-
ع
+

الحديث الشيعي وتعارض الروايات

يحيى محمد

تتصف الروايات الشيعية المعتمد عليها بكثرة التعارض في مختلف ابواب الفقه والعقيدة، وهي حقيقة اعترف بها العلماء وجعلت البعض يرتد عن مذهبه، كما اودت ببعض اخر الى ان ينأى بنفسه عن الفتوى لتضارب الاحكام بعضها مع البعض الاخر، كالذي يشير اليه ابن طاوس بقوله: ‹‹اني كنت قد رأيت مصلحتي ومعاذي في دنياي وآخرتي من التفرّغ عن الفتوى في الاحكام الشرعية، لاجل ما وجدت من الاختلاف في الرواية بين فقهاء أصحابنا في التكاليف الفعلية، وسمعت كلام الله جلّ جلاله يقول عن أعزّ موجود عليه من الخلائق محمد (ص): ((ولو تقول علينا بعض الاقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه عاجزين)) فلو صنّفت كتاباً في الفقه يعمل بعدي عليها كان ذلك نقضاً لتورّعي عن الفتوى ودخولاً تحت حظر الاية المشار إليها، لانّه جلّ جلاله إذا كان هذا تهديده للرسول العزيز الاعلم لو تقوّل عليه، فكيف يكون حالي إذا تقوّلت عليه وأفتيت أو صنّفت خطأً وغلطاً يوم حضوري بين يديه››[1].

وربما يكون الطوسي هو اول من شغل نفسه بهذا المشكل، فكتب كتابه (تهذيب الاحكام) بناء على ما علمه من ان عدداً من علماء الشيعة قد تركوا المذهب لاجل ما رأوه من اختلاف الرواية وتعارضها. فقد صنف الطوسي كتابه كشرح لكتاب (المقنعة) العائد الى شيخه المفيد، وذلك لما سمعه يقول ان ابا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالامامة فرجع عنها لما التبس عليه الامر في اختلاف الاحاديث وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبين له وجوه المعاني فيها، لذا عد الاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الاخبار المختلفة والاحاديث المتنافية هو من اعظم المهمات في الدين. فهو في مقدمة التهذيب اشار الى هذا المعنى وقال: ‹‹إن أحاديث أصحابنا فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذى يدينون الله تعالى به ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم، ولا أن يبيح العمل به العليم، وقد وجدناكم أشد اختلافاً من مخالفيكم وأكثر تبايناً من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الاصل››. واعتبر انه بسبب ذلك رجع جماعة عن اعتقاد الحق[2].

وقد اعتاد علماء المذهب ان يعزوا هذا التعارض الى امور عدة اعتماداً على ما جاء في الروايات، كمبدأ التقية لحفظ حياة الائمة واصحابهم، وكون الائمة تقصدوا بث الخلاف بين الاصحاب حقناً لدمائهم[3]، ولأن كلام الائمة يسع لمعاني كثيرة، وان فيه طبقات من الباطن فيبدو بعضه على خلاف البعض الاخر، إذ يجيبون بأجوبة مختلفة تحتاج الى نوع من التوجيه[4]،  والعديد من الاخبار تؤكد ان في كلام الائمة سبعين وجهاً ممكناً[5]، هذا بالاضافة الى وجود الدس والكذب والتزوير... الخ.

