن أن تلعبه سائر المؤثرات الأخرى من دور هام لتحديد مدى لزوم الثبات والمصابرة. فالتحصينات الجغرافية مثلاً تقوي من لزوم الثبات، وكذا أن لمشروعية القتال تأثيرها البالغ على قوة ذلك اللزوم، فالغرض حينما يكون لأجل تحرير بلد محتل يفرض ثباتاً أقوى بكثير من حرب تدور لأغراض ثانوية.. وهكذا مع سائر الأدوار الأخرى التي يمكن أن تؤثر على تحديد ما يلزم من ثبات ومصابرة. والحال ذاته يصدق حتى لو اكتفينا بتقدير القوة القتالية تبعاً لفعالية الآلات الحربية فحسب. فالقوة حينما تتعاظم يصبح فارقها عن نصفها كبيراً ليس من السهل السيطرة عليه. وبحسب منطق الإحتمالات أن إحتمال الغلبة يكون لصالح القوة المتفوقة ضعفاً أكثر فأكثر كلما كانت هذه القوة كبيرة وضخمة، طالما يكون الحسم في هذه الحالة معتمداً بدرجة كبيرة على طبيعة الآلة الحربية لا المقدرة الذاتية للجماعة وشجاعتها، وذلك على العكس مما كان يجري في الحروب القديمة، أي أن الغلبة للقوة المتفوقة ضعفاً تزداد إحتمالاً مع كل ازدياد مضطرد لحجم هذه القوة الفاعلة في الحرب.

يضاف إلى أن من القوى ما لا يدخل ضمن موازنات تماثل المواصفات، فقلما تكون الحرب اليوم قائمة بين صور متماثلة في السلاح، فالمدفع غير الطائرة، وهما غير السلاح الاشعاعي أو الكيميائي، بل حتى في الصنف الواحد من الأسلحة تتفاوت النوعية بشكل كبير، فالسلاح الجوي كثيراً ما يتفاوت في قدرته القتالية، وكذا الحال مع الآليات الحربية الأخرى. وبالتالي كيف يمكن العمل بمبدأ الضعفية والحال كما وصفنا؟ وما فائدة هذا المبدأ في حرب تدور بين فئتين؛ تمتلك إحداهما القدرة للمساس بالثانية بطول المدى، دون عكس؟

وعليه لا مناص سوى الإسترشاد بحكم الآية طالما أنها من أحكام الوسيلة، فمثلها كمثل حكم آية رباط الخيل، إذ الأمر باعدادها هو من الوسائل التي لا تُفهم على النحو المطلق المغلق. ويظل الحكم الذي يمكن استخلاصه من مجمل الآيتين الناسخة والمنسوخة معتمداً على المقصد الشرعي المستوحى منهما، وهو وجوب الثبات وعدم الفرار من ساحات الوغى ما أمكن لذلك سبيلاً، حيث يمكن تحديده نسبياً طبقاً لتقدير أهل الخبرة.

 

موضوع الحكم وتحليل عناصره

يتضح معنا بأن تغير الحكم لا يتوقف بالضرورة على تغيّر ‹‹الموضوع›› بمعناه التقليدي. فقد يكون الأخير على ما هو عليه، ومع ذلك يجوز أن يتغير الحكم تبعاً لتغير الظروف والأحوال، إستناداً إلى المقاصد الشرعية. وهذا يعني أنه لا يصح إلغاء حكم النص إلغاءاً مطلقاً، بل الصحيح هو إبقاؤه معلّقاً لغاية تكرر الظروف والخصائص المؤثرة عليه من جديد، ولو على الصعيد النظري، طالما هناك ظروف تاريخية يستبعد عودتها مرة أخرى.

وليس هذا بإجتهاد في قبال النص الذي لا نشك في حرمته، بل هو فهم لروح الخطاب والنص عبر الدلالات والقرائن المحيطة به من هنا وهناك. إذ ينبعث التفكير من النظر إلى مقاصد الشرع ذاتها دون النظر إلى حرفية الأحكام. لذا كان لا بد من مراعاة علاقة النص بالواقع الخاص بالتنزيل، فلمّا تغيّر هذا الواقع فلا بد من أن تتغيّر الأحكام المناطة له بالتبع وفقاً للمقاصد. واستناداً إلى ما عرضناه من أقوال بعض العلماء حول علاقة الحكم بالعادة؛ فإن الحكم يجري مجرى العادة في الثبات والتغير، فحيث أن العادة هي العلة في الحكم؛ فالأخير يتبعها وجوداً وعدماً، وبالتالي فحينما تطرأ بعض العادات الجديدة فإن مصير الحكم لا بد أن يتغير، وهذا على حد قول إبن عابدين لا يعد مخالفة للنص، بل هو اتباع له63.

نعم هناك أحكام لا تقبل التغيير وهي بمثابة أم الأحكام ومصدر التشريع، كمقاصد الشرع الأساسية، مثل الحكم بالعدل ونفي الضرر وغير ذلك، كما هناك أحكام فرعية لها القابلية على الثبات - نسبياً - بإعتبارها تنسجم مع مختلف الظروف والأحوال؛ كأحكام العبادات وبعض أحكام المعاملات.

ومن حيث الدقة أن الخلاف بين هذا الطرح وبين ما تبنته طريقة الإجتهاد التقليدية؛ يمكن حصره في فهم طبيعة الموضوع المناط بالحكم. فموضوع الحكم هو مجموعة العناصر التي يستند إليها الأخير، بحيث لولاها ما صح العمل به. وبعبارة أخرى، يتوقف نفوذ الحكم وفعليته على عناصر الموضوع؛ كتوقف حدوث المعلول على حصول العناصر المعدة لإيجاده. ففي وجوب الصلاة - مثلاً - يكون وجود الإنسان البالغ العاقل مع حلول وقت الصلاة موضوعاً لذلك الوجوب. وكذا في وجوب الحج، حيث يكون المكلف المستطيع مع حصول الوقت موضوعاً للوجوب.. وهكذا فإن تحقق الموضوع في كافة عناصره المؤثرة يجعل من تحقيق فعلية الحكم أمراً لازماً، سواء في قضايا العبادات أو المعاملات، ولا يتغير هذا الأمر إلا لإستثناءات تخرجه عن حاله بحكم الضرورة، فتكون فعلية الحكم مستمدة في هذه الحالة مما يطلق عليه الأحكام الثانوية بدلاً عن الأحكام الأولية أو الأصلية.

وبحسب فهم طريقة الإجتهاد التقليدية أن الضابط لتحديد عناصر موضوع الحكم يتمثل – أساساً - بالنقل والسماع فقط، أي ينحصر بما قررته الشريعة ونطقت به من نصوص دون حساب الظروف والأحوال بعين الإعتبار. وعليه يتوجب أن يتصف الموضوع بالقابلية على الثبات مهما طال الزمن وتغيرت الظروف.

وعلى الصعيد الواقعي أن الإرتباط القائم بين الحكم والموضوع بحسب هذا الفهم لا بد أن يكون إرتباطاً ذاتياً غير قابل للانفكاك، مثلما لا ينفك الحكم عن موضوعه في عالم الجعل المجرد. الأمر الذي يجعل من الحكم حكماً تعبدياً لذات الموضوع المنصوص عليه حرفاً، وهو ما يرفعه إلى مستوى الإطلاق والإغلاق، فليس للتطور الحضاري أثر على خلخلة مثل هذه العلاقة طالما كان الموضوع المنصوص عليه حاضراً.

هكذا تتحدد مشكلة الطريقة التقليدية بطبيعة فهمها للموضوع دون الحكم، رغم ما لذلك من أثر على الأخير؛ بإعتبار أن وجوده يتوقف على الأول ولا بد.

أما بحسب فهمنا فالأمر يختلف تماماً، إذ الموضوع الذي نعده بمثابة العلة في فعلية الحكم ليس منتزعاً بكامله عن النقل والسماع، أي لا يصح أن نعتبره مستمداً مما هو منصوص في الشريعة فقط. فمن الواضح أن أغلب أحكام الشريعة كانت مقررة تبعاً لملابسات الأحوال والظروف السائدة. وبالتالي فعناصر الموضوع تكون وليدة تأثير عاملين: الخطاب والواقع. فهما غير منفصلين، كما تدل عليهما ظواهر التدرج والنسخ والتبديل في الأحكام. إذ تعني هذه الآليات وفق النظر الدقيق بأن الخطاب لم يتقبل ثبات الحكم رغم وجود كافة عناصر الموضوع المنطوقة أو المقررة نصاً، ويترتب على ذلك أن تكون صفة التغير متولدة عما طرأ على عناصر الموضوع التابعة للواقع أو الحال السائد. وعليه يصبح الحكم أسير أمرين متلازمين؛ التنزيل المنطوق المعبّر عنه بالنص، والواقع المعاش.

وبعبارة أخرى، لا يمكن عزل التنزيل عن الواقع والأحوال السائدة. فحينما يتغير التنزيل، كما في عملية النسخ، نعلم بأن هناك تغيراً ما قد طرأ على عناصر الموضوع، لكن لا شيء يدعو إلى تغيّر عناصر الموضوع المنطوقة، وبالتالي يتحدد المسؤول الأساس لآلية تغيير الحكم بعناصر الموضوع التابعة للواقع دون النص أو التنزيل. ومن ثم فإن المصدر الفاعل لتحديد الحكم يتمثل بالواقع لا التنزيل. وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن التنزيل أو التشريع لم يأت مطلقاً وثابتاً بحيث لا يحده زمان ولا مكان.

