-
ع
+

نظريات وحدة الوجود بين الفلسفة والعرفان

يحيى محمد

كثيرة هي المذاهب عبر التاريخ التي ذهبت الى وحدة الوجود والقول ان اي شيء فيه كل شيء. فمن ذلك ما يحدثنا البيروني عن مذهب البراهمة في وحدة الوجود، حيث يقول: (انهم يذهبون في الموجود الى انه شيء واحد.. فان باسديو يقول في الكتاب المعروف (بكيتا): أما عند التحقيق فجميع الاشياء الهية). وجاء في هذا الكتاب ايضاً: (ان ما سوى الواحد الحق خيال باطل.. ان من عرف عند موته ان الله هو كل شيء، ومنه كل شيء، فانه متخلص).

وان الرواقية كانت تقول بأن الله موجود في كل شيء. هذا فضلاً عما هو معروف لدى مشاهير الفلاسفة الاغريق.

ومن الناحية المنطقية فان القول بوحدة الوجود هو مما لا مفر عنه مع التسليم بوجود المشاكلة والسنخية بين الاصل والفرع. فلا يجوز ان تكون هناك حقيقتان في العين، اذ المعلول ليس الا على وفاق العلة وشبيهها، فهو لمعة من نورها، وشأن من شؤونها وطور من اطوارها. إضافة الى ان اصالة الوجود هي الاخرى تفضي الى القول بوحدة الوجود، وذلك لكون الوجود العام الانتزاعي يصبح عنواناً للوجودات الخارجية، وهو ذو معنى مشترك يحكي ما عليه الاشتراك في الحقيقة العينية. فمثل هذه الاعتبارات تخلع على الفلسفة لباس الالتزام بوحدة الوجود، شأنها  في ذلك شأن العرفان. وقد سبق لفيلسوف المنطق الفرنسي لاشلييه (المتوفى سنة 1918م) ان صرح بأن (الفلسفة في جوهرها تنزع الى وحدة الوجود).

على ان لوحدة الوجود عدداً من الاعتبارات، فهي وإن كان يمكن تقسيمها الى الوحدة النوعية للفلاسفة والوحدة الشخصية للعرفاء، الا ان توجيهات الوحدة الشخصية لها عدد من الاعتبارات والفهم، ويمكن ابراز عدد من هذه التوجهات والافهام كالاتي:


أـ وحدة الوجود النوعية

وهي التي تعترف بوجود الكثرة في الموجود، حيث هناك واجب للوجود وممكن مرتبط به ارتباط المعلول بعلته. والعلاقة في هذه الوحدة هي تلك المعبر عنها بالشبه والمشاكلة بين العلة ومعلولها، حيث كلاهما يشتركان بحقيقة وجودية واحدة بسيطة تبعاً لمنطق السنخية. فمع ان هناك كثرة صادرة عن الواحد الحق، الا ان طبيعة هذه الكثرة لا تخرج عن حقيقة الوحدة، وان هناك مشاكلات تراتبية بين هذه الكثرة يجعلها جميعاً تنضم ضمن اطار الوحدة. واذا كان من المعروف ان تبرير وجود الكثرة عن الواحد جاء بحسب اعتبارات قاعدة الفيض والصدور التي لا تجيز صدور الكثير عن الواحد مباشرة، فان بعض المتأخرين بررها عن طريق السلوب العارضة لدرجات الوجود، فاي سلب من السلوب يعطي وجوداً خاصاً، وان المراتب العليا سلوبها قليل مقارنة مع المراتب السفلى، فكلما تنزل الوجود كلما ازداد سلوباً وبالتالي كثرة وجودية، فلولا هذه السلوب لم تكن هناك كثرة.

اذن ان هذه الطريقة ترى ان حقيقة الوجود بما هي حقيقة واحدة لا كثرة فيها. اذ تأتي الكثرة، كما تشاهد في الانواع والاجناس والاشخاص والخواص، من تلك السلوب التي تلحق درجات الحقيقة الوجودية. فمثل ذلك كمثل العدد، حيث كل عدد ينقص عنه واحد او اكثر فانه يكون اكثر سلباً، فمع انه لا توجد حقيقة غير العدد، لكن للعدد درجات متفاوتة بالكمال او السلوب، فحقائق الاعداد تعبر عن الكثرة، وهي مع كثرتها تشترك في حقيقة واحدة هي العددية، وان التفاوت بينها تفاوت من حيث السلوب والكمال، وان اختلاف كل عدد عن غيره يعود الى سلب من درجات العدد لا غير، وكذا الحقيقة الوجودية مقارنة مع الكثرة التي فيها.

