يحيى محمد
لقد اعتبر الفلاسفة الذين قالوا بأصالة الوجود أن الوجود منبسط وساري في كل شيء على نحو التشكيك. أي ان هناك اشتراكاً في الوجود الواحد بين الواجب وغيره، وان الاختلاف بينهما قائم تبعاً لهذه الصفة من التشكيك[1]، إذ تتقدم مراتبه بالكمال والنقص والشدة والضعف، مع اشتراكها في نفس الحقيقة المسماة بالوجود، كما صرح بذلك الشيخ الرئيس في كتاب (المباحثات) وغيره من الرسائل، حيث إعتبر الوجود في ذوات الماهيات لا يختلف نوعاً، وانما اختلافه بالشدة والضعف، على عكس الماهيات التي طبيعتها دالة على الاختلاف النوعي. فالإنسان مثلاً يخالف الفرس نوعاً لأجل ماهيته لا لأجل وجوده، ما دام للوجود اشتراك معنوي بين الأشياء[2].
رغم ان رأي إبن سينا في (إلهيات الشفاء) يخالف ما سلف ذكره، إذ ذهب إلى ان الوجود لا يختلف بالشدة والضعف، ولا يقبل الأقل والأنقص، بل يختلف في أحكام أخرى هي التقدم والتأخر والغنى والحاجة والوجوب والإمكان[3].
ومع ما عُرف عن المشائين وما نسب إليهم القول بتعدد أفراد الوجود وتخالفها جميعاً من الناحية النوعية، ابتداءً من مرتبة واجب الوجود وحتى أدنى مراتب الممكنات، فإن قولهم بهذا التخالف النوعي لحقائق الوجودات يمكن توجيهه مثلما فعل صدر المتألهين، وذلك وفقاً لما للوجود من النعوت الذاتية الكلية للماهية في كل مرتبة، كتخالف مراتب الأعداد نوعاً بوجه، وتوافقها نوعاً بوجه آخر، إذ يصح القول إنها متحدة الحقيقة بتشابه ما تتضمنه من اجتماع للوحدات، كما يصح نعتها بالتخالف بحسب المعاني الذاتية المنتزعة عنها في كل مرتبة بما لا يشابه غيرها من المراتب الأخرى، كما لها آثار وخواص متخالفة تترتب عليها[4]، بدلالة انهم يقرون بأن الوجود عبارة عن معنى بسيط لجميع الكائنات. لذا صرح هذا العارف بأن طريقته لا تختلف عن طريقة أهل المشاء عند التدقيق[5]، وبذلك التوجيه يصبح التفكير الفلسفي متسقاً مع نفسه.
لكن بعض المتأخرين، كما هو الحال مع النراقي، أنكر على الفلاسفة قولهم بالحقيقة الوجودية المشتركة بين المبدأ الأول والممكنات الصادرة عنه، إذ إعتبر ان أفراد الوجود متعددة بسيطة ومختلفة الحقائق نوعاً، ولا دخل للممكنات بالوجود الواجبي سوى اشتراكها معه في إنتزاع الوجود المطلق منهما[6]، رغم انه وافق على أصالة الوجود وكونه يخضع للتشكيك فيتقدم بعضه على بعض ويكون بعضه أكمل من البعض الآخر، كما يرى الإشراقيون[7]. وهو بذلك قد تجاهل ما يؤكده الفلاسفة من ضرورة وجود وحدة مشتركة نوعية بين الأصل والفرع، أو العلة ومعلولها، تبعاً لمنطق السنخية الذي ابتنى عليه القول بالسريان الوجودي.
ولو أخذنا بمقالة سريان الوجود، كما أكّد عليه الإشراقيون، وهو السريان الذي ينشأ عن المبدأ الأول ليحل في هياكل الماهيات؛ نلاحظ انهم يعتبرونه مجهول التصور[8]. وهو من هذه الناحية شبيه بعلاقة المبدأ الأول بالهيولى التي يحركها ليخرج منها صور الموجودات، كما في نظرية أرسطو، إذ تُعدّ هي أيضاً مجهولة التصور.
