-
ع
+

الخصائص المعرفية بين المثقف والفقيه

يحيى محمد

هناك خصائص معرفية عامة تترتب على طبيعة المرتكزات لكل من المفكر والفقيه. فالرؤى الناتجة عن الممارسة المعرفية لكل منهما تتصف بمواصفات خاصة تتسق وطبيعة ما عليه تلك المرتكزات. فللعقل الفقيه خصائصه المعرفية التي تميزه عما لدى العقل المفكر أو المثقف من خصائص، وذلك لإختلاف المرتكزات بينهما.

وبعبارة أدق، إن لكل منهما ما يمكن أن نطلق عليه (الحساسية المعرفية) التي وظيفتها العمل على صبغ الرؤى المعرفية بصبغة الأصول المولدة. وبالتالي فإن هذه الرؤى لا تتولد بصورة حتمية وآلية؛ وإنما تنشأ بفعل التحسس والجذب الذي تثيره سلطة تلك المولدات.ويمكن إجمال هذه الخصائص بالشكل التالي:

 

1ـ الهدف المعرفي

أول ما يلاحظ من خصائص معرفية للفقيه هو أن ما يستهدفه من التوليد المعرفي هو ‹‹تديين الواقع››، أي تنزيل الدين على الواقع وطبعه بطابعه الخاص، وبالتالي العمل ضمن إطار ما يطلق عليه الحق الإلهي. في حين إن ما يستهدفه المفكر الديني من التوليد المعرفي إنما هو ‹‹توقيع الدين››، أو جعل الأخير يتخذ صبغة واقعية تتحقق من خلالها المصلحة الإنسانية. وبالتالي فإن هناك منهجين متعاكسين؛ أحدهما يرى أن الغاية التي يتوجه إليها عملاً وسلوكاً هي حق الطاعة، خلافاً للآخر الذي يرى أن غايته العظمى مجسدة بالمصلحة الإنسانية. فبحسب نهج الفقيه أن حق الطاعة يدعو إلى الإلتزام التام بما يرد في النص دون غيره من المصادر المعرفية الأخرى، وأن المصلحة الإنسانية ليس لها من إعتبار إلا من حيث جعلها تابعة ضمن ذلك الحق المستهدف، الأمر الذي يفسر الاستغراق العميق للفقهاء في البحث عن الشكليات الحرفية للنص وما يترتب عنها من إجتهادات لا علاقة لها بمساهمة الواقع، إلا عند الضرورة وضغط الحاجة.

في حين أن الأمر لدى المفكر يختلف كلياً طالما أنه يجعل من المصلحة الإنسانية هدفاً يتوجه إليه عبر تحديدأبعاده المعرفية وما يترتب عليها من مواقف. وهو بالتالي لا يرهن نفسه ضمن دائرة ما يرد من تحديدات تكوينية ولفظية في النص، بل يذهب إلى الاستكشافات العقلية والواقعية ليحدد من خلالها طبيعة المصالح التي يراد تحقيقها على أرض الواقع. وهو لأجل هذا الغرض يدعو إلى دراسة الواقع بكل تجلياته متخذاً من الخبرة البشرية رصيده المعرفي، ومن الموجهات النصية سبيله التقويمي، وذلك على عكس ما يسعى إليه الفقيه من استكشاف عوالم النص بمفرداته ودلالاته وأسانيده ليحدد معرفة كل ما يتعلق بمجال حق الطاعة.

مع هذا يلاحظ أنه لا الفقيه ينكر المصلحة الإنسانية، ولا المفكر الديني يرفض حق الطاعة، إلا أن بينهما إختلافاً حول الاولويات واسس التركيب والتوفيق بين الهدفين المشار إليهما. فالفقيه ينكر أن تكون المصلحة هي الهدف الرئيس من وراء ممارساته المعرفية، بل غالباً ما لا يعترف بهذه المصلحة ما لم تكن صادرة عن دائرة حق الطاعة، أي من حيث تقريرها بحسب النص والشرع، تبعاً لمقالة الأشاعرة في الحسن والقبح الشرعيين. وبالتالي لا إعتبار للمصلحة إلا بما جعلها الله مصلحة لما يملكه من الحق المطلق. وطبقاً لهذا النظر تكون المصالح الإنسانية مجرد تعبديات ليس للعقل فيها حكم ولا دخل، بل المصلحة مصلحة بفعل إعتبار الشارع لا غير، مثلما أشار الشاطبي إلى ذلك[1]. ولا شك أن المفكر الديني لا يميل إلى مثل هذه الآراء، فهو لا يتقبل نظرية الأشاعرة في التحسين والتقبيح الشرعيين، ويفْصل قضية المصلحة الإنسانية عن دائرة حق الطاعة، بل ويرى أن الأولى مرجحة على الأخرى عند التعارض، إذ تشكل لديه هدفاً منشوداً يُدرك بها ما للدين من حِكَم وغايات، فلولاها ما كان للدين من هدف ولا معنى.

ومن الجدير بالذكر أن النصوص الدينية لا تجعل بين حق الطاعة والمصلحة الإنسانية تنافراً، فبينهما مداخلة نسبية تجعل أحدهما يدخل بنسبة ما في الآخر. فمصلحة الإنسان هي أيضاً حق يريده الله تعالى ويأمر به. أي أنها من هذه الناحية تدخل ضمن إعتبار حق الطاعة، وإن كانت في حد ذاتها مطلباً انسانياً. وكذا الحال مع حق الطاعة الذي تتحقق به الفائدة في تقويم الإنسان وإصلاحه في الدنيا. وبالتالي فللأحكام الشرعية وجهان، أحدهما عبادي والآخر حضاري. فحيث أنها دالة على أمر الله ومولويته ووجوب طاعته والإمتثال لأوامره فانها تكون من هذه الحيثية عبادية. لكن حيث أن غرضها مصلحة الإنسان وتسديد حاجاته لنيل الكمال وسعادة الدنيا - ناهيك عن الآخرة - فإنها تكون حضارية.