ولا شك ان الوجود في تفاوته من حيث الكمال والنقص، وكذا الشدة والضعف، يقتضي ان يكون الاصل فيه حاملاً لجميع الكثرات على الوجه الالطف، فهو بهذا عبارة عن كثرة في وحدة. كما يقتضي ذلك ان تكون هناك وحدة نوعية في المراتب المتعددة؛ لان منبعها اصل واحد يضفي عليها صفته وحقيقته، لذا فهي عبارة عن وحدة في كثرة، وان كانت من جهة اخرى تعتبر كثرة في وحدة. فالقول بوحدة الوجود لا ينفي وجود الكثرة، وسواء لدى الفلاسفة او العرفاء فان الكثرة مرتبطة بالوحدة، وان احدهما يمكن ان يكون عين الاخر. حيث ان الوجود الواحد لا يتنافى مع افراده المختلفة. وهذا المعنى قد يؤخذ باعتبارات الوحدة النوعية للوجود كالذي سبق بحثه، وقد يؤخذ باعتبارات الوحدة الشخصية. ومن حيث الاعتبارات الفلسفية، فان الكثرة في الوحدة تتحدد بخصوص اندكاك كل الكمالات المختلفة في وحدة الذات الالهية وانجماعها بها؛ طبقاً لقاعدة (بسيط الحقيقة كل الاشياء). أما الوحدة في الكثرة فتتحدد بسريان الوجود الواحد في هياكل الاشياء الكثيرة، فهي بهذا تفيد فعل المبدأ الحق، كما ان الكثرة في الوحدة تفيد ذات الحق لا فعله، وذلك من حيث جمعه لكمالات الكل. من هنا تُعد الكثرة في الوحدة بهذا المعنى متقدمة على الوحدة في الكثرة؛ تقدم الذات على فعلها، والحقيقة على سريان نورها. لكن يظل ان نشأة التكثر في التصور الفلسفي يبررها فعل الحق المعبر عنه بالوجود الصادر او العقل الاول المنبسط على كل الممكنات الوجودية، حيث انه يعطي لكل منها حقها من الوجود والحياة.

مهما يكن فالملاحظ ان هذه الوحدة للوجود تنطوي على مقالة الجسمية كالذي صرح به صدر المتألهين. ومنه يصح نعت المبدأ الحق بأنه ماهية لا كالماهيات، او ذات لا كالذوات. فمن المعترف به ان ذات الحق تمثل جميع الماهيات او الاعيان الثابتة، فلا غرو ان يكون هو الآخر ماهية عبارة عن عين كل تلك الماهيات المنطوية في ذاته.


ب ـ وحدة الوجود الشخصية

يمكن لحاظ هذه الوحدة باعتبارات مختلفة تفضي الى عدد من التصورات ليس بالضرورة ان يكون بينها شيء من التضاد والتنافي. اي ان من الممكن ان يجتمع تصوران فاكثر في مصداقية واحدة وإن اختلف اعتبار كل تصور عن الاخر، وذلك كالاتي:


 1ـ وحدة الذات والعالم الموهوم

يفترض هذا التصور انه لا وجود في الخارج غير الواحد الاحد، وان كل ما نطلق عليه العالم متوهم لا حقيقة له. ذلك انه يلحق اللبس بين الوحدة والكثرة الى الادراك البشري، بمعنى ان الحقيقة الموضوعية وان كانت وحدة حقيقية لا تمايز فيها، الا انها تظهر للادراك البشري بهيئة عالم موهوم متكثر. وبحسب ما يذكره ابن دهقان فان العرفاء يقولون في وحدة الوجود على شاكلة ما يقوله الحكماء في الالوان، حيث ان وجودها مشروط بالضوء، فاذا عُدم الضوء لم يكن للالوان وجود، وكذا حال وحدة الوجود عند العرفاء، حيث ان الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك العقلي، وان الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري، ولولا هذا المدرك لما كان هناك تفصيل واختلاف، بل لظهر الوجود البسيط الواحد. ويؤيد هذا الامر ما يراه ابن عربي من ان الحياة الدنيا محض منام، وانها جعلت عبرة او جسراً يعبر منها الانسان كما يتم العبور من الرؤيا التي يراها النائم الى ما تعنيه في عالم اليقظة كالذي تنص عليه الاية: ((يا ايها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعْبُرون))، وهو يستشهد على ذلك بالحديث النبوي: (الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا). وان تفسيره لخلق السماوات والارض جاء على نحو احتجاب الحق في الخلق، اي اننا في هذه الدنيا قد خفي عنا الحق باحتجابه في الخلق، الامر الذي يتسق مع اعتقاده بان ادراكاتنا لا تسعفنا في مشاهدة الحق على ما هو عليه، وهو المقصود من كوننا نياماً لا نرى الحقائق كما هي. وقد صوّر لنا ذلك بمثل ما يحدث في ادراك الشعلة الجوالة، حيث تحدث في عين الرائي دائرة، ومع ان ما يبصره الرائي هو هذه الدائرة النارية، الا انه لا يشك في كونها غير موجودة، فهناك ادراك دائرة مع انها ليست بدائرة حقيقة، وذلك عين الصورة المخلوقة الظاهرة لادراك العين، فيُحكم عليها بانها خلق، وبالعلم والكشف يظهر انها حق مخلوق به، اما ما يظهر للعين فهو عدم في عين وجود.

وقد يقال ان هذا التصور يقترب عن تصور (عمانوئيل كانت) في تمييزه بين ما هو لذاتنا وما هو في ذاته، حيث توجد فجوة بين معرفة الحقيقة كما الشيء في ذاته وبين معرفتنا النسبية كما هي لذاتنا.

وواقع الامر ان هناك بعض الفوارق بين هذا التصور وبين ما استهدفه العرفاء، ذلك ان هؤلاء يقرون امكانية معرفة الحقيقة الموضوعية كما هي بخلاف الفيلسوف الالماني المشار اليه. فالحقيقة التي تنجلي خلف هذا الظاهر المرئي هي وان كانت خافية على اغلب الناس، لكنها ليست خافية على الانبياء والاولياء والعرفاء الذين يسعهم شهود الحق من حيث الباطن بخلاف عامة الناس، كما يسعهم شهود فناء الخلق والبعث والنشور والحساب والميزان وعرش الله وغير ذلك، مثلما يسع الجميع شهود كل ذلك عند الموت. بينما الامر مع الشيء في ذاته يظل مستعصياً عن المعرفة مطلقاً.

نعم، لدى بعض العرفاء ان مشاهدة الحق في ذاته ممتنعة، اذ تكون المشاهدة - دائماً - في مادة عينية، كالذي ذهب اليه ابن عربي في (فصوص الحكم) واستشهد عليه بمضمون الاية الكريمة: ((ان الله غني عن العالمين))، وإن كان في (الفتوحات المكية) ابدى خلاف هذا الامر، حيث صرح بان العرفاء لا يشهدون في الكون الا الله، وهم لا يعرفون ما العالم لانهم لا يشهدونه عالماً. فهم يشهدون الحق عيناً ويشهدون العالم ايماناً، وذلك لكون الحق اخبرهم بان هناك عالماً فامنوا به وإن لم يروه، مثلما ان الناس يؤمنون بالله ولا يرونه.