نعم، إن الأحكام الشمولية وتلك التي لا تتأثر بمجريات الواقع وتغيراته كما في العبادات، ولو بالنحو النسبي، كلها يمكن إعتبارها ثابتة وقادرة على تجاوز الواقع، بل وباستطاعتها العمل على تغيير هذا الأخير وإصلاح قيمه، الأمر الذي من شأنه أن يغيّر الأحكام بما يتفق مع ما يطرأ على الواقع من تغيير. وعليه فإن ساحة الأحكام المتغيرة هي ساحة واسعة جداً، وأن مرونة الواقع تنعكس على مرونة التشريع وتغيير الأحكام. فالأخير يتبع الأول، أي أن تغيير الأحكام يتبع تغير الواقع، كإن يكون منشأ التغيير تابعاً لوجود مصلحة عقلائية أو تسديد حاجة أو للضرورة أو لسياسة ما أو لبعد نظر يبعث على مصلحة عامة مستقبلية، أو غيرها من الموجهات التي تتسق مع مقاصد الشرع وعدالته.

وبذلك يظهر بأن للواقع تأثيراً حاسماً على تحديد الحكم الشرعي. ومن الناحية المنهجية يتخذ الواقع أصلاً متبعاً في كشف الأحكام وتحديدها ما لم يدل دليل على نفي تأثيره، خلافاً لمنهج الطريقة التقليدية وسلوكها الماهوي. فمن حيث التحليل رغم أن الأخيرة - في أرقى مستوياتها - لا تمانع من أن يكون للواقع نوع من التأثير على الحكم، لكنها مع هذا لا تقر الإحتكام إليه مبدئياً، فالحكم بحسبها يظل تابعاً كلياً لعناصر التنزيل ما لم يدل دليل ينقدح في النفس خلاف ذلك، وهي في الغالب تنحو نحو الواقع وتعترف بدوره عند الحاجة والإضطرار.

من هنا يتحدد التقابل بين الطريقتين التقليدية الماهوية والجديدة الوقائعية، بكون الأولى يطغى عليها الحرفية خلافاً للثانية التي تتقوم بالروحية والمعنى. كما أن للأولى نظرة تعبدية تتفاوت ضيقاً وسعة، في حين أن لدى الأخرى نظرة إجتهادية عقلائية. والإطلاق الموجود في الأولى يتحول إلى نسبية لدى الثانية. وينقلب الإنغلاق الذي نجده عند الأولى إلى إنفتاح ومرونة عند الثانية.

***

إن أهم ما في منهج الطريقة التقليدية أنها تكرس ظاهرة القياس والإستصحاب، فتحكم على كل زمان طوال التاريخ، وعلى كل مكان في الأرض، من موقع لحظة ما عاشتها الرسالة السماوية المحمدية ومن نقطة شبه الجزيرة العربية. وإذا كان العديد من القدماء والمعاصرين قد انتقدوا - بحق - هذه الطريقة وهي تسعى إلى إستصحاب النهج السلفي وفتاوى القدماء لتطبيقها على شتى الأزمنة والأمكنة من دون التفات إلى تغيّر عناصر موضوع الواقع، فان هذا الحال من النقد لم يكن كافياً، بل ويتناقض عندما يقتصر على النهج السابق دون ان يُعمم على استصحاب التشريع الديني لعصر الرسالة وبسطه كما هو على الحاضر؛ رغم إختلاف عناصر موضوع الواقع ضمن مفاصل التاريخ ولحظاته الزمنية. والبعض – كما في عصرنا الحاضر – يستصحب حتى العادات والأعراف، كما يظهر أثر ذلك في اللباس وآداب الأكل والشراب وإطلاق اللحى وغيرها. ويزداد الأمر خطورة حينما تظهر على الإسلاميين ظاهرة التجهم والعبوس والشدة والعنف، حتى ينتهي الأمر إلى تكفير المخالفين ومن ثم يجرّ ذلك – أحياناً - إلى إباحة القتل وسفك الدماء لأتفه الأسباب، فكل ذلك من استصحاب الحال الذي اتسم به صراع المؤمنين مع الكافرين زمن النبي (ص)، وهو مما يقتضيه الظرف المنصرم، خلافاً لما استصحبه المتأخرون، حيث الواقع والحال هو غير الواقع والحال السابقين. وبالتالي فمن القبيح حقاً أن تظهر علينا مظاهر وصفات تقتضيها الأزمان الماضية رغم إختلاف الأحوال والظروف.

وفي كتابنا (العقل والبيان والإشكاليات الدينية) طرحنا سؤالاً كالتالي:

لماذا تظهر ثقافة التكفير والتضليل للمخالفين لأدنى إعتبار، وهي الثقافة التي تفتح الطريق أمام التشريع بالقتل وإباحة المحرمات كما يشهد عليها واقعنا المعاصر؟ ولماذا تظهر الشدة والحدة في الخطابات السلفية؟

وقد أجبنا على ذلك بأنه لا بد من العودة والإعتراف بما تتضمنه النصوص الدينية لمثل هذه الثقافة، لكونها نزلت في واقع مليء بصفات الشر من الكفر والعداء والطغيان. وقد انعكس هذا الأمر على النهج البياني بإعتباره قائماً على مبدأ الوضوح والتفصيل. لكن إذا كان الأمر في النص الديني مبرراً كما أسلفنا، فإن الحال في النهج السابق مختلف، إذ لا يمكن تطبيق الحكم ذاته ما لم تتماثل الشروط الواقعية التي كانت في عصر النص وفقاً لمقاصد التشريع، وهو ما لم يعمل به النهج المذكور، لتجريده النص عن الواقع وتغييبه لتلك الشروط وفقاً للفهم الماهوي. وبعبارة أخرى أنه حوّل جزئيات النص إلى كليات عامة ومن ثم أسقطها على مختلف الأحوال والظروف دون إعتبار لتغايرات الواقع وتجدداته. أو أنه قام باستنساخ الأحكام وملابساتها وطبّقها على واقع شديد المغايرة. وهي النقطة الجديرة بالدراسة والإهتمام64.

كذلك فإن للطريقة التقليدية مشكلة أخرى، وهي أنها توقفت عند آخر ما تنزّل من الأحكام التشريعية الإلهية. فهي من جانب تعوّل على آخر مراحل الرسالة السماوية، وهي مرحلة ما بعد الفتح، إذ تلغي جميع الأحكام التي تتنافى مع ما جاء في هذه المرحلة، سواء تلك التي تعود إلى المرحلة المكية، أو المدنية. كما أنها - من جانب آخر - تعوّل على آخر الأحكام عند التعارض وإن انتسبت جميعاً إلى مرحلة ما بعد الفتح، مما يعني أنها تختزل الشريعة السماوية بما صادف أن تحقق من أحكام خلال مدة ما بعد الفتح، تاركة وراءها الكثير من الأحكام ضمن ما يسمى بالمنسوخات. وهذا الإختزال للأحكام بإختزال الواقع كان له أثره المناهض لمقاصد الشرع العامة، حيث التعالي على أخذ الظروف والأحوال بعين الإعتبار، فكان تحديد الأحكام يجري بشكل مؤبد ودائم، ما لم يتم الإضطرار إلى التغيير بفضل تراكمات الواقع وتجدداته النوعية.

هكذا فإن هذه الطريقة من الإجتهاد لم تكتف بفرض ظرف محدود زماناً ومكاناً، كشبه الجزيرة العربية، لتجعل منه مقياساً لكافة الظروف والازمان، بل كذلك أنها جزأت هذا الظرف واختزلته في سنوات قلائل، وهي السنوات الأخيرة من عمر الرسالة المحمدية، ومن ثم اعتبرته مركزاً يستقى منه جميع الأحكام عبر مختلف الأزمنة والأمكنة.

ويعد هذا النمط من التفكير غير متسق، فلو صح عدّ الأحكام الأخيرة ثابتة ودائمة؛ لكان لا معنى لتغيير الأحكام الإلهية المنزلة من قبل الشرع ذاته، ولكان الأولى أن تكون جاهزة منذ البداية بلا تبدل ولا نسخ ولا تغيير. فلو قيل أن عملية التغيير من قبل الشرع كانت ضرورية لا بد منها بحكم إختلاف الظروف وملابسات الواقع، لقلنا أن هذا المنطق هو ذاته الذي يبرر خطأ ثبات الأحكام، بل أن ما حدث من تغيرات طوال قرون عديدة لا يقاس بالتغيرات الطفيفة خلال عصر الرسالة، فأي تناقض هذا الذي يبرر شرعية تغيير الأحكام المنزلة بمنطق تغيرات الواقع المحدود، ويدير ظهره عن تغيرات الواقع الكبيرة طيلة أربعة عشر قرناً؟!