ولسريان الوجود المجهول على الماهيات شَبَه بالافتراض الفيزيائي القائل بوجود مادة مجهولة تملأ الكون أطلق عليها اسم (الأثير). والمقصود به هنا إما ذات المبدأ الأول كما عند الصوفية، أو الصادر عنه الذي قامت به سائر الممكنات الوجودية، كما عند الفلاسفة. فالوجود في كلا الحالين يعبّر عن حقيقة واحدة تتحد بها جميع الماهيات بفعل انبساطه عليها، وهو بالتالي ظاهر بذاته ومُظهِر للماهيات بظهوره الذاتي.
لذلك اعتبر صدر المتألهين بأن سريان الوجود على الأشياء هو سريان لا تُعرف حقيقته إلا عند العرفاء الراسخين في العلم. وقد عبّروا عنه تارة بالنفس الرحماني، وأخرى بالرحمة التي وسعت كل شيء، أو بالحق المخلوق به كما عند طائفة من العرفاء، وكذا بانبساط نور الوجود على هياكل الممكنات وقوابل الماهيات ونزوله في منازل الهويات[9]. كما يسمى أيضاً بمادة صور الممكنات، وربما كان ذلك من باب التشبيه بالمادة أو الهيولى التي ليس لها غير الإتحاد بالصور الطبيعية ليتحقق لها الفعلية والظهور[10].
ووفقاً لرأي العارف حيدر الآملي فإن حقيقة هذا الصادر المنبسط ليس لها إسم ولا رسم ولا وصف ولا نعت، باعتبارها صورة على شاكلة الحق، تبعاً لمنطق السنخية. ومع ذلك فلهذا الصادر أسماء كثيرة بحسب اعتباراته المتعددة[11].
إذاً، سواء لدى العرفاء أم الفلاسفة، فإن ما يظهر من الأنواع الوجودية انما هو بفعل انبساط هذا الوجود، ولولاه ما كان لشيء أن يظهر، رغم ان الظاهر هو هذه الأنواع التي تخفي خلفها ذلك الوجود المنبسط. الأمر الذي دعا البعض إلى ان يعتبر هذه الأنواع أوهاماً، أو انها نتاج حلم في منام طويل لا يكشف عن حقيقة هذا الوجود المتأصل.
هل الوجود المنبسط هو ذاته واجب الوجود؟
سبق أن عرفنا بأن القائلين بأصالة الوجود أقروا بانبساط الوجود وسريانه في كل شيء على نحو التشكيك. وقد أدى ذلك إلى إثارة شبهة مؤداها: لِمَ لا يكون هذا الوجود المنبسط هو نفسه واجب الوجود؟ أو لِمَ لا يكون الكمال المتقدّم للوجود قد انبسط وسرى إلى ما دونه؟ خصوصاً عند التسليم بأن جميع الأشياء والحوادث تظل حاضرة شاخصة أزلاً وأبداً بلا غياب. فكأن لهذه الحوادث نصيباً من سريان الوجود، بحيث لا يزول منها شيء، ولا ينعدم أو يتحوّل، إذ "كل شيء له من كأس الكرام نصيب"، كما في المثل.
وسبق لإبن عربي ان صرح بأنه لولا سريان الحق في الموجودات لما كان للعالم وجود. وكذا لولا الحقائق المعقولة الكلية، أي الماهيات، لما ظهر حكمها في الممكنات العينية. ومن هنا نفهم وجه افتقار وجود العالم إلى الحق.
