-
ع
+

السنخية وأثر العشق في التكوين الوجودي

يحيى محمد

تبعاً لمنطق السنخية والتشاكل فان هناك حباً وعشقاً متبادلاً بين المبدأ الحق والفيوضات التي ترشحت عنه. حيث جميع الممكنات تدرك الحق وتتشوق اليه فتنحو باتجاهه وتتحرك الى طلبه بالتشبه. وكما يقول الفارابي ان: ‹‹كل مدرك متشبه من جهة ما يدركه››[1]. فابتداءاً ان للأجرام السماوية نفوساً وعقولاً كثيرة، فلكل كرة فلكية مبدؤها المفارق ونفسها التي تخصها والتي تمتاز بالشوق والادراك والتشبه فيتحقق بفعل هذه العملية الحركة لجميع الأجرام. ولدى الفلاسفة وعلى رأسهم ارسطو ان هناك تمييزاً بين المبدأ الاول وسائر المبادئ المفارقة، فهذه الاخيرة تتصف بانها مختارة وعاشقة لغيرها، خلافاً لما هو الحال في المبدأ الحق، باعتباره مختاراً بذاته، اذ كان الكل متحركاً نحوه، وهو المعشوق للكل[2]. فلولا كونه معشوقاً ما تحرك شيء ولا تحققت غاية. وتجري العملية بأن يحرك المحرك الأول المتحرك الأول كما يحرك المحبوب المحب له، وهو يحرك ما دون ذلك عن طريق المتحرك الأول. أي ان السماء الأُولى تتحرك عن المحرك الأول بالشوق اليه؛ بأن تتشبه بقدر ما في طاقتها، مثلما يتحرك المحب الى التشبّه بمـحبـوبه، وكذا تـتـحرك سـائـر الأجـرام السماوية بالشوق تبعاً لـحركة تلك السماء[3]. وهـذا الحال مستمر ودائم، أزلاً وأبداً، باعتبار أن ارسطو وغيره من الفلاسفة يعدون المفارقات والأجرام ونفوسها لا تموت ولا تقبل الفناء. وهم قد جعلوا من العشق سبباً لتأثر العالم الكوني الذي تحت القمر، فحركة السماء والاجرام هي السبب في حدوث الاشياء وتكونها[4]، فبالعشق يؤثر المبدأ الاول في العقول، والعقول في النفوس، والنفوس في الاجرام السماوية، حيث تحركها حركة دائمة بالحركة الاختيارية الدورية تشبهاً بالعقول واشتياقاً لها، ومن ذلك تتكون عناصر الارض واشياؤها.[5]

والملاحظ في هذه الرؤية ان الفلاسفة لا يعدون لحركة الاجرام السماوية قصداً لحدوث الأشياء السفلية، فما تقصده حقيقة هو التشبه بالعقول والاشتياق الى الحق وعبادته، فهي حية، وحركاتها ارادية قصدها عبادة الحق والتشبه به في الصفات، مما يعني ان تكوّن الأشياء يأتي بالقصد الثاني العرضي استناداً الى قاعدة (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه).[6]

فالتشبه والتحرك نحو المحبوب تبعاً للحب والعشق هو ما فتأ الفلاسفة يؤكدون عليه لدى جميع الموجودات، سواء تلك التي في عالم الاجرام السماوية، او في ما تحتها من الموجودات والكائنات الطبيعية، فمبرر ذلك قائم على وجود التشاكل والتشابه بين المراتب الوجودية، وبالخصوص بين العلة والمعلول، وبالتالي بين مبدأ الوجود الاول وما دونه من الكائنات. لذلك فقد ربط الغزالي بين ظاهرة الحب ومنطق السنخية، فعد من أسباب الحب؛ المناسبة والمشاكلة بين الحبيب والمحبوب، لان شبيه الشيء منجذب اليه، مؤيداً كلامه بالحديث النبوي القائل: «الارواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». وبهذا الاعتبار جعل حب الحق سارياً في خلقه لوجود تلك المناسبة والسنخية.[7]