فالمعطى المنطقي المستخلص من هذه الطريقة أنها كي تكون متسقة في نظامها المعرفي لا بد من أن تعتبر ظروف ما بعد الرسالة إما أن تكون مشابهة لما استقرت عليه الأحكام آخر التنزيل، أو في أحسن الأحوال تعدها مشابهة للدورة التي دارت عليها الشريعة، مما يقتضي التدرج في الأحكام مثلما كان عليه منهج الخطاب، وكلا الأمرين بيّن البطلان، فما ظهر ويظهر من ظروف لا يمكن إعتباره يفي بما استقر من أحكام. فمقالة استقرار الأحكام لا تتفق مع ما حصل ويحصل من تغيرات الواقع وتطوراته، وهو ما يتنافى مع ثبات الأحكام كما عرفنا. بل أن هذه المقالة ذاتها لا تتسق حتى مع منطلقات الإدعاء ذاته. وإذا قيل لا بد من التدرج بمثل ما كانت عليه الشريعة من تدرج؛ قلنا هذا يحصل فيما لو كانت ظروف التدرج في الرسالة مشابهة لما عليه بعدها، وهو أمر قلّما يحصل.

فمن الصواب العمل بما يتفق مع المرحلة الأولى (المكية) من التشريع إنْ لم يخالف مقاصد الشرع والواقع، وكذا مع المرحلة الثانية (المدنية)، أو الثالثة (ما بعد الفتح). وكشاهد على ذلك ما فعله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز. فهو لمّا لم يشأ العمل على تطبيق الأحكام النهائية للشريعة الإسلامية وإزالة كل مخلفات الظلم والفساد دفعة واحدة؛ أنكر عليه إبنه عبد الملك وقال له يوماً: ما لك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أُبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. فأجابه عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن احمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة65. وجاء في تعبير بعض المصلحين بأن ‹‹الزمن جزء من العلاج››، فعلّق عليه محمد الغزالي بقوله: ‹‹بمعنى إني لا بد أن اقول: الحدود تقام، وما أقبل مماراة في حد، لكن عند التطبيق لا بأس أن أشرع فوراً بحد الإفتراء.. أو حد قطع يد السارق، لأن ذلك سهل، ويمكن ارجاء بعض الحدود إلى أن تواتيني فرصة التنفيذ.. فعلمياً أنا مكلّف ببيان الإسلام كله، وعملياً لا بد أن أتدرج في التطبيق العملي، وهذا ما تفرضه أحوالنا التي لا بد منها، فالدواء الذي لا بد أن يتجرعه المريض ليصحو أعطيه له جرعة جرعة››66.

ونجد مثل هذا المعنى لدى حسن الترابي، فهو الآخر أقر بفاعلية الواقع وتأثيره على التصرف بالأحكام وفقاً لمبدأ التدرج وحساب الأولويات، وذلك عند ضغط الحاجات الزمنية الناتجة عن ممارسة الدولة بعد مرحلة الدعوة. فهو يقول: ‹‹فلما بلغنا من بعد الدعوة مرحلة الدولة، أصبح لزاماً أن يتنزل الدين، في شعاب أحكامه الفرعية، على الواقع، وبدت لنا من الصورة الواقعية مشكلات ما كانت لتلوح للناظر من قبل، وبدا أن الأحكام تتوارد على الواقع، وتتناسخ وتتعارض مقتضياتها أحياناً، ونشأت حاجة ماسة إلى تصريف الأحكام وترتيب أولوياتها، لأن في تطبيق بعضها ما قد يؤدي إلى تفويت مصالح إسلامية أخرى مقدرة، أو يحدث فتنة تضر بمستقبل الإسلام. وكان لا بد من فقه أدق من الفقه النظري يرتب أولويات الأحكام، ويناظر بين قيمها المختلفة، ويؤخر ويقدم بين هذا الواقع، هذه مشكلة طرأت لفقه الإسلام... فقد بدا جلياً أنه لا يتيسر للجهد البشري ـ مهما بلغ من الجهاد والإجتهاد ـ أن يحقق كل أحكام الإسلام دفعة واحدة، ذلك أن هذا الدين التوحيدي يشمل الحياة كلها، ولا يمكن أن يستوعبه جهد البشر ولا إجتهادهم إلا بمعاناة متطاولة، يتعاون عليها الناس، ويمتد لها الزمان والمكان؛ ولذلك كان لزاماً أن نبدأ من أول الطريق، ومن القضايا الجوهرية حتى نتوفر، بما لدينا من جهد، على تحقيقها..››67.

مع ذلك يلاحظ أن التدرج في الأحكام ليس هو الصورة المقصودة في الشرع دائماً، ولا يمكن الإغترار بمحاولة إعادة جميع الأحكام التي أُنزلت على شبه الجزيرة العربية في لحظتها الذهبية. بل المهم أن يكون التشريع البشري مما يتفق مع مقاصد الشرع ولا يتضارب مع حقوق الواقع، طالما اعتبرنا الشريعة الإسلامية تستهدف الإرشاد في أحكامها الحضارية دون فرض المطلقات المغلقة.

فمثلما أن إختيار الخطاب لأمة ما وتطبيق الشريعة عليها لا يمكن أن يحصل بمعزل عن أخذ الظروف والأحوال والعادات بعين الإعتبار؛ فكذلك لا يتحقق هذا الإختيار والتطبيق ما لم يفرز عنه جدل خاص بين المنزّل والمنزّل عليه. وطبيعة هذا الجدل تولد ولا شك أحكاماً جديدة متأثرة بكل منهما، وهو معنى كون الأحكام يصنعها كل من النص والواقع المتمثل بأحوال الموضوع وظروفه. وهذا يعني أن من الصعب كلياً أن تصاغ قوالب جاهزة يؤخذ بها كمبادئ يُعمل بها حرفياً، طالما أن لكل ظرف أحواله الخاصة، فما ينفع هنا قد لا ينفع هناك. وإذا كان من الصعب أو المستحيل الإتيان بقواعد شاملة وكاملة تطبق على كافة الظروف والمجتمعات والأحوال؛ لذا لا بد من تحديد الأحكام وقواعد السلوك إما بحدود الظرف والمجتمع ولو ضمن لحظة زمنية معينة دون غيرها، أو تحديد الأحكام عبر عملية الجدل بين القواعد العامة التي لها القابلية على الشمول لكنها تفتقر إلى القابلية على التطبيق الموحد لإختلاف الظروف والأحوال من جهة، وبين الأحكام الجزئية التي لها القابلية على التطبيق الجزئي ضمن ظروفها الخاصة من جهة ثانية.

ولا شك أنه لا مفر من الأخذ بالفرض الأخير لكل شريعة تعد نفسها شاملة ومستوعبة لكافة الظروف والأحوال، حيث من المحال أن يطبق التشريع بحرفيته المنزلة وقواعده الخاصة على كل الظروف والبيئات، لا نقصاً في التشريع وإنما عجز في الواقع الخارجي من أن يستوعب ذلك، فكان لا بد من ايجاد محورين للأحكام، أحدهما كلي وعام يفتقر إلى التطبيق على صيغة موحدة بسبب إختلاف الظروف وتغيرها، وهو محور يشمل المقاصد الأساسية من التشريع، اذ يحتضن كافة قواعد السلوك العامة المتسقة مع الفطرة الإنسانية. أما الآخر فهو جزئي له قابلية التطبيق والتقلب بحسب الظروف والعادات والأحوال.

وإذا ما كنّا نعد التشريع عاماً وشاملاً لا يحدّه مكان أو زمان فإن من البداهة أن يتموضع التشريع الجزئي ضمن كليات القواعد العامة الثابتة، وأن يتقلب طبقاً لما يناسب تلك الكليات دون أن ينحرف عنها، فالإنحراف هو ضِيق في التشريع وحقيقته الظلم لعدم مراعاته حقوق الإختلاف والتباين في الأحوال والظروف، ومناقضته لتلك الكليات. فالأمر لا يخلو من إثنين؛ فإما أن يكون التقلب في المبادئ الكلية التي يفترض ثباتها، وفي هذه الحالة نكون قد جعلنا التشريع مما يصطدم مع هدف الرسالة السماوية وفطرة الله التي فطر الناس عليها. أو أن يكون التقلب من خاصية التطبيق تبعاً للحكم الذي تفرضه المبادئ العامة، وهو الصحيح. في حين ان الفرض الثالث مستحيل، وهو أن يكون التشريع الجزئي ومبادؤه الكلية ثابتين دائمين، فهو لا يصح اذ يفضي إلى تصادم التشريع مع تلك المبادئ تبعاً لتغيرات الواقع وتجدداته.

من جهة أخرى، رغم أن القواعد العامة ذات صفة الشمول لا تقبل التطبيق والتحديد الإجرائي وسط الظروف المتغيرة للواقع المتجدد، إلا أن لها سلطة تتجلى بما يشرع من تطبيقات جزئية تقبل التغير والتبديل تبعاً لتغير الواقع وتجدده. ورغم أن التحديدات الإجرائية تتخذ طابعاً تدافعياً أو تناقضياً، حيث بعضها يدافع ويناقض البعض الآخر طبقاً لتدافع الواقع وإختلاف شؤونه، إلا أنها مع ذلك تنطوي - جميعاً - ضمن دائرة تلك المبادئ من غير مدافعة ولا تناقض. وبهذا يتبين تلاحم المبادئ مع التطبيقات المتباينة من حيث حاجة كل منهما إلى الآخر.