وقد حظيت التقية باهتمام خاص من قبل العلماء، حيث حولوها الى عقيدة لازمة، خاصة وانهم رووا قول الامام الصادق: التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له[6]، وقوله: تسعة أعشار الدين في التقية[7]، فاصبحت بذلك مرجعاً عاماً تفسر بها الكثير من مضامين الروايات المتفقة مع آراء (المخالفين) مهما كانت عادية، وهي تفترض ان (المخالفين) يحملون رأياً مشتركاً، مع ان لهم مدارس كثيرة مختلفة الرأي والاتجاه. وقد يصل التطرف الى اعتبار كل خلاف في الروايات يمكن حمله على التقية، بما في ذلك الروايات التي تتحدث عن الامور التاريخية او الكونية التي لا علاقة لها بالعقائد ولا بالفقه ولا بالتفسير، ومن ذلك ما سلكه المجلسي في (بحار الانوار) حيث اخذ يعلل او يحتمل كل ما يراه من روايات تتفق مع رأي (المخالفين) بانه يعود الى التقية، وكذا يُرجع الى هذه العلة كل ما يجده من اختلاف في الروايات يصعب علاجه. فمثلاً انه اعتبر بعض الاخبار التي تتحدث عن المادة التي خلقت حواء منها بانها جاءت للتقية[8]، ومثلها الاخبار التي تتحدث عن مكان  هبوط ادم وحواء من الجنة[9]، وكذا بخصوص اخبار تزويج هابيل وقابيل من اختيهما[10]، واخبار عمر النبيين اسماعيل واسحاق[11]، واخبار طبيعة القرابة بين يحيى وعيسى[12]،  واخبار تقدم وفاة يحيى على رفع عيسى او العكس[13]، والخبر الدال على ولادة عيسى في يوم عاشوراء، والاخبار الخاصة بزمان حمله وموضع ولادته[14]، والاخبار التي تتحدث عن مدة غزو بخت نصر بني اسرائيل[15]، والاخبار الدالة على ان الذي أماته الله مائة عام هو عزير[16]، والاخبار التي تتعلق بمدة مكث يونس في بطن الحوت[17]... الى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصى.

على انه لو كانت التقية بهذا الشكل المضخم، كما يتحدث عنها العلماء، لكان المتوقع ان نجد ما يرد خلاف التقية من الحديث قليلاً جداً، وذلك بسبب الكتمان والسرية، في حين ان الروايات التي تشير الى الدلالات المنافية لها هي ذات اعداد كبيرة جداً، يروى اغلبها عن الامام الصادق، فكيف ينسجم ذلك مع العمل بالتقية؟ وكيف لا يعرف المخالفون بهذه الاعداد الضخمة من الاحاديث لو صحّ انها فعلاً صدرت عن الامام الصادق، كتلك التي تطعن في القرآن وفي كبار الصحابة؟ فقد يكفي واحد منها لتضليله او تكفيره وربما قتله، وهو خلاف ما عرف عنه لدى علماء عصره من المذاهب الاخرى، فقد كانوا يكنّون له التقدير ويعدونه من سادات العلم والايمان، ولم يرد منهم اي طعن او تشكيك فيه وفي اقواله.

وبعبارة اخرى، كيف حق لنا التسليم بالكثرة الروائية الدالة على المناكير التي ينكرها المخالفون من الارتفاع والغلو والطعن واللعن والتكفير والتحريف، والعصر عصر تقية كما يقال، حيث يفترض ان لا يعلم بهذه الامور الا اقرب المقربين؟ فنحن - هنا - بين امرين، فاما الاخذ بالتقية وابطال ما روي من الاحاديث المنافية لها واعتبارها موضوعة من قبل المتأخرين عن زمن التقية، او الاعتراف بهذه الاحاديث من غير تقية. ومن الواضح ان احد هذين الافتراضين يقتضي نفي الاخر. لكن التعويل على الافتراض الاخير يفضي بدوره الى التردد بين امرين اخرين، فاما ان تكون تلك الروايات صادرة فعلاً عن الائمة، او انها صادرة عن رجال واصحاب نسبوها اليهم كذباً وزوراً.

والتحقيق هو انه لما كان الائمة معروفين بالعلم والصلاح والتقوى لدى معاصريهم من علماء السنة، وذلك بخلاف غيرهم من حملة تلك الروايات، فهذا يبين انها مختلقة ومنسوبة الى الائمة زوراً. وبغير هذا الافتراض كان المتوقع ان يلقى الائمة الطعن والتشهير مثلما حصل مع غيرهم من حملة تلك الروايات والاراء المنكرة، واقل ما قيل فيهم انهم (روافض) ومن اصحاب البدع، وذلك على خلاف ما لقيه الائمة من المدح والثناء.