وما يتبيّن من قول ابن عربي، كما فسّره شارحه الجُنْدي، أنه ما من موجود من موجود من الموجودات، ولا شيء من الأشياء، إلا وهو مظهر ومرآة ومحل ظهور للوجود الحق. فالحق ظاهر وسار في جميعها، غير أن ظهوره وتعينه في كل مظهر انما يكون على قدر قابلية ذلك المظهر، لا بحسب ما عليه الحق في ذاته. ولولا هذا السريان النوري في المجالي؛ لما وُجد موجود، ولا شُهد مشهود قط[12]. فالحق باطن الخلق، والخلق ظاهر الحق، ولا يمكن فرض زوال الحق عن العالم، ولا زوال العالم عن الحق، وإلا انعدم العالم بأسره ، فالحق هوية الكل، وروح العالم الذي به حياته وبقاؤه ووجوده، وفيه وبه شهوده، والعالم مع قطع النظر عن الوجود الحق فإنه عدم محض لا يمكن شهوده ‹‹فكما انه يؤخذ في حد الإنسان الصورة الظاهرة والهوية الباطنة، ولا يزول باطن الإنسان عن ظاهره في حده، فكذلك الإلوهة لا تزول عن العالم، لعدم زوال الرب عن المربوب، والإله عن المألوه، والعلة عن المعلول››[13].
إذاً، إن سريان الحق في الأعيان، كما صرح به العرفاء، أثار شبهة تفيد بأن نظرية الإشراقيين تصب في مقالة الصوفية لوحدة الوجود.
فمن الذين أثاروا هذه الشبهة الاستاذ محمد البيد آبادي الاصفهاني الذي فهم ان انبساط الوجود الواحد على كل الموجودات يفضي بواجبية الكل، مما يعني نفس الصورة التي تقولها الصوفية بالوجود المطلق الساري في كل شيء.
رغم ان هذا الحكم ليس بلازم، إذ يمكن فهم السريان بأنه عين الوجود غير المتعين بالوجوب والإمكان كما جاء في توجيه السيد الاشتياني[14]، حيث يتعين هذا الوجود بفعل الحق الساري والمنبسط على كل شيء، فلا يتصف بالحدوث ولا بالقِدم ولا بالنقص ولا بالكمال باعتباره يشمل كل ذلك، وانه هو الذي يُعرف بسمة (الحق المخلوق به)، إذ بسببه وجد العالم، ولولاه ما ظهر شيء قط، وهو ذاته الذي يسمى بالإنسان الكامل[15].
لذلك قال صدر المتألهين في تحديده لهذا النوع من الوجود: إن الوجود المنبسط المطلق ‹‹ليس عمومه على سبيل الكلية.. فإن الوجود محض التحصل والفعلية.. وهذا الوجود المنبسط لا ينضبط في وصف خاص ونعت معين؛ من القِدم والحدوث والتقدم والتأخر والكمال والنقص، بل هو بحسب ذاته بلا انضمام شيء آخر يكون متعيناً بجميع التعينات الوجودية والتحصيلات الخارجية، بل الحقائق الخارجية تنبعث من مراتبه وأنحاء تعيناته وتطوراته، وهو أصل العالم وتلك الحياة والحق المخلوق به في عرف الصوفية، وحقيقة الحقائق، ويتعدد بتعدد الموجودات فيكون مع القديم قديماً ومع الحادث حادثاً ومع المعقول معقولاً ومع المحسوس محسوساً، وبهذا الاعتبار يتوهم انه كلي وليس كذلك››[16].
فالسريان - إذاً - متمثل في معلول المبدأ الأول، أو الصادر عنه المسمى بالوجود المنبسط العام، وذلك بحسب التصور الفلسفي، مثلما سبق لإبن رشد ان أفاد ما يقارب هذا المعنى، وكذلك الغزالي قبله، حيث أشار إلى وجود روح تشترك بها جميع الموجودات، مثلما ان الواحد يشترك في جميع الأعداد[17].
مع هذا يظل الوجود واحداً وإن تعددت اعتباراته ومراتبه. فمرتبة الأول واجبة بذاتها خلافاً لما ينشأ عنها من المراتب الوجودية الأخرى التي هي واجبة بالتبع.
غير ان لفظ (الوجود المطلق) قد وقع في الاشتراك، إذ يطلق أحياناً على المبدأ الحق، وهو المقصود من تعبير الصوفية بحسب وجهة نظر صدر المتألهين، حيث يريدون به ذلك الوجود الخاص، أو الوجود بشرط لا شيء، ولا يقصدون الوجود الانبساطي، مشيراً إلى ان اطلاقهم التعبير بذلك جعلهم يتعرضون إلى تشنيعات فاسدة نتيجة الاشتباه.