وقبل الغزالي صرح ابن سينا في رسالة (العشق) الصوفية بان سريان العشق في كل شيء ليس مكتسباً، بل هو غريزي في جميع الموجودات بالفطرة. فهذه الكائنات لا تعشق الخير المطلق المتمثل بالحق الا لكونه ظاهراً ومتجلياً في كل شيء، بما في ذلك الهيولى فضلاً عن الصورة وجميع البسائط الميتة والحية من مختلف الكائنات والنفوس، حيث تعشقه وتتشبه به بحسب استعداداتها وقابلياتها التي يتجلى لها فيها، فكلما كان الموجود اكثر شرفاً وكمالاً فان عشقه وتشبهه بالحق يكون اعظم، فالعشق والتشبه يتناسبان طرداً مع الشرف والكمال، فمع زيادة هذين الاخيرين يعظم الاولان، والعكس بالعكس. فمثلاً ان النفوس الملائكية تنال من الكمال ما ليس لغيرها من النفوس الارضية، فهي تتشبه بالحق في صور ذاتها وتتعقله وتعشقه بافضل ما لديها من الصورة والادراك ازلاً وابداً. وانما يكون لها ذلك تبعاً لما لديها من القابلية والاستعداد العظيم في نيل التجلي الالهي، باعتبارها تقع في المراتب القريبة للحق ضمن هرم السلسلة الوجودية. في حين ان اقل كمال تناله الكائنات هي ابعدها عن الحق في تلك السلسلة، ومن ذلك المحسوسات الطبيعية، فهي - كما يقول احد الفلاسفة القدماء - تتشبه بالحق، لكن لكثرة قشورها وقلة نورها فانها لا تقدر على حكاية الحق[8]. ويصل التسافل في السلسلة الوجودية مداه الاخير عند الهيولى، فوعاءها الوجودي لا يستوعب الا اضعف الدرجات من التجلي وما يترتب عليه من العشق والتشبه[9]. بل لضعف وعائها الوجودي فان ابن سينا عجز عن اثبات العشق لها في سائر كتبه سوى رسالة (العشق)، مما حدا بصدر المتألهين ان ينكر عليه ذلك بالقدح والنقد[10]، لكونه لا يتسق مع المؤدى الذي يتطلبه منطق السنخية والمشاكلة.

ومن وجهة نظر هذا الفيلسوف العارف، ان الاصل في تجلي الحب والعشق عند الحق لجميع الوجودات يعود الى حبه وعشقه لذاته، والذي هو عين علمه للذات المستجمعة لاوصاف الكمال ونعوت الجمال واسماء الجلال. فلولا هذا الحب والعشق لما وجد العالم كما دل عليه الحديث: ‹‹كنت كنزاً مخفياً فاحببت ان أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف››. وكما دل عليه ما قيل: ‹‹لولا العشق ما وجدت سماء ولا ارض ولا بر ولا بحر››[11]. وسبق للحلاج (المتوفي سنة 309هـ) ان اشار في كتابه (الطواسين) الى ان الحق تعالى قد تجلى لنفسه في الازل، حيث كان ولا شيء معه، فشاهد سبوحات ذاته في ذاته، ونظر الى ذاته فاحبها واثنى على نفسه، فكان هذا تجلياً لذاته في ذاته، ومن ثم كانت محبة الذات هذه هي سبب الكثرة وايجاد الكائنات بعده، حيث شاء الحق ‹‹ان يرى ذلك الحب الذاتي ماثلاً في صورة خارجية، يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الازل واخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته واسمائه، وهي ادم الذي جعله الله على صورته ابد الدهر.. وكان من حيث ظهور الحق في صورته فيه وبه؛ هو هو››.[12]

وكذا كان ابن عربي يرى ان الحب هو علة خلق العالم واصل جميع الاعتقادات والعبادات، وهو سار في جميع الاكوان حتى الذرات، فبالحب يندفع الحق الى الظهور بصور الخلق، بل وان بسببه يندفع الخلق الى الفناء والتحلل من الصور ومن ثم الرجوع الى الاصل.[13]

وبذلك يكون الحب والعشق متبادلاً بين الحق والخلق، وهو علة وجود العالم وحركته وكماله. مع الاخذ بنظر الاعتبار حالة النقص في النظرية الارسطية، فهي لا تعترف بالعشق الا من طرف واحد هو الداني للعالي تبعاً لقاعدة (ان العالي لا يلتفت الى السافل)، اي انها لا تعترف بالعشق النازل الى تحت، انما تكتفي بالعشق الصاعد الى فوق. وبالتالي فانها لا تبرر وجود المفارقات والاجرام السماوية تبعاً لتلك الظاهرة من العشق، اذ لا تعد المبدأ الحق عاشقاً ومحباً لغيره لتبرر بذلك ايجاده للكائنات. وبعبارة ثانية ان ظاهرة الايجاد في الاصل لدى النظرية الارسطية لا تبررها مقالة العشق، وكأن الوجودات ظهرت بالعرض والصدفة نتيجة حركة الاجرام السماوية وتشبهها بالمفارقات والمبدأ الحق. وهي الصدفة ذاتها التي جعلت ما يخرج عن المادة من الصور على شاكلة المبدأ الحق رغم انها مستقلة واجنبية عنه. في حين ان ظاهرة الايجاد مبررة لدى العرفاء واغلب الفلاسفة المسلمين؛ انطلاقاً من العشق النازل، والذي يترتب عليه العشق الصاعد.