فمثلاً أن آيتي المصابرة الناسخة والمنسوخة دالتان في صياغتهما المجردة الثابتة على أن الجماعة المؤمنة لا ينبغي لها أن تنهزم من المعركة إن كان لديها القوة الكافية للقتال. لكن هذه الصورة المجردة غير قابلة للتطبيق الإجرائي، حيث تحتاج إلى تقدير الكم الذي تُعرف فيه تلك القوة، فبغير هذا التقدير يصبح كل فرد يرى قوته بمنظاره الشخصي وبحسب إعتباراته الخاصة وما يحمله من أهواء أو مجال من الإجتهاد، فتختلف بذلك شؤون الأفراد وتضطرب، إن لم نقل أنه يتم التلاعب في دائرة ما يراه كل واحد منهم لما يوافق هواه، لذا فالحاجة ماسة إلى التحديد الإجرائي بما يلائم الظرف المعاش، وحيث أن الظرف يختلف من وضع لآخر، لذا كان لا بد من تغيير الحكم تبعاً لذلك. وهو أمر إنْ دلّ على شيء، فإنما يدل على أن أحكام الدستور في النظام الإسلامي للدولة أو الحركة وما شاكلها ينبغي أن تكون مرنة ومؤقتة بلا ثبات، إلا في إطار التشريعات الكلية ومقاصدها أو تلك التي لها صفة الديمومة من غير تأثر بتجدد الواقع، ولو نسبياً.

فعلى ضوء مقاصد الشرع يمكن الكشف عن الأحكام المطلقة الثابتة على النحو الكلي. فلكي تكون ثابتة مطلقة لا بد من احراز كونها تتفق مع هذه المقاصد دائماً، رغم أنه من الناحية العملية لا يمكن – في الغالب - ترجمة هذه الأحكام الثابتة إلا بأشكال متقلبة من الأحكام الجزئية بحسب ما يفرضه الواقع من تجدد وتطورات.

فمثلاً فيما يتعلق بأحكام القرض بالعملات النقدية ليس من الصحيح تشكيل قالب ثابت ودائم للفتوى التي ترى أن توفية القرض تكون بالمثل أو التساوي في النقود المقترضة، وذلك لأنه يمكن لهذه الفتوى أن تتعرض إلى هزة تجعلها تتنافى مع قصد الشرع في لزوم العدل والإنصاف في الوفاء، كالذي يحصل في أيامنا الحاضرة. وإنما تحديد الحكم الثابت المتفق دائماً مع قصد الشرع من العدل والإنصاف يناط بالقيمة المقدرة للقوة الشرائية للنقود المقترضة وقت الإقراض وليس بمقدار النقود ذاتها. فالنقود من غير قوة شرائية ليس لها قيمة البتة. وهذا يعني أن الحكم الكلي الثابت يتمثل – هنا – بلزوم توفية القرض وفقاً لتقدير تلك القوة حال الإقراض، لكن هذا الحكم العام لا يمكن ترجمته على أرض الواقع إلا بنحو أحكام متقلبة بحسب تغيرات الواقع وما يفرضه من تغيّر في تلك القوة الشرائية للنقود68.

من هنا يمكن القول أن أغلب أحكام قضايا المعاملات لها قابلية على التغير بتغير عناصر الموضوع المستمدة من الواقع؛ حتى مع ثبات عناصر التنزيل المصرح بها نصاً. وتوضيحاً لذلك فقد سبق أن ذكرنا بأن آية المصابرة الثانية رغم أنها ناسخة أو ناسئة لما قبلها إلا أن حكمها ليس له القابلية على تجاوز الواقع الذي نزلت فيه. لذلك ليس بوسع طريقة الإجتهاد التقليدية أن تفسر هذا العجز، اذ تعتبر الحكم الناسخ في الشريعة هو الحكم الأخير الذي لا يجوز أن يطوله حكم آخر. مع أنه بحسب التنظير الجديد لا ضرورة تدعو لأن يكون هناك حكم نهائي طالما أن عناصر الموضوع يمكن أن تتغير بتغير الظروف والأحوال.

هكذا ندرك أنه ليس هناك نسخ إلا بالمعنى المجازي، فتغير الموضوع إلى موضوع آخر يوجب تغيّر الحكم معه بلا نسخ. وقد تكون هذه النتيجة هي التي استهدفها المفسر المعتزلي أبو مسلم الأصفهاني، حيث اعتبر كل ما رآه الجمهور بأنه نسخ إنما هو من باب إنتهاء الحكم لإنتهاء زمنه، وهو ليس بنسخ من حيث الحقيقة. كل ما في الأمر أن ما تعده الطريقة التقليدية موضوعاً واحداً؛ يمكن أن يكون - من حيث الحقيقة - متعدداً، مما يوجب تكثر الأحكام وتغيرها طبقاً للفهم الواقعي الجديد. وعليه يصبح الكثير مما يطلق عليه (الأحكام الثانوية) ليس منها. فكل ما يُعدّ موضوعاً واحداً يدور عليه حكمه الخاص كحكم أولي يقبل الحكم الإستثنائي - أو الثانوي - كما تراه الطريقة التقليدية؛ يصبح قابلاً للتشكل إلى موضوعات متكثرة ومتكافئة الحضور؛ لكل منها حكمه الخاص بلا حكم إستثنائي أو ثانوي.

والحقيقة أن الإحتكاك بالواقع قد ولّد ما يقرب لهذا الفهم، لا سيما لدى الفكر الشيعي المعاصر بعد تجربة الحكم الإسلامي. فهناك طريقة جديدة للإجتهاد أفرزتها ظروف الواقع وحاجاته الزمنية لم يعهد لها مثيل من قبل في التاريخ الشيعي، وإن كنّا نجد صيغتها تتلاقى في العديد من الخطوط مع ما كان لدى الإتجاه السني منذ زمن بعيد، كالحال مع قاعدة دور الزمان والمكان في التأثير على الأحكام، اذ كان لها عناوين رئيسية لدى الفقهاء السنة من أمثال ما كتبه إبن القيم. فلأول مرة في تاريخ الفقه الشيعي تظهر طريقة جديدة للإجتهاد على يد الإمام الخميني من منطلق أن الأحكام تتغير طبقاً لإعتبارات تغيّر الموضوع رغم أن ظاهره لا يبدي هذا التغير. وقد استخلص البعض من هذه الطريقة بأنها تأخذ بنظر الإعتبار خصائص الموضوع الداخلية والخارجية، مما يجعل لكل موضوع حكمه الخاص دون حاجة للأخذ بعين الإعتبار وجود أحكام ثانوية69. كما جرى لعدد من الفقهاء والأساتذة الإيرانيين تأسيس لذلك الذي أبداه السيد الخميني بغية التنظير إلى الفهم الجديد للموضوع وما يستتبعه من تغيير للحكم70. وقد أُضيف إلى ذلك العمل ببعض المصالح العامة التي يستكشفها العقل رغم أنها غير قطعية، وكذا تقديم مصلحة نظام الدولة على الأحكام الشرعية شبيهاً بما نظّر إليه الطوفي، وما إلى ذلك من خطوط متقاربة.

 

مخاطر القول بمبدأ جواز تغيير الأحكام

هناك عدد من الشبهات يمكن أن ترد على مبدأ جواز تغيير الأحكام لا بد من طرحها ومناقشتها، وهي كالتالي:

1ـ إن القول بمبدأ تغيير الأحكام يفضي إلى نسخ الشريعة شيئاً فشيئاً، وهو ما ينافي إعتبارها خالدة. وقديماً كان البعض يقول بأنه لو كانت قضايا الشرع تختلف بإختلاف الناس وتناسخ العصور لإنحلّ رباط الشرع71.

2ـ إن القول بهذا المبدأ دال على نسبية الشريعة لا إطلاقها وشمولها.

3ـ إن القول به لا يتسق مع ما جاء في بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً))72، وقوله: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))73، وقوله: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء))74... الخ. كما أن القول به ينافي ما ورد في الحديث الشهير: ‹‹حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة››75، وما على شاكلته من أحاديث.

4ـ إن القول به يعني أن التشريع ناقص يحتاج إلى من يكمله، وأن الله لا يسعه ما يسع للبشر فعله.

5ـ إن القول به يبعث على الفوضى والتضارب في تحديد الأحكام، كما يبعث على الأهواء والمصالح الذاتية، وكذا تبرير الواقع حتى لو كان فاسداً، ووضع ما في الدين ما ليس منه.

