يحيى محمد
يستمد فهم النبوة لدى الفلاسفة والعرفاء من العلم الإلهي المعبّر عنه بكل شيء، فالفلاسفة والعرفاء يقدرون للنبي علماً هو العلم بجميع الأشياء. ويكون النبي بعلمه هذا معبّراً عن (السيرة الذاتية) لطبيعة المبدأ الحق. وهم يعدّون مبرر هذا العلم مستمداً مما في نفس النبي من العقل الفلسفي كما في الرؤية الفلسفية، أو العقل العرفاني كما في الرؤية العرفانية. فالكمال الذي يتشرف به النبي ليس بالنبوة بما هي نبوة، وانما بما يمتلك من عنصر فلسفي يطلع فيه على جميع العلوم والمعارف، أو عنصر الولاية العرفانية التي تتكشف له خلالها كل الحقائق، على شاكلة الحق الذي تتكشف له حقائق الموجودات جميعاً. وبهذا يصبح عقل النبي عقلاً يستغرق كل الأشياء بما يستمده من العلم اللدني الفوقاني.
يضاف إلى ذلك، ان الفلاسفة والعرفاء يدركون بعداً آخر للنبوة يترتب على العلم الشمولي، وهو البعد المتمثل في الولاية والحاكمية. فلدى الفلاسفة ان النبي أو الفيلسوف مفوض بحسب ما له من العقل الفلسفي لأن يحكم العالم على صورة ما يحكم المبدأ الحق الموجودات، بتكميل النفوس البشرية وايصالها إلى غاياتها المتمثلة بالمفارقات السماوية، أو على شاكلة ما يسمى بالمدينة الفاضلة كما لدى الفارابي[1]. فيشترط في رئيس هذه المدينة ان يكون حكيماً فيلسوفاً نظير المبدأ الأول الذي يرأس مملكة الوجود. والفيلسوف يطرح نفسه – هنا - كأعلم مَنْ في الأرض لاصلاح المملكة الاجتماعية مثلما هو الحال مع المبدأ الأول؛ باعتباره أعلم مَنْ في الوجود، إذ بعلمه تتحدد العناية بالوجود، حيث العناية عين العلم، والعلم عين الوجود.
أما لدى العرفاء فالأمر أكثر بعداً وعمقاً، فعندهم ان سلطة النبي أو الولي العارف لا تنحصر بالسلطة الظاهرة التي يحكم بها النبي الناس، بل تتقدم عليها سلطة أخرى تفوقها وتكون علة لها، فهي تشكل نيابة عظمى عن المبدأ الحق لصنع العالم وتكوينه.
وهذه هي إحدى اسقاطات المنظومة الوجودية، فكما سنرى ان العرفاء اسقطوا كلاً من العلم الإلهي وكيفية التنزلات الحقية أو الخلقية على العلاقة التي تخص النبي والعارف بالوجود. فهذه العلاقة هي أيضاً عبارة عن علم وصنع وايجاد، أو انها علاقة إلوهة.
إن ما يثير الاهتمام في الموقف الوجودي من النبوة، هو انه رغم الاتفاق المبدئي بين الفلاسفة والعرفاء حول ما تمثله هذه المرتبة من حقيقة علمية أو إدراكية، إلا ان الملاحظ هو ان كلاً من الفريقين لم يولِها حظاً يفوق المرتبتين اللتين يتمتعان بهما، كلاً على حدة، وأعني بذلك مرتبة الفلسفة والعرفان.
فالفلاسفة جعلوا النبوة أقل مكانة وقدرة علمية مقارنة بالفلسفة. وكذا ان العرفاء فعلوا الشيء نفسه في المقارنة بينها وبين العرفان. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار ان النبي له أكثر من درجة ومقام، فهو لدى الفلاسفة نبي وفيلسوف، وهو لدى العرفاء نبي وولي عارف، وهو تخريج يبعد عنهم التهمة التي يعدون فيها أنفسهم أفضل من الأنبياء وأرقى درجة منهم. وعليه كان لا بد ان نلقي ضوءاً على طبيعة المرتبتين اللتين يمتثلهما النبي بحسب رؤية كلا الفريقين، وهما النبوة والفلسفة، وكذا النبوة والولاية العرفانية، تبعاً لما سبق ان بحثناه حول كل من العلم الإلهي وتجلياته في العقول المفارقة، وقضية التنزيل وما لها من علاقة بالإلوهة وصنع العالم.
لنبدأ أولاً بالرؤية الفلسفية، ثم نعقبها بنظيرتها العرفانية..
الرؤية الفلسفية وحقيقة النبوة
من وجهة نظر الفلاسفة، ان عقل الإنسان يكوّنه عقل مفارق يسمى العقل الفعال، فليس لهذا الأخير تأثير مباشر على الجسم، انما يتحقق تأثيره لما هو على شاكلته من العقل الإنساني.
فكما قرر الفارابي ان العقل الفعال مختص بكمالات الإنسان العقلية، فهو يمنح الإنسان قوة ومبدءاً يمكّنه من ان يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى له من الكمالات[2].
وعليه لما كان الإنسان مرتبطاً بإلوهة العقل الفعال؛ لذا تتعين حركته الكمالية بالاتصال بهذا العقل الكلي، بل والإتحاد به. فالإدراك انما يكون لما هو شبيه له كما يقول الفلاسفة من أمثال إبن سينا، ومن ثم فإن علاقة الاتصال تكون بين المتشابهين، أو انها تفضي إلى حالة الإتحاد التي هي أعظم وأشد من حالة الشبه؛ كالذي انتهى إليه صدر المتألهين[3]. لذا فالاتصال، أو الإتحاد بالعقل الفعال، هو ميزة كل من الفيلسوف والنبي، كما سنرى.
وبحسب الرؤية الفلسفية، فإن حقيقة النبوة تتمثل في نفسٍ جامعةٍ لعوالم ثلاثة من العلوم الكمالية، هي: قوى الإحساس، والتخيل، والتعقل. وقد قُدّر ان يكون للنبي عقل مستفاد يتصل بالعقل الفعال[4]. واقتضى هذا التقدير ان يتساوى النبي والفيلسوف في الاتصال وكسب المعرفة. فكلاهما يتصل بالعقل الفعال المتمثل من الناحية الدينية بجبريل، وهو يمتلك أفضلية كمالية باعتباره يمثل مصدراً للمعلومات النبوية وغير النبوية على السواء. والتفاضل وفقاً لهذه الرؤية إنما يكون بحسب الرتبة الوجودية، وليس من حيث القيم المعيارية أو الأخلاقية، خلافًا لما تذهب إليه بعض اتجاهات النظام المعياري.
وما يميز القوى الثلاث بعضها عن بعض هو أن القوة الأولى (العقلية) تُمكِّن النبي من إدراك الحد الأول دفعة واحدة؛ إذ ينتقل من المعقولات الأولى إلى المعقولات الثانية في أقصر الأزمنة، لشدة اتصاله بالعقل الفعّال. ذلك لأن العقل الفعّال يفيض على نفس النبي بالعلوم، فتصبح هذه النفس عقلًا مستفادًا أدنى رتبة من العقل الفعّال؛ باعتباره علّتها.
أما القوة الثانية (التخيل) أو الحس الباطني، فهي تحاكي القوة الأولى وتكون مثالاً لها وفقاً لمنطق السنخية، إذ تقوم بتصوير العلوم العقلية بأمثلة محسوسة ومسموعة من الكلام، بحيث يتمثل للنبي ما يعلمه من نفسه فيراه ويسمعه، فيرى في نفسه صوراً نورانية هي الملائكة، ويسمع أصواتاً هي كلام الله أو وحيه، وهي من جنس ما يحصل للبعض الذين يمارسون الرياضات الروحية، ومن جنس ما يحصل لبعض المجانين، وكذلك من جنس ما يحصل للنائم في منامه، حتى عُدّ النوم جزءاً من أجزاء النبوة[5]. أو كما قال إبن سينا: ‹‹ان الرؤيا الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة››[6]. وخاصية هذه القوة في النبوة هي للدلالة على المغيبات والانذار.
في حين إن القوة الثالثة (الحسية) تتيح لنفس النبي تغيير الطبيعة، والتأثير في مادة العالم، كما تؤثر النفس في بدنها، ومن خلال ذلك تحدث الخوارق والمعجزات، بالتأثير في هيولى العالم بإزالة صورة وايجاد صورة أخرى، كإن تؤثر في استحالة الهواء غيماً ومن ثم مطراً. لذلك صرح الفلاسفة بأنه قد ثبت في الإلهيات ان الهيولى مطيعة للنفوس ومتأثرة بها، وان هذه الصور تتعاقب عليها من آثار النفوس الفلكية، وان النفس الإنسانية من جوهر تلك النفوس وشديدة الشبه بها. وهذا ما يبرر تأثير النفس الإنسانية في هيولى العالم، وان كان غالب تأثيرها على بدنها الخاص، لكن يمكنها ان تؤثر على سائر الأبدان كما يحصل في اصابة العين مثلاً[7].
هذه قوى النبوة الثلاث التي اعتقد الفلاسفة أنها قد تجتمع في فرد واحد كما هو الحال مع النبي، وقد لا تجتمع وتتفرق، وهو الغالب في الناس[8].
فبالنسبة إلى القوة الأخيرة (الحسية) يلاحظ ان لأغلب النفوس قدرة في تأثيرها على أبدانها من خلال الأوهام، فتحصل التغييرات من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والاحمرار وغيرها. فهذه التغييرات في البدن هي نتاج تصور الإنسان وخيالاته. لكن للنبي قدرة على تغيير العالم الخارجي، بفعل ما يكسبه من تصورات نفسية، مما يفسر معاجز الأنبياء الخارقة. وهذه القوة يشارك بها الأولياء في كراماتهم، ومثل ذلك ما يحصل لذوي العيون المؤثرة[9].
وبالنسبة إلى القوة الثانية (المتخيلة)، وهي مرتبة وسطى بين الإدراكين العقلي والحسي، فالملاحظ ان ما يحصل من إلهام للناس بما سيكون في المستقبل كالتنبؤ في المنام، أو ما يسمى بالرؤيا، انما هو وظيفة يقترب بها الإنسان من مرتبة النبوة. والفارق هنا بين الناس والأنبياء هو ان إلهام الناس يحدث في المنام، أما إلهام الأنبياء فيحدث في المنام واليقظة عبر الاتصال بسطوع العقل الفعال وإشراقه على النفس بالمعقولات، إذ يكتسب النبي الصور ويتخيل المعقولات ويصورها في الحس المشترك بأعظم ما يكون. وعليه كان العقل الفعال أشرف من نفس النبي وغيره من النفوس البشرية باعتباره علة وهي معلولة[10]. أما نفوس الناس فإنها لا تتصل بالعقل الفعال وانما تتصل بنفوس الأجرام السماوية التي تعلم بكل ما يجري في عالمنا الأرضي[11].
تبقى القوة الأولى الموصوفة بالقدسية، فخاصيتها أنها تمكِّن غالبية الناس من معرفة الإستنباطات وترتيب النتائج حدساً بلا تفكير، كمن ينظر إلى حدوث الحركة فيدرك مباشرة بأن الحادث لا بد له من سبب[12].
وقد تجتمع هذه القوى الثلاث بصورة كاملة لدى الفيلسوف[13]. وبنظر البعض انها تجتمع عند العارفين الأولياء على وجه التابعين للأنبياء[14]. لكن في جميع الأحوال ان ذلك لا يجعل وجود فارق هام أو نوعي بين الأنبياء والفلاسفة تبعاً للرؤية الفلسفية، أو بينهم وبين العرفاء تبعاً للرؤية العرفانية. الأمر الذي يبرر الاعتقاد باستغناء الفلاسفة والعرفاء عن النبوة خلافاً لغيرهم من الناس، بدعوى التمكن من الاتصال والاتحاد بالعقل المفارق (جبريل) ومن ثم الكشف عن الحقيقة وتحصيل السعادة التي يدعو اليهما الأنبياء بحق.
وتبعاً للرؤية الفلسفية، لو قمنا بمقارنة بين الفيلسوف والنبي، سنرى انهما يشتركان بالقوة الأولى العقلية، ويكون أحدهما في المرتبة التي يكون فيها الآخر، حيث ان نفسيهما تضاهيان العقل الفعال، وإن كانتا أقل منه شرفاً في العلم والرتبة، فهو علة وهما معلولان، والعلة أشرف من المعلول. لكن الفارق بينهما، كما حدده إبن سينا، هو ان النبوة ظاهرة فطرية، في حين إن الفلسفة مكتسبة[15].
أما لو قمنا بمقارنة بين حقيقة الفلسفة وحقيقة النبوة، فسنرى ان الأمر مختلف تماماً. إذ تصبح المقارنة بين القوتين العقلية والتخيلية، فالقوة الأولى تمثل الفلسفة، فيما تمثل الأخيرة النبوة. وبالتالي جاز اعتبار تفوق الأولى على نظيرتها في العلم والرتبة رغم ما بينهما من مسانخة. فالمقرر ان النبوة من سنخ الفلسفة لكونها تعبّر عن المضامين المجردة للاخيرة بالمحاكاة والتصورات التشبيهية.