كما يراد بهذا اللفظ الحق الإضافي الذي يُعبّر عنه بهذه الأسماء: الحق المخلوق به، والوجود المنبسط، والوجود الظلي، والمرتبة الجمعية، وحقيقة الحقايق، والواحدية، وحضرة أحدية الجمع، ونفس الرحمن، والهباء، والعماء، والعنقاء،.
وهذا الوجود بنظر الإشراقيين هو الذي ينبسط على هياكل الممكنات، إذ يُعد أول ما صدر عن الحق الأول، وبه يصح قول الحكماء: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد[18]. فهو يمثل تجلي الواجب على قوابل الممكنات، ويُعدّ معلولًا للحق تعالى، وأول تعيناته العقل الأول. وهو من ينطبق عليه الانبساط دون المبدأ الحق، وذلك تجنباً من تطور الذات الإلهية بالأطوار المختلفة[19].
كما قد يراد بالوجود المطلق ذلك الوجود الساري في كل شيء، والمعبر عنه بـ (لا بشرط شيء). وهو ما تُتهم به الصوفية من القول بوحدة الوجود الشخصية، حيث الاعتراف بموجود واحد، وان هويات الممكنات أمور اعتبارية محضة وخيالات لا حقيقة لها خارجاً. فالحقائق وإن كانت متعددة في الخارج، إلا أن منشأ وجودها وملاك تحققها واحد، يتمثل في حقيقة الوجود المنبسط بذاته لا بجعل جاعل، بخلاف تعددها لكونها تعينات اعتبارية. وهذا يعني ان وجودها يعدّ حقيقة، لكن تعددها أمر اعتباري[20]. وهو ما يفضي إليه القول بالوجود الواحد الانبساطي أو الساري في كل شيء. أي ان الافتراض القائل بالوجود الواحد المنبسط يؤدي إلى عدم ضرورة الحفاظ على مرتبة خاصة للمبدأ الأول.
إذاً، الفارق بين الوجود المطلق لدى الإشراقيين ولدى الصوفية، هو انه لدى الإشراقيين يكون الحق فرداً من أفراد هذا الوجود، وأن للوجودات الأخرى ذواتًا مغايرة، تختلف فيما بينها، كما تختلف عن الذات الحقّة من حيث الكمال والنقص. فالوجود واحد لكنه يتفاوت نقصاً وكمالاً. في حين إن الوجود المطلق لدى الصوفية هو عين وجود الحق الذي ينبسط على هياكل الماهيات، فليس في العين ذات سواه، وليس في الدار ديّار غيره[21].
وقد أُثير في هذا السياق اتهام آخر، ذكره بعض المحققين كتعقيب على تعليق لصدر المتألهين على (الشفاء). فقد صرح الأخير بنفي الدور الباطل في المقالة التي تفيد بأن حقيقة الوجود هي أمر واحد في الواجب والممكن، وأن حقيقته هي الواجب في الوقت ذاته، فهي سارية في الممكن من دون دور. فردّ عليه البعض بأنه يلزم من هذا الكلام ان يتقدم نفس الوجود على نفسه، وتصبح حقيقته المنبسطة البسيطة واجبة كلها، سواء في المرتبة الأولى أم في بقية المراتب الأخرى، وهي عودة إلى مقالة الصوفية المنكرة من جديد[22].
ويمكن أن يجاب على هذه الشبهة بمثل ما سبق، فواجب الوجود يحمل عموماً يشتمل على كل من الحقيقة الأصلية المتمثلة بعين الوجود الحق، والحقيقة الأخرى المتفرعة عنها، كما جاء في توجيه السيد الاشتياني[23].