 

2ـ الوسيلة المعرفية

تتحدد المولدات المعرفية للمثقف الديني بكل من التجربة أو الخبرة البشرية وموجهات النص، وبالتالي فإن من الطبيعي أن تصطبغ المعرفة لديه بصبغة الوسائل لتحقيق ما ينشده من مقاصد. وهو إذ يستند إلى التجربة البشرية أو خبرة الواقع؛ فذلك كفيل بأن يجعله يكتشف حالة المرونة في تلك الوسائل، مما يجعله لا يجمد على وسيلة ما قد يكون مشاراً إليها في النص. الأمر الذي يختلف فيه مع الفقيه. فهذا الأخير يتعامل تارة مع وسائل النص ومقاصده بنفس الروح والدرجة من الثبات، وأخرى - وهو الغالب - يرجح الأولى على الثانية، وذلك عندما تكون الأولى منصوصاً عليها بالتخصيص خلافاً للأخرى. وبالتالي لا يتعامل الفقيه بمرونة مع الوسائل المعرفية طالما يستند في مولداته إلى البيان الماهوي. لذا تتولد الفجوة والصدام مع الواقع.

فمثلاً عادة ما يميل الفقيه إلى فهم جهاد العدو بأنه جهاد حربي مقدس ينبعث مما يدل عليه النص صراحة[2]، وأن النهي عن المنكر ومحاربته يعتمد على ما هو مفصل بحسب البيان الماهوي ضمن الدرجات الثلاث المعروفة، وهو التغيير باليد أو اللسان أو القلب، طبقاً للحديث النبوي الشهير. في حين لا يعتبر المفكر هذه التعيينات ثابتة بالضرورة، وهو لا يعول عليها إن بدا له أنها لم تعطِ – كما في أحيان معينة - تلك الثمار المرتقبة التي تبرر مصداقيتها المشروعة، وأنها على العكس قد تصادم الواقع بما يؤول إلى خلاف ما عليه المقاصد، وهو ما يدعوه إلى استبدالها بوسائل أخرى يراها مناسبة لتحقيق ما يصبو إليه من مقاصد؛ سواء على مستوى مجاهدة الطرف الآخر، أو محاربة المنكر. فقد يتولى في بعض الحالات دور الجهاد الحركي غير المسلح بغية تحقيق المقاصد الدينية. وهو في هذا الدور قد يسعه القيام بالأمرين معاً: مدافعة الطرف الآخر، والعمل على محاربة المنكر. ومن ذلك قد يساهم في المشاركة السياسية مع مختلف الإتجاهات العلمانية وقبول مبدأ الديمقراطية كمنهج حركي عام تتحدد فيه المنافسة بين الإتجاهات المتباينة من دون الدخول في المعترك الحربي. إذ يشترط أن يكون هناك احترام متبادل لدى جميع الأطراف حيال أي رؤية يتم انتخابها بحسب ما ترغب إليه الاغلبية؛ ضمن قواعد دستورية محايدة يتفق عليها الجميع. فهذا الشكل من المجاهدة يفتح المجال أمام الرؤية الدينية أن تؤدي دورها في العمل البنّاء لتحقيق المقاصد؛ سواء كانت ضمن السلطة السياسية الحاكمة أم خارجها، وذلك بأقل الخسائر الممكنة مقارنة مع ما عليه الجهاد الحربي.

وواقع الأمر أن هذا الشكل من المجاهدة يذكرنا بما كان عليه المتكلمون الأوائل، وعلى رأسهم المعتزلة، حيث أنهم قاموا بمحاججة غيرهم من الطوائف غير الإسلامية بسلاح معرفي يتفق عليه الجميع، وهو الإحتكام إلى العقل وليس اللجوء إلى نص الكتاب والسنة؛ لبداهة أنهم يختلفون حول مرجعيته المعرفية. والحال نفسه ينطبق على الممارسة السياسية، حيث لا يوجد عنصر محايد يمكن أن يتفق عليه الجميع من دون إخلال بالمبادئ المتبعة؛ غير مبدأ التعددية أو الديمقراطية. فهي آلية لا تختص بفئة ولا بفلسفة دون أخرى، بل أنها وسيلة مشتركة قابلة للتوظيف والتطبيق على أي مضمون كان؛ سوى ذلك الذي يؤدي إلى نفيها. وهي من هذه الناحية تشابه علم المنطق الذي آل أمر المسلمين إلى قبوله وتطويره رغم علمهم بأنه نتاج فكر يوناني. فهم وافقوا عليه طالما مثّل عندهم ذلك المبدأ الحيادي الذي يمكن توظيفه لدى مختلف العلوم والفلسفات. مع هذا فالفقيه الذي قبِل المنطق كعلم لا غنى عنه في الممارسة الإجتهادية؛ هو نفسه الذي لم يتقبل الديمقراطية لعدد من المبررات تعود إلى مولده المتمثل بالفهم الماهوي. وقد يوافق البعض على قبولها مؤقتاً ريثما يتم استلام الحكم ثم لا يرى مناصاً من الانقلاب عليها، أو أنه يعمل على تكييفها بالشكل الذي تكون فيه أقرب إلى الشورى ولا تتعدى حدود المفهوم الديني.

