-
ع
+

الرؤية الفلسفية وإرادة الانسان

يحيى محمد

بحسب الرؤية الفلسفية يعتبر المبدأ الحق محض علة واجبة من جميع الجهات، وان ارادته لم تكن زائدة على علمه، وكذا الحال مع قدرته، مما جعلنا نعتبر الارادة والقدرة هما محض مجاز. لكن حيث ان حال العالم الالهي ينعكس على ما تحته من العالم السفلي، ومنه العالم الانساني، لذا كان الانسان ليس بافضل حال من العلل المفارقة التي اوجدته، ومنها علة العلل. فهو وفقاً لمنطق السنخية يكون تابعاً في مساره ومصيره للعلة الاولى دون ان يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، حيث ان قدرته وارادته هي ايضاً محض مجاز، وان مساره محكوم بفعل ما ينشأ من الحقائق العلوية للمفارقات، سواء اخذنا الامر بحسب مستلزمات العلية وضرورة تبعية المعلول لعلته، وكذا خضوع العوالم السفلية الى حكم العوالم العلوية، وفق التصور الفلسفي.. او اخذنا الامر بحسب ما عليه الاعيان الثابتة والاسماء الالهية التي يتقرر بحسبها كل شيء، وفقاً للتصور العرفاني.. فسواء بهذا ام بذاك فان المنظومة الوجودية عاجزة عن ان تجد مجالاً للارادة والقدرة الحقيقية للانسان وغيره من الكائنات.

ومع ان هناك محاولات فلسفية يائسة للبحث عن مبرر يحفظ مقالة حرية الانسان، لدواعي نقلية، الا ان قبال ذلك توجد اشارات فلسفية صريحة تعترف بالطابع الجبري، دعماً للقول بعدم وجود فاعل في العالم سوى الحق تعالى. فابن سينا مثلاً من المنكرين لحرية الانسان، فهو يقول في (النجاة): ‹‹ان الارادات كلها كائنة بعد ما لم تكن، فلها اسباب تتوافى فتوجبها.. الارادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات، والدواعي تستند الى ارضيات وسماويات، وتكون موجبة ضرورة لتلك الارادة››1. وان المحقق الطوسي اعترف بعجزه عن تفسير قول الامام الصادق: ‹‹لا جبر ولا تفوبض بل امر بين امرين››، وعندما لجأ الى القرآن الكريم، لعله يجد حلاً للمسألة، رأى في آياته ظواهر متعارضة، الامر الذي دعاه الى ترجيح مبدأ الوقف تبعاً لقوله تعالى {وما يعلم تأويله الا الله} آل عمران/ 72. مع هذا فانه في رسالة (افعال العباد بين الجبر والتفويض) عاد ليفسر المسألة بما لا يخرج عن المفاهيم الفلسفية ولا يبتعد عن الشكلية الاشعرية، وذلك بجعل القدرة والارادة غير حقيقيتين، فرأى انه اذا نظرنا الى اسباب القدرة والارادة فان اصلها يكون من الله، وعند تحققهما فان الفعل الانساني يصبح واجباً، وعلى العكس فانه عند عدمهما يكون الفعل ممتنعاً، أما لو نظرنا الى الفعل الانساني فانه يكون من العبد بحسب قدرته وارادته، ولهذا قيل (لاجبر ولا تفويض بل امر بين امرين)، وبالتالي فالاختيار حق، والاسناد الى الله حق، ولا يتم الفعل بأحدهما دون الاخر.3

ونفس الاشكال نجده لدى صدر المتألهين الذي رأى ان حركات الانسان وسكناته هي وإن كانت بمشيئته او اختياره؛ الا ان هذه المشيئة تكون بقضاء الله وقدره، اي بأسباب خارجية تجعل المشيئة والاختيار على ما هما عليه من الفعل الوجودي دون مخالفة، والانسان على هذا مضطر في جميع الاحوال. لكن كيف يكون العبد مضطراً ومختاراً في الوقت ذاته؟