وبعبارة أخرى، تتقوم الفلسفة بقوة العقل القدسية، والنبوة بقوة التخيل، وان بينهما رابطة من المسانخة المعرفية، حيث تتصف الأخيرة بمحاكاتها وحاجتها للأولى. إذ تعمل الأولى على ابراز الحقائق بالصور العقلية الكلية، فيما تقوم الثانية بتخيل هذه الصور لتعبّر عنها بالرموز والأمثال والتشبيهات. وقد تبلغ النبوة أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة، إذ بها يستقبل الإنسان في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، كما يستقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة، فيراها كخيالات ذهنية. لكن مهما بلغت النبوة من الكمال فهي لا تبلغ مرتبة العقل والتجرد[16].
مع هذا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار ان الرؤية الفلسفية تعتبر الأنبياء فلاسفة أيضاً، أي ان كل نبي فيلسوف بالضرورة، لكونه يكسب المعقولات المجردة عن العقل الفعال. وبالتالي فإن للنبي بعدين لاختلاف المقامات، أحدهما كفيلسوف يستقبل استفاضة المجردات عن العقل الفعال، والآخر كنبي يحاكي الفيلسوف بمحاكاة قوته الخيالية لقوته العقلية. وكما يصف الفارابي النبي بأنه يكتسب النبوة والفلسفة عن طريق ما يفيضه الله تعالى إلى عقله المنفعل بتوسط العقل الفعال، حيث يستمد منه المعلومات عبر العقل المستفاد، ثم يتحول ذلك إلى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً تام التعقل، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبياً منذراً بما سيكون، ومخبراً بما هو الآن من الجزئيات. وهذه المرتبة هي أكمل مراتب الإنسانية، بل وأعلى درجات السعادة. إذ تصبح نفس النبي ‹‹كاملة متحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلنا››[17].
وعليه فالنبي كفيلسوف هو أعظم منه نبياً يوحى إليه. كذلك فكمال النبي أعظم من كمال الفيلسوف الصرف، باعتبار ان الأول يحمل كمالين؛ الفلسفة والنبوة، أو انه يجمع بين البرهان المفيد لليقين والتخيّل المفيد للاقناع.
وقديماً قال جابر بن حيان الكوفي: ‹‹ان الشرع الأول انما هو للفلاسفة فقط، إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء؛ كنوح وادريس وفيثاغورس وطاليس القديم، وعلى مثل ذلك إلى الاسكندر››[18].
لكن نتساءل: إذا كان كل نبي فيلسوفاً، فهل يجوز العكس، فيصبح من الممكن ان يكون الفيلسوف نبياً؟
لا شك ان اتجاه الفارابي يتقبل ذلك ولا يرى فيه مانعاً. فعلى رأيه انه يجوز للإنسان بلوغ مرحلة النبوة من خلال الاتصال بالعقل الفعال، بالطرق الارادية والفكرية والبدنية[19]، حيث تبلغ القوة المتخيلة عنده نهاية الكمال[20].
لكن بحسب وجهة نظر ابن رشد، فإن المسألة تختلف، إذ يُصرّح بوضوح أن كل نبي هو فيلسوف من دون عكس[21]. ولا شك أن اتجاه الفارابي أقرب إلى الروح الفلسفية وأكثر اتساقًا معها، مقارنة برؤية ابن رشد.
وربما يكون الموقف الأكثر اتساقًا ومنطقية هو الإقرار بضرورة أن يكون الفيلسوف نبيًا، وذلك تبعًا لمبدأ الترقي الوجودي، حيث لا يمكن بلوغ مرتبة كمالية عليا ما لم يسبق ذلك الأدنى رتبة منها. فالإنسان وفق هذا المسار، لا يمكنه أن ينال قوة العقل القدسية إلا إذا حقق أولًا كمال مرتبة القوة المتخيلة، فكل إدراك ضرب من الوجود، وبالتالي لا يمكن أن يصبح فيلسوفاً قبل أن يمرّ بمقام النبوة.
وبعبارة أخرى، نحن إزاء تدرّج في المقامات، حيث مقام الفلسفة أرفع من مقام النبوة، ولا سبيل إلى تحقّق الأول إلا بعبور قنطرة الثاني، وإلا كان ذلك قفزًا غير مشروع في سُلّم الوجود، مما لا يتفق مع المنطق الوجودي.
بل أكثر من ذلك، لا مناص من أن يكون كل فيلسوف نبيًا من غير عكس. فالنبي، وإن بلغ كمال القوة المتخيلة، إلا أنه ليس من المعلوم أن يحظى بكمال القوة العقلية (البرهانية)، وبالتالي جاز ان لا يكون فيلسوفاً وفاقاً مع المنطق الوجودي.
ويبدو أن الفلاسفة المسلمين تقصدوا اخفاء هذا اللزوم لاعتبارات التقية، كي لا يظهر لدى الآخرين أنهم يجعلون الفلاسفة أعظم من الأنبياء بإطلاق.
***
من وجهة نظر الفلاسفة، تُعتبر مهمة الفيلسوف أعظم من مهمة النبي. فبينما يتعامل النبي مع الظاهر، يتعامل الفيلسوف مع الباطن. وبينما يقتصر دور النبي على الإقناع، يتخذ الفيلسوف دور البرهان والكشف عن الحقيقة. وإنه إذا كان النبي يأتي بالشريعة كتنزيل إلهي، فإن الفيلسوف يقوم بدور القيوم الذي يوضح حقائق ما يأتي به النبي.
وحيث أن النبي والفيلسوف يتصلان بالعقل الفعال (جبريل)، فإن كليهما يستفيد من هذا الاتصال في اكتساب العلم الإلهي الكلي. فالنبي والفيلسوف يتلقّيان الوحي عبر العقل الفعال، وبالتالي لهما معًا نفس الأهلية في تغيير الشرائع وتوجيهها[22].
والأمر لا يقتصر على ذلك، إذ المقرر لدى الفلاسفة ان الإنسان في قربه من العقل الفعال يتحول إلى كائن إلهي، فيصبح عقلاً ومعقولاً بذاته[23]، ومن ثم حاملاً لصفة العلم الإلهي التي تُعنى بايجاد الممكنات وخلق العوالم والأكوان.
لكن هل يعني هذا أن الفلاسفة والأنبياء يمتلكون العلم الإلهي بكل شيء، وبالتالي القدرة على خلق الأشياء والتأثير في الكون؟
لا شك ان ما يتمخض عن الموقف الفلسفي هو خلع صفة الإلوهة في العلم والتكوين على كل من الفلاسفة والأنبياء. حيث يعتبر كل من النبي والفيلسوف حاملًا للسلطة التي تستخلف سلطة الحق الإلهية أو سلطة المفارقات السماوية.
خصوصاً وان الرؤية الفلسفية تشير أحياناً إلى أن غرض الفيلسوف ليس مجرد الاتصال بالعقل الفعال، بل الإتحاد به، فيكون هو هو، حيث يصبح العقل نفسه، ويعبّر عن كل شيء، وهي السعادة القصوى بالنسبة إلى الفيلسوف.
فالفلاسفة يذهبون إلى ان غاية الحكيم هي أن يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالإله الحق[24]. وقيل ان هذا القول هو جوهر ما بلغه فلاسفة الإسلام عن الرأي الرواقي القديم[25]. وهو في جميع الأحوال يمثل عين الرؤية الفلسفية التي يدعو لها فلاسفة النظام الوجودي.
فإبن باجة - مثلاً - يرى الفيلسوف تام العقل وينظر إلى كل شيء بعين هذا العقل، فيرى العقل في كل شيء ويصير هو إياه[26]. وبهذا تجاوز إبن باجة من سبقه من الفلاسفة، مثلما أشار إلى ذلك بنفسه[27].
وكذا هو الحال فيما قرره إبن رشد من قبول الإتحاد على شرط ان يكون ذلك قائماً على التعليم الكسبي، تمييزاً له عن الإتحاد المدعى من قبل الصوفية[28]. فاتحاد النفس بالعقل الفعال، يجعلها تكون هي هو، وهو هي، فإن النفس تبلغ بذلك درجة تكون جميع الموجودات فيها أجزاء ذاتها، وتسري قوتها في كل شيء، كما يصبح وجودها غاية كل شيء من المخلوقات[29].
تلك هي الرؤية الفلسفية التي تجعل من النبي أو الفيلسوف في إتحاده بالعقل الفعال عبارة عن إله ينطوي علمه على كل شيء، وانه يصبح مصدر قيام وتكوين كل شيء، وكذا هو غاية كل شيء. وسنجد ان لهذه الرؤية شاكلتها المعمقة لدى نظيرتها العرفانية.
الرؤية العرفانية وحقيقة النبوة
نجد في الرؤية العرفانية صورتين مختلفتين بعض الشيء عن حقيقة النبوة، إحداهما مقتبسة عن الموقف الفلسفي، حيث فيها يؤخذ بتلك القوى الثلاث التي استند إليها الفلاسفة، واضفي عليها صبغة عرفانية. أما الأخرى فإنها لا تلتزم بهذه القوى، وانما تؤسس لنفسها مفهوماً مستقلاً عن النبوة، وإن كانت لا تبتعد كثيراً عن الصورة الأولى. واستعراض الصورتين سيكون كالآتي:
الرؤية الأولى
حول الصورة الأولى ذهب صدر المتألهين إلى ان الإنسان مكون من عوالم ثلاثة تعطي قوى معرفية ثلاث هي تلك التي تحدّث عنها الفلاسفة، أي القوة العقلية والخيالية والحسية. فالإنسان يتصرف بكل من هذه القوى في عالم من العوالم الثلاثة: الدنيا، والآخرة، وعالم الوحدة والربوبية الذي يفوقهما. والإنسان بحسب غلبة كل نشأة يدخل في عالم من هذه العوالم. فمن حيث حسّه هو من جملة الدنيا وضمن جنس الحيوانات، ومن حيث نفسه هو من جملة الملكوت الأسفل، أما من حيث روحه فهو من جملة الملكوت الأعلى، والغالب في الناس هو النشأة الحسية الدنيوية. لكن حيث ان كل إدراك هو ضرب من الوجود، لذا فكمال كل واحد من هذه القوى يوجب التصرف في عالم من تلك العوالم بحسب المناسبة والسنخية.
ويمتاز النبي بأن فيه تكتمل هذه القوى وتشتد جميعاً. فبالقوة العاقلة يتصل بالقديسين ويجاور المقربين وينخرط في سلكهم، بل ويفوق عليهم عند اتصاله بالحق وفنائه عن الخلق واندكاك جبلّ إنيته، كما أخبر النبي (ص) عن نفسه في قوله: ‹‹لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل››. وبقوة التخيل المصورة فإنه يشاهد الاشباح المثالية والأشخاص الغيبية، وكذا يتلقى الأخبار الجزئية منهم ويطلع على الحوادث الماضية والآتية. أما بقوة الاحساس فإنه يتسلط بها على الأفراد البشرية وتنفعل عنها المواد وتخضع له القوى والطبائع الجرمانية خضوع السافل للعالي، فلها قدرة تحريكية تؤثر في هيولى العالم لتزيل صورة أو تلبس أخرى. فمثلاً انها تحيل الهواء إلى الغيم، وتحدث الأمطار، وتسبب الطوفان، وتهلك الأمم وتشفي المرضى وتروي العطشى وتخضع الحيوانات. وتفسير هذه الأمور هو ان الأجسام لما كانت عبارة عن ظلال وعكوس مطاعة لما فوقها من المجردات، فإن النفس كلما ازدادت تجرداً وتشبهاً بتلك المبادئ القصوى فإنها تزداد قوة وتأثيراً في ما دونها من الأجسام، لهذا تنصاع لها هذه الأخيرة، ومنه نفهم كيف تؤثر نفوسنا على أجسامنا الخاصة، وعند اشتداد القوة النفسية الحساسة فإنه يمكنها ان تؤثر على الغير، كالذي يحدث في المعجزات والكرامات وغيرها.
هكذا فإن جوهر النبوة جامع للنشآت الثلاث، وان النبي يعلم بالقوة العقلية كالملائكة، ويخبر بالقوة النفسية كالأفلاك، كما انه يحكم بالقوة الحسية كالملوك.
وحيث ان العوالم الثلاثة المذكورة متطابقة ومتحاكية بحسب منطق السنخية، لذا فإن كل ما يدركه الإنسان من عالم العقل له حكاية منه في عالم الاشباح الباطنية، فالصورة المحاكية للجوهر العقلي هي نفس الملك الذي يراه النبي والولي. اما النبي بما هو نبي فإنه يدرك الأمر عن طريق الحكاية والصورة. وأما الولي فبما هو ولي يدرك الأمر عن طريق التجرد الصرف، وهو ذات التجرد العقلي، وبالتالي فإن الولاية العرفانية تكون أفضل أجزاء النبوة[30]. ويظل ان مجموع هذه القوى هي من خصوصيات الأنبياء، أما آحادها فهي مما يتحقق لدى غير الأنبياء، فالأولى تتحقق لدى الأولياء والحكماء، وضرب من الخاصية الثانية يوجد في أهل الكهانة والرهبنة، أما الثالثة فقد تكون في الملوك ذوي الهمة وشدة البأس[31].