إذاً فالخلاف بين المفكر والفقيه حول شكل الوسائل المعرفية المتبعة لتحقيق مقاصد التشريع؛ إنما يعود إلى دائرة ما يختلفان حوله من أصول مولدة. فالفقيه الذي يجعل مولده التكويني لا يتعدى حدود البيان الماهوي؛ لا محالة أنه يضيق ذرعاً بالوسائل الأخرى التي تكشف عنها التجربة البشرية، خلافاً لحال المفكر الديني الذي جعل مولده التكويني مفتوحاً على تجارب الواقع وخبراته المتنوعة.

 

3ـ القيمة المعرفية

الملاحظ أن الرؤى التي يولدها الفقيه عبر آليته الإجتهادية هي رؤى ذات قيم مطلقة. فلما كان التوليد قائماً على البيان الماهوي، وأن هذا البيان يتصف بالثبات والإطلاق في علاقته بالحوادث والقضايا الخارجية؛ لذا فإن ما ينتج عن هذه الممارسة الماهوية لا بد من أن لا يتأثر - مبدئياً - بأي تجديد يمكن أن يحدث في الواقع الخارجي. مما يعني أن القيم التي تحدد طبيعة تلك الرؤى هي قيم مطلقة.

وليس الأمر كذلك مع المثقف أو المفكر الديني. فحيث أنه يعتمد في توليده على الواقع، وأن لهذا الأخير مظاهر متغايرة ومتجددة على الدوام، لذا كان من الطبيعي أن يتعامل مع القضايا الخارجية تعاملاً مرناً، وبالتالي فإن الرؤى التي يولدها لا تتعدى القيم النسبية القابلة للتعديل والتغيير والتحوير. وهو ما يصدق على نماذج المثقفين والمفكرين كافة. صحيح أن للمثقف أو المفكر خصوصية انتقائية يمارس من خلالها الإسقاطات التعميمية، ومن ثم يلتزم بمواقف معرفية ذات قيم مطلقة شمولية. وصحيح كذلك أن ما يؤاخذ عليه اليوم هو حمله لمظاهر اللاتاريخية واللاعقلانية نتيجة ركونه إلى المطلقات وتمسكه بالنماذج الجاهزة.. كل ذلك صحيح، لكن الملاحظ - مع هذا - أنه كثيراً ما يتأثر بحالات الصدام مع حقائق الواقع وتجدداته، الأمر الذي يضطره إلى إعادة النظر فيما يطرحه من مواقف ومقالات، بل وما يلجأ إليه من مذاهب وإتجاهات. وهذه العملية تكاد تكون ظاهرة متكررة تشهد تقلبات جذرية في مواقع المثقفين. والكثير من هؤلاء ينتهي إلى أن يستظل بظل المثقف الديني بعد الطواف بالتجارب المعرفية العلمانية. وأخص بالذكر هنا اليساريين منهم. وبالتالي فإن ما يتعلمه المثقف من ذلك هو التسليم بكون ما يطرحه من رؤى إنما هي رؤى نسبية وليست ذات قيم مطلقة شمولية. سيما وأن المثقفين يحملون تيارات متضادة لا تجمعها أصول مشتركة، وأن المولد المعرفي وإن كان متفقاً عليه بينهم فيما يخص الخبرة البشرية إلا أن الانتقائية التي مارسوها جعلت بعضهم يقف على الضد من الآخر. وهو وإن كان له من الدلالة على الخصوصية الإطلاقية للموقف المعرفي للمثقف، لكن من السهل أن يستلهم منه المثقف الوعي بحقيقة ما يرتكن إليه من نسبية معرفية. الأمر الذي يختلف فيه الحال مع الفقيه، فالأصول التي يعتمدها هي أصول متفق عليها من حيث الأساس، والتوليد المعرفي الذي يمارسه ليس فيه صفة الانتقائية بالمعنى المشار إليه عادة، وإنما له خصوصية بيانية ماهوية. وبالتالي كان من الصعب عليه أن يغير نهجه واتجاهه رغم التجارب الطويلة التي خاضها عبر القرون. فالمسار التاريخي للفقيه هو مسار يكاد يكون ثابتاً لم يمسّه شيء من التغيير الجذري، وأن النهج التوليدي القائم على البيان الماهوي لا يدع مجالاً للتغيير والتحويل. وعليه فإن ما ينتجه الفقيه من رؤى تميل إلى أن تتصف بأنها رؤى ذات قيم مطلقة وشمولية.