هذه أهم الشبهات التي يمكن أن ترد إزاء تقرير مبدأ جواز تغيير الأحكام. ويمكن الجواب عليها نقضاً وحلاً، أو بناءً ومبنى، كما يلي:

 

الجواب نقضاً وبناءً

من حيث النقض والبناء أنه لو صدقت الشبهات السابقة لكانت صادقة أيضاً بحق كل من يعترف بتغيير الأحكام، مهما كانت قليلة ومحدودة، وهو ما يجعل أغلب الفقهاء والمذاهب موضع شبهة وإتهام، وهنا يمكن أن نردد بوحي من بعض المأثورات القديمة القول: مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِ ‹‹نظريتنا›› بحجر، إذ جميعنا يشترك في هذه الحالة ضمن (كلمة سواء). وعموماً أننا سنعود إلى الحرج نفسه الذي طرحناه سابقاً بحق الفقهاء، وهو أنهم إما أن يعوّلوا على الطريقة الحرفية بجميع أبعادها مثلما هو الحال لدى المذهب الظاهري والإخباري، أو يلزمهم الإعتراف ببسط قاعدة جواز التغيير على مختلف الأحكام الوسيلية دون إنتقاء لا مبرر له. فالشكل الإنتقائي الذي اضطر إليه الفقهاء لا يختلف عن المسار الذي اخترناه في المآل والمثول أمام تلك الشبهات، فهو الآخر معني بالمساءلة والاستجواب بلا فرق. فالموافقة الجزئية على صحة تغييير الأحكام مهما كانت قليلة ومحدودة سوف تجر عبر الزمن وإختلاف الظروف إلى المزيد من التبديل تبعاً لضغط الحاجة الزمنية، وهو أمر يثير مثل تلك الشبهات، فيقال فيه أنه يفضي في النتيجة إلى نسخ أحكام الشريعة، كما أنه لا يتسق مع الآيات التي ذكرناها، ويتنافى مع إطلاقية الحديث النبوي الآنف الذكر، وبالتالي فهو دال على نسبية الشريعة لا إطلاقها وشمولها، كما أن اللازم عنه القول بنقص التشريع وأن الله لا يسعه ما يسع للإنسان فعله، كذلك يقال فيه أنه يبعث على الفوضى وتضارب تحديد الأحكام، كما يبعث على الأهواء والمصالح الذاتية، وكذا تبرير الواقع حتى لو كان فاسداً، ووضع ما في الدين ما ليس منه.

هكذا يستوي الحال بين المنهجين أمام الشبهات المطروحة، فهي إما أن تصدق عليهما معاً دون فرق ولا تمييز، أو أنها وهمية وبعيدة عنهما، فمجرد الإعتراف بجواز تغيير أحكام قليلة محدودة هو في حد ذاته يثير المساءلة أمام الشبهات الآنفة الذكر. ويكفي أن نعلم بأنه سبق لبعض القدماء أن طرح مثل تلك الشبهات بوجه الفقهاء الذين يعوّلون على بعض مبادئ الإجتهاد المسلم بها، كالقياس والمصالح والإستحسان، فقد ساقها الشافعي ضد غيره من الفقهاء الذين يعملون بالمصلحة والإستحسان، كما وظفها داود الأصبهاني ضد الشافعي في استخدامه للقياس بنفس الأدلة التي طرحها الأخير ضد خصومه في الرأي76. كذلك وسّع إبن حزم الأندلسي من دائرة الشبهة في نقضه للقياس والمصلحة والإستحسان. فجميع هؤلاء استدلوا بدليل كون الشريعة بينة وكافية في أحكامها لسد كل شأن من شؤون الحياة، فما من حادثة إلا ولها حكمها بالنص، أو بدليل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعوّل عليه غير الأهواء والميول الذاتية.

لكن الفقهاء يجدون أنفسهم - كما يبدو - واقعين في الحرج النفسي إن اعترفوا بمبدأ تغيير الأحكام، خشية ذهابها وزوالها، وهو ما فرض عليهم عدم الإتساق وإتّباع السلوك المتذبذب كلما اضطروا إلى مواجهة ما تفرضه عليهم الحاجات الزمنية77.

 

الجواب حلاً ومبنىً

أما من حيث الحل والمبنى فيمكن أن يجاب على الشبهات السابقة بحسب التفصيل التالي:

 

الرد على الشبهة الأولى

وهو أن يقال بأن العمل بمبدأ جواز تغيير الأحكام لا يفضي بالضرورة إلى نسخ الشريعة، بل على العكس أن العمل به يحقق سلامة الحفاظ عليها من النسخ والتبديل، فيما لو روعيت مقاصد الشرع وأهدافه. فدوام الشريعة ليس بثبات بقاء جزئيات الأحكام إذا ما كانت على حساب فوات المقاصد، أما بقاء المقاصد وتحقيقها هو في حد ذاته يضمن خلود الشريعة وصحة التشريع. ذلك أن من الطبيعي أن تخضع جزئيات الأحكام للتغيير والتبديل إذا ما كانت قلقة إزاء التحولات الحضارية أو حتى الظرفية الخاصة، خلافاً للمقاصد التي لها القابلية على الثبات والخلود، فأي تعريض لها بالتغيير يعني القضاء على الشريعة ومحوها. مما يعني أن ثبات المقاصد هو وحده صمام الأمان لحفظها وبقائها.

 

الرد على الشبهتين الثانية والثالثة

وبالمعنى السابق فإن التشريع يصبح بقدر ما هو نسبي بقدر ما هو مطلق شامل لا يقبل الحد والإنتهاء، فهو نسبي من حيث الوسيلة، لكنه مطلق من حيث المقاصد والغايات، فضلاً عن العبادات الخالصة والتعبديات.

كذلك أن المعنى السابق لا ينافي ما ورد في الحديث النبوي الانف الذكر، وإنما يخصص فهمه في جميع ما يقبل الثبات من الموارد التي تخرج عن حدود الوسائل من المعاملات الحضارية.

أما حول ما ذكرنا من الآيات القرآنية فالملاحظ أنها مجملة بدلالة كثرة الإختلاف في تفسيرها، وأغلب ما ورد من التفسير ليس له علاقة بما نحن فيه، خصوصاً آية إكمال الدين، إذ في الآية شقان، أحدهما يتعلق بإكمال الدين، والآخر بإتمام النعمة. وقد اختلف المفسرون حول معنى كل منهما. ففيما يتعلق بالشق الأول ورد حوله عدد من التفاسير كالتالي:

1ـ المقصود به اهلاك العدو والنصر والإظهار على الأديان، ومن ذلك ما ذكره الزمخشري بأن الآية تعني: ‹‹كفيتكم أمر عدوكم، وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك››78. والبعض اعتبر ذكر اليوم في الآية هو نظير المعنى في قوله تعالى: ((اليوم يئس الذين كفروا من دينكم))79.

2ـ إنه بمعنى التوفيق للحج، إذ روي أن الآية نزلت في يوم الحج الأكبر80. كما رجّح القرطبي نزولها في يوم الجمعة، وهو يوم عرفة في حجة الوداع سنة عشر81. وقال القرطبي بهذا الصدد: ‹‹وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج إذ لم يطف معهم في هذه السنة مشرك ولا طاف بالبيت عريان ووقف الناس كلهم بعرفة››82. وبذلك لم يبق من أركان الدين ناقصاً إلا الحج، وإذ ورد عن النبي قوله: ‹‹بني الإسلام على خمس››، وكان المسلمون تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا قد حجوا، فلما حجوا مع النبي أنزل الله عشية عرفة هذه الآية83. وكذا ما رجحه الطبري من معنى الآية، وهو أنه تعالى أفرد المسلمين بالحج إلى بيت الحرام وأجلى عنه المشركين84.

3ـ إنه بمعنى إكمال الفرائض والحدود والأوامر والنواهي والحلال والحرام، كذلك الأدلة التي نصبت لجميع ما فيه حاجة من أمر الدين، فلا زيادة على ذلك بعد اليوم. لهذا قال جماعة أنه لم ينزل على النبي بعد هذه الآية شيء من الفرائض والتحليل والتحريم، وأن النبي لم يعش بعد نزولها إلا إحدى وثمانين ليلة85. لكن البعض نفى ذلك معتبراً أن هناك آيات من الأحكام نزلت بعد تلك الآية، كقوله تعالى: ((يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة))86.

4ـ إنه بمعنى التنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين القياس وأصول الإجتهاد87.

5ـ إنه بمعنى معرفة الله. أي: اليوم عرفتكم بنفسي وبأسمائي وصفاتي وأفعالي فاعرفوني88.

6ـ بمعنى القبول والرضا بالمسلمين. أي: اليوم قبلتكم وكتبت رضائي عنكم لرضائي لدينكم89.

7ـ بمعنى إكمال الدعاء. أي: اليوم أكملت لكم دعاءكم، أو استجبته لكم90.

أما المقصود من إتمام النعمة الوارد في الآية فله الآخر عدد من التفاسير المختلفة كما يلي:

1ـ يقصد به خصوص فتح مكة91.

2ـ أنه بمعنى إكمال أمر الدين والشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام بدخول مكة آمنين92.

3ـ إنه بمعنى الإظهار على العدو.93.

4ـ إنه عبارة عن نعمة النصر والأخوة وما نالوه من المغانم، ومن جملتها إكمال الدين، وإتمام النعمة هو خلوصها عن كل ما يخالطها من الحرج والتعب والخوف الذي كان المسلمون يلقونه قبل الفتح94.