وهنا نجد نفس محاكاة الفلاسفة في تصورهم لحقيقة النبوة، سوى اضفاء الصبغة العرفانية عليها بدل الصبغة الفلسفية، مع بعض التعديل كما تقتضيه الطريقة العرفانية، وبالذات فيما يتعلق بموقفها من القوة العقلية في النبوة، إذ منحتها دوراً يفوق ذلك الذي قدّمه لها الفلاسفة. فقد قدّر هؤلاء لهذه القوة حالة اتصال بالعقل الفعال، أو حتى الإتحاد به كأقصى حد ممكن، بينما في الصورة العرفانية تجاوز الأمر ذلك الحال ليصل إلى حالة الإتحاد والفناء بالذات الإلهية. وتظل سائر الآراء هي نفسها، بما في ذلك حالة التساوق في علاقة النبوة بكل من العرفان والفلسفة تبعاً للرؤيتين. فالنبوة تحمل في ذاتها تلك القوة القدسية العقلية، والتي هي لدى الفلاسفة عبارة عن حقيقة الفلسفة، ولدى العرفاء عبارة عن حقيقة العرفان، فيكون النبي بنظر أولئك فيلسوفاً، وبنظر هؤلاء عارفاً. كما يظل الجزء الأفضل في النبي كونه فيلسوفاً هناك، وعارفاً هنا.
لكن تظل هذه الرؤية لا تمثل الموقف الغالب للعرفاء من حقيقة النبوة، فهي حالة توفيقية إشراقية سعى إليها صدر المتألهين في بعض كتبه، لكنه لم يتوقف عندها كما سنرى.
الرؤية الثانية
إن النبوة عند العرفاء، كما يروي العارف حيدر الآملي نقلًا عن الغزالي، هي ‹‹قبول النفس القدسي حقايق المعلومات والمعقولات عن الله تعالى بواسطة جوهر العقل الأول المسمى جبريل تارة وبروح القدس أخرى، والرسالة تبليغ تلك المعلومات››[32].
وهنا نواجه ذات الإشكالية التي ظهرت في الفهم الفلسفي للنبوة، والمتمثلة في تصورها لاستقبال النفس النبوية للمعلومات من العقل الكلي المفارق. غير أن الفارق يكمن في موقع جبريل داخل سلسلة العقول، فبينما يمثل عند الفلاسفة العقل الفعال الأخير ضمن سلسلة المفارقات العقلية؛ فإن جبريل في التصور العرفاني يُعد العقل الأول في هذه السلسلة.
ومع ذلك، لم يكتفِ الآملي بالتحديد السابق، بل ذهب أبعد من ذلك حين قدّم تصورًا مزدوجًا لفلسفة النبوة من خلال فهمين اثنين، أحدهما أكمل من الآخر، وأطلق عليهما: الطريقة والحقيقة.
فالنبوة بحسب أهل الطريقة، كما رأى القيصري تبعًا لإبن عربي، هي مظهر عدل لحقيقة الأسماء والصفات. فالله تعالى له ظاهر وباطن؛ والباطن يشتمل على الوحدة الحقيقية للغيب المطلق، والكثرة العلمية أو حضرة الأعيان الثابتة. أما الظاهر فهو مكتنف على الدوام بالكثرة، لأن ظهور الأسماء والصفات بخصوصيتها الموجبة لتعددها؛ لا يتحقق إلا ان يكون لكل منها صورة مخصوصة، وبالتالي يلزم التكثر. وحيث ان كلاً منها يطلب ظهوره وسلطنته وأحكامه، فإنه يحصل النزاع والتخاصم في الأعيان الخارجية باحتجاب كل منها عن الإسم الظاهر في غيره. الأمر الذي احتاج فيه إلى مظهر حكم عدل ليحكم بينها، ويحفظ نظام العالم في الدنيا والآخرة، ويحكم بين الأسماء بالعدالة، ويوصل كلاً منها إلى كماله ظاهراً وباطناً. وهذا هو الذي يسميه العرفاء ‹‹النبي الحقيقي والقطب الأزلي أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وهو الحقيقة المحمدية (ص)››. أما النبي الذي يأتي لاحقًا لتجسيد هذا الحكم بين المظاهر، فهو مجرد نائب عن النبي الحقيقي.
إذاً، الأنبياء (ع) هم مظاهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها للمظاهر وعدالتها بينها. فالنبوة مختصة بالظاهر، ويشترك جميعهم في الدعوة والهداية والتصرف بأمر الخلق[33].
هكذا فللنبوة طابع الإلوهة، حيث تمارس دوراً تكوينياً منظماً هو أعظم وأعمق من الظاهر الذي تمارسه نبوة الأنبياء المشخصة في الدعوة والانذار والهداية، بل ان هذه الأخيرة ليست سوى مرآة تحاكي الأولى تبعاً لمنطق المناسبة والسنخية. وسنرى ما لهذه الفكرة من تجليات.
أما بحسب أهل الحقيقة، وهو الفهم الأتم والأكمل للنبوة، فإنها عبارة عن الخلافة الإلهية المطلقة، وهي تتعدد بحسب المراتب التي تُجسّد تجليات هذه الخلافة.
فالنبوة، في هذا الفهم، ليست مجرد وحي ظرفي، بل هي إنباء حقيقي وذاتي أولي، لا يصدر إلا عن الروح الأعظم، الذي بعثه الله أولًا إلى النفس الكلية، ثم إلى النفس الجزئية، ليُنبئهم بلسانه العقلي عن الذات الأحدية والصفات الأزلية والأسماء الإلهية والأحكام الجليلة والمرادات الجسمانية.
فكل نبي من آدم (ع) إلى محمد (ص) هو مظهر من مظاهر نبوة الروح الأعظم. فنبوته ذاتية دائمة لا تنقطع. إذ حقيقته هي حقيقة الروح الأعظم، وصورته هي صور تلك التي ظهرت فيها الحقيقة بجميع أسمائها وصفاتها، وسائر الأنبياء مظاهرها ببعض الأسماء والصفات، حيث تجلت في كل مظهر بصفة من صفاتها وإسم من أسمائها، إلى ان تجلت في المظهر المحمدي بذاتها وجميع صفاتها وختمت به النبوة، وكان الرسول (ص) سابقاً على جميع الأنبياء من حيث الحقيقة، ومتأخراً عنهم من حيث الصورة[34].
وبعبارة أخرى، إن وجود الأنبياء والأولياء وصورهم الظاهرة متأسس على الحقيقة المحمدية. إذ تتجلى هذه الحقيقة في صور جميع الأنبياء، بما في ذلك الصورة الجسمانية للنبي محمد (ص)، ثم في صور الأئمة والأولياء من بعده، حيث يستقون علومهم - جميعًا - من تلك الحقيقة.
وقد أقرّ العرفاء بأن علومهم ومبلغ كمالهم لا يتحقق إلا من خلال الروح المحمدية، فهي الأصل في الفيض المعرفي والعرفاني الذي يتلقونه.
وقد عبّر صدر المتألهين عن هذا المعنى بوضوح، حين اعتبر أن نفوس هؤلاء الكاملين تتحول إلى عقول بالفعل، وأن العقل بالفعل هو الوجود الحقيقي بعينه، والحياة الأخروية في صورتها العقلية. فالنبي، بروحه المقدسة، هو سبب وجوداتهم الحقيقية، ومبدأ كمالاتهم العرفانية، ومنشأ فيضان الكمالين: الأولي الأقدس والثانوي المقدس. فهو الوسيط بينهم وبين الحق، ومبدأ فطرتهم في سلسلة الافتقار النزولي، كما أنه المرجع الأسمى في تحقّق كمالاتهم ضمن سلسلة الارتقاء الصعود.
لكن الملفت للنظر ان صدر المتألهين استعان ببعض الآيات ليدل بها عبر التأويل على هذا الحال من طبيعة الصلة الوجودية بين العرفاء والروح المحمدية. إذ جاء في قوله تعالى: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض﴾[35]، حيث اعتبر أن (المؤمنين) في هذه الآية هم العارفون، وأن النبي محمدًا (ص) هو الأب الحقيقي لهم، ومن ثم كانت أزواجه أمهاتهم، مراعاة لحقيقة هذه الأبوة. وهذه الأبوة، كما فسرها، ليست على نحو العلاقة النسبية الظاهرة، بل هي بمعنى العلية، أي أن النبي (ص) علة وجودهم الحقيقي، والعلّة أولى بالمعلول من المعلول نفسه، إذ إن الشيء في نسبته إلى علته واجب الوجود، في حين نسبته إلى نفسه ممكن الوجود. فلو لم يكن روح النبي (ص) هو العلة في وجوداتهم الحقيقية؛ لما كان أولى بهم من أنفسهم، تبعاً لمنطوق الآية[36].
هذا على الرغم من ان القياس الذي لجأ إليه هذا العارف في تأويل الآية غير صحيح، حيث إعتبر النبي أباً حقيقياً للمؤمنين مثلما دلل على ذلك بامومة أزواجه، وهو ما لا يتفق مع النص القرآني الذي ينفي أبوّة النبي لهم، كما في قوله تعالى: ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم﴾[37].
واذا قيل ان الآية الأخيرة لا تتحدث عن الأبوة الحقيقية، قلنا فهل كانت الآية الأولى المستدل بها تتحدث عن شيء يتعلق بتلك الابوة أو الامومة الحقيقية، أو الأولوية التكوينية من علاقة العلية؟!
وتكتمل الصورة في رسم معالم النبوة، فتصبح حقيقتها ليست تلك التي قيل بأنها تأخذ العلم عن العقل الأول جبريل، فهي في هذه الحالة أعظم من العقل الأول. وكما سنرى ان هذا العقل في منظور الآملي يكون وزيراً للنبوة أو الروح الأعظم. لذا فالأخير هو ذلك المسمى بالصادر الأول أو الوجود المنبسط الذي تتقوم به كل الخلائق والكائنات، ويكون العقل الأول على رأسها. وبالتالي تصبح للنبوة خصوصية الانبساط والخلافة المطلقة التي يتأسس عليها خلق الأشياء وتكوينها، ومن ثم فهي نبوة تكوينية قبل ان تكون قيمية معيارية تمارس دور الهداية والانذار.
وللنبوة في هذا المعنى مظاهر تتفاوت تكاملاً بحسب منطق السنخية، وما محمد خاتم الأنبياء إلا رسول جاء على سنخ نبوة محمد الأول الذي سبق جميع الأنبياء، بل والخلق أجمعين.
تلك هي نبوة العقل الأول التكوينية والتي سيتم اجلاء فهمها عند ربطها بقضية الولاية، حيث تصبح النبوة والولاية العرفانية تعبران عن حقيقة واحدة ذات وجهين ظاهر وباطن. فمن حيث الظاهر هي نبوة، أما من حيث الباطن فهي ولاية.
وثمة تناظر واضح بين هذه الرؤية وبين التصور الفلسفي. فكما أن الفلسفة تمثل باطن النبوة، والنبوة ظاهرها؛ كذلك تُعدّ الولاية العرفانية باطن النبوة، والنبوة ظاهرها. وبهذا المنطق يتقدّم الفلاسفة على الأنبياء بالفضل بحسب منزلة الفلسفة من النبوة، وكذا الحال ذاته في تقدم العرفاء على الأنبياء بالفضل بحسب منزلة الولاية من النبوة.
الحقيقة المحمدية والولاية التكوينية
قدّر العرفاء للنبي محمد حقيقة عليا مجردة لها صفة الولاية التكوينية، وتتمثل فيما يُعرف بالإنسان الكامل، والذي اعتبروه سبب ايجاد العالم وبقائه أزلاً وأبداً، دنيا وآخرة[38].
فالولاية التكوينية هي تلك السلطنة التي تعمل على خلق وتكوين العالم بكافة شؤونه ومظاهره. وهي بهذا المعنى تنوب عن الحق وتتوسط بينه وبين الخلق، وهي التي يعبّر عنها الفلاسفة بالعقل الأول، أو الصادر والمتعين الأول[39]، حيث انه من جهة العلم جامع لكل شيء، ومن جهة الفعل تقوم به السماوات والأرض وما بينهما. فهو يسري في كل شيء، ويمد الحياة لكل شيء، لذلك يُسمى (الإله الصانع) تمييزاً له عن (الإله المتعال).
من هذا المنطلق، رأى ابن عربي أن الحقيقة المحمدية هي أول التعينات، فهي النور الأول المتجلي عن الذات الإلهية، والذي نشأت منه سائر الكائنات. وهي تمثل صورة الإنسان الكامل، الجامع لكل حقائق الوجود. وهي ‹‹الحق ذاته ظاهراً لنفسه في أول تعين من تعيناته في صورة العقل الحاوي لكل شيء. وإذا كان آدم هو الإنسان الظاهر المتعين بالوجود الخارجي في صور افراده، فمحمد هو الإنسان الباطن المتعين في العالم المعقول››[40]. وهو إسم الله، أو إسمه الأعظم الذي تحققت به جميع المراتب والنسب والظهورات والتعينات، أو انه مسمى الله الظاهر كأول متعين من تعينات الهوية الغيبية. وهو من حيث كونه متعيناً بحقيقة الإنسان الكامل؛ فإنه مستغرق جميع الذوات الموجودة والنسب العدمية المفقودة والأفعال والأخلاق والنعوت والصفات المذمومة والمحمودة بحيث لا يخرج شيء أصلاً عن حيطته، لكنه غير متكثر بهذه الكثرة، حيث يتعالى عن الظهور بما يناقض الكمالات الإلهية، فإن الله هو ‹‹أحدية جمع جميع الكمالات الأسمائية المؤثرة والحقايق الفعالة الوجوبية الوجودية لا غير... وأما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلى له أو صورة فيه، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل بين مجلى ومجلى.. وان كان صورة فيه فالذي يسمى الله هو الذي لتلك الصورة.. ولا يقال هي هو ولا هي غيره››[41].
