-
ع
+

الفلاسفة واشكالية دوام الانواع

يحيى محمد

وفقاً للضرورة الفلسفية فان انواع الكائنات تستمد وجودها وبقاءها من وجود عللها الثابتة. فهي ثابتة الوجود بثبات هذه العلل. ومن المتفق عليه ان علل هذه الانواع عبارة عن عقول مفارقة. فالانواع الارضية من الجماد والنبات والحيوان كلها موجودة بوجود العقل المفارق. حيث يتمثل هذا العقل لدى المشائين بالعقل الفعال الاخير، وهو اخر العقول الطولية، لكنه لدى الاشراقيين بزعامة الشيخ السهروردي عبارة عن العقول العرضية المفارقة، وهي التي لا يتعلق بها جعل ولا تأثير، بل تعد عقولاً تشتمل عليها الذات الالهية، فهي موجودة بالجعل الثابت للذات، ولها احكام ثابتة وآثار لازمة هي مظاهرها. وسواء لدى المشائين او الاشراقيين، فان لوازم هذه العقول من الانواع الارضية، تتصف بالوجود والبقاء الثابت ازلاً وابداً، رغم زوال الافراد على التوالي. فمن حيث الازل ان كل فرد يسبقه اخر، وهكذا من غير بداية محددة. ومن حيث الا بد فان كل واحد يلحقه اخر الى ما لا نهاية له. ومبرر كل ذلك يستند الى ضرورة بقاء المعلول عند بقاء علته الثابتة، او لوجود اعتبارات اخرى ثانوية كوجوب ثبوت الفيض ودوامه، ووجود العناية التي تأبى انقطاع النوع، او لعدم التعطيل في الوجود والاسماء الالهية المقدسة كالذي يقوله العرفاء، او لكون القاصر لا يدوم، وما الى ذلك من مبررات.

ان جميع تلك الاعتبارات تؤكد ضرورة بقاء المعلول سواء كان متعلقاً من الناحية الفعلية بشخص معين كالافلاك والاجرام التي لكل منها علة يعبر عنها بالرب، بما في ذلك الارض1، او كانت افراداً متكثرة بالفعل كما في الانواع الارضية. اذ الغاية الذاتية ليست وجود شخص محدد بعينه، وانما هي وجود الماهيات النوعية بالخصوص.2

على ان الذي يحفظ دوام قابلية وجود افراد غير متناهية العدد في الطبيعة؛ انما هو التضاد والكون والفساد. فعلى رأي الفلاسفة انه لولا التضاد ما صح الكون والفساد، ولولا الكون والفساد ما امكن وجود اشخاص ونفوس غير متناهية، سواء كانت حيوانية او انسانية او غيرها3. فالتضاد والفساد والكون يحفظ الوجود غير المتناهي للافراد، وكل ذلك متعلق بحفظ وحماية العقل الفعال كما لدى المشائين، او بحفظ العقول والارباب كما لدى الاشراقيين.4

وقد اقتضى ذلك الحال ان تكون الانواع دائمة الافاضة ازلاً وابداً، فمن الازل لا بداية لافرادها، ومن حيث الا بد لا نهاية لفنائها. وكما قال صدر المتألهين: ان الانواع ‹‹لا محالة صادرة عن الواهب مبدعة قبل الزمان والزمانيات والامكنة والمكانيات، قبلية بالذات في عالم الدهر، اذ لا مانع في ذاتها من قبول فيض الوجود، ولا ضاد للجواد المطلق. ولا مبطل ومعطل للمفيض الحق عن وجوده وفعله ومنعه وابداعه. فهي لا محالة فائضة عنه ابداً. واما التي تفتقر في خصوصيات افرادها الشخصية الى سبق امكان استعدادي وراء امكانها الذاتي فهي ايضا فائضة، حيث طبيعتها المرسلة في عالم الصنع والابداع وان كانت في تعيناتها الشخصية مرهونة الهويات بالمادة والاستعدادات والازمنة والاوقات. وبالجملة فالافاضة عليها من جانب المفيض ثابتة دائمة وان كان المفاض عليه، وهي الانواع بحسب الهويات والوجودات، متجددة داثرة بائدة. فاذن جميع الماهيات وصور الانواع على الدوام فائضة من جانب الله ابد الدهر وان كان العالم الجسماني بجميع ما فيه ومعه وله حادثاً زمانياً مسبوقاً بعدم زماني››5.

