-
ع
+

التراث الإسلامي وأزمة التأسيس العقلي

يحيى محمد 

إن للدائرة العقلية في الفكر الإسلامي ثلاثة أنماط من التأسيس العقلي:

الأول: إن لهذه الدائرة تأسيساً للنظر القبلي يجعلها قادرة على إنتاج تشريعات معيارية تنافس بها تشريع نص الخطاب.

الثاني: إن لهذه الدائرة تأسيساً خارجياً للخطاب الديني يجعلها تعمل على إثبات المسألة الدينية وإضفاء الحجة والمشروعية عليها.

الثالث: إن لهذه الدائرة تأسيساً داخلياً يتمثل في فهمها للخطاب الديني. فهي في هذا التأسيس تضع قوانينها الخاصة، ومن ذلك أنها تفرغ النص من محتواه البياني وتحول دلالاته إلى «متشابه».

ويعتمد تبرير هذه التأسيسات الثلاثة بعضها على البعض الآخر. فأولها هو التأسيس القبلي للنظر، واليه يستند التأسيس الخارجي للخطاب، إذ يتوقف إثبات المسألة الدينية لدى الدائرة العقلية على ما يقوم به التأسيس القبلي للنظر من تشريع. ولولا هذا التأسيس لتعذّر إثبات تلك المسألة، كالذي تحدثنا عنه في (العقل والبيان والإشكاليات الدينية). وكذا هو الحال فيما يتعلق بالتأسيس الداخلي للخطاب، إذ يعتمد أساساً على التأسيس القبلي للنظر، كما أن مبرر قيامه لدى هذه الدائرة عائد إلى التأسيس الخارجي. فمثلما يدين الخطاب إلى العقل في إثباته وجعله حجة قاطعة، فكذلك يكون الفهم مرتكزاً على العقل ومعاييره بما فيها تلك التي تعمل على تحويل بيان النص إلى «متشابه». فبرأي هذه الدائرة أن التفكيك بين العمليتين يفضي إلى التناقض، بمعنى أنه لا يمكن إنكار حجة العقل في التأسيس الداخلي رغم الإعتراف بحجته القاطعة في التأسيس الخارجي. وبالتالي فإما أن يكون العقل حجة على الدوام في الحالين، أو أنه غير حجة بالمرة، لكن الفرض الأخير يفضي إلى عدم إمكان تأسيس الخطاب من الخارج وبالتالي تبطل المسألة الدينية. فلم يبق إلا الفرض القائل بأن العقل حجة قاطعة يُعتمد عليه، سواء في التأسيس الخارجي أو الداخلي، وهو ما يبرر ممارسات التأويل المألوفة لدى هذه الدائرة. وقد وجد هذا التبرير نقداً منطقياً من قبل الدائرة البيانية، كالذي أبداه إبن تيمية.

العقل وتأسيس الخطاب الديني

تتبنى الدائرة العقلية قاعدة عامة مفادها أن الاستدلالات في القضايا المعرفية مردها إلى الأدلة العقلية. فكل استدلال لا يخلو - من قريب أو بعيد - من تدخل الدليل العقلي. وينطبق هذا الحال على علاقة العقل بالخطاب الديني. فبحسب هذه الدائرة أن من المستحيل تركيب الأدلة من النقل المحض، لتوقف الأخير على دليل العقل المتمثل بقضية «ضرورة صدق المبلّغ». وبالتالي فليس بالإمكان معالجة أي مسألة دينية أو غيرها دون أن يكون لها علاقة بالدليل العقلي.

فمقدمات الدليل لأي قضية إما أن تكون عقلية خالصة، كالمقدمات المستعملة في بيان حدوث العالم ووجود الصانع وقدرته وعلمه وإرادته وكذلك صدق الرسول وما إليها، أو هي مركبة من العقل والسمع، لاحتوائها على مقدمة نقلية مسندة إلى النبي المرسل من قبل الله تعالى1، وهي مقدمة تقتضي تقدم المقدمة العقلية عليها. فكما قال الإمام الجويني: «.. إن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلاً، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً، والى ما يدرك سمعاً ولا يقتدر إدراكه عقلاً، والى ما يجوز إدراكه سمعاً وعقلاً. فأما ما لا يدرك إلا عقلاً فكل قاعدة في الدين تتقدم على العلم بكلام الله تعالى ووجوب اتصافه بكونه صدقاً، إذ السمعيات تستند إلى كلام الله تعالى، وما يسبق ثبوته في الترتيب ثبوت الكلام وجوباً، فيستحيل أن يكون مدركه السمع»2.

وقال تلميذه الغزالي: إن «المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدوث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وإرادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت لم يثبت الشرع، فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه، ونفس الكلام أيضاً في ما اخترنا لا يمكن إثباته بالشرع..»3.

وقال الفخر الرازي: إن «المقدمات التي كلها نقلية محال»4.

إذاً لا يمكن تأسيس الخطاب الديني من دون الإعتماد على دليل العقل. ومع أن هناك إختلافاً لدى أتباع الدائرة العقلية حول طبيعة القضايا العقلية التي تعتمد عليها المسألة الدينية في التأسيس الخارجي، إلا أنهم يتفقون جميعاً على أن من المحال تأسيس ذلك من دون العقل.

أما فيما يتعلق بتأسيس العقل للخطاب من الداخل، فكما قلنا بأن له مبررين؛ أحدهما يرتبط بتأسيس العقل للخطاب من الخارج، والآخر له علاقة بالتأسيس القبلي للنظر، وهو ما يسمح للعقل بالتشريع ومن ثم التحكم في فهم الخطاب أو تأسيسه من الداخل.

وهناك دوران مختلفان لتأسيس العقل للخطاب من الداخل، أحدهما بعنوان التأييد والمساندة وعدم الممانعة، والآخر بعنوان الممانعة والإنكار.

وبخصوص الدور الأول اعتبرت الدائرة العقلية أن الخطاب الديني قد يؤكد مضامين ما في العقل من قضايا معرفية، كما قد يفصّل ما فيه من مجملات، وعلى الأقل أن فيه قضايا تفصيلية قد لا يطولها العقل بشيء من الإثبات أو النفي، لذا أنه لا يمانع منها وتكون رهن الخطاب وتفصيله.