وبحسب العرفاء، فإن حقيقة الإنسان هي مظهر لجميع الأسماء الإلهية، فكل مخلوق وموجود سوى الإنسان له حظ من بعض أسمائه دون الكل، أما الإنسان فله كل الأسماء، وهو سبب تعلم الإنسان الأسماء الحسنى كلها دون الملائكة كما في الآية، لأن حقيقة الإنسان مظهر جامع لمظاهر كل الأسماء، خلافاً لغيره من الموجودات، إذ كل واحد منها يعد مظهراً لبعضها. فالملائكة مظهر لأسماء السبوح والقدوس والسلام ونحوها، والشياطين مظهر للمضل والمتكبر والعزيز والجبار وغيرها، والحيوانات مظاهر للسميع والبصير والحي والقدير وما إليها، وكذا ان النار مظهر للقهار، والهواء مظهر للطيف، والماء مظهر للنافع، والأرض للصبور، والأدوية السمية للضار، والدنيا مظهر للأول، والآخرة للآخر، وهكذا[42]. وبذلك فإن للإنسان حظاً في ان يكون مظهراً لجميع الأسماء الجمالية والجلالية[43]. أو هو ‹‹مظهر جميع الأسماء والصفات ومجمع كل الحقائق والايات، فهو الكتاب الجامع››[44]. وهو المعبّر عنه بإسم الله الأعظم الذي يجمع هذه الأسماء على النحو الاجمالي. فهذا الإسم هو صورة الإنسان الكامل أو مظهره، وهو نفس حقيقة النبي الأكرم، فالله هو إسم للذات الإلهية باعتبار جامعيته لجميع النعوت الكمالية، وصورته الإنسان الكامل، وأُشير إليه بقول النبي: ‹‹أُوتيت جوامع الكلم››، فهو روح العالم وخليفة الرحمن[45].
والإنسان الكامل حيث انه جامع لجميع الأسماء فهو من هذه الناحية يجمع بين الحقيقتين الإلهية والعالم. فقد إعتبر العرفاء ان الإنسان ناشئ على صورة الرحمن تبعاً للحديث النبوي ‹‹خلق الله آدم على صورته، أو على صورة الرحمن››[46]. وهو الحديث الذي اثبتت الدراسات الحديثة ان له أثراً يهودياً في سفر التكوين. وقد تعمد العرفاء توظيفه في نظريتهم حول الإنسان الكامل. فالإنسان نسخة مختصرة من الحضرة الإلهية، ولذلك خصّه الله بصورته كما في الحديث السابق. فهو صورة الحق تعالى وظهوره وتجليه، في حين يعبّر الإنسان الكبير المتمثل في العالم عن الصورة الظاهرة لهذا الإنسان، أو انه مظهر هذا الإنسان. وبالتالي يمكن القول إن العالم هو صورة الحق، أي ان له مناسبة ومشابهة من هذه الناحية مع الحق تعالى.
فالإنسان نسخة من الصورتين الحق والعالم، إذ نشأت صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره، ونشأت صورته الباطنة على صورة الحق تعالى. وان صورته الظاهرة لا تقتصر على الجسمية فحسب، بل تشمل جميع الخلقة من الجسم والروح والقوى والعقل والمعاني والصفات، وكل ما يصح اطلاق الخليفة الكامل عليه مما هو سوى الله. أما الصورة الباطنة فهي على صورة الحق، حيث ان الإنسان الكامل يحوي جميع الأسماء الإلهية الفعلية الوجوبية وجميع نسب الربوبية. فهو: حق واجب الوجود، وحَيّ وعالم وقدير ومتكلم وسميع وبصير، وهكذا جميع الأسماء. لكن لا بذاته، بل بالذات الإلهية، وعلى الوجه الأكمل. فباطن الإنسان على صورة الله وظاهره على صورة العالم وحقايقه[47]. فليس في الكائنات من هو أعظم جمع للوجودات غيره ‹‹فهو مجلّى الحق، والحق مجلّى حقائق العالم بروحه الذي هو الإنسان، وأعطى المؤخر لأنه آخر نوع ظهر، فأوليته حق واخريته خلق، فهو الأول من حيث الصورة الإلهية، والآخر من حيث الصورة الكونية، والظاهر بالصورتين، والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية››[48].
وكما ذكر إبن عربي ان الرقائق المجتمعة في الإنسان هي كل من العالم والحق، فآدم من العالم ومن الحق بمنزلة بنيه منه، إذ كانت فيه رقيقة من كل صورة في العالم تمتد إليه لتحفظ عليه صورته، ورقيقة أيضاً من كل إسم إلهي تمتد إليه لتحفظ عليه مرتبته وخلافته، فهو يتنوع في حالاته تنوع الأسماء الإلهية، ويتقلب في أكوانه تقلب العالم كله، وهو صغير الحجم لطيف الجرم سريع الحركة، فإذا تحرك حرّك جميع العالم، واستدعى بتلك الحركة توجّه الأسماء الإلهية إليه[49].
هكذا تكون نسخة الإنسان الظاهرة مضاهية للعالم بأسره ، أما نسخته الباطنة فتضاهي الحضرة الإلهية، فهو الكلي على الاطلاق والحقيقة، وهو الحد الفاصل بين الله والعالم باعتباره يمثل صورة الله، والعالم بمثابة المرآة التي تعكس تلك الصورة، وذلك لِما أودعه الحق جميع الأسماء وجعله روحاً للعالم، ولهذا فهو يتصف بأنه قابل لجميع الوجودات قديمها وحديثها[50]، وهويته معدة من كل شيء؛ لكونه أول الأسباب الفاعلية الكونية نزولاً، وانه يكمل ذاته من كل شيء؛ لكونه آخر الأسباب الغائية الكمالية صعوداً. فالإنسان الكامل هو نسخة مختصرة جامعة لجميع العوالم الكونية والعقلية وما بينهما، من عرفها فقد عرف الكل، ومن جهلها فقد جهل الكل[51]. لذلك كان الإنسان أكمل الموجودات، فكل ما سواه يعد خلقاً إلا هو فإنه خلق وحق[52]. فآدم أو الإنسان هو الحق باعتبار ربوبيته للعالم واتصافه بالصفات الإلهية، وهو الخلق باعتبار عبوديته ومربوبيته[53]. ورغم ان الله قد أضلّه وأخرجه من الجنة الروحانية كما تشير إلى ذلك بعض الآيات، إلا ان هذا لا يقدح في خلافته وربوبيته[54]. فلكل إنسان نصيب من الربوبية، وأما الربوبية التامة فهي للإنسان الكامل باعتباره الخليفة وصاحب الولاية التامة، وكذلك فإن له العبودية التامة[55].
فالخلافة لدى العرفاء لا تصح إلا للإنسان الكامل. فكما ذكر الجندي من ان الله قد خلق آدم على صورة الرحمن، فالعلاقة بينهما علاقة خلافة، حيث لا بد ان يكون الخليفة على صورة مستخلفه وإلا فهو ليس بخليفة، وبعدها اوجد الله العالم على صورة آدم، باعتبار ان العالم صورة تفصيل النشأة الإنسانية، وان الإنسان هو صورة جمعها الأحدية، فالإنسان هو غيب العالم، والعالم شهادته وظاهره، لكون الكثرة والتفرقة هي حجاب ظاهر، وان الجمعية الأحدية هي غيب باطن، وبالتالي فالإنسان هو روح العالم وقلبه ولبه وسره الباطن[56].
هذه هي المشابهة بين ذات الحق والإنسان، وبين هذا الأخير والعالم. حتى ان البعض صرح بأن ذات الحق عبارة عن إنسان إلهي تقليداً لما جاء به افلوطين[57]. كما انها ذاتها تستبطن فكرة الخلافة والولاية. وبالتالي فليس هناك من يمثل هذه الكمالات من المضاهاة والشمول وصفات العلم والخلافة والقدرة على الايجاد والخلق والتكوين غير صاحب الكمالات الإنسانية والوجودية المعبر عنه بالحقيقة المحمدية.
وقد كان أكسانوفان (عاش حوالي 500 ق.م) يسخر من مشاكلة الله للإنسان، أو اعتباره صورة مكبرة للأخير.
***
إذاً، إن فكرة الحقيقة المحمدية نابعة من فكرة الإنسان الكامل الجامع للكل. كذلك فإن فكرة الولاية هي أيضاً تنبع من هذه الفكرة عبر ما استخلفه الحق ليكون خليفة له في التكوين والايجاد.
فمشروعية الولاية تستمد من الخلافة كما صوّرها العارف الآملي، وان الخلافة هي تلك النيابة عن الله في التكوين والايجاد، وبالتالي فإن للولاية تكويناً هي تلك المسماة بالولاية التكوينية.
فالآملي قد نقل عن الصوفية رأيهم بأن الولاية والسلطنة لا تجوز مباشرة من الذات القديمة من دون واسطة، استناداً إلى بعد المناسبة بين عزة القِدم وذلة الحدث، لذا لا بد من ان يولي القديم ما ينوب عنه في التصرف والولاية والحفظ والرعاية، وصفة هذا النائب هي ان له وجهاً في القِدم يستمد به من الحق تعالى، ووجهاً في الحدث يمد به الخلق، ومن ثم فقد جعل الله على صورته خليفة يخلف عنه في التصرف، وخلع عليه جميع أسمائه، وسماه إنساناً لإمكان وقوع الإنس بينه وبين الخلق برابطة الجنسية والانسية، كما جعل له بحكم اسميه الظاهر والباطن حقيقة باطنة وصورة ظاهرة ليتمكن بهما من التصرف في الملك والملكوت. وحقيقته الباطنة هي الروح الأعظم، وهو الأمر الذي يستحق به الإنسان الخلافة، والعقل الأول وزيره وترجمانه، والنفس الكلية خازنه وقهرمانه، والطبيعة الكلية عامله. وأما صورته الظاهرة فهي صورة العالم من العرش إلى الفرش وما بينهما من البسائط والمركبات، وهذا هو الإنسان الكبير[58].
مع انه قد يقال ان اعتبار العقل الأول وزير الروح الأعظم، والذي هو روح النبوة أو حقيقة النبي محمد كما عرفنا، ينافي ما قد سبق ان صرح به الآملي من ان النبوة هي قبول النفس القدسي حقائق المعلومات عن الله تعالى بواسطة العقل الأول.
لكن قد يجاب عن ذلك بأن الروح الأعظم، أو روح النبوة، هي غير ما ذكر من النبوة، فالأولى لها دلالة الولاية والخلافة بخلاف الثانية، أي تصبح للنبوة حالتان، إحداهما ظاهرة تنفعل عن العقل الأول، أما الأخرى فهي باطنة يُعبّر عنها بالولاية.
كذلك فقد صرح الآملي في محل آخر بأن العقل الأول هو ذاته الروح الأعظم وليس وزيره، وهو المعبر عنه بالخليفة الأعظم والقلم الأعلى والإنسان الكبير وقطب الأقطاب وآدم الحقيقي وما إلى ذلك[59].
كما نجد ان صدر المتألهين قد عدّ الحقيقة المحمدية هي ذات العقل الأول. فعنده ان محمداً هو أول سلسلة الوجودات الممكنة وآخرها، أو يمثل بداية السلسلة ونهايتها. فعند الاقبال والبداية هو عقل أول، فهو أول الجواهر والعقول، وقائد سلسلة العلل والمعلولات، وفاتح باب الرحمة والجود، وواسطة فيض الحق في الوجود. وهو عند الادبار والنهاية عقل آخر؛ هو زبدة العناصر والأصول وخاتم كل نبي ورسول، وثمرة شجرة عالم الأضداد، وسائق العباد إلى منزل الرشاد ودرجة السداد، وهادي الخلق إلى رضوان الله الملك الحق والمعبود المطلق. فهو بالتالي أشرف من كل الممكنات والمخلوقات بما في ذلك الملائكة المقربين[60].
والفارق بين الآملي وصدر المتألهين، هو ان الآملي اعتبر العقل الأول يتمثل في جبريل، وان محمداً يفوقه منزلة ورتبة، والذي إليه يستند في وزارته، رغم انه عدّ النبوة متأثرة بجبريل أو العقل الأول. في حين إن محمداً لدى ملا صدرا عبارة عن نفس العقل الأول، وليس ثمة ما يفوقه سوى الحق تعالى.