لقد اجاب صدر المتألهين على ذلك بان العبد مجبور في عين اختياره ومختار في عين اضطراره، واقرب الامثلة على ذلك علاقة النفس بالحواس، ففعل كل حاسة هو في الوقت ذاته فعل للنفس ذاتها، فالنفس بعينها تكون عيناً باصرة واذناً سامعة ويداً لامسة وانفاً شاماً ولساناً ذائقاً، وكذا الامر مع علاقة الفعل الالهي بفعل العبد، فلا يكون من الجارحة فعل الا بارادة النفس، وهذه الارادة لا تنشأ من ذاتها بل من ارادة الله تعالى، حيث انه يخلق في النفس ارادة ومشيئة، فمثلما ينشأ من النفس في العين الباصرة شعاع تدرك به الالوان والاضواء، وكذا في الاذن السماعة قوة تدرك بها الاصوات؛ فكذا يخلق الله في النفس ارادة وعلماً تدرك الامور وتتصرف فيها، وبذلك يُفهم قوله تعالى: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى} الانفال/ 17، حيث سلب الرمي عن الرامي من حيث اثبته لله، وكذا قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} التوبة/14، اذ نسب القتل اليهم والتعذيب الى الله بأيديهم، وما التعذيب الا عين القتل، الامر الذي يدل على ان كل فعل في الوجود انما هو فعل الواجب الحق4. اذ لا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر الا بالحق واللزوم. وعلى رأيه انه لو لم يكن الامر كذلك لكانت المعاصي والجرائم الصادرة من الاشقياء، إن كان الله يكرهها ولا يريدها، جارية على وفق مراد ابليس، مع انه عدو الله، ثم ان القبائح اكثر من الحسنات، والمعاصي اكثر من الطاعات، فيكون الجاري على وفق ارادة العدو اكثر من الجاري على وفق ارادة الله، وهو ما لا يليق برئيس قرية فكيف يليق بالملك الجبار. اذن على رأيه ان الارادة الازلية قد تعلقت بنظام العالم على هذا الوجه العام، وان ما يحصل من المعاصي والشرور انما هو بقضاء الله وقدره وفق الاسباب الموجبة لذلك، وان العقوبة التي تترتب على هذه المعاصي والشرور هي من اللوازم والتبعات المتصلة دون ان تعود الى معاقب مستقل ومنفصل خارجي.5

لكن من المفارقات المفضوحة ما اعترف به صدر المتألهين - في بعض المناسبات - بالجبر ليبرر من خلاله نفي العذاب المؤبد، فصرح يقول: ‹‹ولك ان تقول: قد قام الدليل العقلي على ان الباري سبحانه لا ينفعه الطاعات ولا يضره المخالفات، وان كل شيء جار بقضائه وقدرته، وان الخلق مجبورون في اختيارهم فكيف يسرمد العذاب عليهم››6. ومن الواضح ان هذا الرأي لا يتسق مع رأيه السابق الذي اكد فيه على ان العقوبات هي من لوازم الاعمال ولا شأن لها بالمعاقب الخارجي. يضاف الى ان المدقق في النص المذكور يجد فيه ملامح الاعتبارات المعيارية التي لا تتناسب مع نظيرتها الوجودية.

***

وعلى الصعيد العرفاني ذهب بعض العرفاء المعاصرين الى ان الموجودات لما كانت مجرد تعلقات وروابط بالمبدأ الحق؛ فان صفاتها وافعالها واثارها هي ايضاً كذلك، وبالتالي فمع ان فعل العبد راجع الى ذاته لكنه في الوقت نفسه يمثل فعل المبدأ الحق، فالعالم عبارة عن ربط وتعلق محض ظهور قدرة الحق وارادته وعلمه وفعله. وقد اعتبر هذا الفهم هو المقصود به من مقالة المنزلة بين الجبر والتفويض والامر بين الامرين، واليه الاشارة بالاية القرآنية: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى} الانفال/17، وكذا الاية: {وما تشاؤون الا ان يشاء الله} الانسان/30، فالنص الاول دال على ان الرمي كان بحول الله وقوته، وكذا ان النص الاخير دال على ان مشيئة العباد انما هي عين مشيئة الحق.7

وبوجه عام ان من الممكن انتزاع آلية الجبر او الحتمية عن الفهم الوجودي للعلم الالهي، وهو ان نظام الكون تابع لارادة الحق وعلمه، فتعلق علم الحق هو مبدأ لمعلوماته، فهي تابعة لعلمه بخلاف العلوم الانفعالية، لان العلم والارادة والقدرة كلها تمثل شيئاً واحداً بسيط الحقيقة هو الوجود الصرف ومحض الفعل والكمال، مما يعني ان الامور تتنزل على صورة ما هو معلوم ومراد في ذلك العالم العلوي، وبالتالي كيف يجوز لنا ان نتحدث عن ارادة الانسان وحرية اختياره وهو محكوم من فوق تبعاً لما عليه العلم الالهي، وهو العلم الذي صفته لا تنحصر بالتصور والشهود فحسب، بل الفعل المطلق ايضاً؟