ومن الأمثلة على ذلك تصريح أبي هاشم المعتزلي كما نقله القاضي عبد الجبار الهمداني، وهو أن «كل ما على المكلّف فعله أو تركه قد ركّب الله جُمله في العقول، وإنما لا يكون في قوة العقول التنبيه على تفاصيلها، سواء كان في أمور الدين أو في أمور المعاش ومنافع الناس، وسواء كان الديني من باب العقليات أو الشرعيات. وهذا الفصل إذا عرفته تبينت أن كل التكاليف مطابقة للعقول وكذلك أحوال المعاملات وما يتصل بالضرر والنفع..»5. كما جاء في (فضل الإعتزال وطبقات المعتزلة) للقاضي الهمداني أنه رتّب الأدلة فبدأ بتقديم العقل، حيث به يُعرف أن الكتاب حجة، وكذا السنة والإجماع، ثم قال: «.. وإن كنّا نقول أن الكتاب هو الأصل من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول، كما فيه الأدلة على الأحكام..»6.

فالهمداني هو أحد الرجال العقليين الذين يبرزون حالات ضرب التأييد والمساندة التي ذكرناها، فهو يعتبر أن في الشرع ما يؤكد أحكام العقل، كتأكيده لوجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى، كما أنه يعمل على تفصيل مجملات الأحكام العقلية. فمثلاً أن وجوب المصلحة وقبح المضرة حكمان مقرران في العقل على الجملة، إلا أن تعيين ما هو مصلحة أو مفسدة قد لا يسع العقل إدراكه إلا بالشرع. يضاف إلى أن الهمداني يعترف بوجود أمور شرعية غير مستحيلة عقلاً، فهي لا تتضارب مع أحكامه رغم عجزه عن إدراك غاياتها، وعلى حد قوله: «قد ثبت أن هناك أفعالاً يكون المرء عندها أقرب إلى فعل الواجبات وتجنب القبائح، فالعلم بأنها ألطاف ومصالح لا يتأتى فيه الدليل العقلي، وذلك لإختلاف أحوال المكلفين وإختلاف الأزمان والأماكن وشروط الأفعال، ولأن ما هو واجب على مكلف قد يحْظر على آخر، وما يحسن من أحدهم قد يقبح من الآخر، ومعرفة ذلك كلّه لا يكون إلا بالشرع، وإلا فكيف تدل العقول على أن الصلاة بلا طهارة لا تكون داعية إلى فعل الواجبات بل تدعو إلى القبيح، وإذا وقعت على طهارة دعت إلى فعل الواجب..»7.

ومن الأشاعرة من يؤكد هذا الضرب من التأييد والمساندة لعلاقة العقل بالشرع، كما هو الحال مع الإمام الجويني، فهو بعد أن بيّن ما سبق ذكره عما يستقل به العقل دون الشرع من قرارات وأحكام لها طابعها التأسيسي للشرع، يعلن بوجود نوعين من القضايا، أحدهما يُدرك سمعاً لا عقلاً، والآخر هو موضع إدراك الطرفين. فـ «أما ما لا يدرك إلا سمعاً فهو القضاء بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه.. ويتصل بهذا القسم عندنا جملة من أحكام التكليف وقضاياها من التقبيح والتحسين والإيجاب والحظر والندب والإباحة. وأما ما يجوز إدراكه عقلاً وسمعاً، فهو الذي تدل عليه شواهد العقول ويتصور ثبوت العلم بكلام الله تعالى متقدماً عليه. فهذا القسم يتوصل إلى دركه بالسمع والعقل. ونظير هذا القسم إثبات جواز الرؤية - لله تعالى - وإثبات استبداد الباري تعالى بالخلق والاختراع وما ضاهاهما مما يندرج تحت الضبط الذي ذكرناه..»8.

وواضح أنه ليست هناك مشكلة تتعلق بهذا الدور من علاقة العقل بالخطاب، فأحدهما يعمل على تأييد الآخر. والعلاقة بينهما هي علاقة قطع ببيان، فمثلما يتصف العقل بالقطع واليقين، فكذلك يتصف النص بالبيان والإحكام. وبالتالي فإن أحدهما يؤكد الآخر ويسانده.

أما بخصوص الدور الثاني لعلاقة العقل بالخطاب فهو أمر مختلف. إذ يعتمد هذا الدور على الممانعة والإنكار، فهو لا يتقبل بيان النص كما هو ظاهر، تعويلاً على أحكام العقل وتشريعاته القبلية، أي تلك المناطة بالتأسيس القبلي للنظر. فقد اعتبرت الدائرة العقلية أن أحكام العقل وتشريعاته القبلية واضحة ومحكمة وقطعية، وهي من هذه الناحية تختلف عن الأحكام الخاصة بنص الخطاب، فالأحكام الأخيرة ليس بوسعها أن تصل إلى ذات الدرجة التي عليها الأحكام العقلية من الوضوح والإحكام والقطع، وأحياناً فإن ظواهرها تخالف ما يحكم به العقل فيستدعي ذلك تأويلها.

فقد جاء على لسان الشريف المرتضى قوله وهو بصدد تأويل الآية ((ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء))9: «إنه إذا ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الإحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أن المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام، صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها كما يُفعل مثل ذلك في ما يرد بظاهره مخالفاً تدل عليه العقول من صفاته تعالى وما يجوز عليه أو لا يجوز»10.

كما جاء عن هذا المتكلم الإمامي قوله وهو بصدد بحث عصمة الأنبياء: «إعلم أن الأدلة العقلية إذا كانت دالة على أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز أن يواقعوا شيئاً من الذنوب صغيراً وكبيراً، فالواجب القطع على ذلك، ولا يرجع عنه بظواهر الكتاب، لأنها إما أن تكون محتملة مشتركة، أو تكون ظاهراً خالصاً، لما دلت العقول على خلافه، لأنها إذا كانت محتملة حملناها على الوجه المطابق للحق الذي هو أحد محتملاتها، وإن كانت غير محتملة عدلنا عن ظواهرها وقطعنا على أنه تعالى أراد غير ما يقتضيه الظاهر مما يوافق الحق»11.

وجاء عنه أيضاً تأكيده بأن للعقول «دلالة على جميع الأحوال غير محتملة، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل..»12.

وهو نفس ما قرره تلميذه الشيخ الطوسي، إذ أكد هذا المعنى وهو بصدد بحث مسألة عصمة الأنبياء فقال: «الظواهر تبنى على أدلة العقول ولا تبنى أدلة العقول على الظواهر، وإذا علمنا بدليل العقل أن القبيح لا يجوز عليهم - الأنبياء - تأولنا الآيات إن كانت لها ظواهر»13.