هكذا ان العشق في المرتبة الاولى من الوجود - عند الفلاسفة والمتصوفة المسلمين - هو السبب في وجود سائر المراتب والاشياء الاخرى.

 

العشق ومشكلة التفات العالي للسافل

رغم ان الفلاسفة يقرون بقاعدة (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه)، الا انهم لا يقصدون منها نفي ان يكون هناك طريق للسافل ينتفع ويستفيد به من العالي. فهم يفرقون بين الانتفاع والافادة بالقصد الذاتي او الاول، وبين ما يحصل بالقصد العرضي او الثاني. فمن حيث القصد الذاتي ان العلة لا تعتني بما هو دونها ولا تقصده في فعلها، فهي عالقة النظر الى ما فوقها لتتشبه وتستكمل به في عشقها اياه دون ان تلتفت الى ما دونها. أما بحسب القصد العرضي فانه يترشح عن العلة انتفاع السافل بفعل ما تقوم به في قصدها الاول. وقد جاء في قول الحكماء القدماء: ‹‹لولا عشق العالي لانطمس السافل››، وكما قيل: ‹‹وللارض من كأس الكرام نصيب››.

وعلى هذه القاعدة فان الاجسام الطبيعية من الماء والنار والشمس والقمر، انما تفعل افاعيلها من التبريد والتسخين والتنوير، لحفظ كمالاتها وليس لانتفاع الغير منها. فانتفاع الغير انما يلزم عنها على سبيل الترشح. وكذا الحال ان القصد من حركات الاجرام السماوية ليس نظام العالم السفلي، بل عشق النفوس الجرمية وتشبهها بمفارقاتها العقلية، ومن ثم ان هذه المفارقات لا تفعل افاعيلها الا من حيث عشق المبدأ الحق وطاعته والتشبه به، فمن كل ذلك يترشح نظام ما دون الاجرام من العالم السفلي. اذن ان غاية جميع المحركات من القوى العالية والسافلة في تحريكها لما دونها انما هو لاجل الاستكمال والتشبه لمعشوقاتها الفوقية، حتى تنتهي سلسلة التشبهات والاستكمالات الى الغاية الاخيرة والخير الاقصى، وهو المبدأ الحق، فهو يمثل قصد جميع الموجودات وغايتها من التشبه والعشق، تبعاً لتشبهها بعللها القريبة واستكمالها بها.[14]

فلو اخذنا باعتبار النظام التسلسلي للعلل والمعلولات، وان الالتفات المقصود هو التفات صاعد من المعلول الى العلة، فان امر الحب سيتوقف عند مرتبة المبدأ الحق الذي ليس له من قصد في فعله سوى حبه لذاته، لعدم وجود ما هو اعلى منه.

اذن ان العلة لا تنظر الى المعلول ولا تلتفت اليه ذاتاً، تطبيقاً للقاعدة الانفة الذكر. فكل ما للسافل من علاقة انما هو استلام ما يترشح عن العالي من نفع غير مقصود، ويظل ان غاية ما تفعله العلة هو لاجل ما هو اعلى منها.

وقد يبدو للقارئ ان الفلاسفة لا يقرون اي نحو من انحاء الالتفات من قبل العلة الى المعلول، خصوصاً العلل الثانوية بعد العلة الاولى، استناداً الى نظرية الترشح، لكن حقيقة الامر ان اغلبهم لا يقصدون نفي مطلق الالتفات، بل يعولون على الالتفات بالقصد الثاني.

ويمكن ان يقال ان هناك تفسيرين لمسألة الحب وعدم التفات العالي للسافل، احدهما ارسطي ينكر اي نحو من انحاء الالتفات نحو السافل، انما يستفيد هذا الاخير من العالي تبعاً لنظرية الترشح من غير قصد تماماً. بل تبعاً لهذا التفسير انه لا علم للعالي بوجود السافل الا من حيث كونه صورة في ذاته.