 2ـ وحدة الذات والكثرة المتطورة

ذلك ان الوجود يعبر عن المقابلة بين الوحدة والكثرة، بحيث تكون الكثرة متقومة بالوحدة وناشئة بفعل اطوارها. فالكثرة تتضمن الوحدة من دون عكس. ومن ابرز الامثلة المقربة لهذا المعنى تصور العدد، فمن حيث انه مؤلف من وحدات له حقيقة واحدة لا تختلف بين افراد العدد، ومن حيث ان كل عدد له ذاتية خاصة فانه يلزم عنه ان تكون الافراد متكثرة ومختلفة. فكما ان العدد من غير واحد هو عدم، فكذا ان العالم من غير الحضور الالهي لا وجود له، فحضوره في العالم هو كحضور الواحد في العدد، مع ان الواحد ليس من العدد وانما اساسه، وكذا فيما يخص المبدأ الحق والعالم، فمن حيث كونه ماهية لا وجود له، بل وجوده متوقف على الحضور الالهي، وبالتالي فانه لا وجود للعالم من غير هذا الحضور، مثلما لا وجود للعدد من غير الواحد. ومن التشبيهات الاخرى التي تتفق مع هذا المعنى؛ التشبيه بالبحر وامواجه، والمداد وحروفه، وغير ذلك.

وخاصية هذا الشكل من وحدة الوجود هو ان الكثرة فيه هي كثرة متطورة عن الوحدة. ويبدو انها متحررة عن فكرة الاعيان الثابتة او الماهيات. لكن تظل المسألة تفيد التقريب دون ان تلغي ما عليه الاعيان ككثرة منجمعة في عين الوحدة الالهية، كما يصورها العرفاء عادة، مثلما قد نتصور ان الواحد يتضمن كل الاعداد وان لم يظهر ذلك عليه.


 3ـ وحدة السريان الذاتي

وهي التي تعد وجود الكثرة ليس ناشئاً بفعل اطوار الوحدة كما في التصور السابق لوحدة الوجود، وانما ناشئ بفعل السريان الحاصل من الوحدة على الاعيان الثابتة. وتعد هذه الاخيرة بحسب ذاتها من العدم ما شمت رائحة الوجود، لكنها من حيث الوجود تكون هي هو. اذن بحسب هذا التصور هناك تعين للمبدأ الحق، ومع وجود هذا التعين المنفرد في ذاته فان له تعينات اخرى يجامع فيها الاعيان والماهيات. والعلاقة بينهما هي كعلاقة النفس بالجسد، حيث ان لها تعينها الخاص الذي فيه تكون متجردة عن البدن، كما ان لها تعينها الذي فيه تسري في البدن والحواس الظاهرة والباطنة وتلابسها. وقد ذُكر ان هذا السريان في هياكل الممكنات هو سريان مجهول الكنه، وهو ليس بالحلول، انما ادراكه موقوف على المكاشفة والمشاهدة ولا يمكن فهمه بطريق الاستدلال والنظر. وقد مثّل بعضهم على هذه العلاقة ببعض التشبيهات، من قبيل ان جبريل وميكائيل وعزرائيل يظهرون في الان الواحد في مائة الف مكان بصور شتى كلها قائمة بهم، فمن حيث العين والحقيقة للشيء هو وجود واحد، ومن حيث التعين الصوري يظهر كثيراً. وهذا يعني ان الكل واحد، فليس غير الذات وسريانها، ومنه تظهر الموجودات المتكثرة. لكن مع هذا يمكن تصور علاقة سريان الحق في الاعيان على نحوين كالتالي:

الاول: وهو يعبر عن سريان المبدأ الحق في الاعيان فيظهر وجودها وتمايزها وكثرتها، ولولا الحق ما ظهر شيء لها، لكنها مع ذلك متمايزة، ويظهر هذا التمايز بفعل سريان الحق.

الثاني: وهو يعبر عن سريان المبدأ الحق في الاعيان فتنفعل به دون ان تظهر، بل الذي يظهر هو ذاته لا غير، وإن كان باشكال شتى بفعل هذا السريان.