كما ذكر ان النفوس الانسانية الناطقة تستمر في حدوثها ازلاً وابداً، باعتبارها غير متناهية بخلاف الابدان المتناهية، وحيث انها لا تحدث الا مع الابدان «فلا بد من وجود مدة غير منقطعة، وادوار غير متصرمة ليحصل بحسب الادوار والحركات واستعدادات القوابل المتعاقبات نفوساً ناطقة قرناً بعد قرن ونسلاً بعد نسل، ليتم الازل بالا بد ويكمل البداية بالنهاية ولا يصير نعمة الله بتراء ولا جوده منقطعاً وفضله معطلاً، ولذلك قال تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً}6»7.

فكل ذلك يجري من خلال استمرار الفيض ودوام الجود بنسق واحد على الاشياء ازلاً وابداً8، حيث يظل الفيض سارياً على العالم الطبيعي الذي تتبدل وجود أجزائه ويتجدد حالاً بعد حال، لكن كلياته تبقى ابداً كالافلاك وكليات العناصر الاربعة وكليات الانواع المركبة المحفوظة بتعاقب الافراد9.

***

ويواجه هذا التفكير مشكلتين كالاتي:

اولاً:

ان بقاء الفيض والاستناد الى العلية والمعلولية يجعل من اثبات القيامة الكبرى امراً يصعب تحقيقه. فلما كانت الانواع رهينة وجود عللها، وان عللها العقلية ثابتة لا تقبل التحول والتغير، فهي لا محالة لا بد ان تظل ثابتة مدى الدهر، حتى يكون الفيض سارياً على نسق واحد ازلاً وابداً من دون حدوث امر طارئ يستجد عليها. وليس من حل لهذه المشكلة الا بالقضاء على فكرة العلية وسلب الثبات من العلل العقلية والانوار المجردة.

ومع انه قد يقال ان الاخذ بفكرة الاتحاد ورجوع الخلائق الى المبدأ الاصل بالاتحاد والفناء فيه؛ يمكن ان يقدم لنا تبريراً مفيداً وناجحاً لقيام القيامة الكبرى، وهو الامر الذي يتجاوز فكرة العلية بالكامل، لكن مع ذلك فان هذا الطرح العرفاني لا يتجاوز الثبات في وجود الاسماء الالهية من ارباب الانواع، ولا كذلك ثبات مربوباتها من الانواع ودوام الفيض. اي انه لا فرق بين الطرحين الفلسفي والعرفاني من ضرورة وجود كائنات ثابتة تعمل على دوام الفيض وبقاء الانواع ازلاً وابداً، سواء فسّرنا الامر تبعاً لفكرة العلية والعقول المفارقة، ام لفكرة الارباب والاسماء الالهية عبر التجلي الالهي. فكما يقول ابن عربي: ان كل تجلي يعطي خلقاً جديداً، ويذهب في قباله بخلق اخر، وهذا الذهاب هو الفناء عند التجلي10. وكذا ما يشير اليه حيدر الاملي من ان المعاد هو عود مظاهر بعض الاسماء الى مظاهر اسماء اخرى. او هو ظهور الحق بصور اسمي الباطن والآخر مع اسماء اخرى كالعدل والحق والمحيي والمميت، كما ان الدنيا والمبدأ هما ظهوره بصور اسمي الظاهر والاول مع اسماء اخرى كالمبدئ والموجد والخالق والرازق وامثالها، لتوفية حقوق كل اسم من اسمائه غير المتناهية. على ان اسماءه بحسب الجزئيات والاشخاص غير متناهية، لكنها بحسب الكليات والانواع متناهية، فيجب ان يكون الحق متجلياً على الدوام بصور اسمائه وصفاته دنيا واخرة. لهذا ذهب بعض العرفاء الى ان الدنيا والاخرة مظهران من مظاهر الحق، وعليه لا بد ان يكونا حادثين على الدوام من غير انقطاع وتوقف في آن او زمان.