لكن لو إعتبرنا ان الصادر الأول هو الوجود المنبسط الذي يكون العقل الأول أعلى مراتبه، وانه يمثل نفس هذا العقل، فيكون له اعتباران: أحدهما يمثل تلك الذات المتقدمة التي ينطوي فيها العالم على نحو الاجمال، والآخر يمثل ذلك الوجود المنبسط الذي يظهر به جميع ما في العالم على نحو التفصيل.. فلو إعتبرنا العقل الأول بهذه الصورة التوجيهية التي قرّبها صدر المتألهين للتوفيق بين المشربين الفلسفي والصوفي[61]، لكان ما يريده هذا الفيلسوف لا يختلف عما يريده الآملي من النبوة والحقيقة المحمدية والإنسان الكامل.
وبحسب سلسلة التنزّل في نظام الوجود لدى صدر المتألهين، يبدأ المسار من الحقيقة المحمدية التي تمثّل العقل الأول، وهو أول تجلٍّ للحق في عالم الإمكان. يلي ذلك مرتبة الحقيقة العلوية التي يُطلق عليها في بدء وجودها التجددي: النفس الكلية الأولية، أو اللوح المحفوظ، وتُعرف حينئذٍ بالعقل الفرقاني. أما في ظهورها الجسماني البشري الأخير، فهي المتمثلة في عيسى بن مريم. وتتواصل هذه السلسلة بالتدريج وفق الأقرب فالأقرب من مراتب العقول والنفوس الكلية، وذلك بعد العقل الأول والنفس الأولى، حيث تتجلى في صور الأنبياء والمرسلين سابقاً، وصور الأولياء والأئمة المعصومين لاحقاً، ثم يتبعهم الحكماء والعلماء [62].
وعلى هذا الأساس، تنبني أركان ثلاثة تمثل المنظور الفلسفي للوجود، وهي: المبدأ الحق، والعقل الأول، والعالم. إذ يقوم العقل الأول بدور الوسيط بين المبدأ الحق والعالم، أو هو فعل المبدأ الحق في العالم، والمعبّر عنه بالإنسان الكامل، أو الحقيقة المحمدية. ويتميز بأنه يحمل صورة ذلك المبدأ، وان العالم يحمل صورته ومظهره، وذلك استنادًا إلى مبدأ السنخية الذي يحكم العلاقات الوجودية في مراتب التجلي.
وكما صرح إبن عربي بأن الخلائق مرائي للحق تعالى، وان أكمل المرائي وأعدلها وأقومها هي مرآة محمد، حيث ان تجلي الحق فيها أكمل من كل تجل. فليس في الموجودات من وسع الحق سوى الإنسان الكامل أو محمد (ص)، وما وسعه إلا بقبول الصورة[63]. لذا فهو يوصي القارئ ويقول: ‹‹اجهد ان تنظر إلى الحق المتجلي في مرآة محمد (ص) لينطبع في مرآتك فترى الحق في صورة محمدية برؤية محمدية، ولا تراه في صورتك››[64].
بذلك تصبح النبوة المحمدية غير متميزة عن الإلوهة. فنحن هنا أمام عين واحدة هي الإلوهة والنبوة. بل إذا كان العرفاء السنة يكتفون بمحمد كإله صانع وخالق لكل ما هو موجود، فإن العرفاء الشيعة أضافوا إلى ذلك الأئمة من أهل البيت، وبعضهم – مثل السيد الخميني - استشهد بحديث منسوب إلى أحد الأئمة يقول فيه: لنا مع الله حالات، هو هو ونحن نحن، وهو نحن ونحن هو[65].
وبالتالي فإنه سواء لدى العرفاء السنة أو الشيعة؛ يكون محمد هو ذلك الإله الذي تتوقف عليه جميع التنزلات الوجودية والخلقية. الأمر الذي يجعل التوحيد والنبوة والولاية أو الإمامة؛ كلها تندمج في وحدة واحدة هي الله في بعض تنزلاته ومراتبه.
ويمكن القول إن هذه الرؤية تتوافق مع الاعتبارات الفلسفية، فالنبي أو الولي يعد بحسب هذه الاعتبارات هو ذلك الذي تنزّل تبعاً لقاعدة الصدور (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، وان الواحد الصادر ليس منفصلاً عن الحقيقة الإلهية، فليس هو من العالم ولا من الموجودات المجعولة أو القابلة للجعل والتأثير، بل شأنه شأن الإله في الخلق والتكوين.
هكذا لا تقتصر الوساطة المحمدية، وكذا وساطة الأئمة من أهل البيت، على المجال الديني من التبليغ والهداية، بل انها تسبق ذلك لدى الوساطة التكوينية التي يتقوم بها الخلق كله، فلولاهم لاستحال ان يُخلق شيء أو يظهر موجود قط[66].
وبنظر البعض ان فيهم تتجسد العلل الأرسطية الأربع. فعلى رأي الشيخ أحمد الاحسائي انهم علة فاعلية لكونهم نفس المشيئة الإلهية التي تمّ بها خلق العالم وتكوينه، فهم الخالقون الرازقون المميتون[67]، وان علة الايجاد هذه هي المحبة ذاتها، فكل موجود انما هو موجود بحبهم، ومن لم يحبهم فلا يوجد قط[68]. وهم أيضاً علة مادية، حيث ان جميع الخلق خُلقوا من مادة الشعاع القائم بأنوارهم. كذلك فهم علة صورية، إذ كل فرد من الخلائق إن كان طيباً فصورته من أنوار هياكلهم، أو من أنوار هياكل هياكلهم وهكذا، وإن كان خبيثاً فصورته تأتي على خلاف أنوار هياكلهم، وبالتالي فإن تجلياتهم تكون في جميع الأشياء، وان الحديث النبوي القائل (من عرف نفسه فقد عرف ربه) يصدق عليهم، حيث ان من عرف نفسه فقد عرفهم، ومعنى ان الله يرينا إياهم في أنفسنا هو انه يرينا ان أنفسنا هي ذات شعاعهم وظهورهم لنا بنا، فيُعرفون كما يُعرف الشخص بظهور شبحه في المرآة، أما المبدأ الحق في ذاته فلا يمكن ان يُعرف، بل يُعرف بمعرفتهم، وكما يقول تعالى: ﴿وله المثل الأعلى في السماوات والأرض﴾[69]، ويقول الإمام علي: ‹‹نحن الاعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا››[70]. وأخيراً فهم علة غائية، حيث خُلق الخلق لأجلهم وان إياب الناس إليهم وحسابهم عليهم[71]. فهم أول السلسلة النزولية وآخرها غاية، كما ان السلسلة عبارة عن تجلياتهم[72]. وعليه ‹‹فكل الخلق منهم وكل الخلق بهم وكل الخلق لهم وكل الخلق اليهم، بل الخلق هم››[73].
هكذا ان الأئمة عبارة عن ذلك الإله الصانع الذي تحدثت عنه الهرمسية، أو هم ذلك الإله الإبن الذي تحدثت عنه النصارى في تثليثها للأمر الواحد. ومن حيث المنظور الفلسفي فكلها تعني العقل الأول أو الصادر المنبسط العام، فما هي إلا تطبيقات الاعتبارات الفلسفية على العينة الدينية.
والعرفان في تطبيقاته مدين في ذلك إلى تلك الوجهة من النظر. فعندهم ان أول موجود أوجده الله هو العقل، وهو ذاته عبارة عن الحقيقة المحمدية وكذا العلوية. ويوظف العرفاء في هذا الصدد عدداً من النصوص الدالة على النبي محمد تصريحاً وتلويحاً كأول صادر صدر عن المبدأ الحق.
ومن هذه النصوص الأقوال المروية عن النبي[74]: أول ما خلق الله نوري - أو روحي[75] .. كنت نبياً وآدم بين الماء والطين.. خُلقت انا وعلي من نور واحد قبل ان يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف عام.. خلق الله روحي وروح علي بن أبي طالب قبل ان يخلق الخلق بألفي عام.. بُعث علي مع كل نبي سراً، ومعي جهراً[76]. ومثله قول علي: كنت ولياً وآدم بين الماء والطين[77]. الخ.
وعلى هذه الشاكلة ثمة بعض النصوص التي يوظفها العرفاء الشيعة لما يقولونه حول قِدم ولاية الأئمة وباطنيتها وان بها يقوم كل شيء.
ومن ذلك ما نقله العرفاء من رواية عن الإمام الصادق - كما في كتاب الاختصاص للمفيد - انه قال لتلميذه المفضل بن عمر: ان الله تبارك وتعالى توحد بملكه فعرّف عباده نفسه ثم فوّض إليهم أمره وأباح لهم جنته، فمن أراد الله ان يطهّر قلبه من الجن والإنس؛ عرّفه ولايتنا، ومن أراد ان يطمس على قلبه؛ أمسك عنه معرفتنا.. يا مفضل والله ما استوجب آدم ان يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلا بولاية علي، وما كلّم الله موسى تكليماً إلا بولاية علي، ولا أقام الله عيسى بن مريم آية إلا بالخضوع لعلي[78]. وعلى هذه الشاكلة ما نقوله من رواية عن الإمام علي انه قال: ‹‹أنا وجه الله، أنا جنب الله، أنا يد الله، أنا القلم الأعلى، أنا اللوح المحفوظ، أنا الكتاب المبين، أنا القرآن الناطق، أنا كهيعص، أنا ألم ذلك الكتاب، أنا طاء الطواسين، أنا حاء الحواميم، أنا الملقب بياسين، أنا صاد الصافات، أنا سين المسبحات، أنا النون والقلم، أنا مايدة الكرم، أنا خليل جبريل، أنا صفوة ميكائيل، أنا الموصوف بـ (لا فتى)، أنا الممدوح في (هل أتى)، أنا النبأ العظيم، أنا الصراط المستقيم، أنا الأول، أنا الآخر، أنا الظاهر، أنا الباطن››[79].
علاقة الولاية بالنبوة
قلنا ان العرفاء يصورون الولاية بأن لها معنى مباطناً للنبوة. فالنبوة هي ظاهر الولاية، والولاية باطنها[80]. أو يمكن القول إن الولاية هي نوع من النبوة؛ تلك التي أطلق عليها إبن عربي (النبوة العامة)، وان النبوة هي درجة من الولاية. كما يصح القول إن للنبوة درجتين، إحداهما دنيا، وهي الرسالة التي تختص في العلم بالشريعة. والأخرى هي الولاية التي تفوق الأولى منزلة ومكانة. كذلك يصح عكس المسألة والقول بأن للولاية درجتين، إحداهما النبوة الخاصة أو الرسالة، والأخرى النبوة العامة. وكما قال إبن عربي: ‹‹النبوة والرسالة هي خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب››[81]. وفي هذه الحالة يكون النبي ولياً، كما يكون الولي نبياً.
ولدى تقسيم العارف حيدر الآملي فثمة ثلاث مراتب بعضها يستبطن البعض الآخر، وهي الرسالة والنبوة والولاية. حيث ان لها ظاهراً وباطناً وباطن الباطن، أي ان لها قشراً ولباً ودهناً. فالقشر هو الرسالة، واللب هو النبوة، والدهن هو الولاية، وان الأخيرة هي باطن النبوة، وان النبوة هي باطن الرسالة. وبالتالي فإن الولي باطن النبي، والنبي باطن الرسول. وان كل رسول نبي، وكل نبي ولي، لكن من غير عكس، أي ليس كل نبي رسولاً، ولا ان كل ولي نبي. وأعظم هذه المراتب الثلاث هي الولاية، ثم النبوة، ثم الرسالة، تبعاً لغور الباطن.
وعلى شاكلة هذه المراتب ثمة الشريعة التي تنزلمنزلة دون الطريقة، وهذه دون الحقيقة. وكذا الوحي فإنه دون الالهام[82]، وهذا دون الكشف. وكذا الإسلام فإنه دون الايمان، وهذا دون الايقان[83].
إذاً، لدى العرفاء ان الولاية أعظم من النبوة والرسالة. وكما قال إبن عربي: ان ‹‹الولي فوق النبي أو الرسول››[84]. وحيث يعظّم العرفاء الولاية قبال النبوة؛ فإنهم لا يعنون بذلك تعظيم الأولياء على الأنبياء، وانما يرون ان في النبي مرتبتين إحداهما باطنة وهي الولاية، وأخرى ظاهرة، وهي النبوة أو الرسالة.
ومن حيث المقارنة صرح إبن عربي ان الرسل كأولياء عارفين، هم أرفع من كونهم رسلاً. فالولاية والمعرفة تجعلهم في بساط المشاهدة في الحضرة المقدسة. في حين ان الرسالة تنزلهم إلى العالم الأضيق ومشاهدة الأضداد ومكابدة الأسماء الإلهية القائمة بالفراعنة الجبابرة. كما ان لمرتبة الولاية أفضلية على مرتبة الرسالة، فمرتبة الولاية والمعرفة لها جهة حقانية، وبالتالي فهي أبدية ودائمة الوجود، ومرتبة الرسالة لها جهة خلقية، لذا فهي منقطعة غير أبدية، إذ تنقطع بالتبليغ، والفضل للدائم الباقي، وان الأولى متعلقة بالآخرة، بينما تتعلق الثانية بالنشأة الأولى الدنيوية، لأن بخراب الدنيا يرتفع التكليف فلا تبقى إلا الولاية. كما ان الولي العارف مقيم عنده، والرسول خارج عنه، وحالة الاقامة أعلى من حالة الخروج[85].