فتلك النصوص لا تكشف عن تقرير ما يتصف به العقل من حقيقة وقطع وإحكام، بل وتكشف أيضاً عما يتصف به النص ذاته من مجاز وإحتمال وتشابه، أو عدم بيان.

المعارض العقلي وقانون التأويل

إن إضفاء الدائرة العقلية على العقل صفات الحقيقة والقطع والإحكام، ومن ثم تحويل دلالة النص الديني إلى ما يقابلها من صفات المجاز والإحتمال والتشابه، كل ذلك جعل من العقل عبارة عن ديانة خاصة منافسة لديانة «بيان» النص، وهو ما حفّز على ظهور الدائرة البيانية بثوبها المنظّر للرد على تلك الديانة وقلب موازين الادعاء والحكم. فما استهدفته الحركة البيانية المنظّرة هو إعادة الإعتبار للبيان الديني من خلال الرد على التهم العقلية والدعوة إلى الطريقة البيانية في فهمها للخطاب الديني.

هكذا ظهر التنافس في المرجعية بين الدائرتين، فأي منهما يضمن الحقيقة والقطع والإحكام؟ وأي منهما يليق بأن يعبّر عن واقع ما يريده الخطاب في نصّه المنزّل؟

لقد شغلت هذه المسألة الكثير من جهود النظام المعياري، سواء داخل الدائرة العقلية أم البيانية. فقد تقرر لدى الدائرة الأولى أنه لا يمكن النظر في دلالة نص الخطاب ما لم يكن مسبوقاً بالنظر في الأحكام العقلية، خشية أن تكون تلك الدلالة مخالفة لهذه الأحكام بإعتبارها محكمة وقطعية لا تقبل الرد. وسبق للامام الجويني أن حدد طبيعة العلاقة بين العقل والنقل، معتبراً أنه لا بد من لحاظ كلا الدلالتين العقلية والنقلية، فأوجب على الناظر في الأدلة النقلية أن ينظر أولاً ما هو المقرر لدى العقل من أحكام، فإذا كان العقل لا يحيل ما يرد من نقل، وكانت الأدلة النقلية قاطعة في طرقها الخاصة، ففي هذه الحالة لا بد من القطع بذلك. أما لو لم تكن هذه الأدلة قاطعة ولم يكن لدى العقل حكم بالمنع والإحالة، فإنه لا يجوز القطع في تلك الأدلة، وإن كان يغلب على الظن ما دلّ الدليل النقلي عليه، في حين لو كان الدليل النقلي مخالفاً لقضية من قضايا العقل، فلا بد من ردّه وعدم قبوله، ومنه يتبين بأن هذا الدليل ليس قطعياً، وإلا فإن الشرع القاطع لا يخالف العقل مطلقاً14.

كما أن الغزالي هو الآخر شغل نفسه بهذه القضية المنهجية، فحاول أن يصل إلى طريقة يحلّ بها حالة التصادم المفترض بين الدلالتين العقلية والسمعية. فقد ذكر في (قانون التأويل) أن «بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر، والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول، والى مفرط بتجريد النظر المعقول، والى متوسط طمع في الجمع والتلفيق. والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلاً والمنقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، والى من جعل المنقول أصلاً والمعقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، والى من جعل كل واحد أصلاً ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما. فهم إذا خمس فرق».

وانحاز الغزالي إلى الفرقة الخامسة، إذ برأيه أنها تنهج منهجاً قويماً وإن كانت ترتقي مرتقاً صعباً في أكثر الأمور، لكن مع ذلك فهو يهوّن المسألة ويعتبر أن من طالت ممارسته للعلوم وكثر الخوض فيها بإستطاعته - في أكثر الأحيان - أن يلفق بين المعقول والمنقول بتأويلات قريبة. ويستثني من ذلك موضعين: موضع يضطر فيه إلى تأويلات بعيدة تنبو الأفهام عنها، وموضع آخر لا يتبين له فيه أي وجه للتأويل، كما هو الحال مع الحروف المقطعة من أوائل السور. واعتبر هذا المفكر أن من ظنّ أنه سلم من الأمرين السابقين فهو إما لقصوره في المعقول وعدم معرفته للمحالات النظرية، أو لقصوره عن مطالعة الأخبار التي يكثر مباينتها لما هو معقول15.

ويتضمن هذا الرأي للغزالي وجود أخبار يعسر تأويلها وفقاً لأحكام العقل النظرية. لكن مع هذا فقد جاء في كتابه (الإقتصاد في الإعتقاد) ما يخالف ذلك، فلم يعترف بالمشكلة السابقة حول تأويل الأخبار والأحاديث، خلافاً لما عرضه في (قانون التأويل). وكما قال: «.. كلّما ورد السمع به يُنظر، فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها إحتمال، ووجب التصديق بها ظناً إن كانت ظنية... وأما ما قضى العقل بإستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول، وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل»16.

مهما يكن فإن مسألة التأويل عند الغزالي ترتهن بالعقل الذي دافع عنه واعتبره أصلاً نضطر إليه في فهم قضايا الخطاب. فبرأيه أنه لا يجوز تكذيبه وإلا لإستحال تأسيس الخطاب وإثبات المسألة الدينية؛ لارتكاز هذا التأسيس عليه. لذا فعند التعارض بين العقل والنقل لم يجد الغزالي سبيلاً آخر غير التأويل، ويضرب مثلاً على ذلك، وهو أنه إذا ذكر لنا الشرع بأن الأعمال توزن، علمنا بأن الأعمال عرض غير قابلة للوزن، لذا يقتضي التأويل، وكذا لو سمعنا: أن الموت يؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح، لا بد من تأويله لأن الموت عرض لا يؤتى به.

ومع هذا فالغزالي يوصي بضرورة الكف عن تعيين التأويل حين تعارض الإحتمالات من دون قطع بأحدها، لخطورة تعيين مراد الله ورسوله بالظن والتخمين17. وإن كان في محل آخر منع تأويل النص على كل من العامي والأديب والنحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم، بل كل عالم عدا رجال الكشف الذين هم مع ذلك «على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالدر المكنون والسر المخزون»18.

أما الفخر الرازي فقد خطا خطوة كبيرة في هذا الإتجاه، كما يظهر من تصريحاته الكثيرة التي أكد فيها على ضرورة الثقة بالعقل واستخدام التأويل حين التعارض مع النقل.