وكمقارنة بين الثبات المعرفي لدى الفقيه وما يقابله من التغير لدى المفكر؛ نلاحظ أن ما يتمسك به الأول من نهج بياني ماهوي يجعله يواجه - على الدوام - أزمة حادة من الصدام مع كل من الواقع والمقاصد، بإعتبار أن الرؤى التي يولدها هي رؤى ذات قيم مطلقة. في حين لا تلزم هذه النتيجة مقارنة بما لدى المفكر الديني. فمن الناحية التكوينية لما كانت رؤى المفكر الديني قائمة على التجربة البشرية؛ فإن صدامها مع الواقع أو المقاصد أو غيرهما ليس كفيلاً بأن يجعله يعيش أزمة حقيقية كتلك التي لدى الفقيه، فلا مانع لديه من أن يبدل الرؤى برؤى أخرى مغايرة، بتبرير مستمد من الواقع ذاته، حيث يعي أن الأخير يكشف عن مظاهر متغايرة ومتجددة ينتج عنها مضامين معرفية لا يمتنع من أن تتصف بحالات من التغير والتبديل، وبالتالي فهو يعلم أن ما يحمله من مواقف معرفية إنما يكتنفها الطابع النسبي نظراً لتجددات الواقع وتغيراته. الأمر الذي نلمسه في شواهد كثيرة من المواقف المعرفية. ومن ذلك أن تبنيات المفكر الديني في القضايا العامة شهدت العديد من التحولات، مثل تحوله من الدفاع عن الأممية الإسلامية إلى الخصوصية والوطنية الإسلامية، ومن الإعتماد على المستبد العادل إلى الإحتكام إلى الشورى والديمقراطية. وفي جميع الأحوال أن هذه المتبنيات لا تتعدى الوسائل التي يمكن توظيفها لاغراض مقصدية، وبالتالي جاز استبدال بعضها بالبعض الآخر تبعاً لاتساق الواقع مع المقاصد.

 

 

 

 

4ـ الروح المعرفية

لما كان الفقيه يعتمد في مرجعيته التكوينية على النص، وأن أغلب ما يعول عليه هو الأخبار والروايات، وحيث يكثر الطابع الإعجازي في هذه المنقولات الظنية الصدور؛ لذا فقد تشكلت لديه بنية يصح وصفها بأنها تجويزية. أي أنه يستسيغ الحكم على الواقع ووصفه؛ سواء كان ذلك يتسق مع الطابع السنني للحياة أو لا يتسق معها بنوع ما من الخرق والإعجاز. يضاف إلى أن أغلب الفقهاء متأثرون بالمذهب الأشعري الذي لا يرى فاعلاً في الوجود غير الله؛ ناكرين بذلك سنن الخلق وتأثيرها، الأمر الذي عمّق حالة التجويز لدى العقل الفقيه. فالروح العامة لهذا العقل هي روح تجويزية؛ سواء من حيث استناده الرئيس إلى نص الحديث، أو من حيث تعويله الغالب على المذهب الأشعري.

أما المفكر الديني فلما كان يستند في مرجعيته التكوينية إلى الواقع، وحيث أن الأخير يؤكد الطابع السنني ولا يبدي نواحي خرق الطبائع والقوانين؛ لذا كانت روحه العامة روحاً سننية وليست تجويزية. فمن حيث المبدأ أنه لا يميل إلى ما يُنقل من تجاوز لحدود قوانين الواقع؛ ما لم تكن هناك شهادة قطعية على حالة الخرق كما يحصل في معاجز الأنبياء لغرض إثبات النبوة. فكما يقول رشيد رضا: ‹‹إنما الذي يقضي به العقل أن لا نصدق بوقوع شيء على خلاف السنن الثابتة المطردة في نظام الأسباب العامة إلا إذا ثبت ثبوتاً قطعياً لا يحتمل التأويل››[3]. ويقول: ‹‹فكل خبر عن حادث يقع مخالفاً لهذا النظام - أي نظام الأسباب والمسببات - والسنن فالأصل فيه أن يكون كذباً اختلقه المخبر الذي ادعى شهوده أو خدع به ولبس عليه فيه..››[4].

على أن هذا الإختلاف في الروح العامة بين المفكر والفقيه؛ جعل رؤى أحدهما تتقاطع مع رؤى الآخر. وبالتالي فليس كل ما يولده الأول يكون مرضياً عند الثاني، وكذا العكس صحيح أيضاً. فمثلاً أن محمد عبده ورشيد رضا يرفضان الكثير من المنقولات التي يرويها أصحاب التفسير والحديث، وأحياناً يقومان بتأويل المعنى إن كثرت الرواية وأصبحت من المسلمات لدى العلماء، ومن ذلك أنه عندما سُئل محمد عبده عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فإنه قال: ‹‹إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، وأن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار، وسنة الرسول (ص) مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك››[5]. وقد تكرر ما يشبه هذا المعنى مع المفكر محمد باقر الصدر، حيث نقل عنه أحد تلامذته (السيد كاظم الحائري) كيف أنه احتمل لأحاديث الرجعة المسلّم بها لدى علماء الإمامية معنى آخر أقرب إلى التصور العلمي، وهو أنه ليس المقصود منها رجعة الأموات إلى عالم الدنيا كما هو ظاهر نصوص الروايات، وإنما تمكّن الأحياء من الإقتراب إلى عالم الموتى والآخرة، فتضيق الهوة بين العالمين، وهو أمر قد لا يكون مستبعداً لدى مستقبل الكشف العلمي، خلافاً للمعنى الأول الذي له صفة خرق السنن الطبيعية[6].

كذلك فإن المفكر الديني لا يتقبل تفاسير القرآن القائمة على الخوارق غير الطبيعية طالما وجد لها أدنى دلالة على التفسير السنني. فمثلاً ما جاء في تفسير محمد عبده لقوله تعالى: ((ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون))[7]، إذ رفض كل روايات التفسير ذات الصفة الخارقة للسنن الطبيعية، واعتبرها من الاسرائيليات، وقام بتفسير النص على نحو واقعي وآيديولوجي، معتبراً أن الله تعالى أمات القوم بتمكين العدو منهم، وأنه أحياهم بمعنى أنه أحيا غيرهم من الأمة[8]. وعلى هذه الشاكلة قام هذا الشيخ بتفسير قوله تعالى: ((ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون))[9]، معتبراً أن المراد بالبعث هو كثرة النسل، إذ بعد أن وقع الموت في بني اسرائيل بسبب الصاعقة وغيرها وظنوا أنهم سينقرضون؛ بارك الله في نسلهم إعداداً لهم للبلاء ليشكروا الله تعالى على ما تفضل عليهم من النعم التي كفر بها آباؤهم[10].