وأُجيب على هذا الاشكال من قبل بعض العرفاء، وهو ان اول ما صدر عن الحق تعالى هو العقل المجرد والروحانية البسيطة المعبر عنها بنور نبينا محمد (ص)، فهي تمثل ظهور مشيئته وارادته، كما ان الطبيعة يد الله المبسوطة التي خلق بها ادم على ما هو منقول في الحديث القدسي ‹‹خمرت طينة ادم بيدي اربعين صباحاً››. فالموجودات مع كونها تمثل ظهور الحق تعالى؛ لكن لها اثاراً خاصة تتسق مع ما للحق من اثار، فالانسان مع كونه فاعلاً مختاراً فانه ظل الفاعل المختار، كما يدل عليه النص القرآني: {وما تشاؤون الا ان يشاء الله}، وبالتالي فان تعلق الارادة الالهية بالنظام الاتم وكذلك علمه بالعناية لا ينافي اختيار الانسان وفاعليته.8

ومع ما لهذا الجواب من اصالة تتسق مع منطق السنخية، لكنه لا يفي بالاقناع، ذلك انه اذا كانت ارادة الحق عين العلم، كما هو متبنى المنظومة الوجودية، فان حالها هو حال الحتمية التي هي نقيض ما عليه الارادة بمعناها الحقيقي، اي المعنى الذي يتضمن حرية الاختيار. واذا كان هذا الامر يصدق على ارادة الحق؛ فمن الأَولى ان يصدق على الارادات الاخرى بالمشاكلة والظلية.

وعموماً ان للرؤية العرفانية عدداً من الاعتبارات المتداخلة التي تدعو الى انكار ارادة الانسان وحرية اختياره. فهناك الاعتبار الذي يماثل ما لجأ اليه الفلاسفة في العلم الالهي وعلاقته بالمشيئة والارادة، كما هناك الاعتبار العائد الى مفهوم وحدة الوجود الشخصية، كذلك هناك الاعتبار المنتزع عن دور الاسماء الالهية، واخيراً هناك الاعتبار العائد الى نظرية الاعيان الثابتة، وهو اهم الاعتبارات جميعاً.

وبحسب الاعتبار الاول، نفى العرفاء ان يكون للحق المشيئة الممكنة، بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، باعتبار ان مشيئته احدية التعلق، وهي نسبة تابعة للعلم، والعلم عبارة عن نسبة تابعة للمعلوم، والمعلوم هو انا وانت والاحوال التي نحن فيها. فالاختيار في حق الحق تعارضه وحدانية المشيئة، فليس للحق في نفس الامر الا امر واحد بحسب ما عليه القابل والذي تتحدد به الهداية والضلال9. فعلى رأي ابن عربي ان وصف الحق بالاختيار يعارضه كونه احدي المشيئة، اذ نسبته الى الحق اذا وصف بالاختيار هي من حيث ما هو الممكن عليه؛ لا من حيث ما هو الحق عليه10. وهذا هو عين ما يؤكد عليه الفلاسفة من ان مفهوم المشيئة لدى المبدأ الحق ليس زائداً على مفهوم العلم والايجاد، مثلما ان قدرته هي عين علمه11.

وبحسب الاعتبار الثاني، فانه لما كانت المخلوقات المتباينة الذوات قد جمعتها حقيقة وحدانية الذات الالهية بالوجود الجمعي، وحيث ان هذه الذات انبسطت على هياكل هذه الموجودات التي هي عين الذات، لذا فان الافعال الصادرة عن الكل انما تكون صادرة عنها من هذا الوجه المنسوب الى الحق، فكما ان وجود زيد شأن من شؤون الحق، فكذا فعله هو فعل من افعاله، وكذا صفاته من صفاته، مما يصدق عليه النص القرآني: {وما تشاؤون الا ان يشاء الله} حيث اثبت المشيئة للعبد ثم نفاها عنه، فالفعل للعبد بل للحق تعالى12. ولا شك ان هذه العينية والمطابقة لا تدع لحرية العبد دوراً من الاستقلال النسبي والانفصال، ومن ثم فهي غير قابلة لتبرير مسألة التكليف ومقتضياتها.