 4ـ وحدة عدم التعين الذاتي

وهي التي تعد ذات واجب الوجود غير متعينة في حد ذاتها، انما تظهر وتتعين في كل موجود بحسبه، فالكل هو واجب الوجود من غير حصر ولا تقييد ولا تعيين خاص. فهي كالكلي الطبيعي، لا يوجد الا بوجود افراده فحسب. والعرفاء يعبرون عن ذلك بالوجود الذي هو لا بشرط تعين الماهية وعدمه. حيث هناك وجود واجب مطلق بسيط، وان الكثرة فيه هي من مراتب هذا الوجود البسيط، وان الماهيات المختلفة تنتزع عنه، وان كل فرد من افراد هذا الوجود المنبسط يعد فرداً واجباً، بلا تمايز بينه وبين غيره من جهة الوجوب، وانه لا توجد للواجب مرتبة خاصة لا تجامع بها بقية المراتب الاخرى، حيث الكل واحد، وان حقيقته تقتضي الاطلاق من غير حصر. وقد نُقل عن بعض العرفاء قوله: ما رأينا شيئاً الا ورأينا الله بعده، ولما ترقينا ما رأينا شيئاً الا ورأينا الله معه، ولما ترقينا عن ذلك ما رأينا شيئاً الا ورأينا الله قبله، ولما ترقينا عن ذلك ما رأينا شيئاً الا الله.


 5ـ وحدة الذات وصفاتها

كثيراً ما يعبر عن الكثرة الوجودية بانها عبارة عن صفات الله واسمائه، والتي بعضها يتداخل مع البعض الاخر، حيث تندك جميع الاسماء في باطن كل منها مع غلبة بعضها في الظهور على البعض الاخر، وكما يقول العارف ابو القاسم بن قسي بان كل اسم الهي يتسمى بجميع الاسماء الالهية وينعت بها، ويشير ابن عربي الى سبب ذلك هو لأن كل اسم يدل على الذات الالهية وعلى المعنى الذي سيق اليه، فمن حيث دلالته على الذات له جميع الاسماء، ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به فانه يتميز عن غيره من الاسماء، كالرب والخالق والمصور وغير ذلك، فالاسم اذن عين المسمى من حيث الذات وغير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى. فالاسماء الالهية هي عين المسمى من حيث الوجود واحدية الذات، وإن كانت غيراً باعتبار كثرتها، وليس المسمى الا عين هوية الحق السارية في الموجودات كلها. واستناداً الى هذه الاسماء التي يتضمن بعضها البعض الاخر لتعبر عن وحدة الذات والعين، فان كل جزء من العالم فيه مجموع العالم، او هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله، فاي شيء يشتمل على كل شيء. فلدى العرفاء انه ليس في الوجود غير الله وصفاته، واحياناً يضاف الى ذلك فعله، باعتبار السريان والعروض على الماهيات.


 6ـ وحدة الذات وصورها

ذكر بعض المتأخرين ان وحدة الوجود يمكن تصورها على النحو التالي:

لما كان الفاعل الاول تام القدرة والفاعلية والعلم، فانه كلما تصور شيئاً وتعلقت به ارادته فانه يصير منقوشاً في لوح الخارج وصفحة نفس الامر، وحيث ان النظام الكلي والترتيب الجملي للموجودات من الازل الى الا بد متصوراً ومعلوماً له تماماً منذ الازل، وان تعلق ارادته بتفاصيل هذا النظام وجزئياته يكون بحسب الاوقات المخصوصة، فان ذلك يرتسم على وفق ارادته في الخارج. لكن النظر الادق يقتضي ان نسبة ظرف الخارج ونفس الامر الى واجب الوجود هي كنسبة ظرف الذهن الينا، ونسبة ايجاد حقائق الاشياء واعيان الموجودات في الخارج الى الله، كنسبة تصور المفهومات المخترعة في الذهن الينا، وفي الحقيقة ان ظرف الخارج بمنزلة ظرف الذهن للمبدأ الحق، ويؤيد ذلك قول بعض العرفاء: (ان الوجود الواجبي عين جميع الموجودات). اي ان حقائق الموجودات الخارجية هي الصور العلمية للذات الالهية، فهي بالتالي ليست خارجة عنها. او يمكن القول ان العالم عبارة عن فكرة في عقل الله كما يقول اينشتاين.