هكذا فان القيامة عبارة عن تغيير عالم الظاهر وتبديله ورجوعه الى الباطن دائماً، كما ان الدنيا عبارة عن ظهور الباطن بصور الظاهر على الدوام ورجوعه اليه ايضاً. فالاسماء وإن كانت كثيرة لكن لا يخرج حكمها عن هذه الاربعة: الاول والاخر والظاهر والباطن، وهي ذاتها عبارة عن الدنيا والاخرة. على ان لكل اسم اقتضاء واحكام، فالاخرة من اقتضاء الاسم القهار والواحد والاحد والصمد والفرد والمعيد والمميت وغير ذلك، كما ان الدنيا من اقتضاء الاسم الظاهر والمبدئ والاول والموجد وغير ذلك، رغم ان كل واحد من هذه الاسماء هو نفس الاخر، لكون المغايرة في الاثر والاحكام لا في الذات والحقيقة11.

وعليه يظل الفارق بين الطرحين الفلسفي والعرفاني هو ان الرؤية العرفانية تجيز عمليتي الحلول والاتحاد ازلاً وابداً بتجاوز فكرة العلية والثنائية التي تؤكد على الفوارق الثابتة بين العلة ومعلولها. مما يعني ان كلا هذين الطرحين لا يسعهما تفسير مسألة الحشر الجماعي للقيامة الكبرى؛ ما لم يُعترف بتكثر الحشر والقيامة وتسلسلهما ازلاً وابداً، حيث يتم في كل مرة حشر الخلائق العائدة واستبدالها بغيرها، وهكذا على نسق واحد من دوام الفيض والحشر ازلاً وابداً. لكنا سنجد لصدر المتألهين بعض الاراء التي تناقض فكرتي دوام الفيض وبقاء الانواع واربابها، تعويلاً على ما ابداه من تلفيق جامع بين العرفان والنص الديني.

 

ثانياً:

لقد افادنا العلم الحديث بان لكل نوع عمراً محدداً على وجه التقريب، وان بعض الانواع الحية قد انقرضت، فكيف نوفق بين هذه الحقيقة وبين تأكيد الفلاسفة على ضرورة وجود الانواع ازلاً وابداً؟ فهناك اربع دعائم ذكرها صدر المتألهين كي يبرهن على قوله بوجود الانواع ازلاً وابداً:

اولها كون العناية الالهية تأبى انقطاع الانواع.

وثانيها ضرورة جريان قاعدة الامكان الاشرف في كليات الانواع.

وثالثها ان ثبوت المثل النورية، او العقول العرضية التي لها عناية بافراد انواعها المادية، ينافي انقطاع كليات الانواع ولو للحظة واحدة من الزمان.

اما رابعها فهو ان افراد الطبيعة عند العرفاء عبارة عن اسماء الله وتجلياته، فكيف يجوز ان لا تدوم هذه الاسماء والتجليات؟

فهذه الدعائم كلها تعبر عن حقيقة واحدة تتفق مع منطق العلية والسنخية في ثبات العلة والمعلول؛ مهما تلونت الاعتبارات والمجازات.

بيد ان هناك بعض الاجوبة كما افادها المرحوم الطباطبائي ليجد عناصر الاتساق ويوفق بين ثبات العلية ودوام الفيض كضرورة من الضرورات الفلسفية من جهة، وبين حقيقة انقراض بعض الانواع كضرورة علمية من جهة ثانية. فبداية انه نقد فكرة العقول العرضية لدى الاشراقيين ولم يوافق عليها اطلاقاً، فاعتبر ان ما ذكره الفلاسفة من دوام بقاء الانواع واستمرار النظام المدبر لها؛ مبني من وجه على فكرة ثبوت أرباب الانواع، ومن وجه اخر على اصول موضوعة متعارف عليها بحسب منطق علم الفلك القديم. لكنه لم يكترث بالوجهين معاً، واعترض على ما قدمه صدر المتألهين من ذرائع، فأجاب عن الذريعة الاولى الخاصة بالعناية؛ بان هذه العناية لا تنفك عن مراعاة حال المقتضيات والشرائط والعلل المعدة، فمن الجائز بحسب ذلك ان يكون استعداد الاوضاع والاحوال لظهور بعض الانواع محدوداً زماناً، مما يأذن بالانقراض، وقد تسنح له فرصة الوجود مرة اخرى حين يستأنف حضور الاستعداد من جديد، فيكون الفيض والعناية محفوظين رغم ما يحصل من تقطعات مؤقتة، بل لديه ان انقراض بعض الانواع نهائياً من دون عودة ورجوع، لا يمنع حفظ دوام الفيض والعناية، من حيث ان سائر الانواع الاخرى تظل مستفيدة منه. ولا شك ان ذلك مبني على رفض فكرة ارباب الانواع. وشبيه بهذا الجواب ما اجاب به عن الذريعة الثالثة، وهو ان العقول العرضية على فرض تقديرها ليست بعلل تامة، وانما هي فواعل يتوقف فيضها على اجتماع الشرائط المعدة، فكلما اجتمعت هذه الشرائط استأنفت الانواع ظهورها من جديد. أما جوابه عن الذريعة الثانية فهو انه لم يسلّم بثبوت الاخس الذي يمثل شرط توقف القاعدة عليه. في حين ان جوابه عن الذريعة الرابعة فهو انه رغم تسليمه بان صور الافراد عبارة عن اسماء الهية وتجليات ربانية لكنها ليست من الاسماء والتجليات الكلية، بل هي اسماء وتجليات كونية لا يجب فيها الدوام والاستمرار12.