وبحسب الاعتبار الثالث، فهو ان الاشياء الخارجية محكومة ومقهورة تحت ظل سلطة الاسماء الالهية التي تحركها في ما تشاء13. والعلاقة بينهما هي ذات العلاقة بين الماهية والوجود، فالاشياء محكومة بسلطة الاسماء كوجودات وارباب، وبسلطة الاعيان كحقائق وماهيات. او قل ان لكل اسم الهي صورة في العلم هي العين الثابتة، وكذا ان له صورة خارجية هي مظهر تلك العين، وان الاسم هو رب هذا المظهر وعلة ثبوت تلك العين. مما يعني ان الاشياء تظل تابعة لاربابها الخاصة بما تستلزمه من اعيانها الثابتة، لا تزيد على ذلك ولا تنقص، ازلاً وابداً.

أما بحسب الاعتبار الاخير، وهو الذي يخص الاعيان الثابتة، فالملاحظ انه لا يدع مجالاً للاعتراف بحرية الاختيار والقدرة على الفعل. فوفقاً لمنطق السنخية ان كل ما يقع من اختلاف بين الناس، سواء في التكوين او السلوك، يرجع في حقيقته الى اختلاف سابق في عالم القضاء العلوي المتمثل بالاعيان الثابتة، وهي الموصوفة بانها ليست مجعولة ولم تشم رائحة الوجود، فاختلافها انما بحسب حالها وقضائها الازلي، او انها من حيث ذاتها تمثل محض القابلية للفعل الالهي دون ان يكون لها وجود في الخارج، لكنها تتقبل سريان الفيض عليها فينعكس على ذلك وجود الاشياء التي تمثلها بما هي عليه من تضاد واختلاف.

لهذا قام العارف الاملي بتفسير آية الاختلاف: {ولا يزالون مختلفين الا من رحم ولذلك خلقهم} هود/118ـ119؛ انطلاقاً من ان المبدأ الحق قد خلق الناس للاختلاف بسبب ما كانوا عليه مختلفين ازلاً في الحضرة العلمية من الاعيان الثابتة، لذلك لا يعترض عليه بما يشاهد من نقص وتفاوت في خلقه، اذ ليس للحق الا افاضة الوجود على تلك الماهيات التي لسان حالها طلب الخروج من الظلمة والعدم؛ فيجود عليها بقدر قابلياتها؛ لاستحالة العطاء اكثر من القابلية.

وقد استشهد الاملي بما يقوله ابن عربي: ما يحكم علينا الا بنا، بل نحن نحكم علينا بنا ولكن فيه، فلذلك قال تعالى: (فلله الحجة البالغة)، وهو رد على المحجوبين اذ قالوا: لِمَ فعلت كذا وكذا بما لا يوافق اغراضهم؟ لكن الحق كشف لهم عن ساق، فرأوا ان الحق ما فعل لهم ما ادعوه انه فعله، بل ان ذلك منهم ‹‹فانه ما علمهم الا ما هم عليه، وبذلك دحضت حجتهم وبقيت الحجة لله البالغة.. فلا تحمدن الا نفسك ولا تذمن الا نفسك.. أما الحق فلم يبق له الا ان تحمده على افاضة الوجود عليك، فان ذلك لا لك، فانت غذاؤه بالاحكام، وهو غذاؤك بالوجود14، فتعين عليه ما تعين عليك، وهو حكمك بالامر منه اليك، ومنك اليه غير انك تسمى: مكلفاً، وما كلفك الا بما قلت له: كلفني بحالك، وبما انت عليه، ولا يسمى مكلَّفاً اذ لا كلفة عليه››15.

فبالتالي تصبح حقائقنا الاصلية هي الحاكمة علينا، بل وحاكمة على الحاكم الحق، وكما يقول ابن عربي: ‹‹فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم ان يحكم عليه بذلك››16. وهو يستشهد على ذلك بعدد من الايات القرآنية، مثل قوله تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون} 3/ 7 1 1، وقوله: {ما يبدل القول لدي وما انا بظلام للعبيد} ق/29، وقوله: {ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها} السجدة/13، وقوله: {أفمن حق عليه كلمة العذاب} الزمر/19. اذ تدل هذه الايات على ان الخلائق ليست محكومة بفعل حاكمية المبدأ الحق، وانما بفعل حاكمية الاعيان الثابتة وجبريتها17، وذلك ‹‹ان الممكن قابل للهداية والضلالة من حيث حقيقته فهو موضع الانقسام وعليه يرد التقسيم، وفي نفس الامر ليس لله فيه الا امر واحد وهو معلوم عند الله من جهة حال الممكن››18. وعلى هذه الشاكلة جاء في تفسير القيصري لقوله تعالى: {فلا تلوموني ولوموا انفسكم} ابراهيم/22، وهو ان الحجة في هذه الاية قامت عليهم، باعتبار ان اعيانهم قد اقتضت ما هم عليه من ضلالة وعقاب19، وبالتالي فالحاكم علينا هو اعياننا، وليس للحق الا افاضة الوجود على مقتضى الاعيان، فلا يوجد في الوجود الا ما اعطته الاعيان الثابتة بحسب مقتضى ذاتها من الاستعداد والقابلية لا اكثر من ذلك ولا اقل.20