كذلك جاء في قوله تعالى: ((إن أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام ابراهيم))[11]. فذكر المفسرون في المقصود من قوله ((آيات بينات)) هي ما كان لمقام ابراهيم أو وقوفه من معاجز غير طبيعية، منها الأثر الذي ما زال لقدمي ابراهيم في الصخرة التي وقف عليها، حيث ألان الله تعالى جانباً منها دون الآخر، وغوصه فيها إلى الكعبين. لكن رشيد رضا استبعد ذلك ومال إلى أن الصخرة كانت رطبة عندما وطئ عليها ابراهيم ثم تحجرت بعد ذلك وبقي أثر قدميه فيها[12].

ومن حيث الموقف من المدونات الروائية يلاحظ أن فقهاء أهل السنة يسلمون بما تم تدوينه من أحاديث فيما يطلق عليه الصحاح الستة، خاصة صحيحي مسلم والبخاري؛ رغم أن فيها الكثير مما لا يتفق وظاهر الواقع أو سننه. وهذا ما جعل عدداً من المثقفين ينظرون بعين الريبة لمثل هذه الاحاديث المنسوبة إلى النبي (ص)، كتلك الإشارات التي أبداها أحمد امين، مما جعل الشيخ مصطفى السباعي يتولى الرد عليه بمنطق عقلية الفقيه، كما في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي). وكان من بين اعتراضات أمين ما جاء في صحيح البخاري عن حديث الكمأة القائل بأن ‹‹الكمأة من المَن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم››، وقد روي أن أبا هريرة قال: ‹‹أخذت ثلاث أكمؤ أو خمساً أو سبعاً فعصرتهن في قارورة وكحلت به جارية لي عمشاء فبرأت››. ومثل ذلك حديث التمرات القائل: ‹‹من اصطبح كل يوم سبع تمرات من عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل››[13]، وكذا حديث: ‹‹لا يبقى على الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة››[14]، وعلى هذه الشاكلة حديث الذبابة المروي في صحيح البخاري والقائل: ‹‹إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء››[15]، وغير ذلك من المرويات التي تحتاج إلى اختبار وتحقيق قائم على الواقع لمعرفة صدقها من كذبها، كالذي دعا إليه أحمد أمين.

على أن هناك الكثير من مثل هذه الروايات ليس من السهل على العقل المثقف أن يتقبلها على ظاهرها، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري من أن التثاؤب من الشيطان[16]، وأن صياح الديكة ونهيق الحمار يفسران برؤية الملك للأول والشيطان للثاني[17]، وأن العظم والروثة من طعام الجن[18]، وأن المرأة مخلوقة من الضلع[19]، ومثله ما جاء في صحيح مسلم[20]، كما جاء في هذا الأخير إن الشؤم في الفرس والمرأة والدار[21]، وإنه يقطع الصلاة كل من المرأة والحمار والكلب الأسود، حيث أن الكلب الأسود هو شيطان[22]، وأن أشياء الأرض من التربة والبحر والجبال والنور وغيرها مخلوقة كل منها في يوم من أيام الاسبوع[23]، وما جاء في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث من أن الشمس تذهب عند غروبها حتى تسجد تحت العرش؛ وذلك كتفسير لقوله تعالى: ((والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)) (يس\38)[24]، وكذا ما جاء في غير الصحاح من تحديدات خاصة بعمر الدنيا وعمر الأمة الإسلامية[25]، وكالقول بأن النساء ناقصات عقل وإيمان وحظوظ[26]، والنهي عن تعليمهن الكتابة وسورة يوسف وتركهن بلّهاً[27]، وأن المرأة شرّ كلها وشرّ ما فيها أنه لا بد منها[28]، وأن الأرض مرفوعة على حوت في الماء وهو على ظهر صفاة وهي على ظهر ملك وهو على صخرة في الريح.. الخ، مثلما كان يسلّم بذلك أو بمثله المختصون من أهل البيان والتفسير[29]، وقد أفضى الأمر في بداية العصر الحديث إلى انكار الكثير منهم كروية الأرض تبعاً لمثل تلك الروايات.

وقديماً سبق لإبن خلدون أن وضع منهجاً خاصاً في نقد الحديث انطلاقاً من الروح السننية؛ وذلك بتمييز النصوص إن كانت ممكنة أو مستحيلة عبر عرضها على الواقع أو السنن الكونية والعمرانية (الإجتماعية) التي يشهد عليها الحاضر قبل عملية فحص السند والتعديل والتجريح التي يتولاها علماء الحديث ويستند إليها الفقهاء. لهذا فقد نبّه على ما وقع به المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل من الأغلاط بما نقلوه من حكايات ووقائع لإعتمادهم على مجرد النقل غثاً أو سميناً دون عرضها على طبائع الكائنات ولا قياسها على اشباهها مما نشهده في الواقع، ولا حكّموا فيها أصول العادة وقواعد السياسة والإجتماع، وعلى رأيه فإن الماضي هو أشبه بالآتي من الماء بالماء[30].

مهما يكن، فالملاحظ أن العقل الفقيه محكوم بالآلية المعرفية البيانية التي فرضتها عليه الصنعة طيلة قرون، مما جعله لا يولي إهتماماً لما عليه الواقع من سنن وحقائق.