ومن المبررات التي أدلى بها إبن عربي في ترجيح الولاية على النبوة ما ذكره من ان الولي هو صفة من صفات الله كما جاء في النص القرآني، حيث سمى الحق نفسه ﴿الولي الحميد﴾، ولم يرد من صفاته النبي أو النبوة، ولهذا انقطعت النبوة والرسالة ولم تنقطع الولاية، باعتبار ان إسم الولي يحفظها، فهي ثابتة لا تزول أزلاً وأبداً، إذ لو انقطعت الولاية لم يبقَ لها إسم، مع ان الولي هو إسم باق لله تعالى. وعلى عكس ذلك النبوة حيث انها من الصفات الزمانية والمكانية، لذا تنقطع بانقطاع زمن النبوة والرسالة. وللولاية من الشمول بحيث ان من درجاتها النبوة والرسالة، لكن ليس لأحد بعد النبي محمد (ص) ان يصل إلى درجة النبوة الخاصة بالتشريع؛ لأن بابها مغلق. فللولاية حكم الأول والآخر والظاهر والباطن بنبوة عامة وخاصة وبغير نبوة[86]. على ذلك إعتبر العرفاء ان ولاية النبي محمد هي أكمل وأتم وأعظم من نبوته ورسالته وتشريعه[87].
ومثلما لا بد للنبي من ولاية، فلا بد للولي العارف من نبوة، وإلا فإنه غير معوّل عليه، وكما قال إبن عربي: ‹‹كل ولاية لا تكون نبوة لا يعول عليها››[88].
وتأتي نبوة الولي العارف من حيث ان طبيعة الولاية هي نبوة عامة غير منقطعة، بخلاف الحال مع النبوة الخاصة بالتشريع، وبالتالي كان الأولياء الكاملون أنبياء تابعين. إذ النبوة مقام يعطى للنبي المشرع كما يعطى لغيره من التابعين الذين يجرون على سنته. وهو بإتباعه يكون قد أخذ النبوة بالاكتساب، حيث لم يأته شرع من ربه يختص به، ولا شرع يوصله إلى غيره، كما هو الحال مع هارون مقارنة بموسى.
فهذا هو معنى اكتساب النبوة، حيث يأتي بالإتباع ولا يختص بتشريع[89]. وعليه لا يعتبر إبن عربي نفسه وغيره من العرفاء المسلمين الكاملين أنبياء بالمعنى الخاص الذي هم فيه مشرعون، وانما يعتبرهم وارثين وتابعين لولاية محمد (ص).
وهو في مقدمته لكتاب (فصوص الحكم) أعلن ان ما أتى به انما من محمد أمره ان يتلوه على الناس لينتفعوا به[90]. وصرح بأن لهذه الأمة أولياء أطلق عليهم (أنبياء الأولياء)[91]. مما يعني انهم أنبياء بالمعنى العام للنبوة، ولهم وظائف ما للنبي إذا ما استثنينا التشريع، حيث انهم يسمعون الوحي (جبريل) ويسألون النبي ويصححون الأخبار[92]، ولهم فوق ذلك كرامات هي معجزاتهم كأولياء؛ مثلما للنبي معجزاته كنبي.
ولعل العرفاء مضطرون لنفي النبوة التشريعية من قائمة وظائفهم العرفانية لاعتبارات التقية، كي لا يُتهموا باستحداث أديان جديدة. وإلا فمن حيث الاتساق ان نبوة التشريع ليست بعزيزة عليهم طالما ان مقامهم يفوق مقام هذه النبوة نظراً لولايتهم، وانهم مطلعون على الغيب ومتصلون بالقطب الأزلي للولاية، وهو الحقيقة المحمدية. فلو أخذنا بهذه الاعتبارات حقّ ان يكون كل ولي عارف نبياً، مثلما يكون كل نبي ولياً عارفاً.
لذا نُقل عن السهروردي انه كان يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر. كما نُقل انه اشتهر عن إبن سبعين (المتوفى سنة 667هـ) قوله: لقد تحجّر إبن آمنة واسعاً بقوله: لا نبي بعدي.. فعلّق الذهبي على ذلك بالقول: إن كان إبن سبعين قال هذا فقد خرج به عن الإسلام[93]. وروى الذهبي عن إبن دقيق العيد أنه قال: جلست مع ابن سبعين من ضحوة الى قريب الظهر، وهو يسرد كلاماً تعمل مفرداته، ولا تعقل مركباته.
***
على ان بين الولاية العرفانية والنبوة عنصراً مشتركاً هو كشف حقائق الوجود بقوة قدسية تفوق العقل. وقد كان الغزالي يرى ان فوق العقل طوراً للكشف تُشاهد فيه أرواح الأنبياء والملائكة وسماع أصواتهم وغير ذلك. وذكر إبن عربي في (رسالة الأنوار) ان بين النبوة والولاية ثلاثة مشتركات، أحدها ان العلم عندهما هو علم من غير تعلم كسبي، والثاني ان الفعل لديهما هو فعل بالهمّة بخلاف ما جرت عليه العادة بوجود الأثر المادي في التأثير الفعلي، أي ان الفعل عندهما هو فعل خارق للعادة. أما الثالث فهو انهما يريان عالم الخيال في الحس المشهود خلافاً لسائر الناس. لكن مع هذا فانهما يفترقان بمجرد الخطاب، حيث ان مخاطبة الولي غير مخاطبة النبي. وهو يرى ان كل ولي لله فإنه يأخذ بوساطة روحانية نبيه الذي هو على شريعته، ومن ذلك المقام يشهد[94]. لكنه في (الفصوص والفتوحات) ذهب إلى ان الكل يأخذ من مصدر واحد.
مهما يكن فإن الاعتراف بمشاركة الأولياء للأنبياء بمزية العلم بالحقائق ومشاهدة عالم الخيال، وكذا التأثير على العالم الجسماني بالهمة بما يُعرف بالمعجزات والكرامات، كل ذلك يجعل من الولي تعبيراً آخر عن النبي، والعكس صحيح أيضاً. وبالتالي جاز ان لا يُسد باب النبوة مثلما ان باب الولاية غير مسدود، رغم ان الولاية مكتسبة بالرياضات والمجاهدات، بخلاف النبوة الخاصة بالتشريع، حيث تأتي مباشرة من غير اكتساب.
ويظل انه بنظر العرفاء ان العارف أفضل من النبي في نبوته الخاصة بالتشريع، تبعاً لفضل الولاية على النبوة الخاصة. فالولي على قسمين كما يذكر الآملي: أحدهما هو الذي تكون ولايته أزلية ذاتية حقيقية، ويسمى بالولي المطلق، وهو القطب الأعظم. أما الآخر فهو الذي تكون ولايته مستفادة من ذلك الولي المطلق، ويسمى بالولي المقيد، وهو الإمام أو الخليفة. وكلا القسمين يرجعان إلى حقيقة النبي محمد (ص) وورثته من أهل بيته. وحيث ان النبوة مختومة من حيث الإنباء، فلم يبق إلا الولاية من حيث التصرف في النفوس أبد الآباد، إذ يكون التصرف إلى غير نهاية، فباب الولاية مفتوح وباب النبوة مسدود، كما عرفنا[95].
فمن هذه الناحية اعتقاد عرفاء الشيعة بأفضلية الأولياء الأئمة من أهل بيت النبوة على سائر الأنبياء باستثناء نبينا محمد، وكذا رأى بعض عرفاء السنة أفضلية ولاية عرفائهم على أولئك الأنبياء، ومن ذلك ان إبن عربي نصّب نفسه كولي يفضل سائر الأنبياء بفضل مقام تبعيته لولاية النبي (ص) على جميع سائر الأنبياء والمرسلين. إذ جعل من نفسه خاتماً للأولياء على غرار خاتمية محمد للأنبياء، ورأى بحسب هذه الخاتمية التابعة لنبينا محمد؛ ان كل نبي أو رسول أو ولي انما يرث منه العلم الباطن باعتباره خاتماً للأولياء، وهو بدوره ورثه مباشرة من نبع الفيض؛ روح محمد أو الحقيقة المحمدية[96]. فقد أعلن بأن الرسل لا تشهد العلم ‹‹إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة - أي نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء››[97].
وبعبارة أخرى، تبعاً لهذه الرؤية فإنه يمتنع وصول أحد من الأنبياء وغيرهم إلى الحضرة الإلهية ما لم يكن ذلك بالولاية. وهي من حيث جامعية الإسم الأعظم؛ تكون لخاتم الأنبياء، ومن حيث ظهورها بتمامها في الشهادة؛ تكون لخاتم الأولياء، فصاحبها واسطة بين الحق وجميع الأنبياء والأولياء[98].
ولا شك ان هذا المعنى يعطي لخاتم الأولياء ما ليس لخاتم الأنبياء من الفضل والرتبة، سواء كان الخاتم بالولاية العامة كما يتمثل في عيسى، أو بالولاية الخاصة المقيدة كما يتمثل في إبن عربي ذاته[99].
وفعلاً فإن هذا الشيخ جعل خاتميته للأولياء تفضل خاتمية الرسل، أو ان مقام ختمه للأولياء يعلو مقام ختم النبي للرسل، وذلك من حيث رسالته لا ولايته. فهو يتفوق على النبي (ص) كرسول مشرع، وإن كان دونه من حيث الولاية.
وكما قال: ‹‹وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من الشرايع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون انزل، كما انه من وجه يكون أعلى››.
وقد أيّد كلامه هذا بما اعتقده من شواهد حسية تاريخية، كما جاء في بعض الروايات، مثل فضل عمر بن الخطاب في حكمه بما يطابق حكم به الله في قتل أسرى بدر، وكان رأي النبي هو العكس. كذلك ان النبي قال في تأبير النخل: ‹‹أنتم أعلم بأمور دنياكم››[100]. وكل ذلك يعود إلى اختلاف المقامات، وان العارف والولي يمكنه الترقي من مقام إلى مقام آخر غيره حتى يصل إلى بغيته في الفناء في التوحيد الذي يُعدّ أرقى المقامات، كما سنتحدث عنه قريباً.
الإتحاد وتعدد مقامات الأنبياء والعرفاء
من وجهة نظر الفلاسفة والعرفاء، ان الحقيقة الواحدة لها تنزلات متفاوتة بالكمال والنقص والعلة والمعلولية. وحقيقة الإنسان لا تبعد عن هذه الاعتبارات، حيث تتضمن عدداً من المقامات المتفاوتة اعتماداً على درجة الكمال والرقي. فبحسب نظرية الإتحاد يمكن للعارف ان يترقى من مراتب العقول والنفوس إلى أقصى الغايات؛ مسافراً من المحسوسات إلى الموهومات ثم منها إلى المعقولات حتى يتحد بالعقل الفعال بعد تكرر الاتصالات وتعدد المشاهدات[101]، الأمر الذي يفضي إلى جواز إتحاده وفنائه في ذات المبدأ الحق، فيكون له بذلك مقامات متعددة تتفاوت بالكمال، وإن كانت تتطابق في الحقيقة وفقاً لمنطق السنخية.
وكذا هو الحال مع الأنبياء ومنهم نفس نبينا محمد (ص)، فكما جاء عن صدر المتألهين انه في مقام ‹‹قاب قوسين أو أدنى›› عقل بسيط قرآني متحد مع المعقولات كلها، وهو قلم الحق الأول وكلمة الله التامة التي فيها جوامع الكلم كما جاء في قوله (ص): ‹‹أُوتيت جوامع الكلم››. وفي مقام آخر هو لوح نفساني فيه تفاصيل العلوم وصور الحقائق المرسومة من قبل قلم الحق الفعال[102].
وهو في جميع المقامات تارة يأخذ الكلام عن الله مباشرة بلا واسطة ملك[103]، وتارة ثانية بواسطة جبريل[104]، وثالثة في مقام غير هذا المقام الإلهي الشامخ[105]، وأخيراً انه كان يسمع كلام الله في هذا العالم الحسي[106]. فعلى ذلك تكون هناك مقامات أربعة للنبي (ص) في أخذه واستماعه للكلام الالهي[107].
وبسبب تلك المقامات المتفاوتة والمتفقة الحقيقة، إعتبر صدر المتألهين ان للأنبياء نوعاً واقعاً بين الإنسان والملك، أو هو في الحد المشترك بين عالمي الملك والملكوت، فإنهم كالملائكة في اطلاعهم على ملكوت السماوات والأرض، وكالبشر في أحوال المطعم والمشرب والمنكح، فمثلهم كمثل المرجان حيث انه كالحجر والنخل في الوقت نفسه. لذلك فسّر قوله تعالى: ﴿ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً﴾[108].
وبهذا استطاع ملا صدرا ان يجمع بين اعتبار النبي (ص) بشراً كسائر الناس، مثلما صرحت بذلك النصوص القرآنية، وبين نفي بشريته كالذي يدعيه العرفاء. فاعتبر النبي (ص) في قوله المروي عنه: ‹‹لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل›› قد أخبر عن مرتبته الباطنية، وعدّ هناك حالاً آخر غير ذلك المقام؛ كما جاء في بعض الآيات مثل قوله تعالى: ﴿ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم إن الحكم إلا لله﴾[109]، وقوله سبحانه: ﴿لا أعلم الغيب ولا أقول لكم اني ملك، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء﴾[110].