***

ويلاحظ أنه في جميع ما ذكرنا من تفاسير لا علاقة له بما نحن فيه. وكذا يمكن القول في ما جاء من تفاسير تخص قوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))95، إذ قال الطبري أن المقصود به هو: ما ضيعنا إثبات شيء منه. ونقل قول إبن عباس بأن معناه: ما تركنا شيئاً إلا قد كتبناه في أم الكتاب. وقال إبن زيد أن معناه: لم نغفل شيئاً، فما من شيء إلا وهو في الكتاب96. كما جاء في تفسير إبن كثير بأن المقصود هو أن الله يعلم الجميع فلا ينسى أحداً من رزقه وتدبيره، سواء كان برياً أو بحرياً97. وجاء في تفسير الإمام القاضي بأن المعنى هو أن الله تعالى نصّ على بعض الأحكام وأجمل القرآن في بعضها، وأحال على الأدلة في سائرها بقوله تعالى: ((ولو ردوه إلى الرسول والى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))98، فبين النبي (ص) ما أجمل الله في كتابه99. ومثل هذا ما ذكره الماوردي ونسبه إلى قول الجمهور، لكنه ذكر قولاً آخر وهو بمعنى ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه، أو وجود نقص فيه100. وقريب من ذلك ما نراه في تفسير قوله تعالى: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء))101. فقد فسّره الإمام القاضي بنفس تفسيره للآية السابقة كما عرفنا. وفسّره الأوزاعي بأنه تبيان لكل شيء بالسنة102. كما فسّره الطبري بأنه بيان لكل ما للناس إليه من حاجة معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب. وجاء عن مجاهد بأن معناه مما أحل وحرم. وجاء عنه أيضاً بأنه ما أمر به وما نهى عنه. وكذا هو الحال عما جاء عن إبن جريج. وجاء عن إبن مسعود بأن معناه هو أن الله تعالى أنزل في هذا القرآن كل علم، وكل شيء بُيّن لنا فيه103. كما ذكر المرحوم الطباطبائي بأن القصد من الآية هو تبيان كل ما يرجع إلى أمر الهداية مما يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد والأخلاق الفاضلة والشرائع الإلهية والقصص والمواعظ، فهو تبيان لذلك كله104.

هكذا من الواضح أن معنى الآيات التي ذكرناها وبغض النظر عما ورد حولها من إختلاف في المعنى والفهم؛ قد تتسق في بداية النظر مع النزعة البيانية الحرفية، إذ لها دلالة على بيان مختلف الأمور في القرآن الكريم، ومنه الأحكام الشرعية، وقد يؤيد هذه النظرة الأولية ما جاء في قوله تعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وأُولي الأمر منكم))105؛ مما يفترض تحقق البيان والوضوح. ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون))106، وهو ما أوهم الخوارج فضلّوا بتفسيرهم. وكذا ما جاء في الحديث: ‹‹إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي - وفي رواية: وسنتي -››، مما يفترض هو الآخر أن فيهما الوضوح والكفاية وبالتالي لا بد من رد الأحكام اليهما على إطلاق. مع أنه لم يعد هناك شيء بيّن بحدود التفاصيل البيانية، فالكتاب مجمل وهو على إجماله مختلف حوله، والسنة أشد بكثير من ذلك؛ لا سيما وهي غير قطعية في الغالب، وهو ما يشكل الحجة الدامغة على أصحاب النزعة البيانية الصرفة. وعليه لا بد من توجيه ما مرّ من نصوص إلى معانٍ أخرى غير تلك التي كرستها النزعة البيانية المشار إليها. وقد إلتفت الفقهاء إلى ذلك؛ لا من حيث كثرة الملابسات الداعية إلى الإجتهاد والعمل بالظنون، بل وكذلك الإقرار بتناهي النصوص، وأنها لا تغطي جميع الحوادث إلا من حيث الإجتهاد والقياس في رد الفروع إلى الكليات، مثلما أكد على ذلك الشهرستاني والشاطبي107، وقد عدّ البعض أن ما هو متوفر من النصوص لا يبلغ عشر معشار أحكام الحوادث108.

على هذا فإن ما جاء من نصوص وأحكام يعد كافياً من حيث المبادئ الأساسية، مع شيء من التطبيقات التي يعلم من خلالها الإتجاه الذي تريده الشريعة بفعل التفاعل مع مجريات الواقع. ففي هذه الحدود لا حاجة لذكر التفاصيل، لا سيما أن التفصيل لا يمكنه تغطية مساحة الواقع بأبعاده المكانية والزمانية. وبعبارة أخرى، إن البيان الذي أكد عليه الخطاب، كما في الذكر الحكيم، هو بيان تام لا غبش فيه من حيث الإجمال، إذ البيان - هنا - لا يتنافى مع الفهم المجمل. أما التفصيل فيمكن تحصيله عبر دراسة الواقع؛ ضمن عملية تستهدف تفكيك المجمل دون الخدش بالبيان، كالذي تمت معالجته خارج هذه الدراسة109.

 

الرد على الشبهة الرابعة

أما فيما يتعلق بشبهة نقص الشريعة وحاجتها للإكمال من قبل البشر على حساب ما وضعه صاحب الأمر جلّ وعلا، فالملاحظ أن شبيه هذه الشبهة يمكن أن يرد في عالم التكوين، من حيث أن إعمار الأرض دال على نقصها وأن الإنسان استطاع أن يفعل من البناء والإعمار ما لم يستطع أن يفعله الباري تعالى، بما في ذلك الإنجازات الخاصة بتسديد حاجات البشر. فمن البيّن أن الإنسان تمكن من تحقيق إنجازات عظيمة الشأن والفائدة عبر تطوره التاريخي، ولا زال يمارس هذا الدور الخلاق من غير إنقطاع. فإكتشافاته وإختراعاته وإنجازاته المعرفية، وكذا تمكنه من ايجاد الحلول للكثير من المشاكل التي ظلت عالقة به منذ آلاف السنين؛ كل ذلك لم يأت بأمر خارج عن ذاته. أي أنه لم يتحقق بمعجزة إلهية أو بفعل موصى به. وعليه هل يصح أن يدّعى ويقال بأن عالم التكوين خُلق في الأصل ناقصاً حتى جاء الإنسان لإكمال ما لم يفعله الخالق، أو لم يستطع فعله؟ أو يدعى في المقابل ويقال بأن هذا العالم كامل، فليس في الإمكان أبدع مما كان، كما يقول فلاسفتنا القدماء، أو كما كان يقول معتزلة بغداد وبعض الإمامية الإثني عشرية بكمال الخلق وأنه أفضل صورة معطاة من قبل الباري، فلم ينحصر وجوب الأصلح عندهم في قضايا التكليف والمسائل الدينية، وإنما تعداها قبل ذلك إلى القول بوجوب الأصلح في أمور التكوين والخلق من العالم الدنيوي، كخلق العالم والإغداق بالنعم وما إلى ذلك، وكان مبررهم هو أنه لو لم يفعل الله الأصلح لكان بخيلاً طالما يملك القدرة التامة مع وجود الداعي وانتفاء الصارف110.

لا ضرورة تقتضي التردد بين هاتين الإجابتين، فكلاهما عليه من الإشكال ما يسقطه. فالقول الأخير يفنده ما استطاع أن يحققه الإنسان من انجاز في تحسين بعض زوايا الواقع وإن تضاءلت قياساً بإبداع الخالق، بل لا نسبة بينهما إلا كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي. أما القول الأول فإنما يصح فيما لو كانت حركة الإنسان لم تجرِ طبقاً للمشيئة الإلهية وإرادتها، إذ لو اعتبرنا أن إعمار الأرض تمّ على يد الإنسان بتفويض إلهي، بما غُرز فيه من فطرة الطموح والقدرة؛ لما جاز القول بأنه استطاع أن يحقق ما لم يحققه الله تعالى. فالشبهة لا ترد إلا حينما يكون فعل الإنسان بمعزل عن المشيئة الإلهية. فالله سبحانه هو الذي إختار هذه السنة الكونية التي من شأنها دفع الإنسان إلى انجاز ما يصبو إليه من أهداف وطموحات، رغم أن تحقيق ذلك لا يتم إلا عبر سلسلة طويلة من تجارب الفشل والنجاح، بل وتقديم القرابين من الأضاحي ضمن مسلسل الصراع كما تفرضه الصيرورة التاريخية. وعليه صدقت نبوءة الملائكة حين تساءلت عن مغزى خلق البشر: ((قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)). كما صدق المولى عز وجل حين أشار إلى ما خفي عنهم بقوله: ((إني أعلم ما لا تعلمون))111، استناداً إلى الأمانة التي حملها الإنسان كما في قوله تعالى: ((إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً))112. وهو أمر يبعث على التفاؤل في إستشراف مستقبل ذي مغزى يتحقق فيه ما أراده الله تعالى من قوله السابق، بانتصار الإنسان على نفسه، أو تحوله، ليكون مصداق الآية الكريمة ((إن الأرض يرثها عبادي الصالحون))113.