يبقى ان التقية أصبحت ممارسة عامة لدى اتباع المذهب في اظهار الرأي الموافق لرأي (المخالفين) واخفاء خلافه. ومع انها ساعدت على سلامة هؤلاء الاتباع من عدوان الاخر طيلة قرون من الزمان، لكنها أصبحت اليوم عبئاً ثقيلاً على الاتباع، وذلك لسهولة معرفة الحقائق واشاعتها عبر وسائل الاتصال المختلفة، واهمها القنوات الفضائية والانترنيت. ولاجل الاصلاح والديمومة كان لابد من المراجعة الشاملة والنقد الذاتي.

ويبدو لي ان ما ذكره العلماء من اسباب حول تعارض الروايات، كتلك المشار اليها سلفاً، هي اسباب وهمية، حيث لا يعقل ان يعمل الائمة على بث الخلاف بين اصحابهم ولا ان يحثوا على التقية لادنى سبب، او يدعوا الى باطنية عبر تعدد معاني الكلام، فكل ذلك يفضي الى تضييع الحقيقة الدينية والباس الحق بالباطل. وهو حاصل فعلاً لكثرة التعارض بين الروايات. وقد لمح بعض العلماء الى هذه النقطة، معترفاً بانه لا يمكن التوصل الى الحقيقة الدينية النابعة عن كلام الائمة عبر الوسيلة العرفية المطلق عليها بحجية الظهور. وكما ذكر المحقق الخوئي بأن كلام الائمة لما كان يختلف من احدهم لآخر للتقية او لغيره، فإنه على ذلك لا تجري فيه أصالة حجية الظهور التي هي أصل عقلائي[18]. وقبله ذكر الانصاري ان عمدة الاختلاف في الرواية يعود الى كثرة ارادة خلاف الظواهر في الاخبار، اما بقرائن متصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الاخبار او نقلها بالمعنى، او منفصلة مختفية لكونها حالية معلومة للمخاطبين، او مقالية اختفت بالانطماس، واما بغير القرينة لمصلحة يراها الامام من تقية وما اليها[19]. بل وقبل ذلك عرفنا كيف ان الكليني يعترف بضياع الحقيقة، الامر الذي عول فيه على صيغة العمل بما وسع له الاختيار.

هكذا يدرك المحققون كون الحقيقة الدينية ضائعة بسبب تعارض الروايات واختلافها، وان اخطأوا في تحديد السبب الاساس الذي يقف وراء هذا الضياع. لكن ظلت المحاولات ترمي الى ايجاد الطرق الكفيلة بمعالجة مثل هذا الوضع باشكال شتى، ابرزها محاولات الجمع بين الروايات المتعارضة كالذي بشر بها الشيخ الطوسي واتباعه من المجتهدين.

ويظل ان السبب المعقول الذي يقف خلف تلك الكثرة من التعارض انما يعود في معظمه الى الكذب والدس والتزوير، حيث تفنن الوضاعون في اساليب الوضع والاختلاق، فعلى ما ذكره بعض المحققين ان الوضاعين تارة يأخذون اصلاً معروفاً او كتاباً مشهوراً وينتسخون منه نسخاً عديدة ويدسون خلالها أحاديث من موضوعاتهم او يحرفون كلماتها طبقاً لاهوائهم، وبعد اتمام النسخة يسجلون على ظهرها (قرئ على فلان في الشهر الفلاني بمحضر من اصحابه) ثم يفرقون هذه النسخ في دور الوراقين او يجعلونها في متناول الضعفاء من المحدثين. وتارة كانوا يختلقون صحيفة كاملة فيها الغلو والاكاذيب ويكتبون على ظهرها (اصل فلان) او (كتاب فلان) ثم يدسون هذه النسخ المفتعلة في كتب الوراقين، او يبيعونها بايدي الصبيان والعجائز الاميين كأنها موروثة من اكابر المحدثين[20].