***

الملاحظ مما سبق ان الاشكال التي ذكرناها عن وحدة الوجود الشخصية هي اشكال غير متنافية، ومن الممكن ان يجتمع بعضها مع البعض الاخر باعتبارات مختلفة. كما ان الجامع الذي يجمعها مع وحدة الوجود النوعية هو جامع الوجود المنبسط او السريان. وحقيقة الامر انه سواء لدى الطريقة الفلسفية او الطريقة العرفانية فان هناك علاقة ثنائية في عين الوحدة، وان هذه العلاقة تتكشف بفعل مقولة السريان. وتعبر هذه المقولة عن وجود الرابط بين المبدأ الحق وبين الاخر، وان هذا الاخر هو بحسب الطريقة الفلسفية عبارة عن المعلول مقارنة بعلته، وانه بحسب الطريقة العرفانية عبارة عن الاعيان الثابتة. فمثلما ان مراتب السريان المتنزلة عن المبدأ الحق يمكن تبريرها بحسب ما هي عليه من الصور المحددة الثابتة وفقاً للعلاقة العلية وتنزلات الوجود وتباين مراتبه بحسب التشكيك، فكذا انه يمكن تبرير الامر من حيث سريان الوجود الواحد على الماهيات وطبائعها المختلفة.

فالمراتب المتعينة عن السريان تارة تفسر فلسفياً بحسب ما عليه تنزلات الوجود وكثرته، واخرى تفسر عرفانياً بحسب الماهيات وطبائعها المختلفة. فالتكثر بحسب الطريقة الفلسفية هو تكثر في الوجود المنبسط الواحد، اما بحسب الطريقة العرفانية فانه في الماهيات والاعيان الثابتة. لكن هناك ثلاثة تصورات لهذه العلاقة الاخيرة، الامر الذي يجعل فهم السريان قائماً على اربعة تصورات، احدها هو التصور الفلسفي، وما تبقى يرتبط بالتصور العرفاني. اذن ان تحديد وحدة الوجود يتخذ تصويراً رباعي الابعاد، وتوضيح ذلك كالتالي:

لو فرضنا ان الوجود هو النور فان سريان النور تارة يُمثَّل به وفقاً للطريقة الفلسفية واخرى وفقاً للطريقة العرفانية. ومن اقرب الامثلة على الاولى مثال الشمس وكيفية تنزلات نورها وضعفه درجة فأخرى، ابتداءً منها ومروره كشعاع الى القمر، ثم الى مرآة على الارض، وبعد ذلك انعكاسه على عارض مقابل كالجدار، حيث هذه التنزلات هي كمراتب تنزلات الوجود بحسب القوة والضعف وفقاً لمنطق السنخية. فرغم ان النور واحد الا ان مراتبه من الضعف والشدة مختلفة، وبالتالي فان حقيقة النور هي مما يعرض لها بحسب ذاتها التفاوت بالشدة والضعف، والتعدد والكثرة وذلك بحسب الهيئات والتشخصات، وكذا الاختلاف بالواجبية والممكنية، والجوهرية والعرضية، والغنى والفقر.

أما بحسب الطريقة العرفانية، فان حقيقة النور في مثالنا السابق لا يعرض لها في حد ذاتها تلك الاحكام المذكورة، وانما يعرض لها ذلك بحسب تجلياتها وتعيناتها واعتباراتها وشؤونها. فالحقيقة واحدة، والتعدد يعرض بحسب اختلاف المظاهر والمرائي والقوابل او الماهيات، وكما يقول ابن عربي: (فكل ما ندركه فهو وجود الحق في اعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور هو اعيان الممكنات).

لكن العرفاء يمثلون على هذه الحالة بانحاء مختلفة، وكل منها له اهمية خاصة في التوظيف العرفاني. فهم من جانب يمثلون على ذلك بنور الشمس الملقى على زجاجات مختلفة الالوان، ذلك حيث انها من غير نور لا يظهر لها لون ابداً، لكن تتكشف الوانها وتبرق حين سريان النور. فمع ان النور واحد، لكن الالوان التي تظهر فيها مختلفة. مما يعني ان طبائع الزجاجات تختلف بحسب ما هي عليه من قابليات، وليس بحسب ما عليه نفس النور المتحد في لونه وقوة سريانه في الجميع. وكذا يقال فيما يبدو من مراتب الوجود، حيث ان تعدده واختلافه واشكاله لا يعود الى ما هو عليه في ذاته، وانما الى ما عليه الاعيان والماهيات من تعدد واختلاف. فالمبدأ الحق بحسب المثال السابق ظاهر وفياض بذاته كالنور، ومظهر لغيره بالعرض، ولولا ظهوره ما ظهر شيء من الاشياء قط، اذ الاشياء من حيث ذاتها ((كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً)).