فقد ذكر في كتابه (أساس التقديس في علم الكلام) بأن الدلائل العقلية القطعية إذا قامت على ثبوت شيء، وكانت هناك أدلة نقلية يشعر ظاهرها خلاف ذلك، فلا يخلو الموقف من أحد هذه الأمور الأربعة: إما أن يُصدق مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضين، وهو محال. وإما أن يبطل ذلك فيلزم تكذيب النقيضين، وهو محال أيضاً. وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر العقلية، وهو باطل، إذ لا يمكن معرفة صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول (ص) وظهور المعجزات على محمد (ص)، ولو جوّزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول. ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة. فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً، وأنه باطل. ولما بطلت الأقسام السابقة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن تكون غير صحيحة، أو أنها صحيحة لكن المراد منها غير ظواهرها. ثم إن جوّزنا التأويل، تبرعنا بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم نجوّزه فوّضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المستند إليه في جميع المتشابهات19.

وشبيه بهذا المعنى ما أكده الفخر الرازي في كتابه (نهاية العقول)، إذ اعتبر بأن الموقف من معارضة النقل للعقل إما تكذيب العقل أو تأويل النقل، لكن الأول يفضي بتكذيب النقل أيضاً، حيث لا طريق لإثبات الصانع ومعرفة النبوة سوى العقل، وبهذا يثبت الثاني. وهو في هذا الكتاب كما في (المطالب العالية) اعتبر أن ظواهر الشريعة لا يستفاد منها شيء معلوم ما لم تكن سليمة من المعارض العقلي. مما يعني أن فهم الخطاب لا يتحقق - عنده - كمعطى معرفي إلا بإنتفاء ذلك المعارض. فآيات التشبيه - مثلاً - كثيرة لكنها معارضة بالدلائل العقلية مما يوجب تأويلها وصرفها عن الظاهر. وهو الآخر كالغزالي أبدى اضطراره إلى ترتيب هذه النتيجة بحجة أن الطعن بالعقل يلزم عنه الطعن بالنقل، تبعاً لتوقف التأسيس الخارجي للخطاب على الإعتبارات العقلية. لكنه رغم ذلك لا يحسم تعيين مراد النص على وجه الحقيقة واليقين، بل يرى ذلك موقوفاً على القطع بإنتفاء المعارض العقلي، مع أن هذا القطع - برأيه - لا يمكن احرازه، إذ في جميع الأحوال أن الإعتقاد بإنتفاء المعارض العقلي هو أمر مظنون لا معلوم لإستحالة القطع، حيث يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع20.

وعلى العموم أنه يعدّ الدليل اللفظي لا يفيد اليقين ما لم يتم التيقن بعشرة أمور، هي: عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ واعرابها وتصريفها وعدم الإشتراك والمجاز والنقل والتخصيص بالأشخاص والأزمنة، وعدم الاضمار والتأخير والتقديم والنسخ، وأخيراً عدم المعارض العقلي. على أن جميع هذه الأمور عنده مظنونة لا معلومة. وحيث أن الموقوف على المظنون مظنون مثله، لهذا أحال أن يكون الدليل النقلي مفضياً إلى القطع؛ خلافاً لما هو الحال مع الدليل العقلي الذي رجحه عليه لقيمته المعرفية المطلقة21.

هكذا حكم الفخر الرازي على نص الخطاب أن يكون متشابهاً بلا بيان، وهو ما جعل الفهم لا يستغني - عنده - عن العقل. فمثلما لا يستغني الخطاب عن العقل في تأسيسه الخارجي، فكذا الحال في التأسيس الداخلي المتمثل بالفهم، ومع هذا تبقى المسألة دون حد الإحكام واليقين.

وبذلك يكون الفخر الرازي قد فاق من سبقه في الكشف عن الهوّة بين ما يفيده الدليل العقلي من حكم، وما تفيده الدلالة النقلية من معنى. فقد أصبحت العلاقة بين العقل والنص علاقة محكومة بالإغلاق والتباعد نظراً لما نظّر إليه من غياب شروط القيمومة للنص لحمله علامات الظن والتشابه.

ومع ذلك فالملاحظ أن الفخر الرازي - حاله كحال الغزالي - لم يسلم من الاضطراب والتناقض، فهو في كتاب (الأربعين) قلب علاقة العقل بالنص مما عهدناه عنده من إغلاق وتباعد مطلقين إلى بعض الحالات النسبية من الإنفتاح والإقتراب، بكشفه عن بعض الشروط التي من شأنها أن تبعث الحياة في النص وتجعله حاملاً للقيمومة ومصدراً للإعتماد واليقين. إذ اعتبر أن عدم التيقن من الأمور العشرة الآنفة الذكر لا يلزم منه عدم افادة الدليل اللفظي لليقين، فذكر بأنه حتى مع عدم احراز تلك الأمور العشرة، فربما اقترن بالدلائل النقلية قضايا عُرف وجودها بالأخبار المتواترة، وهذه القضايا تنفي إحتمالات تلك الأمور، ومن ثم يصبح الدليل السمعي المقرون بتلك القرائن الثابتة بالأخبار المتواترة مفيداً لليقين22.

كما تراجع الرازي - أخيراً - عن تمسكه بالدليل العقلي الذي شيّد نظريته عليه، واستقر أمره على نقضه، منكراً أن يكون ما يفرزه من نتائج تبعث على الاطمئنان. وهو بهذا يعبّر عن أشد حالات التناقض التي صادفها العقل في تاريخ الفكر الإسلامي. والتشكيك الذي أفاده بصدد ما يسمى بالبراهين العقلية جعل مرحلته لا تمثل نهاية التقنين العقلي فحسب، بل ونهاية العقل (المعياري) ذاته، إذ بقي التشكيك والتناقض عالقين بهذا العقل دون جواب حتى يومنا هذا.