وهناك من الروايات ما يشير الى هذا الصنيع من الكذب على الائمة الكرام، فمثلاً جاء في (رجال الكشي) انه اشتكى الفيض بن المختار الى الامام الصادق فقال: جعلني الله فداك، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ قال الامام: وأي الاختلاف يا فيض؟ قال: إني أجلس في حلقهم بالكوفة وأكاد أشك في اختلافهم في حديثهم حتى ارجع الى المفضل بن عمر فيوقفني من ذلك على ما تستريح به نفسي، فقال الامام: أجل كما ذكرت يا فيض، ان الناس أولعوا بالكذب علينا، كأن الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره، إني أحدث أحدهم بحديث، فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله وانما يطلبون به الدنيا، وكل يحب أن يدعى رأساً  )[21]. كما جاء ان يونس بن عبد الرحمن اخذ أحاديث كثيرة من اصحاب الصادقين عليهما السلام وعرضها على الامام ابي الحسن الرضا فانكر منها أحاديث كثيرة، وقال: ان ابا الخطاب كذب على ابي عبد الله، وكذلك اصحاب ابي الخطاب يدسون الاحاديث الى يومنا هذا في كتب اصحاب ابي عبد الله[22]. ومنها ان هشام بن الحكم سمع الامام الصادق يقول: كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه وكان اصحابه المستترون بأصحاب ابي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها للمغيرة، فكان يدس فيها الكفر والزندقة، ويسندها الى ابي ثم يدفعها إلى اصحابه ويأمرهم ان يبثوها في الشيعة، فكلما كان في كتب اصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم[23]. وكذا روي عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن، ان بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمد ما أشدك في الحديث، وأكثر انكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الاحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله الصادق يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً الا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا (ص) فإنا إذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل، وقال رسول الله (ص)[24].

وقد اعترف المرحوم هاشم معروف الحسني في (الموضوعات في الاثار والاخبار) بحجم الضرر الذي اصاب الحديث الشيعي جراء فعل الدس والتزوير الذي قام به جماعة كثيرة تظاهروا بالولاء لأهل البيت واندسوا بين الرواة واصحاب الائمة مدة طويلة حتى استطاعوا ان يتقربوا من الامامين الصادقين واطمأن اليهم جمع من الرواة، فوضعوا مجموعة كبيرة من الاحاديث ودسوها بين أحاديث الائمة وفي اصول كتب الحديث، ولم يسلم من فعلهم هذا حتى القرآن الكريم الذي اوهموا بتحريفه، تفسيراً وتنزيلاً، وظهرت اثر ذلك كتب الحديث والتفسير وهي مشحونة بمثل هذا الزور والتضليل.

وكان من نتائج الدس والكذب ان ظهرت اعداد كبيرة من الاحاديث المخالفة لظواهر الكتاب والسنة. وكما ذكر الانصاري ان الاخبار المخالفة لظواهر الكتاب والسنة كثيرة جداً، معلقاً على ذلك بانه لا يصدر من الكذابين ما هو مباين للكتاب كلية كي لا ينكشف الوضع[25]. ومثل ذلك ما اشار اليه الاخوند الخراساني، وهو ان الاخبار المخالفة لعموم الكتاب كثيرة جداً[26]. وعليه ان من الصعب الوثوق بمثل هذه الاخبار، ناهيك عن ان تكون حاكمة على نص الكتاب القطعي، سواء بالتخصيص او التقييد او النسخ، او اي شكل من اشكال التغيير في المعنى والحكم.

والعجيب من الشيخ الانصاري كيف امكنه التوصل الى الاطمئنان بصدور جميع الروايات عن الائمة في تصانيف الشيعة باستثناء القليل منها، وهو مع ذلك يلوح الى ظاهرة الوضع في هذه الروايات، كالذي عرضناه قبل قليل؟!