 

5ـ الآيديولوجيا المعرفية

إن القضايا المشتركة التي يتنافس عليها المفكر والفقيه في التفكير وإبداء النظر هي تلك التي لها علاقة بالمجتمع، لغرض تغييره وإصلاحه. فمن جانب تتصف هذه القضايا بالعموم لا الفردية، كما أن لها - في الغالب - دلالات معيارية تتعلق بمنظومة القيم والسلوك. ومن ذلك المسائل السياسية وحقوق الإنسان والمرأة والمواطنة والقومية والدستور والعلاقة مع الغرب ومنتجاته الثقافية والمادية وغيرها. وبالتالي فإن لكل منهما رسالة تتعلق بالإصلاح الإجتماعي، وإن بدا التنافس والإختلاف بينهما لإختلاف المعايير المتبعة في التفكير، انطلاقاً مما يحملانه من ركائز معرفية متقاطعة، مما يجعل رهانهما لحل المشكلة الإجتماعية مختلفاً. فبينما يلجأ الفقيه إلى النص كمولد تكويني لكسب الرهان، مستعيناً في ذلك بكل أدوات التحقيق البيانية من السند والدلالة اللغوية؛ فإن المفكر في القبال يعمد إلى التجربة البشرية مع موجهات النص لتحقيق هدفه في الرهان، موظفاً لذلك كل الوسائل العلمية التي تتكفل بها المناهج والعلوم الإنسانية، كعلم الإجتماع والنفس والاقتصاد والإحصاء والتاريخ وغيرها. فمثلاً إذا كان الفقيه يلجأ لحل مشكلة الفساد الخلقي بالوعظ والتحذير؛ فإن المفكر أو المثقف يلجأ في علاجه إلى البحث عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء هذا الفساد لتغييرها، كإن يرى أن المشكلة الأساسية تكمن في البطالة، أو صعوبة الزواج لغلاء المهور، أو للكثافة السكانية، أو غير ذلك. وإذا كان الفقيه يستعين عادة في دعوته لإصلاح المجتمع بخزينه من التكوين البياني للنص دون اللجوء إلى الطرق العلمية المساعدة؛ فإن المثقف على خلافه يستخدم الوسائل العلمية في الإصلاح، ويعتمد على التخطيط قبل القيام بخطواته في التغيير[31].

أما من جهة محفزات حركة كل من المثقف والفقيه؛ فإنه يمكن تصويرهما كإنزيمين لا ينشطان إلا عندما يتحقق ما يناسب الحركة من مثيرات. فالمحفزات التي تدفع بالانزيم المثقف نحو الحركة والنشاط هي تلك التي تتحدد بتأزمات الواقع الإجتماعي؛ لا سيما السياسي منه. في حين إن محفزات الانزيم الفقيه التي تدفع به نحو الفعل والنشاط هي تلك التي تتعلق بتأزمات المظاهر الدينية في المجتمع. وبالتالي فإن الآيديولوجيا التي تحرك الفقيه هي آيديولوجيا دينية، بينما التي تحرك المثقف هي آيديولوجيا واقعية؛ سواء على نحو التبرير أو التغيير، مع لحاظ أن تأزمات الحياة وتغيراتها قلما تحدث في المظاهر الدينية مقارنة بما يحدث في غيرها من المظاهر الإجتماعية والسياسية، وبالتالي فإن ذلك ينعكس على نشاط الانزيمين. فبينما يكون نشاط الانزيم الفقيه خاملاً عادة؛ فإنه على العكس بالنسبة إلى نشاط الانزيم المثقف، حيث تتأجج فيه روح الحركة باستمرار.

إذاً لدى كل من العقلين المثقف والفقيه حساسية تنبعث مما يرجعان إليه من مرتكزات ومولدات معرفية، وهي تتحول إلى نوع من النشاط الانزيمي بفعل ما تصادفه من محفزات خارجية تناسبها.

 

6ـ المحصلة المعرفية

لا شك أن النتائج التي تسفر عن العملية المعرفية للفقيه هي ظنون إجتهادية بيانية ماهوية في الغالب. فالفقيه يعي أن ثمرة جهده في استنطاق النص واستنباط ما امكن له من معارف وأحكام لا تتعدى دائرة الظن في الغالب، وهو ظن يتصف بنمط خاص من المعرفة هو الظن البياني الماهوي، بإعتباره نتاج المولد المعرفي للعقل الفقيه، لهذا نطلق عليه الظن البياني.أما الحصيلة التي تسفر عن الممارسة المعرفية للمفكر فيلاحظ أنها ليست بيانية بل عقلائية خبروية، استناداً إلى طبيعة المولد الذي يحتكم في تكوينه المعرفي إلى ما عليه الخبرة البشرية واستنطاق الواقع؛ سواء كانت النتائج ظنية أو قطعية، مع ما تتظلل به هذه النتائج من الموجهات الكلية للنص.