على ان ما قدمه صدر المتألهين من ذرائع كان متسقاً مع روح العرفان والفلسفة معاً. فمن حيث العرفان لا بد للاسماء والتجليات الكونية ان تكون محفوظة ومصانة عن النقص. أما من حيث الفلسفة فان ثبات العلية بين العلة والمعلول لا بد ان يكون محفوظاً ايضاً. ولم تكن محاولة الطباطبائي موفقة من الناحية الفلسفية، فلو ان بعض الانواع انقرضت لكان يجب ان يكون هناك تخلخل في الشروط المادية. مع ان هذه الشروط هي ايضاً تمثل انواعاً محكومة بشروط ثانية وارباب اخرى، فكل تغير مفاجئ يحصل فيها لا بد ان يقتضي تغيراً في غيرها من الشروط النوعية، وهذا الحال محال لأنه يؤدي الى تسلسل الانواع بغير نهاية. أما لو فرضنا ان مقتضى التغير يلوح نفس الارباب، فهو محال ايضاً؛ باعتبارها تمثل - عند الفلاسفة - عقولاً ثابتة لا تتغير ازلاً وابداً.

والواقع ان هذا الاعتراض لا يصدق على الاشراقيين والعرفاء فحسب، بل يعم حتى المشائين الذين نفوا ان تكون هناك عقول عرضية تضاف الى العقول الطولية. اذ يظل ان كل تغير نوعي طارئ يقتضي التغير في علته العقلية المفارقة، وهو امر محال باعتبار ان العلل المفارقة علل ثابتة لا تقبل التغير ازلاً وابداً.

1 لاحظ: الاسفار، ج6، ص143. والشواهد الربوبية، ص164.

2 يقول صدر المتألهين: ‹‹ان الغاية الذاتية للطبيعة المدبرة للعالم ليس وجود شخص معين من النوع، بل الغاية الذاتية ان توجد الماهيات النوعية وجوداً دائماً فان امكن ان يبقى الشخص الواحد منها فحينئذ لا يحتاج الى تعاقب الاشخاص فلا جرم لا يوجد منها الا شخص واحد كما في الشمس والقمر، وان لم يمكن بقاء الشخص الواحد كما في الكائنات الفاسدة فحينئذ يحتاج الى الاشخاص المتعاقبة لا من حيث ان تلك الكثرة مطلوبة بالذات، بل من حيث ان المطلوب بالذات لا يمكن حصوله الا مع ذلك، فتكون اللانهاية في الاشخاص غاية عرضية لا ذاتية، فالغايات الذاتية متناهية، فهذا بيان غاية الطبيعة المدبرة للنوع›› (الاسفار، ج2، ص266-267).

3 المشارع والمطارحات، ص466.

4 الاسفار، ج7، ص77.

5 الاسفار، ج7، ص267.

6 الكهف/ 109.

7 اسرار الايات، ص48-49.

8 الاسفار، ج7، ص305.

9 لاحظ الاسفار، حاشية الطباطبائي، ج8، ص305.

10 مطلع خصوص الكلم، ج2، ص97.

11 اسرار الشريعة، ص106-107.

12 الاسفار، ج7، حاشية ص 315-316 و305-306، وج 2، حاشية ص 266-267.

comments powered by Disqus