وقد عبّر الرازي عن تشكيكه المشار إليه بقوله: «هذه الأشياء المسماة بالبراهين لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها ووقف عليها وجب أن يقبلها وأن لا ينكرها أصلاً، وحيث نرى أن الذي يسميه أحد الخصمين برهاناً فإن الخصم الثاني يسمعه ويعرفه ولا يفيد له ظناً ضعيفاً.. علماً أن هذه الأشياء ليست في أنفسها براهين، بل هي مقدمات ضعيفة انضافت العصبية والمحبة إليها فتخيل بعضهم كونها برهاناً مع أن الأمر في نفسه ليس كذلك. وأيضاً فالمشبّه يحتج على القول بالتشبيه بحجة ويزعم أن تلك الحجة أفادته الجزم واليقين، فإما أن يقال: أن كل واحدة من هاتين الحجتين صحيحة يقينية فحينئذٍ يلزم صدق النقيضين وهو باطل، وإما أن يقال إحداهما صحيحة والأخرى فاسدة إلا أنه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة واحدة من مقدمات تلك الحجة باطلة في نفسها، مع أن الذي تمسك بتلك الحجة جزم بصحة تلك المقدمة إبتداء. فهذا يدل على أن العقل يجزم بصحة الفاسد جزماً إبتداء، فإذا كان كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات، وإذا كان العقل كذلك فحينئذٍ تفسد جميع الدلائل. فإن قالوا: العقل إنما جزم بصحة ذلك الفاسد لشبهة متقدمة، فنقول: قد حصل في تلك الشبهة المتقدمة مقدمة فاسدة، فإن كان ذلك لشبهة أخرى لزم التسلسل، وإن كان إبتداء فقد توجه الطعن. وأيضاً فانا نرى الدلائل القوية في بعض المسائل العقلية متعارضة، مثل مسألة الجوهر الفرد، فأنا نقول: كل متحيز فإن يمينه غير يساره، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، ينتج أن كل متحيز منقسم، ثم نقول: الآن لم يكن حاضراً بل بعضه، وإذا كان غير منقسم كان أول عدمه في أن آخر متصل بأن وجوده، فلزم تتالي الآنات، ويلزم منه كون الجسم مركباً من أجزاء لا تتجزأ. فهذان الدليلان متعارضان ولا نعلم جواباً شافياً عن أحدهما، ونعلم أن أحد الكلامين مشتمل على مقدمة باطلة وقد جزم العقل بصحتها إبتداء، فصار العقل مطعوناً فيه»23.

وفي وصيته، كما في بعض كتبه، رجع عن كل ما نظّر إليه إزاء «البيان» في قبال العقل، فانتصر أخيراً للبيان السلفي غير المنظّر، قالباً علاقة التقنين التي مثلت النهاية الأخيرة للتطور العقلي. فقد جاء في كتابه الذي صنفه في أقسام الذات قوله: «ولقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً. ورأيت أصح الطرق، طريقة القرآن. أقرأ في التنزيه ((والله الغني وأنتم الفقراء))، وقوله تعالى ((ليس كمثله شيء))، و((قل هو الله أحد)). واقرأ في الإثبات: ((الرحمن على العرش إستوى)).. ((يخافون ربهم من فوقهم)).. ((اليه يصعد الكلم الطيب)). واقرأ في أن الكل من الله قوله ((قل كل من عند الله)). ثم أقول وأقول من صميم القلب، من داخل الروح اني مقر بأن كل ما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه»24.

وجاء في وصيته قوله أيضاً: «....اعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم. فكنت أكتب في كل شيء شيئاً لا أقف على كمية ولا على كيفية، سواء كان حقاً أو باطلاً، أو غثاً أو سميناً. إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي، أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير منزه عن مماثلة المتحيزات والأعراض وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم. لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى. ويمنع من التعمق في ايراد المعارضات والمناقضات وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية. ولهذا أقول كلما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به. وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد، فهو كما هو. والذي لم يكن كذلك، أقول يا إله العالمين إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. فكل ما مرّ به قلمي أو خطر ببالي فأستشهد وأقول: إن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقديس اعتقدت أنه الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهد المقل. وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في زلة. فأغثني وارحمني واستر زلتي وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين ولا ينقص ملكه بخطأ المجرمين. وأقول ديني متابعة سيد المرسلين محمد (ص)، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما...»25.

هكذا فبيده حقق الرازي للعقل ما لم يحققه أحد قبله، كما بيده أماته نصرة للبيان وإحياء لقيمومته التي أنكرها من قبل.

 

تهافت العقل المعياري

ليس هناك أدلّ على فشل الطريقة العقلية وتهافتها من الإعتراف الذي سجله الكثير من أصحابها المتأخرين، وهو إعتراف جرى لدى كل من أتباع المنطقين للدائرة العقلية، وأغلبهم كان ينتمي إلى المنطق الذي سميناه بمنطق (حق الملكية) والمتمثل بالأشاعرة. فقد كان هؤلاء يعبّرون تارة عن فشل طريقتهم بما هو معهود لدى الممارسة الكلامية، وأخرى بما هو صريح لدى الممارسة العقلية بإطلاق. ووصفت هذه الممارسة بأنها مضرة تبعث على إثارة الشبهات، وتحريف العقائد ومحوها، وكما صرح الإمام الغزالي في (احياء علوم الدين) أنه تبعاً لتبحره في الكثير من العلوم ومنها علم الكلام فإن الطريق إلى حقائق المعرفة من الوجه الخاص بعلم الكلام مسدود. وهو وإن رأى أن هذا العلم لا ينفك عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، لكن على رأيه أن ذلك لا يكون إلا في النادر26.

والذين تضرروا من الممارسة العقلية الصرفة لهذا العلم كثيرون. وما يجمعهم هو الإعتراف بأنهم لم يحصلوا على شيء من الدراية والحقيقة، رغم طول هذه الممارسة، وكل ما جنوه هو الندم على ما أصابهم من الشك وتضييع العمر. وكما قال شمس الدين الخسروشاهي، وهو من تلامذة الفخر الرازي: والله ما أدري ما أعتقد، مكرراً ذلك ثلاث مرات ثم بكى27. وكان الخونجي المصنف في أسرار المنطق والذي سمى كتابه (كشف الأسرار) قال لما حضرته الوفاة كما حكى عنه التلمساني: أموت ولم أعرف شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب، والإفتقار وصف عدمي، أموت ولم أعرف شيئاً28. ومثل ذلك نُقل عن التلمساني والكاشي29. وقال آخر: «اضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء، ومن يصل إلى مثل هذا الحال إن لم يداركه الله بالرحمة والإقبال تزندق وساء له المآل»30. واستغفر آخر حين دنت وفاته بعد ما خاض في الكلام ويأس، وقال: «نهاية ما علمتُ بالنظر والفكر أني علمت أنني ما علمت شيئاً». وقال البعض: «أكثر الناس شكاً عند الموت أرباب الكلام»31.. واستغاث آخر بأرباب الفكر فلم يجد من يغيثه سوى رب العامة، وكما وصف حاله بقوله: «استغثت برب الفلاسفة فلم يغثني، واستغثت برب الجهمية فلم يغثني، ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني، ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني، لكني استغثت برب العامة فأغاثني»32.