وقد أفضى به هذا التلفيق إلى ان يأول سياق بعض الآيات ويحكم بكفر من إعتبر النبي ذا حقيقة بشرية، فذكر يقول: ‹‹لا شبهة في ان نفس من هو خير الخلائق لا تساوي في الحقيقة النوعية لنفس من هو شر الخلائق.. واعلم ان الله قد حكم بكفر من قال بأن نفس النبي (ص) مماثلة لنفوس سائر البشر في قوله: ﴿ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا﴾[111]، وقوله تعالى: ﴿أبشراً منا واحداً نتبعه﴾[112]، وأما قوله تعالى: ﴿قل انما أنا بشر مثلكم﴾[113]، فإنما ذلك بحسب هذه النشأة الظاهرة››[114].
كذلك فبحسب نظرية المقامات المتعددة، علل صدر المتألهين امتناع النبي (ص) عن إجابة اليهودي الذي سأله عن معنى الروح في قوله تعالى: ﴿ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما اوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾[115]، فعزا ذلك إلى محدودية السائل وعدم استيعابه، باعتبار ان النبي والعرفاء إذا ما عبروا من مقام إلى مقام، كإن يعبروا من عالم الروح ليصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة، فإنهم سيعرفون عالم الأرواح وما دونها بأنوار مشاهدات صفات الجمال، وإذا ما فنوا بسطوات الجلال عن أنانية وجودهم ووصلوا إلى لجة بحر الحقيقة فإنهم يكاشفون بهوية الحق، وإذا ما استغرقوا في بحر الهوية الأحدية وبقوا ببقاء الإلوهية فإنهم يعرفون الله بالله، فيوحدونه ويقدسونه ويعرفون به كل شيء، كما جاء في دعاء النبي (ص) فيما روي عنه انه قال: ‹‹ربي أرني الأشياء كما هي››[116].
لهذا قام بتأويل الآية التي تقول: ﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا﴾[117]، ففسرها بأنها تعني ما كنت تكتسب بالدراية والفهم صورة ما في الكتب العلمية، ولست تتعلم الايمان من معلم غير الله، ولكن جعل الله قلبك نوراً عقلياً تتنور به حقائق الأشياء ويُهتدى به إلى ملكوت الأرض والسماء[118].
ومثل ذلك قام بتأويل آية عدم تمكن موسى من رؤية الحق تبعاً لاختلاف المقامات. فالقرآن الكريم صريح في نفي إمكان الرؤية الإلهية حتى بالنسبة إلى الأنبياء، كالنبي موسى، رغم مكانته الرفيعة عند الله[119].
لكن بحسب المفاهيم الوجودية فإن كل موجود يرى الحق ويشاهده بحسب وعائه الخاص. وبالتالي ان مسألة شهود الحق ورؤيته قد تثير بعض الإشكاليات المتعلقة بالنص الديني، وهذا ما دعا ملا صدرا إلى محاولة التوسط والتوفيق بين صراحة النص وبين مضامين تلك المفاهيم القبلية، فأجاب بأن موسى انما كان يرى الحق تعالى بما هو متجل للأولياء، وأراد ان يراه في صورة التجلي التي لا يدركها إلا الأنبياء، وحيث ان الأنبياء متفاوتون في مقام المشاهدة، فبعضهم لم ينل ما يناله البعض الآخر، لذا أراد موسى ان يرى الحق سبحانه على الوجه الذي يطلبه مقامه كنبي، لأنه كولي يراه دائماً ولا يمكن طلب الحاصل فعلاً[120].
وحقيقة ان هذا الجواب بعيد عن الاقناع، لأن الله سبحانه قد اسند رؤيته إلى إستقرار الجبل، وبحسب المفاهيم الوجودية لم يكن الجبل أعظم إدراكاً من موسى حتى يسند إليه ويعول عليه. وبالتالي فما ذلك إلا التأويل الذي نهى عنه هذا العارف.
ونخلص مما سبق إلى ان العارف وكذا النبي والولي بإمكانه الإتحاد بحسب المقامات المتعددة، لا فقط مع العقل الفعال، بل حتى مع ذات الحق والفناء فيه.
وكما سبق ان ذكرنا، بأن صدر المتألهين وان كان ينكر الحلول والإتحاد، فانما يريد بذلك وجود أمرين مختلفين. أما مع وجود حقيقة واحدة غير متعددة فالإتحاد عنده من الضرورات العرفانية، فهو لا يعني اجتماع أمرين معاً، بل هناك رقائق تذهب وتتكامل فتتحد وتفنى في الحقائق التي أعلى منها، دون ان تترك محلها خالياً، بل تنشأ أبدالها من الرقائق الأخرى لتحل مكانها وتتخذ دورها على سبيل الخلق والإعادة. وان العارف والولي يمكنه الترقي بفعل سلسلة الإتحادات فيتحول من مقام إلى آخر أعلى حتى يصل إلى آخر المقامات، وهو مقام المعاد والفناء. رغم انه في تفسيره لسورة البقرة نفى تعدد المقامات لغير الإنسان الكامل، فالملك والإنسان والشيطان والحيوان وغيرها كلها ليس لها إلا مقام واحد فقط، وهو ان كلاً منها يكون تابعاً لإسم إلهي واحد، هو ربّه الخاص لا يتعداه، أما تعدد المقامات فهي من خاصة ذلك الكامل[121].
وذكر بعض العرفاء المحققين ان الخلق اتصف أولاً بالوجود، ثم العلم، فالقدرة، فالإرادة، فالفعل. وحيث ان المعاد هو عود إلى الفطرة الأصلية والرجوع إلى نقطة البداية، لذا لا بد ان تنتفي تلك الصفات بالتدريج والترتيب المعاكس. على هذا فإن السالك العارف لا بد ان ينتفي منه الفعل أول الأمر، فيكون تقياً زاهداً في الدنيا. ثم بعد هذا المقام لا بد ان ينتفي منه الاختيار والإرادة، حيث تستهلك إرادته في إرادة الله. وبعده لا بد ان تنتفي عنه القدرة حتى لا يرى لنفسه حولاً ولا قوة ولا قدرة مغايرة لقوة الحق وقدرته، فيكون في مقام التوكل والتفويض. وبعده لا بد ان تنتفي منه صفة العلم لاضمحلال علمه في علم الله، وهو مقام التسليم. ثم بعد ذلك لا بد ان ينتفي وجوده، فيكون في وجود الله حتى لا يكون له في نفسه عند نفسه وجود، وهو مقام أهل الوحدة، والذي هو أجل المقامات وأفضلها، حيث انه عبارة عن الفناء في التوحيد[122].
وبذلك تكون مقامات الأنبياء والعرفاء مقامات منبسطة بانبساط الوجود الواحد مثلما قدمنا.
***
إذاً، بحسب الرؤية الوجودية، يتجسد الإله في النبوة بكل ما يحمله من علم وفعل. فكما ان العلم الإلهي شامل لكل شيء، فكذلك هو الحال مع العلم النبوي، إذ يمتلك العلم الشمولي، سواء استناداً إلى العقل الفلسفي كما يصوره الفلاسفة في اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، أو استناداً إلى العقل العرفاني كما يصوره العرفاء في اعتبار النبوة بمنزلة العقل الأول أو الروح الأعظم.
أما من جهة الفعل فمن الواضح ان الإلوهة في النبوة بادية الظهور. فهي لدى التصور الفلسفي نابعة من اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، وهو إله البشر الذي يتوسط بالنيابة عن المبدأ الحق[123]، ومنه يكتسب النبي القدرة على الخلق والتكوين، كما يظهر ذلك في المعاجز والكرامات. وتبلغ الإلوهة ذروتها عند القول بإتحاد النبي مع العقل الفعال، حيث يصبح هذا هو ذاك، كما صرح به بعض الفلاسفة أحياناً.
أما في التصور العرفاني، فالأمر أعمق وأشمل من السابق، إذ لا تقف الإلوهة عند حدود العقل الفعّال، بل تندك في الوسيط الذي تقوم به الخلائق كلها، وهو المعبّر عنه بالإله الصانع، والوجود المنبسط، والفعل الشامل، والحق المخلوق به، والمشيئة الإلهية، وإسم الله الأعظم، ومسمى الله، وغير ذلك من التعابير.
وبحسب هذا الفهم الوجودي، فإن الوظيفة الجوهرية للنبوة ليست معيارية تتعلق بإصلاح الناس في سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم الفردية والاجتماعية، بل هي وظيفة وجودية حتمية ترتبط بكل من العلم والايجاد تبعاً لسلسلة مراتب الوجود. فغايتها إمداد التنزلات العلمية وإيصالها إلى النفوس البشرية، لتحصيل السعادة عن طريق الفيض العلمي المقتبس من العالم العلوي، وهي بذلك مختصة بتكميل النوع البشري[124].
فالنبوة بهذا المعنى، تلعب دور الوسيط العلمي في ربط النفوس بالعالم العلوي. وهي من حيث العلم، تحكي السيرة الذاتية للمبدأ الحق، كما انها من حيث الفعل، تحاكي ما يقوم به هذا المبدأ من ايجاد العالم والتأثير فيه.
لكن لما كانت السيرة الذاتية للمبدأ الحق هي العلم بذاته، وان هذا العلم سبب الايجاد والصنع، لذا تتحدد النبوة على وفق هذه السيرة، أي انها علم وايجاد. وبما أنها علم، فهي تؤثر وتخلق. فالنبي، إذاً، عالم بالموجودات وصانع لها بقدر ما له من العلم بها.
وبعبارة أخرى، إن اتصال الفلاسفة والعرفاء بالعلة التكوينية للعالم، والتي هي عند الفلاسفة عبارة عن العقل الفعال الأخير، وعند العرفاء عبارة عن العقل الأول وما شاكله.. يجعل منهم آلهة في العلم والتكوين، إذ يعرفون كل شيء، ويستطيعون خلق كل شيء، وذلك انطلاقاً من أن العلم هو علة الإيجاد والتكوين، أو من أن الاتصال بالعلة يورث المتصل صفاته الشبيهة، الأمر الذي يوظفون به ما يروى: (عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون). فكيف بالقائلين بنظرية الإتحاد، إذ يغدو العارف أو الفيلسوف هو ذاته ذلك العقل الذي يعلم كل شيء، ويمتد فعله في كل شيء؟
[1] يرى الفارابي ان المدينة الفاضلة ‹‹تصير شبيهة بالموجودات الطبيعية، ومراتبها شبيهة أيضاً بمراتب الموجودات التي تبتدئ من الأول وتنتهي إلى المادة الأولى والاسطقسات، وارتباطها وائتلافها شبيهاً بارتباط الموجودات المختلفة بعضها ببعض وائتلافها. ومدبر تلك المدينة شبيه بالسبب الأول الذي به وجود سائر الموجودات. ثم لا تزال مراتب الموجودات تنحط قليلاً قليلاً فيكون كل واحد منها رئيساً ومرؤوساً إلى ان تنتهي الموجودات الممكنة التي لا رئاسة لها أصلاً، بل هي خادمة وتوجد لأجل غيرها وهي المادة الأولى والاسطقسات›› (الفارابي: السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص84).
[2] السياسة المدنية، ص71-73.
[3] غلام حسين ابراهيمي ديناني: قواعد فلسفي در فلسفه اسلامي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، طهران، الطبعة الثانية، 1366هـ.ش، ج2، ص330-332.
[4] المبدأ والمعاد لابن سينا، ص116-120 61ـ 01. والشواهد الربوبية، ص340-344 443. ومقاصد الفلاسفة، ص380-381.
[5] مفاتيح الغيب، ص118.
[6] رسالة الفعل والانفعال، ضمن رسائل الشيخ الرئيس إبن سينا، انتشارات بيدار، قم، ص223.
[7] مقاصد الفلاسفة، ص380-381.
[8] المبدأ والمعاد لابن سينا، ص116. وكذا: مقاصد الفلاسفة، ص383.
[9] المبدأ والمعاد لابن سينا، ص120. ومقاصد الفلاسفة، ص380-381.
[10] رسالة في معنى الزيادة وكيفية تأثيرها، ضمن رسائل إبن سينا في أسرار الحكمة المشرقية، ص47.
[11] المبدأ والمعاد لابن سينا، ص119 و117.
[12] مقاصد الفلاسفة، ص382.
[13] الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959م، ص101.
[14] الشواهد الربوبية، ص344.
[15] اذ يقول إبن سينا: ‹‹اعلم ان النفوس البشرية تتفاوت بالعلم والشرف والكمال، فإنه ربما ظهرت نفس من النفوس في هذا العالم، نبوية كانت أو غيرها، وبلغت الكمال في العلم والاعمال بالفطرة أو بالاكتساب حتى تصير مضاهية للعقل الفعال وان كانت دونه في الشرف والعلم والرتبة العقلية، لأنه علة وهي معلولة، والعلة أشرف من المعلول›› (رسالة في معنى الزيادة وكيفية تأثيرها، ص46-47).
[16] آراء أهل المدينة الفاضلة، ص94.
[17] آراء أهل المدينة الفاضلة، ص104.
[18] زكي نجيب محمود: جابر بن حيان، مكتبة مصر، ص234.
[19] آراء أهل المدينة الفاضلة، ص85.