ويمثل العرفاء - من جانب اخر - على علاقة السريان بين المبدأ الحق والاعيان الثابتة بمثال النار والفحم، كالذي صوره لنا حيدر الآملي ومن قبله العارف القيصري. فالفحم بما هو فحم لا نور ولا نار فيه، لكنه ينقلب بالتدريج الى جمرة من النار عندما يوضع فيها، وبهذا فانه يكون حاملاً لصفاتها. وكذا فان الحق عندما يفيض بنوره على الخلائق او الممكنات فانها تصبح مشرقة ظاهرة بنوره، وذلك لحملها لصفاته، بحيث يعبر عنها بهذا الاعتبار بانها (هي هو).

والملاحظ ان المثالين السابقين يعطيان دلالتين مختلفتين للتصور العرفاني. فالمثال الاخير يبدي ان ما يظهر على الماهية هو عين الحق، او ان الحق هو الذي ظهر على الماهية فاورثها صفاته وكحّلها بنوره، فكان الحق هو الظاهر كالذي جاء في قول العرفاء (كان الله ولم يكن معه شيء، والان كما كان). أما المثال الاول فيبدي ان ما يظهر انما يعبر عن صفات الماهية من حيث ذاتها، وان ظهرت بنور الوجود. وبحسب هذا المثال ان ظهور الخلائق ليس فيه ما يحمل صفات الحق، فالحق مخفي بوجودها، وهي ظاهرة بفعل الحق. وبذلك فانها من حيث الباطن تعد حقاً، ومن حيث الظاهر فهي خلق.

ولا شك ان العرفاء يعولون في علاقة الحق بالخلق تارة بحسب المعنى الاول، وتارة اخرى بحسب المعنى الثاني. وهناك وجه شبه بين المعنى الاول والمعنى الذي يريده الفلاسفة، كما هو الحال مع تنزلات النور من الشدة الى الضعف مع بقاء احتفاظ المراتب بعين ذات النور وحقيقته من غير اختلاف. لذلك كان السهروردي يرى النور اشرف الموجودات، وان اشرف الاجسام انورها، وان النور الاقوى هو اكثر قهراً وتأثيراً من غيره الاضعف، فتظهر صفات الاشياء بتأثير قهر ذلك النور الاعظم. فهو تعبير يؤكد ظاهرة التأثير بتجلي الحق على غيره، فلا يظهر سوى الحق، كالذي يفيده مثال الفحم والنار. ومنه يفسر ما يقوله البعض بانه الحق، وما وقع به النصارى من وهم عندما تخيلوا ان المسيح هو ذات الحق، مع ان ما يظهر في قلب العارف، كما يرى الغزالي، هو اشراق نور الله الذي تلألأ في ذاته، كالذي يرى كوكباً في مرآة او في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة او في الماء، فيمدّ يده اليه ليأخذه وما هو ببالغه.

لكن هناك نحواً ثالثاً من التمثيل يعد اقرب الانحاء واشملها، وهو التقريب بظهور الصورة الواحدة في المرايا المتعددة المختلفة، فرغم انها واحدة في العين الا انها تظهر باشكال مختلفة، كما يبدو عليها التقدم والتأخر، وكأن هناك اشياءً متشابهة يتقدم بعضها على البعض الاخر.

 وبحسب هذا المعنى فان الصورة من حيث الاختلاف والتعدد يُعبّر عنها بالخلق، لكنها باعتبار التشابه وعودتها الى حقيقة واحدة فانه يُعبّر عنها بالحق، فهي حق في خلق. ففي مذهب ابن عربي ان الحق هو الوجود وليس الخلق الا الوهم والخيال، فما من خلق نراه الا عينه حق.