هكذا يصبح الحمد والذم متعلقاً بذات الممكنات لا المبدأ الحق، فلا يحمد الحق الا بما يفيضه من وجود، أما تعيين الحقيقة وتقديرها فلا يعود اليه، بل الى تلك العين الثابتة في القضاء الازلي والتي يتعين بها مصير افعالنا. وبالتالي فكل ما يصدر عنا من خير وشر، وما يستتبع ذلك من الثواب والعقاب فهو يعود الى حقائقنا الازلية الثابتة في العلم الالهي، او ما يطلق عليها الاعيان الثابتة.

بل قل ان التكليف نابع من هذه الاعيان، فهي تعبر عن استعدادها للفعل المحتوم، رغم انه لا يقال عن ذلك تكليف الا مجازاً، اذ الاعيان هي الحاكمة علينا، بل وعلى وجود الرسالة والدعوة والتشريع، فالمكلِّف والمكلف كلاهما يعملان بحسب ما عليه اعيانهما من الامر المحتوم، واما الحق فليس له صلة بذلك اذا ما استثنينا الايجاد.

وكما يقول احد العرفاء المعاصرين من ان عين العاصي المكلف يقتضي العصيان ويقتضي اجراء الحد عليه، وكذا ان عين النبي يقتضي بدوره الدعوة وتبليغ الحجة بالتكليف، بمقتضى عينه الثابتة ايضاً21. فعملية التكليف كلها تعود الى الاعيان الثابتة، وليس للحق شأن في ذلك سوى اخراجها من حيز العدم والقابلية الى الوجود، وهي عملية اشبه باظهار الصورة السينمائية عن ظلمة لفيف الفلم. فالمكلِّف ليس هو الله، بل لا يوجد مكلِّف ولا مكلَّف، انما هو الامر المحتوم الذي يتمثل باعياننا الثابتة. لذلك فقد وصفها الاملي بانها هي الخالقة لنا ولكل شيء.

فهذا هو سر القدر، وهو ان الاشياء هي التي تحكم نفسها، وعلى قول ابن عربي ان ‹‹من وقف على سر القدر، وهو ان الانسان مجبور في اختياره، لم يعترض على الله في كل ما يقضيه ويجريه على عباده وفيهم ومنهم››. وذكر في كتابه (المشاهد القدسية) ان الحق قال له: انت الاصل وانا الفرع››22. وله تعبير اخر ينفي كل ما يوصف من جبر واختيار واضطرار، حيث ان ‹‹المختار هو الذي يفعل امراً ما إن شاء، ويتركه إن شاء، وسبق العلم بالفعل او بالترك تخيل وقوع ما لم يسبق به العلم، فالاختيار محال والمضطر هو المجبور على الامر، ولا جبر فلا اضطرار ولا اختيار››.23

***

هكذا ننتهي الى ان هناك عدداً من المبررات الوجودية لا تسمح بأن يكون للعبد القدرة وحرية الاختيار، ويمكن اجمالها كالتالي:

1ـ سلطة العلية الصارمة التي تتحكم في الوجود انطلاقاً من مبدأ الوجود الاول الى اخر مرتبة وجودية. ومنها تحكم عالم المفارقات العلوية بالعالم السفلي دون ان يكون لهذا الاخير اي دور مستقل تبعاً للمنطق الصارم من العلية.

2ـ التصور الوجودي للعلم الالهي وعلاقته بكل من الارادة والقدرة والمشيئة الالهية.

3ـ التصور الوجودي للاعيان الثابتة ودورها في تحديد المسار الشخصي لكل الخلائق.

4ـ دور الاسماء الالهية التي تتحكم في الوجودات كارباب وعلل ثابتة لا تدع فرصة لارادة واختيار مربوباتها.

5ـ التصور العرفاني لوحدة الوجود الشخصية وما يفضي اليه من التطابق بين الحق والخلق، فلا يكون للانسان واختياراته اي دور منفصل ومستقل.