ويكفي دلالة انه رغم الاهتمام الكبير الذي حظي به كتاب الكافي من قبل العلماء والفقهاء، فانه مع ذلك لم يسلم - على الارجح - من الدس، حيث تتضمن نسخه الحديثة زيادة في الابواب مقارنة مع ما ذكره الشيخ الطوسي، كالذي اشرنا اليه من قبل، فكيف هو الحال مع الكتب القديمة التي من الواضح انها لم تحظ بالعناية الخاصة؟!

لذلك لم ينفع الاصطلاح المستحدث في تقسيم الحديث، فهناك روايات تعد من الصحاح رغم انها متهافتة او ظاهرة الوضع. ففي رواية في اصول الكافي عدّت صحيحة رغم ما تتضمنه من تناقض، اذ جاء ان معنى الذكر في قوله تعالى: ((وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون)) هو رسول الله، وان قومه هم اهل بيته[27]. مع ان في هذا الحديث تناقضاً، اذ كيف يكون الذكر رسول الله وهو المخاطب الذي اضيف اليه الذكر؟! بل جاء بعده مباشرة حديث اخر عدّ صحيحاً ايضاً رغم انه يخالف الاول، حيث ورد فيه ان الذكر هو القرآن[28].

وفي رواية اخرى عدت عالية الصحة باعتبار ان رواتها كلهم معدلون بتعديل امامين من ائمة الرجال بخلاف المعروف من الاكتفاء في تصحيح الحديث بامام واحد فحسب، ومع ذلك فقد اظهر المحقق محمد باقر البهبودي كذب الرواية بعدد من الادلة، وهي التي تعرف بصحيحة حماد بن عيسى الجهني في آداب الصلاة وكيفيتها، فقد اعتمد عليها العلماء ووضعوها في كتبهم ورسالاتهم العملية للعمل بها. وجاء فيها ان حماد بن عيسى روى ان الامام الصادق قال له يوماً: تحسن ان تصلي يا حماد؟ فأجابه حماد: يا سيدي انا احفظ كتاب حريز في الصلاة، فقال الامام: لا عليك قم فصلي، فقام حماد وصلى بين يديه، فقال الامام: يا حماد لا تحسن ان تصلي؛ ما اقبح بالرجل ان يأتي عليه ستون سنة او سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة، قال حماد: فأصابني في نفسي الذل وقال: جعلت فداك فعلمني الصلاة... الخ.

وفي هذه الرواية اظهر المحقق البهبودي كذبها واختلاقها بأدلة ثلاثة كالاتي:

1ـ ان النجاشي نقل في رجاله ان حماد بن عيسى قال: سمعت من ابي عبد الله الصادق سبعين حديثاً، فلم ازل أدخل الشك على نفسي حتى اقتصرت على هذه العشرين. والعشرون حديثاً هي الموجودة في كتاب (قرب الإسناد) وليس فيها تلك الرواية المذكورة، مما يعني انها موضوعة عليه.

2ـ لقد مات حماد بن عيسى (سنة 209هـ) وله نيف وسبعون سنة كما نص على ذلك ابو عمرو الكشي، مما يعني ان ولادته كانت حوالي (سنة 135هـ) وان له من العمر عند وفاة الامام الصادق ثلاثة عشر سنة تقريباً، فاذا كان لقاؤه للامام الصادق في صغره فكيف يقول الامام لغلام مثل حماد: ‹‹ما اقبح بالرجل ان يأتي عليه ستون سنة او سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة››؟!