أما التفسير الاخر فهو ذلك الذي تبناه اغلب الفلاسفة المسلمين، وهو ان العالي يلتفت الى السافل بحسب القصد الثاني لا الاول. حيث على هذا الاعتبار يمكن للعالي ان يحب السافل ويحنو عليه تبعاً لحبه لذاته، وبذلك يمكن ان تفسّر نشأة الوجودات وترتيبها المحكم تبعاً لما عليه هذا النوع من الحب العرضي. فمن حيث حب المبدأ الاول لذاته وقصده لها فانه يحب ما يصدر عنها من الموجودات، بالعرض والتبعية، ولولا هذا الحب والقصد للذات لما نشأ حبه لسائر الموجودات ولا ارادها ولا اوجدها تبعاً للعناية. بل ان حب الحق لذاته هو عين علمه بالذات كما لدى صدر المتألهين، مما يعني ان هذا الحب الاولي لا بد ان يستلزم عنه حبه للوازمه وآثاره المتمثلة بالموجودات كافة، مثلما ان علمه بذاته يستلزم علمه بآثاره ولوازمه من الموجودات[15]. او يمكن القول انه لما كانت عنايته للموجودات هي نفس ذاته، فارادته هي عين الداعي، وهو نفس علمه بنظام الخير الذي هو عين ذاته، وبالتالي فهو في هذه العناية التي هي عين علمه بذاته، انما يكون مبتهجاً بها اشد الابتهاج، ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عنه، فيكون قصده وحبه والتفاته الى ذاته بحسب القصد الاول، أما حبه لغيره فهو بالعرض، حيث ان حبه لذاته قد تقدم على حب كل شيء، ومن هذا الحب ترشح الحب والعناية بالسفليات. هكذا يكون المبدأ الحق هو الفاعل والغاية والقصد والمقصود، كما انه آخر الاواخر من جهة كونه غاية تبتغيه جميع الاشياء، اذ تتشوق اليه طبعاً وارادة، فهو المعشوق الحقيقي والخير المطلق. [16]

***

لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد، هو ما الذي دعا الفلاسفة يجمعون على نفي إمكانية ان يلتفت العالي إلى السافل بحسب الذات والقصد الأول؟

عن هذا السؤال يجيب الفلاسفة بأن نظام الوجود قائم على ان الغاية والمقصود لا بد ان يكونا بالضرورة أكمل من القاصد. فلو ان العلة كان لها قصد ذاتي إلى معلول لكان هذا القصد معطياً لوجود ما هو أكمل منه، فتكون العلة مستكملة بما هو دونها، وهو محال[17]. لهذا نفى الفلاسفة ان يكون للمبدأ الحق غرض غير ذاته، فكما قرر إبن سينا ان الغرض يفضي إلى الاستكمال بالغير، كما يفضي أيضاً إلى التكثر في ذاته، إذ على هذا الفرض لا بد ان يكون في المبدأ الحق شيء ما عنه ظهر القصد، وهو علمه بوجوب القصد أو استحبابه أو خيرية فيه توجب ذلك، ثم قصد ما، وبالتالي الفائدة التي يستفيد فيها من القصد، وهذا التكثر محال[18]. كما استدل إبن سينا على بطلان ان يكون للمبدأ الحق قصد غير ذاته في فعله لنظام العالم، فلو توخى هذا القصد في فعل النظام لجاز عليه فعل غير النظام، كما هو جائز لدى البشر، وحيث لا يجوز عليه ذلك فيجب ان لا يكون النظام هو المتوخى لفعله[19].

لكن لِمَ لا يقال ان الحق لما كان عبارة عن كل شيء فهو ناظر وملتفت إلى هذه الأشياء بعين نظره وإلتفاته إلى ذاته؟ فغرضه على هذا يكون هو الذات أو الأشياء من دون فرق، ومن ثم فلا يوجد تكثر عارض عليه، كما ليس من الممكن ان يفعل شيئاً آخر غير النظام. وهذا الجواب هو ذاته يقال بخصوص كل علة في علاقتها بمعلولها.

كما لِمَ لا يقال ان إلتفات كل علة إلى معلولها يجري بحسب القصد الأول، للجاذبية الناشئة عن المشاكلة بينهما بحسب السنخية، رغم إلتفاتها إلى ذاتها وما فوقها من العوالي؟ لأن العلة تمثل كمال معلولها، فنظرها إلى ذاتها وحبّها لها؛ يبرر حبّها لمعلولها وإلتفاتها إليه ذاتاً، حيث شبيه الشيء منجذب إليه.