كما إعتبر الفيض الكاشاني ان معنى وجود واجب الوجود هو ان وجوده مقتضى ذاته من غير احتياج إلى فاعل وقابل، في حين إن معنى تحقق الوجود بنفسه هو انه إذا حصل فهو إما بذاته كما في واجب الوجود، أو بفاعل كما في ممكن الوجود، لكن تحقق الوجود في الحالتين لا يفتقر إلى وجود آخر يقوم به، بخلاف غيره من الماهيات التي يفتقر تحققها إلى الوجود، وهو أمر لا ينافي الإمكان الذاتي للوجود الممكن. إذ معنى ذلك انه تعلقي الذات، ارتباطي الحقيقة، فوجوده واجب، لكن من جهة التعلق والارتباط بالغير، خلافاً لما هو الحال مع واجب الوجود بذاته[24].
كذلك إعتبر الكيلاني في كتاب (تحفه) انه إذا ثبت تأصل الوجود كحقيقة بسيطة منبسطة؛ فإنه يثبت كونه واجباً. وليس المقصد بالواجب إلا ذلك الذي لا يكون له علة، فيلزم القول بمقالة الصوفية. وبعبارة أخرى، ان الوجود لما كان حقيقة بسيطة منبسطة؛ فهذا يعني انه لا علة له، وهو معنى الواجب، وحيث لا يجوز تعدد الواجب ببرهان التوحيد، لذا يكون الكل واجباً لا علة له، وهو رجوع إلى مقالة الصوفية[25].
و ينبني هذا الاستدلال على الأمور التالية:
1ـ معنى الواجب هو الموجود بلا علة.
2ـ لا يمكن تعدد الواجب ببرهان التوحيد.
3ـ الوجود حقيقة منبسطة واحدة لا علة له.
إذاً، جميع الأفراد التي ينبسط عليها الوجود هي واجبة لأنه لا علة لها.
ومغالطة هذا الاستدلال هو انه جعل معنى الواجب بأنه الشيء الذي لا علة له، مع ان هناك الواجب بالغير والواجب بالذات. فالكل واجب من جهة كون المتفرع له حقيقة مستفاضة من نفس حقيقة الأصل، وهو يختلف عن مقالة الصوفية، لكون الفرع يتوقف على وجود الأصل مع بقاء الأخير في مرتبته الخاصة المتعالية. فالذي يجعل المقالة الفلسفية بعيدة عن الشبهة الصوفية انما هو بقاء المرتبة الأولى على ما هي عليه من دون سريان وانبساط بذاتها على هياكل الماهيات والأشياء.
وبالتالي فإن شبهة سريان الوجود لا تؤدي بالضرورة إلى القول بمقالة الصوفية. لكن الاعتقاد بنظرية (إتحاد العاقل بالمعقول) يفضي لا محالة إلى مضمون هذه المقالة. وكذلك الأمر مع ما ذهب إليه الفلاسفة من أن تعقّل المجرد لغيره، في عالم العقول، هو في حد ذاته تعبير آخر عن إيجاده له.
حدود واجب الوجود بين الفلاسفة والصوفية
إن لمفهوم الوجود الحقيقي معنى مشتركاً بين الوجودات جميعاً[26]. فمن هذا المعنى تُستنتج وحدة الوجود، سواء على طريقة الفلاسفة أم الصوفية. فبنظر الفلاسفة ترتبط المراتب الوجودية بعضها بالبعض الآخر في سلسلة هرمية تبدأ من واجب الوجود وتنتهي بالهيولى. فالأول هو أقوى ما يكون عليه الوجود، أما الهيولى فهي أضعف الكائنات وجوداً، في حين إن بقية الوجودات الأخرى تتوسط بين هذين الطرفين، لكن الجميع من المبدأ الأول وحتى الهيولى يشتركون في الصفة العامة للوجود الإنتزاعي، وهو عنوان لسريان الوجود على الكل في العين.