على أن نفس ما ذكرنا يمكن أن يجاب به على شبهة النقص في التشريع، ذلك أننا لو اعتبرنا التشريع جاء بثوابت تخص مقاصد الشرع ومكارم الأخلاق، وأنه أعطى صوراً مناسبة للأحكام الزمنية كعلاج لبعض صنوف الواقع؛ لما أُعتبر ذلك من النقص طالما كانت الغاية هي الإسترشاد بتعاليم الوحي والواقع عبر التاريخ بما يفرضه عليه الزمن من جدل ثلاثي الأبعاد، وهو الجدل الخاص بكل من: الوحي والعقل والواقع. فمن حيث السنة التكوينية ليست هناك طريقة للتعلم أهم من الثالوث الجدلي للعقل الإنساني مع الواقع وعطاء الوحي. فهو مدرسة الإنسان الكبرى، والوعي بها يساعد على الإسراع بالجدل ومن ثم التخرج منها. مما يعني أن تغيرات الأحكام هي حقيقة تاريخية محتمة دون أن تتعدى المسار التكويني للسنن. وعليه لا يتصف التشريع – والحال هذه – بالنقص، بل العكس صحيح، وهو فيما لو بقي التشريع جامداً لا يستجيب لتطورات الواقع، ومثله فيما لو لم تكن هناك مقاصد وثوابت يُرتكن إليها في التشريع، أما مع وجود هذه الأركان فالتشريع ليس بناقص، بل له قابلية الشمول لمختلف الأحوال من الظروف والزمان والمكان.

 

الرد على الشبهة الخامسة

تظل لدينا الشبهة الأخيرة التي مفادها أن القول بمبدأ جواز تغيير الأحكام يبعث على الفوضى وتضارب الأحكام، كما يبعث على إتّباع الأهواء والمصالح الذاتية، وكذا تبرير الواقع حتى لو كان فاسداً، ووضع ما في الدين ما ليس منه. فالملاحظ أن هذه الشبهة تختلف عن غيرها في كونها ذات طبيعة تقنية أو عملية، فهي ليست معرفية مثل سابقاتها. لهذا فعلاجها يعتمد على طبيعة ما يُقدّم بصددها من مقترحات عملية. وأرى أن أفضل الوقاية من السقوط في براثن مفاد هذه الشبهة هو العمل المؤسسي المنبني على الإجتهاد الجماعي ضمن ضوابط العلم والتقوى114.

كما لا بد من التفرقة في الأحكام بين ما هو قطعي وغير قطعي، شبيه بما كان عليه الأمر لدى السلف القدماء، إذ كان العديد منهم لا يحرم ولا يحلل إلا بنص صريح، وإنما يقول أكره واستحسن، وعلى ذلك كانت سيرة مالك بن أنس الذي يعقب على مثل قوله هذا بقبس من القرآن: ((إنْ نظنُّ إلا ظناً، وما نحن بمستيقنين))115. وجاء عنه أنه قال: ‹‹لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركتُ أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام››116. كما قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول أحلّ الله كذا وحرم كذا؛ خشية أن يقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا117. إذ جاء في قوله تعالى: ((قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل أاللهُ أذنَ لكم أم على الله تفترون))118، وقوله: ((ولا تقولوا لما تَصفُ ألسِنتُكم الكذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذبَ..))119. وبهذا يصح أن يكون القطعي متعلقاً بعناوين الحرمة والحلية. أما غير القطعي فينبغي أن يتخذ عناوين الرأي من المنع والكراهة، أو التجويز والإستحسان. لذلك جاء في صحيح مسلم في رواية عن النبي (ص) أنه إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه ومن معه، ومن ذلك جاء في وصيته: ‹‹وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا››120. وعلى شاكلة هذا الحديث ما روي عن عمر بن الخطاب، إذ روى أبو يوسف عن أبي وائل، قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين: وفيه قوله: ‹‹وإذا حاصرتم حصناً فأرادوكم أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلوا فإنكم لا تدرون أتصيبون فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا بعد فيهم بما شئتم››121.

 

1أشار الشاطبي إلى هاتين الصورتين من التفكير بما يجعل إحداهما تقع في طرف لا يلتقي مع الآخر، فقال: إن ‹‹صاحب الرأي يقول: الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت أدلتها عموماً وخصوصاً، دل على ذلك الإستقراء. فكل فرد جاء مخالفاً فليس بمعتبر شرعاً، إذ قد شهد الإستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر، لكن على وجه كلي عام. فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام، لأن دليله قطعي، ودليل الخاص ظني، فلا يتعارضان. والظاهري يقول: الشريعة إنما جاءت لإبتلاء المكلفين أيهم أحسن عملاً، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع، لا على حسب أنظارهم. فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة، من حيث أن الشارع إنما تعبدنا بذلك. وإتباع المعاني رأي، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر، لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي. فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها وطرحوا خصوصيات الألفاظ. والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها، وطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة›› (الموافقات، ج 4، ص230).

2الفروق، ج 1، ص716ـ717.

3نشر العرف، ص125.

4المصدر السابق، ص129.

5نفس المصدر، ص121 و119.

6الأشباه والنظائر، ص101.

7نظرية العرف، ص92ـ93.

8عبد اللطيف المدرس: مشايخ بلخ من الحنفية، الدار العربية للطباعة، بغداد، ج 2، ص438.

9نظرية العرف، ص18.

10مشايخ بلخ، ج 2، ص438.

11تفسير المنار، ج6، ص271.

12أبو علي مسكويه: الهوامل والشوامل سؤالات أبي حيان التوحيدي لأبي علي مسكويه، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ ـ 2001م، عن مكتبة المشكاة الإلكترونية، ص371ـ372. وأحمد امين: الإجتهاد في نظر الإسلام، مجلة رسالة الإسلام، مجلد 3، ص149.

13 ابن القيم: اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، الباب الثالث عشر، عن مكتبة ويكي مصدر الإلكترونية http://ar.wikisource.org. كذلك: المقاصد العامة للعالم، ص44ـ45.

14 محمد رشيد رضا: تاريخ الإمام محمد عبده، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الأولى، 1350هـ ـ 1931م، ج ، ص945. والأعمال الكاملة لمحمد عبده، حققها وقدم لها محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م، ج3، ص197. كذلك: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة العاشرة، ص136.

15تاريخ المذاهب الإسلامية، ص355.

16المصدر السابق، ص428.

17للمفكر مرتضى مطهري كلمة حول علاقة الفتوى بالواقع الخاص للفقيه، وفيها يعتبر ان فتوى العربي هي غير فتوى الاعجمي، وكذا فتوى القروي هي غير فتوى المدني، فلكل فتوى تفوح منها رائحة ما ينتسب اليه المفتي (مطهري: الإجتهاد في الإسلام، دار التعارف ـ دار الرسول الأكرم، ص31).

18الشاطبي: الموافقات، ج 2، ص 307. والاعتصام، ج 2، ص320.

19الموافقات، ج 4، ص210. والاعتصام، ج 2، ص138.

20 أحمد بن علي الرازي الجصاص: الفصول في الأصول، دراسة وتحقيق عجيل جاسم النمشي، عن موقع الحوزة الإلكتروني http://www.alhawzaonline.com/almaktaba، ج4، ص229. كذلك: عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي: نصب الراية لأحاديث الهداية، دار الحديث، مصر، 1357هـ، عن الموقع الإلكتروني http://www.islamport.com، ج1، ص20.

21محمد زاهد الكوثري: فقه أهل العراق وحديثهم، ضمن فقرة بعنوان (الإستحسان) عن شبكة الرازي الإلكترونية www.al-razi.net (لم تذكر أرقام صفحاته).

22الفروق، ج1، الفرق السادس والثلاثون، ص205.

23الطرق الحكمية، ص15. وأعلام الموقعين، ج 4، ص327. وانظر بصدد التمييز بين صنفي الأحكام الانفة الذكر حديثاً كلاً من: محمد محمد المدني: أسباب الإختلاف بين المذاهب الإسلامية، رسالة الإسلام، مؤسسة الطبع والنشر في الاستانة الرضوية، مجلد 9، ص 47. ومحمد حسين الطباطبائي: مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، تعريب خالد توفيق، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص168ـ170. والصدر: إقتصادنا، ص400ـ401 و425 وما بعدها. ومطهري: نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص100 وما بعدها.

24الموافقات، ج 2، ص284ـ285.

25إبن الازرق: بدائع السلك في طبائع الملك، ج1، ص67.

26الموافقات، ج 2، ص297ـ298.

27الموافقات، ج2، ص284.

28المصدر السابق، ج2، ص284.

29المصدر السابق، ج2، ص286

30المصدر والصفحة السابقة.

31الحاوي للفتاوى للسيوطي، ج 1، ص330.

32الفروق، ج 4، ص197.

33البحر المحيط، فقرة 93.

34أعلام الموقعين ج 3، ص3.

35 أبو العباس أحمد الناصري: الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري/ محمد الناصري، الدار البيضاء، 1418هـ ـ 1997م، عن المكتبة الشاملة الإلكترونية http://www.shamela.ws ، ج 1، ص59ـ60. كذلك: عبد الله العروي: مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1992م، ج 1، ص213.

36تفسير المنار، ج4، ص40.

37نشر العرف، ص126.

38الطرق الحكمية، ص21.

39الطرق الحكمية، ص 16. كذلك: أعلام الموقعين، ج 4، ص272ـ273.

40مقدمة إبن خلدون، ص336ـ337.

41نشر العرف، ص129.