3ـ علمنا ان حماد بن عيسى قال حسب الرواية المذكورة بانه يحفظ كتاب حريز في الصلاة[29]، وانه تبعاً لذلك قام فصلى حسب ما حفظه من الكتاب المشار اليه، وان الامام الصادق اعترض على صلاته وعلمه الصلاة الصحيحة بادابها، لذا يفترض ان يكون تعليم الامام الصادق جاء على خلاف ما هو مسطور في كتاب حريز للصلاة كما حفظه حماد، لكن واقع الامر ان ما جاء في هذا الكتاب هو نفس الاداب المذكورة في الرواية، بل واحسن منها واوفى. مما يعني ان مضمون الرواية من اعتراض الامام الصادق لا يتسق مع ما ورد في كتاب حريز في الصلاة[30].

وبهذا يتضح ان قضية ابعاد الروايات المختلقة ومعالجة التعارض بين الاحاديث هي اكبر من ان يطالها علم التوثيق كما تكفل به التقسيم المستحدث والذي عمل به العلماء وما زالوا.





[1] رضي الدين بن طاوس: سعد السعود للنفوس، تحقيق فارس تبريزيان الحسّون، ص155، عن مكتبة العقائد الالكترونية www.aqaed.com

[2] تهذيب الاحكام، المقدمة، ص2

[3] الدرر النجفية، ص165 وما بعدها. وفرائد الاصول، ج2، ص809، ومن ذلك ما رواه الكليني عن زرارة انه سأل الامام الباقر عن مسألة فأجابه، ثم جاءه رجل فسأله عنها فاجابه بخلاف ما اجاب زرارة، ثم جاء رجل ثالث فاجابه بخلاف الجوابين، فلما خرج الرجلان قال زرارة: يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فاجبت كل واحد منهما بغير ما اجبت به صاحبه؟ فأجاب الامام: يا زرارة ان هذا خير لنا وابقى لنا ولكم، لو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. ثم بعد ذلك قال زرارة للامام الصادق: شيعتكم لو حملتموهم على الاسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب ابيه (الاصول من الكافي، ج1، باب اختلاف الحديث، حديث 5، والحدائق الناضرة، ج1، ص5ـ6).

[4] فرائد الاصول، ج1، ص115

[5] لاحظ الدرر النجفية، ص87ـ88، والاصول الاصيلة، ص17ـ18

[6] بحار الانوار، ج2، ص74

[7] بحار الانوار، ج59، ص486

[8] بحار الانوار، ج11، ص222

[9] بحار الانوار، ج11، ص180

[10] المصدر السابق، ص226

[11] المصدر السابق، ج12، ص113

[12] المصدر السابق، ج14، ص202

[13] المصدر السابق، ص190

[14] المصدر السابق، ص215

[15] المصدر السابق، ص355

[16] المصدر السابق، ص378

[17] المصدر السابق، ص401

[18] التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الاجتهاد والتقليد، ص161

[19] فرائد الاصول، ج2، ص810

[20] معرفة الحديث، ص44

[21] اختيار معرفة الرجال، حديث 216، وفرائد الاصول، ج1، ص153

[22] اختيار معرفة الرجال، حديث 401، كذلك: فرائد الاصول، ج1، ص169، والحدائق الناضرة، ج1، ص10

[23] اختيار معرفة الرجال، حديث 402، كذلك: فرائد الاصول، ج1، ص169، والحدائق الناضرة، ج1، ص11

[24] اختيار معرفة الرجال، حديث 401، كذلك الحدائق الناضرة، ج1، ص11.

[25] فرائد الاصول، ج1، ص111.

[26] محمد كاظم الخراساني: كفاية الاصول، مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الاولى، 1412هـ، ص276

[27] الاصول من الكافي، ج1، كتاب الحجة، باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة، حديث 4

[28] انظر التصحيح الوارد في الحديثين: الشافي في شرح اصول الكافي، المجلد الثالث، ص133.

[29] علماً ان حماد بن عيسى هو راوية كتاب حريز في الصلاة عن الامام الباقر، ولم يرو علماء المذهب هذا الكتاب الا عنه (معرفة الحديث، ص4).

[30] معرفة الحديث، المقدمة، ص3ـ5

comments powered by Disqus