وبلا شك ان هذا المعنى يدعو إلى طرح سؤال يفصل العرفان عن الفلسفة، وهو إذا كان الوجود سارياً في كل شيء، فكيف يصح اعتبار بعض الموجودات واجباً بذاته دون البعض الآخر؟
وبعبارة ثانية، لماذا لا يكون الكل واجباً للوجود بذاته من دون تخصيصه بمرتبة معينة، مادام الجميع يشترك بالوجود الواحد الخارجي؟ وكيف نعرف ان هناك فرداً مخصوصاً لواجبية الوجود بذاته دون غيره من الأفراد؟
هنا يفترق مذهب التصوف عن الفلسفة. فالصوفية لا تحتاج إلى اقامة دليل على دعواها في إثبات الحق وتوحيده ونفي الشرك عنه طالما تحسبه عين الوجود المطلق أو الكل[27]. بينما يحتاج الفلاسفة إلى شيء من اعطاء الحجة واقامة الدليل على ذلك.
وبطبيعة الحال، لو قيل إننا نعرف واجب الوجود من نفس الوجود؛ لكان مصادرة على المطلوب، إذ جميع الأفراد يتصفون بالوجود، فكيف يصح تخصيص البعض دون البعض الآخر؟. إذاً، معرفة الوجود في حد ذاتها لا تبعث على تعيين الواجب.
يظل ان يقال ان معرفة واجب الوجود تحصل بصفة الكمال، لأن بعض المراتب أكمل من البعض الآخر. وهو ما استند إليه صدر المتألهين، حيث رأى ان للوجود حقيقة واحدة مشتركة بين الممكن والواجب، لكنها تختلف في درجات الكمال. فمراتب الوجود تتفاضل ذاتياً في هذه الصفة، إذ بعضها يفوق البعض الآخر من جهات عدة[28]. وبالتالي أمكن تخصيص الوجود بالواجبية بنفس حقيقة الوجود المقدس عن النقص والقصور، وكذا تخصيصه بمراتبه ومنازله الأخرى في التقدم والتأخر والغنى والحاجة والشدة والضعف، وذلك من حيث شؤونه الذاتية وحيثياته العينية تبعاً لحقيقته البسيطة[29].
لكن في هذه الحالة ان الكمال والنقص لا يمنع من اعتبار الكل عين حقيقة الواجب من غير حاجة إلى تخصيص فردٍ معيّن من الأفراد الوجودية، إذ تشترك جميعها في كونها واجبة الوجود دون تمييز فيما بينها من جهة التأثير والعلية. ولعلّ اعتبار الكل واجبًا يحقق صفة كمالية أتمّ من جهة الوحدة أو التوحيد، وذلك لما في هذا الاشتراك من تكثيف لحقيقة واحدة جامعة.
هكذا إن مقالة الفلاسفة، في الوجود الواحد المنبسط على الأشياء جميعاً، قد فتحت الباب أمام الشبهات التي تتهمهم بالوقوع في خندق الصوفية. وهي شبهة لا تقتضيها تلك المقالة بالضرورة، لكن مع هذا لا يمكن دفعها أو تفنيدها ما لم يعودوا إلى مفهومهم الثنائي في العلية والتأثير، وذلك خارج نطاق مصادرة الوجود الواحد المشترك البسيط.
وعليه لا يمكن نفي مقالة الصوفية، كما لا يمكن إثباتها ﴿ولكلٍّ وجهة هو موليها﴾[30].
[1] حاشية الطوسي للمحصل، ص96.
[2] شرح رسالة المشاعر، ص152-153 531. كما انظر بعض رسائل إبن سينا في: أرسطو عند العرب لبدوي، ص2412.
[3] إلهيات الشفاء، ص276. كذلك الأسفار، ج2، ص188-189.
[4] شرح رسالة المشاعر، ص152-153.
[5] صدر المتألهين: الشواهد الربوبية، ص7. والمبدأ والمعاد، ص194.
[6] قرة العيون، ص236-237.
[7] قرة العيون، ص207.
[8] المظاهر الإلهية، ص15.
[9] صدر المتألهين: المشاعر، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1420هـ - 2000م، ص59.
[10] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج2، ص12-13.