42الإجتهاد والتجديد للقرضاوي، ضمن فقه الدعوة، ج 2، ص160.

43لاحظ على سبيل المثال ما كتبه الشيخ محمد علي ناصر في نقده للحكم العمري في: مصادر الأحكام الإجتهادية، رسالة الإسلام، ج4، ص168 وما بعدها، وص281 وما بعدها. لكن لاحظ في قباله ما صرح به الشيخ مهدي شمس الدين وهو يقرر صحة الحكم العمري في سهم المؤلفة قلوبهم وإن لم يسمه بإسمه (حوار مع الشيخ شمس الدين، قضايا إسلامية، العدد الخامس، 1418هـ ـ 1997م، ص58). علماً بأن الشيخين كلاهما إماميان من جبل عامل.

44فقه الزكاة، ج 2، ص600.

45البيان والتحصيل، ج 2، ص 359. وأحكام القرآن لإبن العربي، ج 2، ص966 .

46مجموع فتاوى إبن تيمية، ج33، ص 94. وأحكام القرآن، ج 2، ص 966. كذلك كلمة المحرر في: رسالة الإسلام، ج 4، ص175.

47البيان والتحصيل، ج 2، ص359.

48يعود هذا القول إلى اللغوي المعروف إبن فارس المتوفى سنة 395هـ (محمد رشاد الحمزاوي: المعجم العربي، ص615).

49محمد عمارة: هل يجوز الإجتهاد.. مع وجود النص؟!، منبر الحوار، عدد 13، 1410هـ ـ 1989م، ص100.

50يقول المحقق القمي: ‹‹إن التتبع والإستقراء يحكمان بأن غالب الأحكام الشرعية في غير ما ثبت له حد ليس بآنية ولا محدودة إلى حد معين وأن الشارع اكتفى فيما ورد عنه مطلقاً في استمراره، فإن من تتبع أكثر الموارد واستقرأها يحصل الظن القوي بأن مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار ويظهر من الخارج أنه اراد الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي›› (فرائد الأصول، ج 2، ص647).

51انظر حول الطوفي الفصل الثالث من: فهم الدين والواقع.

52سبق للإمام الخميني أن اعترض على بعض الفقهاء لطريقته الحرفية مستشهداً في إعتراضه على بعض الأمثلة كتلك التي ذكرناها في المتن.

53الإسراء/23.

54البقرة/275.

55نظرية العرف، ص87.

56لاحظ: حوار مع الشيخ شمس الدين في : الإجتهاد والحياة، حوار وإعداد محمد الحسيني، نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية، الطبعة الثانية، 1417هـ ـ 1997م، ص16ـ17.

57الشافعي: الأم، ج7، ص275ـ276.

58الأنفال/66.

59الأنفال/65.

60بداية المجتهد، ج 1، ص387.

61مواهب الجليل، ج 3، ص353.

62مقداد السيوري: كنز العرفان في فقه القرآن، المكتبة المرتضوية، طهران، 1984هـ، ج 1، ص 359 و 360. كذلك: جواهر الكلام، ج21، ص63.

63نشر العرف، ص118.

64العقل والبيان والإشكاليات الدينية، الفصل الأخير.

65الموافقات ج 2، ص93ـ94.

66فقه الدعوة ومشكلة الدعاة في حوار مع الشيخ محمد الغزالي، ضمن فقه الدعوة، ج1، ص128.

67فقه المرحلة والإنتقال من المبادئ إلى البرامج في حوار مع حسن عبد الله الترابي، ضمن فقه الدعوة، ج 2، ص20ـ21.

68انظر التفاصيل في الفصل الرابع من: فهم الدين والواقع.

69محمد إبراهيم الجناتي: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية وعصر الإستخدام الشامل، مجلة التوحيد، العدد 67، 1416هـ ـ 1995م، ص20 ومابعدها.

70انظر التفاصيل في الفصل الثاني من: فهم الدين والواقع.

71البحر المحيط، فقرة 93.

72المائدة/3.

73الأنعام/38.

74النحل/89.

75الكليني: الأصول من الكافي، دار الكتب الإسلامية في طهران، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، الطبعة الثالثة، 1388هـ، ج1، ص58.

76بل روي هذا المعنى أيضاً عن ابراهيم بن جابر، فروي أنه لما سأله أحد كبار القضاة في عهد المتقي للّه العباسي عن سبب إنتقاله من مذهب الشافعي إلى مذهب أهل الظاهر، جاوبه قائلاً: ‹‹إني قرأت إبطال الإستحسان للشافعي فرأيته صحيحاً في معناه، إلا أن جميع ما احتج به في إبطال الإستحسان هو بعينه يبطل القياس، فصح به عندي بطلانه››. انظر: فقه أهل العراق وحديثهم، ضمن فقرة بعنوان (الإستحسان). ونصب الراية لأحاديث الهداية، ج1، ص20.

77شبيه بهذا ما حصل مع بعض القضايا كما أشار إليها المفكر الصدر بما مرّ على الفكر الفقهي من تطورات داخل المدرسة الإمامية. ذلك أن جملة من الفقهاء المحدِثين والمعاصرين استخدموا دليل السيرة العقلائية وبعض القواعد الأصولية لإعتبارات نفسية غرضها الحفاظ على بعض المسلمات التي خلّفها المتشرعة من الأسلاف، رغم أنهم لم يملكوا عليها الدليل الشرعي (انظر: كمال الحيدري: مرتكزات أساسية في الفكر الأصولي، قضايا إسلامية، العدد 3، 1417هـ ـ 1996م. كذلك الفصل الرابع من كتابنا: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر).

78الكشاف، ج1، ص593.

79محمد طاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية، 1984م، ج 6، ص105.

80روي أنه قد قرأها رسول الله فبكى عمر فقال له الرسول: ما يبكيك؟ فقال: أبكاني إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال النبي (ص): صدقت (الجامع للقرطبي، ج 6، ص61. وروح المعاني، ج6، ص60. وجامع البيان، ج 6، ص97.

81الجامع للقرطبي، ج 6، ص61.

82الجامع، ج، ص62.

83الجامع، ج 6، ص63.

84جامع البيان، ج 6، ص80.

85المصدر السابق، ج 6، ص97.

86نفس المصدر، ج 6، ص80.

87الكشاف، ج 1، ص 593. وتفسير أبي سعود، ج 2، ص8.

88أحكام القرآن لابن العربي، ج 2، ص551.

89نفس المصدر، ص552.

90نفس المصدر، ص552 .

91تفسير أبي سعود، ج 2، ص8.

92الجامع للقرطبي، ج 6، ص 62. والكشاف، ج 1، ص593.

93جامع البيان، ج 6، ص81.

94التحرير والتنوير، ج 6، ص105ـ107.

95الأنعام/38.

96جامع البيان، ج7، ص188.

97تفسير إبن كثير، ج 2، ص131.

98النساء/83.

99البيان والتحصيل، ج17، ص13.

100تفسير الماوردي، ج1، ص523 .

101النحل/89.

102تفسير إبن كثير، ج 2، ص582.

103جامع البيان، ج14، ص161ـ162. كذلك: تفسير إبن كثير، ج 2، ص582.

104الميزان، ج 4 1، ص324ـ325.

105النساء/59.

106المائدة/44.

107الملل والنحل، ص86 . والاعتصام، ج 3، ص197ـ199.

108أعلام الموقعين، ج1، ص 333. يعود هذا الرأي إلى الإمام الجويني الذي قال في (البرهان): إن معظم الشريعة صدرت عن الإجتهاد، والنصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة (إرشاد الفحول، ص313).

109انظر: الفصل الأخير من كتابنا: فهم الدين والواقع.

110جمال الدين يوسف الحلي: أنوار الملكوت في شرح الياقوت، إنتشارات الرضي ـ بيدار، إيران، الطبعة الثانية، ص156ـ157. وعثمان عبد الكريم: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ 1917م، ص 403. قال بعضهم: ‹‹كيف يحسن من العاقل أن يمنع الإنسان العطشان من بحر يملكه لا يقل شربه منه، أو يمنعه من السكون والاستظلال بظل داره، أو أن يلقط ما تناثر من حبّه، أو الإنتفاع بما يلقيه مما يأكله رغبة عنه، ولا ريب أن ملك الله تعالى كالبحر وما يتناوله الإنسان مما يفيضه عليه أقلّ من نسبة الجنة إلى الحب المتناثر›› (انوار الملكوت، ص158).

111البقرة/30.

112الاحزاب/72.

113الأنبياء/105.

114انظر حول ذلك خاتمة الفصل الأول من: فهم الدين والواقع.

115الجاثية/32. أعلام الموقعين، ج 2، ص 44. وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص407.

116القول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص69.

117أعلام الموقعين، ج 1، ص 39. والقول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص69. كذلك: موسوعة الفقه الإسلامي المعروفة بموسوعة جمال عبد الناصر، يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ج17، ص242ـ243.

118يونس/59.

119النحل/116.

120أحكام أهل الذمة، ج1، ص4ـ5. وأعلام الموقعين، ج1، ص 39. والقول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص68.

121الخراج لأبي يوسف، ص194 و 205. وانظر أيضاً: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر.

comments powered by Disqus