6ـ تبعية الانسان لما عليه المبدأ الحق، وحيث ان هذا الاخير لا يخضع لمنطق حرية الاختيار، فانه من باب اولى ان لا يخضع الانسان لهذا المنطق تبعاً لاعتبارات السنخية.

هذه هي مبررات نفي حرية الاختيار للانسان التي تقتضي نفي التكليف، فيصبح ما نعده تكليفاً فعلاً حتمياً لا يستحق المدح والذم، او الثواب والعقاب.

مع ذلك فقد اعترف ابن رشد في تفسيره للقضاء والقدر بهامش من القدرة والارادة، لكنه لم يفعل ذلك بحسب الاعتبارت الوجودية، بل تجاوزها واخذ يتمعن في النظر الى الواقع الموضوعي، فافضى به الحال الى خرقه للمنظومة الفلسفية التي تؤكد على ضرورة حاكمية العالم العلوي لعالمنا الارضي. اذ سعى للتوفيق بين اثبات ارادة الانسان من جهة، وتأثير العوامل الجبرية الخارجية والداخلية للواقع الموضوعي من جهة ثانية، فمنها ما هو محفز على الفعل الانساني، ومنها ما هو مثبط له، وبذا تتكون الافعال الانسانية تبعاً للتقيد بكل من الارادة وتلك العوامل او الاسباب24. فهذا هو فهم ابن رشد للقضاء والقدر، حيث يلاحظ انه لم يتورط في علاج المسألة وفقاً لمفاهيم المنظومة الوجودية التي تقتضي حاكمية العالم العلوي للعالم السفلي.

 

1 لاحظ النجاة، فصل (في المبدأ والمعاد بقول مجمل).

2 تلخيص المحصل، ص333.

3 الطوسي: رسالة افعال العباد بين الجبر والتفويض. ايضاً: تلخيص المحصل، ص477.

4 صدر المتألهين: رسالة جبر وتفويض، ص9 و12-13.

5 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص197-199.

6 الاسفار، ج9، ص353.

7 روح الله الموسوي الخميني: طلب وارادة، ص73.

8 طلب وارادة، ص126.

9 شرح الفصوص، ص353-355. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص371. علماً ان ما ذكرناه يعود في الاصل الى ابن عربي، وقد نسبه الشيخ الاحسائي الى الفيض الكاشاني (لاحظ: شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، ج1، ص85).

10 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص217-218.

11 صدر المتألهين: رسالة اجوبة المسائل، ضمن رسائل فلسفي، ص131.

12 تحفه، ص299-300.

13 ابن عربي: لطائف الأسرار، حققه وقدم له أحمد زكي عطيه وطه عبد الباقي سرور، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1380هـ - 1961م، ص90-91.

14 المقصود من عبارة ‹‹فانت غذاؤه بالاحكام، وهو غذاؤك بالوجود›› هي كما شرحها القيصري: اذا كان الحكم لك في الوجود فانت غذاء الحق، لظهور الاحكام الوجودية اللازمة لمرتبتك فيك، والحق غذاؤك بافاضة الوجود عليك، واختفائه فيك اختفاء الغذاء في المغتذي، واطلاق الغذاء هنا على سبيل المجاز، فان الاعيان سبب ظهورات الاحكام الوجودية وبقائها، والحق سبب بقاء وجود الاعيان، كما ان الغذاء سبب بقاء المغتذي وقوامه وظهور كمالاته، ولكون الغذاء يختفي بالمغتذي جعل الحق غذاء الاعيان، فانه اختفى فيها واظهرها، وجعل الاعيان غذاء الحق، لظهور الحق عند اختفاء الاعيان وفنائها فيه (مطلع خصوص الكلم، ج1، ص374).

15 اسرار الشريعة، ص18-20. كذلك شرح الفصوص، ص23. والفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص82-83. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص374-375.

16 نقد النقود، مصدر سابق، ص683.

17 الفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص40.

18 الفتوحات، مصدر سابق، ج1، ص218.

19 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص209.

20 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص369.

21 روح الله الموسوي الخميني: تعليقات على شرح فصوص الحكم، مؤسسة باسدار اسلام، ايران، الطبعة الاولى، 1406ه 01هـ، ص177.

22 محمود محمود الغراب: الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي، دار الفكر، دمشق، ص213.

23 كتاب المسائل، من رسائل ابن عربي، ج1، ص28.

24 ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص226-227.   

comments powered by Disqus