ولم يكتف البعض بندامته، بل دعا في نهاية المطاف إلى دين العجائز، ومن ذلك ما نُقل عن الجويني أنه قال: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام. فلو عرفت أن الكلام يبلغ إلى ما بلغ ما اشتغلت به». وقال عند موته «لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لإبن الجويني. وها أنذا أموت على عقيدة أمي وعلى عقيدة عجائز أهل نيسابور»33. كما فعل عبد الكريم الشهرستاني ذات الشيء فدعا إلى «دين العجائز» وعدّه «من أحسن الجوائز»34.

ومنهم من عبّر عن هذه النهاية من الإفلاس والندم بأبيات من الشعر. فقد أنشد الشهرستاني قائلاً:

لعمري لقد طُفْتُ المعاهد كلهاوسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائرعلى ذقنه أو قارعاً سن نادم35

وانشد إبن أبي الحديد المعتزلي بقوله:

فيك يا اغلوطة الفكرحار فكري وانقضى عمري

سافرتْ فيك العقولفما ربحتْ إلا أذى السفرِ

فلحى الله الألى زعمواأنك المعروف بالنظر

كذبوا أن الذي زعمواخارج عن قوة البشرِ36

وأنشد أيضاً:

وحقك لو أدخلتني النار قلتللذين بها قد كنت ممن يحبه

وأفنيت عمري في علوم كثيرةوما بغيتي إلا رضاه وقربه

أما قلتم من كان فينا مجاهداسيكرم مثواه ويعذب شربه

أما رد شك إبن الخطيب وزيغهوتمويه في الدين إذا جل خطبه

وآية حب الصب أن يعذب الأسىإذا كان من يهوى عليه يصبه37

وانشد بعض آخر في ذات الإتجاه من الإفلاس:

فيا عجباً أن كل امرئطويل الجدال دقيق الكلِمْ

يموت وما حصلت نفسهسوى علمه أنه ما عَلِمْ

لكن أعظم من تجسدت في نفسه هذه المحنة هو الفخر الرازي. فهو بعد طول البحث وعمق التبحر في العلوم العقلية وتتبع حججها جنى كل تلك النتائج من الندم والشك والإعتراف بالضياع، وبرر حالة الشك في العلوم العقلية بمبررات منطقية. ومما نُقل عن ندمه قوله: «ياليتني لم أشتغل بعلم الكلام»، وبكى. وجاء في هذا الصدد أن بعث إليه إبن عربي رسالة قال فيها: «لقد أخبرني من أثق به من إخوانك وممن له فيك نية حسنة جميلة أنه رآك وقد بكيت يوماً فسألك هو ومن حضر عن بكائك، قلت مسألة اعتقدتها منذ ثلاثين سنة تبين لي في الساعة بدليل لاح لي أن الأمر على خلاف ما كان عندي فبكيت، وقلت ولعل الذي لاح أيضاً يكون مثل الأول..»38.

ونقل أنه في يوم وعظ بحضرة السلطان شهاب الدين الغوري وحصلت له حال فاستغاث قائلاً: «يا سلطان العالم لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي يبقى». ونظّم أشعاراً جاء فيها قوله:

نهاية أقدام العقول عقالوأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومناوحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرناسوىأن جمعنا فيه قيل وقال

كما أنشد يقول:

أرواحنا لسنا ندري أين مذهبهاوفي التراب توارى هذه الجثث

كون يرى وفساد جاء يتبعهالله أعلم ما في خلقه عبث39

وإذا كان الغزالي لجأ إلى التصوف كسبيل لإنقاذ نفسه من الأزمة المعرفية كما حكى ذلك في سيرته الذاتية (المنقذ من الضلال)، فإن الفخر الرازي رغم تأييده لهذا المسلك، ورغم تقديره له كما جاء في كتابه (إعتقادات فرق المسلمين والمشركين) والذي فيه عدّ فرقة الصوفية من الفرق الإسلامية بخلاف المعتاد من أصحاب الفرق والمقالات الذين سبقوه، لكنه مع ذلك لم يتحول إلى هذا المسلك كما فعل صاحب (المنقذ) من قبل، بالرغم من عمق الأزمة المعرفية التي أحلّت به.

والملفت للنظر هو أن أغلب من وقع في الشك والندم هم الأشاعرة، والكثير منهم لجأ إلى العرفان والتصوف كتعويض لما فقدوه من قطع ويقين عند ممارستهم للكلام الأشعري. ويعود سبب ذلك إلى طريقتهم المضطربة، فلا هي عقلية ولا هي بيانية، خلافاً للطريقة البيانية بإعتبارها متسقة، وكذا هو الحال مع طريقة المعتزلة ومن على شاكلتها.

مشاكل الطريقة العقلية

ظهر لدى الطريقة العقلية عدد من المشاكل؛ بعضها كان كفيلاً بأن يفضي بها للوقوع في الشلل المزمن من غير قدرة على النهوض، وأهم هذه المشاكل ما يلي:

1ـ الوقوع في خندق الآيديولوجيا (المذهبية). فقد بنت الدائرة العقلية - كما تتمثل في علم الكلام - بنياناً أصبحت فيه المذهبية، كإنتماء إجتماعي، أساس تكوين العلم لا العكس.