كما لِمَ لا يقال ان كل علة تنظر إلى ما تحتها نظراً ملؤه الرحمة والرأفة من غير ان يكون لها غرض يخصها بالذات، بإعتبارها في غنى عن المعلول لكمالها؟ وإذا ما طبقنا هذا الأمر على المبدأ الحق، فإن غرضه من الفعل هو تمام العطف والرحمة بآثاره دون ان يكون له غرض لذاته الخاصة، وبالتالي فإن من الممكن إعتبار هذا الغرض هو الدافع الذي يمنعه من ان ينشئ غير هذا النظام المعهود. ولا يلزم عن هذا الافتراض الاستكمال بالمعلول والمقصد، بإعتبار ان القصد من فعل العلة هو الجود والرحمة فحسب.

لقد حاول الفلاسفة ان يدفعوا الكثير من الإشكالات التي ترد حول القاعدة (المتعالية) الآنفة الذكر بأجوبة مختلفة ومتعارضة أحياناً، وهي إشكالات مستمدة من أغلب ظواهر الواقع المشهود. ومن ذلك ما ذكره إبن سينا، وهو إنا نرى الاحسان إلى الآخرين من دون نفع شخصي يعود إلى المحسن، فكذا لِمَ لا يجوز للحق ان يفعل الاحسان للخلق من غير غرض آخر؟ فأجاب الشيخ الرئيس بأن مثل هذا السلوك للإنسان لا يخلو من غرض، إذ قد تكون إرادة الخير بالغير لتحصيل إسم حسن أو ثواب أو ثناء أو هو أمر واجب[20]. مع ان هناك أحوالاً لا تتضمن تلك الدواعي الشخصية التي ذكرها الشيخ الرئيس. فمثلاً ان انقاذ غريق يشرف على الموت؛ غالباً ما يحصل لدواعٍ إنسانية محضة دون إعتبار آخر من حسن السمعة والثواب والخوف من العقاب وما إلى ذلك.

وهناك جواب آخر ذكره الغزالي لدفع الاشكالات التي ترد على القاعدة عبر عدد من الأمثلة الحياتية، مثل حراسة الراعي لغنمه وتعليم المعلم لتلميذه وارشاد النبي لامته، حيث اعترف بأن نفس هذه الأفعال لها دلالة على خسة الفاعل مقارنة بالمفعول لأجله، ولكن من تلك الجهة لا غيرها، إذ قد يكون الفاعل أشرف من ذلك المفعول في كل الجهات باستثناء تلك الجهة. لذا صرح كجواب عن الفلاسفة: ‹‹قيل: أما الراعي فهو أخس من الغنم من حيث انه راع، وانما هو أشرف من حيث هو إنسان. وإنسانيته غير مطلوبة لأجل الرعاية فقط، فإن لم يعتبر منه إلا وصف كونه راعياً، فهو بهذا الإعتبار أخس من الغنم بالضرورة، كالكلب الحارس للغنم، فإنه أخس من الغنم بالضرورة ان لم يكن له وصف سوى كونه راعياً. فإن كان يتأتى منه الصيد فهو بذلك الوجه يجوز ان يكون أشرف. فأما هو من حيث انه حارس للغنم فقط بالضرورة يكون أخس منه، لأن ما يراد لغيره فهو تبع لذلك الغير، فكيف لا يكون أخس منه. وهو الجواب عن المعلم والنبي، فإن شرف النبي من حيث انه كامل في نفسه بصفات يكون بها شريفاً وان لم يشتغل باصلاح الخلق، فإن لم يعتبر منه إلا وصف الاصلاح لزم ان يكون المطلوب صلاحه أشرف من المستعمل في الاصلاح››[21].

والواقع ان هذا الجواب غير مقنع، فنحن لا نستطيع ان نحكم بخسة أو شرف الفاعل بالقياس مع المفعول لأجله إذا ما جزأنا الأمر ونظرنا إلى عين جهة الفعل الذي يقوم به دون النظر إلى إعتبارات أخرى، فقد يكون الفاعل مقدماً على فعله بالكرم والجود الذاتي دون إعتبار آخر، وهو من هذه الجهة لا يعقل ان يكون أخس من المفعول لأجله. لهذا لا يجوز ان نحكم بخسّة المعلم بالقياس إلى التلميذ، والنبي بالقياس إلى أمته، وكذا المنقذ بالقياس إلى الغريق، بل والخالق في ايجاده لمخلوقاته واعتنائه بهم، وذلك من جهة ما يقومون به من أفعال لا تفسّر بغير الشرف والجود. بدلالة انه لو صح ما يقوله الفلاسفة لتعين ان يكون شرف المعلم أقل عند تعليمه للتلميذ مقارنة بترك فعل التعليم، وكذا بالنسبة لما يقوم به النبي من اصلاح وارشاد لأمته، فإنه تبعاً لذلك يكون أقل شرفاً وكمالاً مقارنة بتركه لهذا الفعل الحسن، ومثل ذلك في علاقة الخالق بخلقه.