كذلك يمكن القول بحسب هذا المعنى، انه من حيث النظر الى الصورة بنحو الاختلاف فانها تعبر عن المعنى السابق الاول، ومن حيث النظر اليها بنحو التشابه فانها تعبر عن المعنى الثاني، فهي بالتالي جامعة بين المعنيين السابقين باعتبارين مختلفين. والوجود في مراتبه العلوية يظهر بحسب المعنى الثاني، لكنه في مراتبه الضعيفة يظهر بحسب المعنى الاول. لذلك كان الشكل الثالث جامعاً بين المعنيين السابقين، وانه حامل للاعتبارات المتضادة، وبه يمكن حل العديد من الاشكالات، كما انه قابل للتوظيف حسب الحاجة والطلب؛ إما على نحو المعنى الاول او الثاني.

اذن لاجل التمييز بين المعاني الاربعة، التي تختزل الرؤية الوجودية في التعبير عن العلاقة بين الحق والخلق، نطلق على المعنى الفلسفي منها (المعنى الفلسفي لوحدة الوجود)، وعلى المعنى العرفاني الاول (المعنى العرفاني الخلقي)، كما نطلق على المعنى العرفاني الثاني (المعنى العرفاني الحقي)، واخيراً نطلق على المعنى العرفاني الاخير (المعنى العرفاني الجامع).

وقديماً كان يُظن ان الخلاف الحاصل في تفسير تعدد مراتب الوجودات واختلافها، انما ينحصر بين التصورين الفلسفي الاشراقي والعرفاني، حيث يعول احدهما على تفسير ذلك تبعاً لما عليه ذات الوجود الواحد في شدته وضعفه، بينما يعول الثاني على ما عليه الماهيات التي يعرض عليها الوجود. ومع هذا فان صدر المتألهين لم يستبعد ان يكون الاختلاف بين الفريقين يعود الى التفاوت في الاصطلاحات وانحاء الاشارات، والتفنن في التصريح والتعريض، وكذا الاجمال والتفصيل، مع اتفاقهم جميعاً في الدعائم والاصول. وربما يكون المعنى العرفاني الحقي ما يعطي لصدر المتألهين الحق في التوفيق بين الرؤيتين الفلسفية والعرفانية، لما يوجد بينهما من التقارب البيّن. لكن رغم ذلك لا يصح اختزال المعنى العرفاني الخلقي، وبالتالي كانت هناك حاجة الى الجمع بين جميع الاعتبارات والتقريب بينها، وهو ما يتم عبر المعنى العرفاني الجامع، وبه تتحدد الكثير من الفوائد التوظيفية، تارة باعتبار المعنى العرفاني الحقي المقارب للمعنى الفلسفي، واخرى باعتبار المعنى العرفاني الخلقي، ولكل من هذه المعاني حدودها الخاصة المميزة. وبهذه الاعتبارات قد يرى البعض العالم حقاً، وقد يراه خلقاً، كما قد يراه حقاً وخلقاً، وكل المشاهدات تجري بانحاء مختلفة كالتي يصورها العرفاء.

ومن ذلك ما يشير اليه البعض من انك اذا كنت تشهد الكثرة والاختلاف ورأيت ان هذه الكثرة من عين الوحدة وفيها نسبها واضافاتها فانت من اهل الله. وان كان مشهدك حجابات الكثرة وصنميات الاشياء ولا ترى غير العالم فانت من اهل الحجاب. وإن رأيت حقاً بلا خلق فانت صاحب شهود حالي، وإن رأيت حقاً في خلق وهو غيره فانت قائل بالحلول او الاتحاد، وإن رأيت خلقاً في حق مع احدية العين فانت على الشهود الحقيقي، وان شهدت حقاً في خلق وخلقاً في حق من وجهين وباعتبارين مع احدية العين فانت كامل الشهود[i]. او كما يقول القيصري: إن كنت ترى الوحدة فقط فانت مع الحق وحده لارتفاع الاثنينية، وان كنت ترى الكثرة فقط فانت مع الخلق وحده، وان كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة، والكثرة في الوحدة مستهلكة، فقد جمعت بين الكمالين، وفزت بمقام الحسنيين.[ii]



[i]  شرح الفصوص، ص413-414.

[ii]  مطلع خصوص الكلم، ج1، ص342.

comments powered by Disqus