نعم، لقد نشأ الكلام وهو في طور الثقافة نشأة فردية غير ممذهبة، بل وفي اجواء هذه النشأة يعبّر عدد من الآراء عن إجتهادات حرة غير متأثرة بآيديولوجيا السياسة وما إليها؛ رغم أن المطارح الأولى كانت مطارح داخلية ولم تكن من ذلك الصنف المنشغل بتأسيس الخطاب من الخارج. فمثلاً عرفنا بأن أقدم رسالة وصلتنا بهذا الشأن هي الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمد بن الحنفية في القدر. فهي من جانب رسالة ثقافة لا علم متخصص. كما أنها رسالة رأي فردي لا إتجاه مذهبي، وهي أكثر من هذا لا تعبّر عن المدلول السياسي، أي أنها ليست متأثرة بالسياسة. وموضوعها يعبّر عن مسألة جزئية من القضايا المتعلقة بمبادئ التكليف. وقد تناولت الرسالة مسائل الخلاف الداخلي دون أن يكون لها علاقة بالخلاف الخارجي. على أن ما يعنينا من هذه الرسالة هو أنها تخلو من الدوافع الآيديولوجية على الصعيدين السياسي والمذهبي كإنتماء إجتماعي، على عكس ما آل إليه الأمر بعد تكوين المدارس والإتجاهات، بدلالة أن الحسن كان يخالف أباه في هذه القضية كما خالفه في مسألة الإعتزال. والمخالفة في تلك الفترة ليست من نوع ما تمّ التعبير عنه فيما بعد بأنه مخالفة للإجماع أو المذهب أو ما تسالم عليه. إذ كانت الآراء آنذاك تعبّر عن مبادرات فردية لم تتبلور بعد على هيئة مذاهب متبعة جيلاً بعد جيل، والتي غالباً ما يتعطل عندها دور التحقيق والإبداع.

لكن حيث أن الشاغل الأعظم للكلاميين الأوائل هو ليس تأسيس العقيدة الإسلامية من الخارج والرد على خصومها، بل هو تأسيسها من الداخل بالفهم والإجتهاد، لذا فقد سهّل ذلك على صياغة منظومات تعددية أفضت إلى أن تكون مذاهب كلامية متبعة بحسب الإنتماء الإجتماعي، وكذا السياسي، وليس بمحض البحث والتحقيق. الأمر الذي ولّد حالة من الإنغلاق حجبت الممارسات العقلية الكلامية عن القيام بدور إجتهادي، ولم يعترف للكلام بالطابع العلمي بعد أن انتهى إلى ممارسات جدلية ممذهبة، وأصبح العمل المعرفي مساقاً بآيديولوجيا المذهب عوض أن يساق بإبستمولوجيا الحقيقة، ومن ثم أُغلق باب البحث والتفكير وعلا مكانه باب التضليل والتكفير، رغم ما انطوت عليه تلك الممارسات من تناقضات مفضوحة.

 

2ـ رغم أن الدائرة العقلية عالجت القضايا الكلامية إعتماداً على العقل، إلا أنها لم تقم بتحليل هذا العقل والكشف عن أبعاده وما يترتب عليها من نتائج. ومن ذلك أنها لم تفرّق بين العقلين القبلي والبعدي، فكلاهما تمّ التعامل معهما بنفس النسق والإعتماد، بل غالب الأمر أنها اتخذت من العقل القبلي أداة للنظر في توليد النتائج الإخبارية الكاشفة عن الأبعاد الخارجية ومنها مداليل النص والواقع الموضوعي. وهو ما جعلها تحمل مضامين هشة وضعيفة، فأفضى بها الأمر إلى الإعتراف بالعجز والتناقض مثلما حصل مع الفخر الرازي وغيره.

وتعدّ مرحلة الفخر الرازي مرحلة حاسمة بالنسبة إلى الحركة العقلية المعيارية. فهي تمثل شكلاً من المفارقة بما تحتضنه من مظهرين متنافيين، فقد بلغت هذه المرحلة أقصى حد ممكن من التطور، وظهر أثرها لدى الصياغة الكلية لقانون علاقة العقل بالنص، لكنها مع ذلك أنهت دور العقل المعياري من الحياة الفكرية الفاعلة. فقد تمّ التخلي عن العقل والقضاء عليه بعد الإعتراف بعجزه وتناقضاته، وذلك من قبل ذات الشخص الذي سبق له أن بالغ في قيمة النتائج العقلية المحضة ورجحها على النص فيما سماه بالقانون الكلي للتأويل.

 

3ـ على الرغم من أن أتباع الدائرة العقلية يتفقون على أصالة العقل بكونه الأساس المعتمد عليه في حل المشاكل التي تعترضهم، إلا أنهم غير متفقين على قواعد هذا العقل وأصوله المعرفية المعتمدة، وكان من أبرز وأهم ما اختلفوا حوله هو قاعدة الحسن والقبح، وهي قاعدة يترتب عليها الكثير من المسائل والنتائج.

 

4ـ من وجهة نظر (علم الطريقة) تتحدد الممارسة العقلية في النظام المعياري بأصلين مولّدين للمعرفة يجمعهما رابط عام هو (الحق)، وإن اختلف الأمر بينهما تحت عنوانين أو أصلين مولّدين، هما: الحق في ذاته أو (الحق الذاتي)، والحق المشروط بالملكية أو (حق الملكية). فأغلب القضايا التي تتصف بالمنظومية والتي أنتجها علم الكلام هي قضايا متسقة مع أحد هذين الأصلين المتضادين أو مستمدة منه. لكن المسألة الجديرة في الإعتبار هي أن أصحاب الدائرة العقلية بمختلف إتجاهاتهم وإعتباراتهم لذلك (الحق) لم يعالجوا موضوعاتهم إلا على ضوء تبرير الفعل الإلهي، وبالتالي فإن شاغلهم المعرفي كان مكرساً في إطار المكلِّف لا المكلَّف، وأن دائرة (الحق) يراد بها أساساً البحث في إشكالية حق المكلِّف، مما يعني تغييب البحث المخصص بإشكالية الحق العالق بالمكلَّف. فالجهد الكلامي هو جهد (ميتافيزيقي) حجب ذاته عن التفكير في الواقع ومعالجة إشكالياته.

 

5ـ لقد أصبح العلم العقلي كما يتمثل بعلم الكلام علماً ميتاً شُلّت حركته نهائياً، ولم يعد ثمة من يجدد هذه الحركة طبقاً للموازين المعهودة سابقاً. فقد جسدت الممارسة العقلية جملة من التناقضات كان آخرها تلك التي اعترف بها الفخر الرازي. فمنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لم يكن هناك من يجدد للعقل إعتباراته ويصحح مفاهيمه ومنهجه، بل ظلت الممارسة العقلية تتحرك على نفسها باللف والدوران، وتضاءلت هذه الحركة شيئاً فشيئاً باضطراد، وأخذت المفاهيم الاجرائية التي وظفها هذا العلم بالضمور والإختفاء، كما ذهب الكثير من موضوعاته ولم يعد بالإمكان احياؤها من جديد. بل ولم يعد هناك من يحتفي بهذا العلم أو يشيد بإعتباراته مقارنة بغيره من علوم البيان ضمن دائرة النظام المعياري، أو حتى ضمن النظام الوجودي كعلم العرفان مثلاً. لكن رغم هذا وذاك فقد نجح هذا العلم فعلاً في تحقيق ما استهدفه من تكوين عقائد مذهبية مغلقة يصعب زحزحتها أو الإجتهاد فيها رغم مضامينها الضيقة والضعيفة.