وعلى هذه الشاكلة ما اختاره صدر المتألهين في بعض كتبه، حيث قرر بأن ما ثبت عند الحكماء من (ان العالي لا يلتفت إلى السافل) انما يراد بذلك العالي من كل وجه، وبالتالي يمكن ان يلتفت العالي إلى السافل لو كان أقل منه كمالاً في بعض الوجوه. وبه فسّر كيف ينفعل الجوهر النفساني من السماوات عن أحوال بعض الأرضيات كالنفوس الناطقة الشريفة، فيلتفت إلى تلبية طلباتها وإجابة دعواتها، وهو لا ينافي كون تلك النفوس أعلى من ذلك الجوهر في جوانب أخرى غيرها. وبهذا الجواب نقدَ هذا الفيلسوف ما ذكره الشيخ الرئيس في (التعليقات) من تفسير علة انفعال النفوس السماوية بالأرضيات التي هي أدنى منها، كما يحصل في حالة استجابة هذه النفوس لدعاء الناس. إذ برأي الأخير انه لا يمكن للأرضيات ان تؤثر على العلويات السماوية، لكون هذه الأخيرة عللاً للأولى، وليس من المعقول أن يؤثر المعلول على علته، وعليه إعتبر ان سبب الدعاء هو أيضاً منبعث من فوق، أي ان النفوس السماوية هي التي تحفزنا على الدعاء، فنكون نحن وسبب الدعاء كلانا معلولين لعلة واحدة هي تلك النفوس الفوقية[22].

ومن الواضح ان إجابة إبن سينا أشد اتساقاً مع المنطق الفلسفي في حفظه للمراتب الوجودية. أما صدر المتألهين فله وجهة نظر أخرى تقوم على منطق المقامات المتعددة للشيء الواحد وفقاً للمذاق العرفاني، وبها يجوز للإنسان ان يتحد بالعلويات في بعض المقامات التي يترقى فيها، فيكون بذلك أعلى رتبة من بعض العلويات السماوية وإن كان في مقامات أخرى أقل منها.

كما هناك إجابة أخرى تختلف عما سبق، وقد ذهب إليها صدر المتألهين ومن قبله إبن سينا. فقد عرض مثالاً حول قصد الطبيب من معالجة المرضى وتدبيره إياهم، رغم ان الطبيب هو أكثر كمالاً من المريض في علمه وتدبيره. وكان من المتوقع ان يعقد هذا العارف هذه المقارنة بين الطرفين ليزيل الإشكال المتعلق بتوجه الطبيب إلى المريض، لكنه لم يفعل، بل لجأ إلى التركيز على الغاية التي يراد تحقيقها من المعالجة، وهي الصحة، معتبراً الطبيب ليس فاعلاً لها إلا بالعرض، فواهب الصحة أجل من الطبيب وقصده؛ يهب الكمال على المواد حين استعدادها، فيكون المفيد شيئاً آخر أكثر من القاصد[23]. وهو جواب لا يرفع الإشكال ولا يحله، إذ يمكن ان يقال ان من قصد الطبيب شفاء المريض، وهو ملتفت لأجل هذه الناحية بالذات رغم انه لا يهب الكمال للمواد، وبالتالي كيف جاز له ان يلتفت إلى تقديم العون إلى مريضه مع انه أكمل منه في هذه الناحية بالذات؟

كذلك هناك إجابة أخرى مختلفة تمسك بها صدر المتألهين وقبله إبن سينا. فقد اعترف بأن الغاية كثيراً ما تكون أخس من القصد والقاصد، اعتماداً على ما إذا كان الأمر يقع على سبيل الغلط والخطأ أو الجزاف، كما يقع لأفراد البشر من طلب ما هو أخس منهم، وهو يجري في عالم الفساد والكون، ولا يجري في عالم السماوات المصونة عن الخطأ والغلط[24].

وهذا الجواب وان كان ينطبق على حالات كثيرة، لكنه لا ينطبق على حالات أخرى، فحاجة الإنسان مثلاً للماء والهواء والنار، ليست على سبيل الخطأ، مع ان الإنسان ليس أقل شأناً منها، ولا ان بدنه أقل قيمة من هذه المواد، فمثلاً ان البدن لا يخلو من ماء، وهو يزيد عليه بعناصر أخرى مختلفة؛ فيكون أعظم شأناً منه تبعاً للمقاييس الوجودية. وهو ما يدل على جواز احتياج الأكمل لما هو أنقص منه، كشرط للوجود والكمال والبقاء.