[11] فقد أطلق عليه العقل الأول لأنه يتعقل ذاته وذات منشئه وما عداه. وأطلق عليه التعين الأول لأنه أول موجود تعينت به الذات المطلقة. وكذا أطلق عليه الحضرة الواحدية لأنه محل تفاصيل الأسماء في الحضرة الأحدية وتعيين أعيانها. وكذا روح القدس لأنه سبب الحياة السارية في جميع الموجودات من الملك والملكوت. والامام المبين لأنه المتقدم على الكل والجامع لجميع الكمالات قوة وفعلاً. والمسجد الأقصى لأنه أقصى غاية التوجه إلى الله ونهاية مراتب الأنبياء والأولياء والكمّل والاقطاب. والروح الأعظم لأنه أعظم الأرواح القدسية والنفوس الكاملة الملكوتية. والنور لأنه ظاهر بذاته ومظهر لغيره. وحقيقة الحقائق لأن الحقائق كلها ترجع إليه ابتداء وانتهاء. والهيولى لأنه قابل لجميع الصور والاشكال والفعل والانفعال والالوان في الاعراض الصورية والمعنوية. والحضرة الإلهية لأنه منشأ أحكام الإلوهية ومبدأ اثار الربوبية. والمادة الأولى لأنه مادة كل شيء. والهباء لأنه مادة الموجودات الممكنات. والإنسان الكبير لأنه الإنسان الحقيقي القائم به الوجود المسمى بكثرة الذر. وجبريل لأنه واسطة بين الله والخلق. والجوهر لأنه من الجواهر العالية في بقائه بذاته وقيام الغير به. والعرش لأنه إسم الرحمن الذي هو أول إسم بعد إسم الله. وخليفة الله لأنه الخليفة الأعظم في الوجود كله. والمعلم الأول لأن من حضرته ظهرت العلوم والحقائق والكمالات والاستعدادات. والقلم الأعلى لأن به تنتقش العلوم والحقائق على ألواح الأرواح وسطوح النفوس كلها، أو لأن شأنه ـ كما يقول صدر المتألهين ـ تصوير الحقائق في ألواح النفوس وصحائف القلوب، وبه يستكمل النفوس بالصور العلمية، ويخرج ذاتها من القوة إلى الفعل، كما بالأقلام ينتقش الألواح والصحايف ويتصور مادتها بصور الأرقام ونقوش الكتابة. كما أطلق عليه البرزخ الجامع لأنه الفاصل بين الظاهر والباطن، والخالق والمخلوق. والمفيض لأن من حضرته ينزل الفيض على جميع الموجودات مفصلاً. ومرآة الحق لأن الحق لا يشاهد ذاته على ما هي عليه الا فيه. ومركز الدائرة لأنه كالنقطة بين دائرة الوجود المنتهية إليه خطوط الموجودات كلها. والنقطة لأنه أول نقطة تعين به الوجود المطلق وسمي بالوجود المضاف (انظر: نقد النقود، مصدر سابق، ص690-695. وأسرار الآيات، ص46-47).
[12] شرح فصوص الحكم، ص190-191.
[13] شرح الفصوص، ص283.
[14] لاحظ: تحفه، ص161، وحاشيتها.
[15] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج2، ص121.
[16] ايقاظ النائمين، ص6.
[17] الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية، ضمن رسائل الامام الغزالي (4)، مصدر سابق، ص120.
[18] ايقاظ النائمين، ص7و9. كذلك: النظرة الدقيقة، ص3-4.
[19] تحفه، ص133-134.
[20] قرة العيون، ص122-123.
[21] تفسير صدر المتألهين، ج4، ص348-349.
[22] تحفه، ص163-164.
[23] لاحظ حاشية تحفه، ص164.
[24] الفيض الكاشاني: أصول المعارف، نشر دانشكده الهيات، مشهد، ص8.
[25] تحفه، ص161.
[26] الأسفار، ج6، ص61.
[27] الدرة الفاخرة، ص11-12.
[28] الأسفار، ج2، ص62.
[29] شرح رسالة المشاعر، ص148-149.
[30] البقرة/ 148.