 

1انظر: جمالالدينالحلي: أنوارالملكوت،انتشاراتالرضيـبيدار،الطبعةالثانية،ص10ـ11 و14. والغزالي: الإقتصادفيالإعتقاد،دارالأمانةببيروت،1388هــ1969م،ص198. وفخرالدينالرازي: الأربعين،مطبعةدائرةالمعارفالعثمانيةبحيدرآباد،ص424. وحسنچلبي: شرحالمواقف،ج1،ص208.

2الجويني: الارشاد،مكتبةالخانجيفيمصر،ص358ـ360.

3الإقتصادللغزالي،ص198.

4فخرالدينالرازي: أصول الدين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ ـ1984م،ص25.

5عبدالجبارالهمداني: المجموعفيالمحيطبالتكليف،المطبعةالكاثوليكيةببيروت،نشروتصحيحالأبجينيوسفاليسوعي،ج1،ص22.

6مقدمةالمحققعدنانمحمدزرزورلكتابمتشابهالقرآنللهمداني،ج1،حاشيةص41.

7عبد الجبار الهمداني: المغني في أبواب التوحيد والعدل،الدارالمصريةللتأليفوالترجمة،تحقيقأبيالعلاعفيفي،مراجعةابراهيممدكور،اشرافطهحسين،ج15،ص27.

8الارشاد،ص359 ـ360.

9يوسف/ 24.

10أماليالشريفالمرتضى،مكتبةآيةاللهالعظمىالمرعشيالنجفيفيقم،1403هـ،ج2،ص125ـ126.

11رسائلالشريفالمرتضى،ج1،ص121. وتنزيهالأنبياء،منشوراتالشريفالرضيفيقم،ص14 و24 و93.

12رسائلالشريفالمرتضى،ج2،ص56.

13أبوجعفرالطوسي:الإقتصاد في الإعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون، طهران،ص162. وابوجعفرالطوسي: الرسائل العشر، تقديممحمدواعظزادةالخراساني،مؤسسةالنشرالإسلاميلجماعةالمدرسينبقم، تقديم واعظ زادة الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم،ص325.

14الارشاد،ص359ـ360.

15قانونالتأويل،ضمنمجموعةرسائلالإمامالغزالي(7)،ص123 و126.

16الإقتصادللغزالي،ص198ـ199.

17فيصلالتفرقةبينالإسلاموالزندقة،ص83 ومابعدها.

18إلجامالعوامعنعلمالكلام،ص49ـ50.

19فخر الدين الرازي: أساس التقديسفيعلمالكلام،مطبعةكردستانالعلميةفيمصر،ص210ـ211.

20عن: درءتعارضالعقلوالنقل،تحقيقمحمدرشادسالم،ج1،ص12ـ14.

21المحصلللرازي،ص71. كذلك: شرحالمواقف،ج1،ص209.

22الأربعينللرازي،ص426.

23نعمةاللهالجزائري: الأنوارالنعمانية،طبعةتبريزفيايران،ج3،ص127ـ128. ويوسفالبحراني: الحدائقالناضرة،مؤسسةنشرجماعةالمدرسينفيقم،ج1،ص128ـ129.

24فخرالدينالرازي: إعتقاداتفرقالمسلمينوالمشركين،مصدرسابق،ص23ـ24. وإبنتيمية: كتابالنبوات،دارالقلمفيبيروت،ص122.

25لاحظهذهالوصيةفيكلمنكتبالرازيالتالية: إعتقاداتفرقالمسلمينوالمشركين،ص24ـ25. وأصولالدين،ص11ـ12. والمحصل،ص13ـ14.

26إبنأبيالعز: شرحالعقيدةالطحاوية،شبكةالمشكاةالإلكترونية،لمتذكرأرقامصفحاته،فقرةقوله: (فمنرامعلمماحظرعنهعلمه).

27شرحالعقيدةالطحاوية،فقرةقوله: (فيتذبذببينالكفروالإيمان).

28درءتعرضالعقلوالنقل،ج1،ص161. وإبنالقيم: الصواعقالمرسلةعلىالجهميةوالمعطلة،شبكةالمشكاةالإلكترونية(لمتذكرارقامصفحاته)،المقدمة. ومختصرالصواعقالمرسلة،ص8ـ9.

29جامعالاسرار،ص495ـ496.

30شرحالعقيدةالطحاوية،فقرةقوله: فيتذبذببينالكفروالإيمان.

31الصواعقالمرسلة،الفصلالرابعوالعشرون،ضمنفقرةالوجهالخامسوالأربعونبعدالمائة. والحسنبنمحمدالشيرازي: رسالةالأذكارالموصلةإلىحضرةنورالأنوار،ضمن: رسالتانفيالحكمةالمتعاليةوالفكرالروحي،حققهماوعلّقعليهماوقدملهماصالحعضَيْمة،باريس،1406هــ1986م،ص93ـ94.

32الصواعقالمرسلة،المقدمة.

33الصواعقالمرسلة،المقدمة. وشرحالعقيدةالطحاوية،فقرةقوله: (فيتذبذببينالكفروالإيمان).

34شرحالعقيدةالطحاوية،فقرةقوله: (فيتذبذببينالكفروالإيمان).

35الصواعقالمرسلة،المقدمة. وشرحالعقيدةالطحاوية،فقرةقوله: (فيتذبذببينالكفروالإيمان).

36شرحالعقيدةالطحاوية،فقرةقوله: (فيتذبذببينالكفروالإيمان).

37درءتعرضالعقلوالنقل،ج1،ضمنفقرة: الوجهالتاسع.

38رسالةإلىالإمامالرازي،ضمنرسائلإبنعربي. ومناقبإبنعربي،ص26.

39انظرفيمايتعلقبالفخرالرازيكلاًمن: إعتقاداتفرقالمسلمينوالمشركين،ص22ـ23. ودرءتعارضالعقلوالنقل،ج1،ص159ـ160. ومختصرالصواعقالمرسلة،ص8. ومفاتيحالغيب،ص75. والصواعقالمرسلة،المقدمة. وشرحالعقيدةالطحاوية،فقرةقوله: (فيتذبذببينالكفروالإيمان).

comments powered by Disqus