هكذا يلاحظ مما سبق ان هناك أجوبة عديدة لتبرير قاعدة عدم إلتفات العالي للسافل، بعضها يفيد ان فعل الفاعل ينطوي على وجود غاية مستترة تخص ذاته كما عليه إبن سينا، وبعض آخر يعتبر الفاعل الأشرف يجوز ان يكون أخس مما هو دونه من جهة نفس الفعل لا غير كما عليه الغزالي، كما ان هناك جوابين لصدر المتألهين، أحدهما يعد بعض الأفعال الغائية عرضية لا إعتبار لها من حيث القيمة، والآخر يعد الفعل يستبطن لوناً من الغلط والخطأ. ولكن كما لاحظنا ان جميع هذه الأجوبة لا تفسر لنا بعض الظواهر المتعلقة بالأفعال الغرضية للغير على نحو الجود والرحمة فحسب، مثل انقاذ الغريق، كما لا يسعها ان تبرر لنا لماذا يحتاج الأكمل إلى ما دونه ويقصده بالذات، سواء في الوجود أو الكمال أو البقاء، كما في حاجة الإنسان للماء والهواء. وعلى رغم نفي الفلاسفة للإلتفات الذاتي من قبل العالي للسافل؛ فإنهم مقرون بأن مقصود الشرائع وغايتها هداية الناس وسوقهم من الحضيض إلى الكمال بجوار المبدأ الحق[25]. لكن قد نعترض على ذلك ونقول: لماذا هذا الاهتمام والاعتناء؟ وما للتراب ورب الأرباب؟!

وينضوي هذا الإشكال تحت إشكال أعم منتزع عن منطق الإحتمالات، وهو ان قاعدة (عدم إلتفات العالي للسافل) تفضي إلى ان يكون تلائم الوجود بالصورة المنظمة الدقيقة على ما نراه؛ قد حدث للمصادفات العرضية الكبيرة، لكون مصالح الخلق لم تأت بالقصد الذاتي وانما جاءت على سبيل العرض. في حين يمكن تفسير هذا النظام البديع تبعاً للقصد الذاتي، أي ان النظام مقصود ليكون بهذه الدقة والروعة من الناحية الذاتية، وذلك استناداً إلى مبدأ البساطة ومنطق الإحتمالات.

ويمكن ان يجاب على الإشكال المطروح وفق المنطق الوجودي، وهو ان العالم لما كان يستند في صدوره إلى السنخية؛ فإن ما نراه من مصالح ونظام دقيق انما جاء وفق ما كان في ذات الحق من طبيعة متسقة، وبالتالي فليس هناك من ضرر فيما لو لم يلتفت الحق إلى غيره إلا بالعرض، لأن مآل الأمر واحد، وهو ان نظام الحق في ذاته المقدسة لا بد ان ينعكس على الواقع؛ فيحدث النظام الدقيق ومصالح الخلق في العالم.

وبالفعل نجد هذا الجواب عند صدر المتألهين، إذ عرض إشكالاً على هيئة ما سبق، وهو انه لو كان غرض المبدأ الحق لا علاقة له بنفع الممكنات؛ فلماذا نرى هذا النفع والاتقان والتدبير العظيم الذي لا غنى للممكنات عنه؟ وكان جوابه هو ان كل ما نراه انما صدر عنه بإعتباره منبع الخيرات ومنشأ الكمالات، وعليه كان لا بد من ان يصدر عنه أبلغ ما يكون في الكمال والاتقان والجمال، سواء من الضروريات كوجود العقل للإنسان، وارسال النبي للأمة، أو ليس من الضروريات مثل إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين، وتقعير الأخمصين على القدمين، وما إلى ذلك[26].

والعجيب ان صدر المتألهين رغم كل ما سبق من دفاعه عن قاعدة (عدم إلتفات العالي للسافل) فإنه قام بخرقها ومناقضتها بحكم لحاظ العديد من ظواهر الواقع. إذ أصبح لا مانع لديه من ان يلتفت العالي للسافل بقصد ذاتي لا عرضي. وكما أقرّ هذا الفيلسوف من انه لما كان في جبلة المعلولات نزوع نحو عللها واشتياق إليها؛ لذا يحصل في جبلة هذه العلل رأفة وعطف عليها، كما يكون في الآباء والأمهات على الأولاد، وفي الكبار على الصغار، وفي الأقوياء على الضعفاء، وكذلك لشدة حاجة الضعيف إلى معاونة الأقوياء، وسر ذلك يعود بنظره إلى ان الجنس يحن على جنسه[27]. ولا شك ان هذا الجواب هو أوفق مع السنخية وأليق بها من نفي الإلتفات الذاتي للعلة إلى معلولها.