وحيث أن هناك نوعين من الحصيلة المعرفية؛ فالمتوقع أن تكثر حالات التعارض والتقاطع بينهما. لكن أيهما أقوى ترجيحاً وتقديماً؟ ما نراه في غالب الأمر هو أن الظنون الخبروية هي المقدمة ترجيحاً على الظنون البيانية؛ لإعتبارين مهمين كالتالي:

أولاً: إن العملية المعرفية في حالة الظنون الخبروية تمر بطرق قريبة وقصيرة للكشف عن الحقيقة، حيث يسهل عليها مراجعة قضايا البحث طبقاً لما تعتمده من مولدات قائمة على خبرة الواقع وهدي الموجهات العامة للنص. في حين تتأسس العملية المعرفية في حالة الظنون البيانية عبر سلسلة طويلة ومعقدة من الطرق الإستدلالية بما تتضمن من مدارات إحتمالية متشعبة، الأمر الذي يجعلها أضعف قوة وجاذبية مقارنة مع ما تتصف به الظنون الخبروية. فمثلاً حينما يتأسس الحكم الظني طبقاً للعملية البيانية؛ فإن على الفقيه أن يراعي جملة أمور لتفضي قضيته إلى المطلوب. فحيث أن مادته الرئيسة مستمدة من نصوص الحديث؛ لذا فإن عليه أن يبحث في الشروط الخارجية لصحة النص قبل النظر في شروطه الداخلية؛ فيقوم بفحص السند للتعرف على سلسلة رجال الرواية، وهو في هذه المرحلة يسعى للحصول على نوع من الظن في وثاقة الجميع، مع الأخذ بعين الإعتبار أن السلسلة الطويلة تضعف من القيمة الإحتمالية لوثاقة الجميع، كذلك فإن التعامل غير المباشر في معرفة رجال السند هو الآخر يعمل على إضعاف هذه القيمة. وكل ذلك يواجهه الفقيه، إذ يلاقي أمامه سلسلة ليست قصيرة من الرواة، وهو من حيث التوثيق يعتمد على آخرين تناولوا تراجم الرجال بالإجمال المخل، خاصة وأنه لم تكن بين الطرفين معاصرة وإحتكاك مباشر. فالتوثيق غالباً ما يكون توثيقاً للغائب دون الحاضر.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن المنقول من الرواية قد لا يخلو من الزيادة والنقصان خلال مروره في السلسلة، وأن أغلب المنقول هو منقول بالمعنى لا باللفظ، وهو عادة ما يكون مقطوع الصلة عن ملابسات الخبر، الأمر الذي يبعث على إحتمال كون المراد له خصوصية ظرفية غير قابلة للتعميم والإطلاق. فضلاً عن أن للفظ أحياناً وجوهاً من الإحتمالات، مع وجود ما يعارضه من نصوص أخرى هي بدورها تخضع إلى نفس ما مرّ علينا من تعقيدات إحتمالية. فكل ذلك لا يدع مجالاً لإحراز الثقة بالظن البياني عادة[32]. فهناك تردد في سلامة نقل الخبر كما هو، وهناك تردد آخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ أو تخصيص وتقييد أو غير ذلك من مشاكل متراكبة عديدة تتجمع على محور إضعاف القيمة المعرفية. إذ يصبح الظن الناتج في الحصيلة النهائية عبارة عن ضرب مجموعة كبيرة من الظنون والإحتمالات الواردة، كالتي صورناها قبل قليل، مع أنه كلما ازداد عدد أطراف الضرب في المحتملات كلما زاد ضعف النتيجة. ولا شك أن هذه الحصيلة لا نجدها تحدث - عادة - لدى الظنون الخبروية العقلائية، بإعتبارها لا تمر بذلك الكم من التفريعات الإحتمالية التي بعضها يتوقف على البعض الآخر، فكثيراً ما يجري التعامل مع قضايا الواقع ضمن دلالات وبينات قابلة لمنح المزيد من الوضوح؛ طالما أنه يمكن النظر في هذه الدلالات والبينات بالتفصيل وبشكل مباشر أو شبه مباشر.

 

ثانياً: إن الظنون الخبروية تتقبل المراجعة والفحص والتحقيق بدرجة أقوى كثيراً مما عليه الظنون البيانية. حيث من السهل معاودة الواقع ومراجعته عندما يمر بسلسلة من التغيرات والتغايرات. إذ أن كل تنويع جديد يعبّر عن بينة ودلالة اضافية يمكن توظيفها في سلك الممارسة المعرفية، وبالتالي فإن لها أثراً على الحصيلة النهائية من العملية المعرفية. وهو أمر يختلف كلياً عن حال النظر في النص، لاتصافه بالمحدودية والثبات وعدم التغيير، وبالتالي فإن الخبرة المستمدة منه هي خبرة محدودة وثابتة، وأن الدلالات المعطاة عنه هي دلالات لا تقبل الإضافة الجديدة باستثناء ما يمكن أن يستكشفه الباحث من جديد غير ملتفت إليه من قبل، وحتى في هذه الحالة فإن الغالب في الأمر يعود إلى فضل التأثر بحقائق الواقع في الكشف عن مضامين النص، كالذي يلاحظ في الإشارات المتعلقة بالعلوم الطبيعية والتي لم تُدرك في النص إلا بعد أن شاعت الإكتشافات العلمية الحديثة في الغرب. الأمر الذي يعني بأن التوليد الخبروي، أو مراجعة الواقع، له دور في تصحيح الأفكار والرؤى؛ سواء المستمدة من الواقع ذاته، أو تلك المستنبطة من النص عبر الآليات البيانية. في حين ليس بوسع البيان الماهوي أن يقوم بمثل هذا الدور في المراجعة المعتمدة على النص.