[20] المصدر السابق، ص94.
[21] تهافت التهافت، ص86.
[22] السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص79-81.
[23] المصدر السابق، ص36.
[24] عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتعريف حسين جمعة، دار دانية للنشر، الطبعة الأولى، 1990م، ص152.
[25] نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص85.
[26] رسالة اتصال العقل بالإنسان، ضمن رسائل إبن باجة، ص167-168.
[27] رسالة الوداع، المصدر السابق، ص114و143.
[28] إبن رشد: تلخيص كتاب النفس، مقدمة احمد فؤاد الاهواني، ص95.
[29] مفاتيح الغيب، ص586.
[30] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص335-339. وج7، ص135.
[31] تفسير صدر المتألهين، ج7، ص134.
[32] أسرار الشريعة، ص90. وجامع الأسرار، ص450-451.
[33] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص124. وأسرار الشريعة، ص92-93. وجامع الأسرار، ص391-392.
[34] أسرار الشريعة، ص93-94.
[35] الاحزاب/ 6.
[36] تفسير صدر المتألهين، ج4، ص135-136.
[37] الاحزاب/ 40.
[38] تفسير صدر المتألهين، مصدر سابق، ج5، ص120.
[39] لدى بعض العرفاء ان التعين الأول يتمثل في مقام الأحدية، وان التعين الثاني هو مقام الواحدية (الخميني: تعليقات على مصباح الإنس، ص226). لكن لدى الآملي ان البحث عن المتعين الأول تارة يكون قبل أول كثرة وأخرى عندها. اذ يرى ان أول تعين تعينت به الذات قبل أول كثرة فرضت في الوجود هو علمه بذاته، لأنه اذا صار عالماً بذاته صارت ذاته معلومة له، وكل معلوم لا بد ان يكون معيناً، فيكون أول تعينه علمه بذاته، بالتالي لا بد ان يكون هذا العلم واسطة بينهما اي بين الله من حيث هو عالم وبين ذاته من حيث هي معلومة، فتحصل ثلاثة اعتبارات، هي اعتبارات العلم والعالم والمعلوم، وهذا عين الكثرة. إذاً ان علمه بذاته هو سبب تعينه، كما انه سبب تعين كل واحد من معلوماته، وهي الأعيان الثابتة، ويكون الله هو الفاعل والقابل حقيقة واعتباراً لا غير. اما من حيث الكثرة الخارجية فإن الحق تعالى تعين أولاً بحقيقة واحدة قابلة للكثرة كلها، وهي المسماة بالتعين الأول والعقل والروح والإنسان الكبير والحقيقة المحمدية وما إلى ذلك، فهي كالهيولى لصور الموجودات كلها (نقد النقود، مصدر سابق، ص685).
[40] الفصوص والتعليقات عليه، ج2، ص320 و321 و323.
[41] شرح الفصوص، ص341-342.
[42] أسرار الآيات، ص42. وجامع الأسرار، ص134-135.
[43] الطالقاني: أصل الأصول، ص78.
[44] ايقاظ النائمين، ص51.
[45] مثلما ان إسم الله الأعظم يجمع جميع الأسماء الحسنى، فإن صدر المتألهين اعتبر اسمي الحي والقيوم شاملين لجميع تلك الأسماء أيضاً، اي انهما يرادفان إسم الله الأعظم. فقد صرح بصدد قوله تعالى: ﴿الله لا إله الا هو الحي القيوم﴾ البقرة/ 255، بأن الحي القيوم مشتمل على جميع الصفات الكمالية والنعوت الإلهية، لأن اسمه الحي مشتمل على جميع الأسماء الذاتية، فيدل على وجوب الوجود ووجوب الايجاب، ومستلزم للإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، والقيوم باعتبار ان معناه مبالغة في القيام لادامة الموجودات على وجه التمام فهو مشتمل على جميع الأسماء الفعلية كالخالقية والابداع والتكوين والانشاء والاعادة والتقديم والتأخير والارسال والانزال والبعث وغير ذلك من صفات الفعل. وبرأيه انه اذا تجلى الباري على عبد بهاتين الصفتين فإن العبد يصبح من المكاشفين، حيث لا يرى في الوجود الا الحي القيوم، وبالتالي فإن هذين الاسمين عبارة عن الإسم الأعظم لمن تجلى له (أسرار الآيات، ص42-44).
[46] صحيح البخاري، حديث 5873. ومثله: صحيح مسلم، حديث 2841.
[47] شرح الفصوص، ص189.
[48] الفتوحات المكية، ج2، ص458-459.
[49] المصدر السابق، ج2، ص237 .
[50] نقش الفصوص، من رسائل إبن عربي، جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 1948م، ج1، ص1-2. والفصوص والتعليقات عليه، ج1، الفص الأول، ص48-49، والفص الخامس والعشرين، ص199، وج2، ص12 و329.
[51] مفاتيح الغيب، ص497-498.
[52] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج2، ص11-12.
[53] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص212.
[54] المصدر السابق، ج1، ص209.
[55] المصدر نفسه، ج1، ص4094. كذلك: تعليقات على شرح فصوص الحكم، ص178.
[56] شرح الفصوص، ص183.
[57] افلوطين عند العرب، ص146. وعرشيه لصدر المتألهين، ص240 02. وشرح أصول الكافي، كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسمية.
[58] أسرار الشريعة، ص94.
[59] جامع الأسرار، ص380.
[60] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص70.
[61] الأسفار، ج7، ص116-117. وعرشيه لصدر المتألهين، ص23.
[62] تفسير صدر المتألهين، ج4، ص128.
[63] الفتوحات المكية، ج2، ص458-459.
[64] المصدر السابق، ج4، ص431.
[65] انظر مثلاً: روح الله الموسوي الخميني: مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، تقديم احمد الفهري، مؤسسة الوفاء، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ - 1983م، ص114.
[66] يوظف عرفاء الشيعة بهذا الصدد حديث الكساء وغيره لاعطاء هذا المعنى من وجود الولاية التكوينية والغائية.
[67] احمد بن زين الدين الاحسائي: شرح الزيارة الجامعة، دار المفيد، الطبعة الأولى، 1420هـ - 1999م، ج1، ص33.
[68] شرح الزيارة الجامعة، ج1، ص203.
[69] الروم/ 27.
[70] هناك جملة من الأحاديث المروية عن الأئمة يجملها الاحسائي كالتالي: بنا عُرف الله، ولولانا ما عُرف الله، ولا يُعرف الله الا بسبيل معرفتنا، ومعرفتنا معرفة الله، ونحن اركان توحيده (شرح الزيارة الجامعة، ج1، ص251).
[71] شرح الزيارة الجامعة، ج1، ص190.
[72] مما جاء في وصف أهل البيت ما ذكره الشيخ الاحسائي بأنهم ‹‹صفات الله وأسماؤه وآلاؤه ونعمه ورحمته الواسعة ورحمته المكتوبة، وهم وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء، وهم إسم الله المبارك ذو الجلال والاكرام، ووجه الله الباقي بعد فناء كل شيء، والوجه الذي يتقلب في الارض، ومقصد كل متوجه.. وهم اوعية غيبه، وهم ظاهره في سائر المراتب وجميع المعاني والمقامات. اياتهم ظاهرة في الافاق وفي أنفس الخلق، ومعجزاتهم باهرة، وهم ملوك الدنيا والآخرة›› (شرح الزيارة الجامعة، ج1، ص48).
[73] شرح الزيارة الجامعة، ج1، ص252.
[74] ورد في الأحاديث التي تتحدث عن أول ما خلقه الله؛ لفظ النور والعقل والمداد والروح والقلم، وقد وجّهها العرفاء إلى معنى واحد هو العقل، مثل ما جاء عن النبي (ص) قوله: أول ما خلق الله نوري. وأول ما خلق الله العقل. وأول ما خلق الله القلم. وأول ما خلق الله الروح. وأول ما خلق الله العرش. وأول ما خلق الله جوهر محمد. والمداد نوري (كتاب شق الجيب بعلم الغيب، مصدر سابق، ص288. وجامع الأسرار، ص144 و380. ومعارج القدس، ص117).
[75] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص123.
[76] جامع الأسرار، ص382.
[77] أسرار الشريعة، ص94. وشرح الزيارة الجامعة، ج1، ص113.
[78] شرح الزيارة الجامعة، ج1، ص334.
[79] جامع الأسرار، ص383.
[80] شرح الفصوص، ص238. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص124.
[81] شرح الفصوص، ص493.
[82] لدى الغزلي مفاضلة أخرى معاكسة بين الوحي والالهام، تبعاً للاصطلاح التقليدي لهما. فهو يقول: ‹‹لم يفارق الوحي الالهام في شيء من ذلك، بل في مشاهدة الملك الملقي للعلم، فإن العلم انما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة›› (الغزالي: ميزان العمل، حققه وقدم له سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة الأولى، 1964م، ص221).
[83] جامع الأسرار، ص385-386.
[84] شرح الفصوص، ص492.
[85] كتاب القربة، من رسائل إبن عربي، ج1، ص8-9. وكتاب مقام القربة، ضمن رسائل إبن عربي (1)، ص242. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص139-143. وجامع الأسرار، ص386 و389.
[86] الفتوحات، ج3، ص100. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص243.
[87] شرح الفصوص، ص492. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص139-140.
[88] رسالة لا يعول عليه، من رسائل إبن عربي، ج1، ص10.
[89] الفتوحات، ج2، ص6. ويقول الجندي في هذا الصدد: ‹‹لما كانت النبوة نسبة بين الخلق والنبي فهي منقطعة ولا بد، أي لا ينزل الملك إلى أحد بعد رسول الله (ص) بشريعة مخالفة لهذه الشريعة أبداً، فهي منقطعة لذلك. وأما الولاية فغير منقطعة، لأن الأخذ عن الله والقاؤه وتجليه وتعليمه واعلامه والهامه غير منقطعة أبداً عن أولياء الله، لأن الله سمى نفسه بالولي الحميد، ولم يسم بالنبي ولا الرسول›› (شرح الفصوص، ص239-240).
[90] شرح فصوص الحكم، ص109 و111 و112. وفصوص الحكم والتعليقات عليه، ج1، ص47.
[91] الفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، ج1، ص203.
[92] المصدر السابق، ج1، ص203-204.
[93] الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص547 و586. وفي رواية أخرى انه قال: لقد زرب إبن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي (عن: درء تعارض العقل والنقل، ج1).
[94] رسالة الانوار، من رسائل إبن عربي، ج1، ص15-16.
[95] أسرار الشريعة، ص99-100.
[96] الفصوص والتعليقات عليه، ج2، ص24-25 ، وج 1، الفص الثاني، ص62.
[97] شرح الفصوص، ص238 و231. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص243-244.
[98] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص243.
[99] شهد الشيخ الأعرابي في الفصوص وغيره من الكتب على نفسه وعلى النبي عيسى بختم الولاية، اذ عدّ نفسه خاتم الأولياء بالولاية الخاصة، وان عيسى هو خاتمهم بالولاية العامة، فذكر انه اجتمع مع جميع الأنبياء حين أقام بقرطبة حيث بشّره هود بأن الأنبياء اجتمعوا لتهنئته على ختمه للولاية. وهو في الفتوحات شهد لعيسى بالولاية العامة ولرجل في عصره ادعى انه شاهده وجالسه، وقد عده أقل رتبة من عيسى (الفتوحات المكية، ج1، ص243).
[100] شرح الفصوص، ص240-241. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص244-245.
[101] مقدمة رسائل فلسفي، ص4.
[102] أسرار الآيات، ص13.
[103] كما قال سبحانه: ﴿ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما اوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى﴾ النجم/ 8-12.
[104] كما في قوله تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحي، علّمه شديد القوى ذو مرّة فاستوى، وهو بالافق الاعلى﴾ النجم/ 3-7.
[105] كما في قوله تعالى: ﴿ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المآوى، اذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ النجم/ 13-18.
[106] كما في قوله عز وجل: ﴿وانه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وانه لفي زبر الأولين﴾ الشعراء/ 192-196.
[107] أسرار الآيات، ص53.
[108] الانعام/ 9. انظر: أسرار الآيات، ص154-155.
[109] الاحقاف/ 9 .
[110] الاعراف/ 188. انظر: أسرار الآيات، ص172-173.
[111] التغابن/ 6.
[112] القمر/ 24 .
[113] الكهف/ 110.
[114] أسرار الآيات، ص143-144.
[115] الاسراء/ 85.
[116] أسرار الآيات، ص105-106. كذلك: التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي، ج21، سورة الاسراء، تفسير آية ويسألونك عن الروح. وقد ورد الدعاء بصيغة: ارنا الأشياء كما هي.
[117] الشورى/ 52.
[118] أسرار الآيات، ص18.
[119] مثلما جاء في قوله تعالى: ﴿قال ربي ارني انظر اليك، قال لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل فإن إستقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً﴾ الاعراف/ 143.
[120] مفاتيح الغيب، ص191.
[121] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج3، ص411-412.
[122] أسرار الآيات، ص224-225.
[123] السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص80.
[124] شواكل الحور في شرح هياكل النور، مصدر سابق، ص246.