[1]            الفارابي: فصوص الحكم، مصدر سابق، ص66.

[2]            تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1604.

[3]            تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1606. كذلك: الاسكندر الافروديسي: مقالة في القول في مبادئ الكل بحسب رأي أرسطو طاليس الفيلسوف، وهي في: أرسطو عند العرب، ج1، ص268.

[4]            طبقاً للنظرية القديمة في تكون الاشياء الارضية هو ان العناصر او الاسطقسات الاربعة تمثل الاصل في جميع الاشياء والمواد الجسمية، وهي تتكون تبعاً لحركة الفلك المستدير، حيث للجرم تعقلات كلية وجزئية وهي قابلة لنوع من التغير الخيالي الذي تتولد عنه حركة الجرم، فيكون اتصال التخيلات سبباً لاتصال تلك الحركة. لكن لما كان الجسم يدور على شيء ثابت في حشوه، فانه يلزم من محاكته له التسخين والحرارة، مما يفضي الى الخفة التي تمثل صورة النار، في حين ان ما يبعد عن ذلك الدوران والاحتكاك يظل ساكناً، فيفضي به الامر الى البرد والتكثف فيكون ارضاً. اما الوسط بين هاتين المنطقتين فهي اقل حرارة وكثافة، وهما يوجبان الترطيب، وهذه الرطوبة من حيث قربها من الحرارة مما تلي النار؛ تكون خفيفة فتتحول الى هواء، ومن حيث قربها في الجهة الاخرى من الارض؛ تكون باردة فيحصل الماء. وبهذا يكون الجرم السماوي في حركته سبباً لتكون العناصر الاربعة. فهذه هي الفكرة القديمة عن تكون العناصر الارضية، والتي زالت مع التطور العلمي بعد النهضة الغربية الحديثة (انظر حول ذلك: رسالة الدعاوي القلبية، ضمن رسائل الفارابي، ص5. والمبدأ والمعاد لابن سينا، ص848. وكتاب ما بعد الطبيعة، من رسائل ابن رشد، مطبعة دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن، الطبعة الاولى، 1366هـ ـ 1947م، ص162-163).

[5]       رسالة في معنى الزيادة وكيفية تأثيرها، ضمن رسائل ابن سينا، انتشارات بيدار، ص337. وحكمة الاشراق، ص174-177. والمبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص173.

[6]            التعليقات لابن سينا، ص102. ورسالة معراج السالكين من فرائد اللالي، مصدر سابق، ص42-43.

[7]       الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، ج4، ص306.

[8]            عن: تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص205.

[9]            رسالة العشق، ص75 و22-23 و26.

[10]           الاسفار، ج2، ص233-234 و245-246.

[11]           المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص136و156.

[12]           احمد امين: ظهر الاسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، ج2، ص78.

[13]      الفصوص والتعليقات عليه، ج1، الفص الخامس والعشرين، ص2032، وج2، ص303 و326-327.

[14]      صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص136-137 و140-141. كذلك الاسفار، ج2، ص281. ومفاتيح الغيب، ص370.

[15]           المبدأ والمعاد، ص156.

[16]           انظر: التعليقات لابن سينا، ص16و18. ورسالة التعليقات، ضمن رسائل الفارابي، ص2. والمبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص135-136 و139.

[17]    صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص139. ورسالة أجوبة المسائل، ضمن رسائل صدر المتألهين الفلسفية، ص127.

[18]    إبن سينا: المبدأ والمعاد، ص75.

[19]    إبن سينا: التعليقات، ص163.

[20]    التعليقات لابن سينا، ص18-19.

[21]    مقاصد الفلاسفة، ص277.

[22]    الأسفار، ج6، ص402-403.

[23]    المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص139-140. وإبن سينا: النجاة، مطبعة السعادة، ص268.

[24]    المبدأ والمعاد، ص140. كذلك مفاتيح الغيب، ص370. والنجاة، ص268.

[25]    المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص497.

[26]    المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص140.

[27]    الأسفار، ج7، ص163.

comments powered by Disqus