وبعبارة أخرى أن هناك معلمين استكشافيين للواقع، في حين ليس للنص سوى معلم استكشافي واحد تتم فيه المراجعة والبحث. كما أن هناك مجالين يتم التأثير عليهما بحسب الاستكشاف الأول، في حين ليس للثاني سوى مجال واحد يمكن التأثير عليه. وتوضيح ذلك كما يلي:

لما كان النص ثابتاً ومحدوداً؛ فكل ما يرجى منه هو استكشاف دلالاته الضمنية دون انتظار المزيد، حيث لا يوجد غيره. كذلك لما كانت دلالات النص المتعلقة بالكشف عن الواقع تتصف غالباً بالإشارات المجملة؛ لذا فإن أي مراجعة له لا تكشف عما هو جديد في الواقع عادة. وبالتالي فإن هناك معلماً استكشافياً واحداً لدى النص، كما أن المراجعة الاستكشافية البيانية لا يتعدى تأثيرها المعرفي – عادة - حدود النص ذاته. في حين إن للواقع معلمين استكشافيين، أحدهما يتعلق بالدلالات المعطاة للحوادث الناجزة أو الحاضرة أمامنا، والآخر ما يضاف إلى ذلك من دلالات استشرافية ضمن أفق الانتظار الخاصة بالحوادث المستقبلية الجديدة، أو التاريخية التي لم يتم استكشافها بعد.

وإذا ما تم التقابل بين حروف النص وحوادث الواقع؛ فالملاحظ أن الأولى تتصف بالحصر والحضور الكامل، وبالتالي فانها قابلة للاستثمار المعرفي دفعة واحدة، كما أن مراجعتها لا تتعدى سوى النظر فيها دون انتظار إضافة حرفية جديدة. في حين إن حوادث الواقع ليست محصورة أمامنا بكاملها، فبعضها أصبح في عداد المعدوم وما زلنا نجهله ونطلب معرفته بصورة غير مباشرة، والبعض الآخر ننتظر قدومه، وبالتالي فإن الاستثمار المعرفي - في هذه الحالة - هو استثمار مضاعف مقارنة بما يحصل في حالة النص، وأن المراجعة في حوادث الواقع تجري تارة بإعادة النظر فيما سبق دراسته من غير إضافة معتمدة، وأخرى فيما نستكشفه من عوالم تاريخية ومستقبلية تجعل مراجعتنا مستمرة ومؤثرة في أكثر من مجال، فهي تعمل على تغيير رؤانا فيما تم رصده من الواقع، كما أن لها تأثيراً على تغيير أفكارنا المستنبطة من النص، بل وتغيير طريقة تعاملنا المعرفي معه.

هكذا يتضح أن للظنون الخبروية وثوقاً وقابلية للمراجعة والفحص هي أعظم وأوسع من تلك العائدة إلى الظنون البيانية.

 



[1] الموافقات، ج2، ص315.

[2] يغالي الفقيه أحياناً في موقفه من الجهاد الحربي. فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن اقل ما يفعل من الجهاد في السنة مرة واحدة، وكما ذكروا بأنه يجب أن يقوم المسلمون بقتال الكفار مرة واحدة في كل سنة على الأقل ما لم يتعذر ذلك لعذر مشروع، مثل ضعف المسلمين في عدة أو عدد. بل إن دعت الحاجة إلى القتال في السنة أكثر من مرة وجب ذلك، بإعتباره فرض كفاية فيجب منه ما تدعو الحاجة إليه (عبد الكريم زيدان: المفصل في أحكام المرأة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1413هـ ـ 1993م، ج4، ص411-412). وادعى الشيخ الكركي من الإمامية أن على ذلك الإجماع في المذهب )جواهر الكلام، طبعة دار الكتب الإسلامية، ج21، ص10).

[3] المنار، ج11، ص232.

[4] المصدر، ج11، ص238.

[5] المنار، ج3، ص317ـ318.

[6] نقل الحائري قول السيد الصدر مشافهة، حيث لم يدوّن الصدر قوله في كتاب، ونص عبارته ما يلي: (ان الرجعة لا تعني رجوع أولئك الموتى من عالم البرزخ إلى عالمنا رجوع القهقرى، بل الأمر بالعكس. إذ أن عالمنا هو الذي قد يرتقي ويقترب إلى العالم الاخروي، فتقلّ بسبب هذا الإقتراب سعة الحاجب الموجود بين العالمين، وحينئذ فإن التعايش مع بعض أولئك الذين هم في عالم البرزخ وعالم الاخرة سيكون ممكناً›› (كاظم الحائري: سنن التاريخ ، القسم الثاني، ضمن: الحوار الفكري والسياسي، عدد 32، اصدارات المركز الإسلامي للأبحاث السياسية، قم، 1406هـ ـ1985م، ص47).

[7] البقرة/243ـ244.

[8] يقول الشيخ محمد عبده: ‹‹فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكّل بهم فافنى قوتهم، وأزال إستقلال امتهم، حتى صارت لا تعد امة بأن تفرق شملها وذهبت جامعتها، فكان من بقي من افرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم. ومعنى حياتهم هو عود الإستقلال إليهم. ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديباً لهم ومطهراً لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم ووثقوا رابطتهم حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الإستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها؛ يموت قوم منهم بإحتمال الظلم، ويذل الاخرون حتى كأنهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية من حفظ سياج الوحدة وحماية البيضة بتكافل افراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم›› (المنار، ج2، ص458ـ459).

[9] البقرة/56.

[10] المنار، ج1، ص322.

[11] آل عمران/96ـ97.

[12] المنار، ج4، ص13.

[13] ورد مثل هذا الحديث في المصادر الشيعية، ومن ذلك أنه جاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ‹‹من أكل في كل يوم سبع تمرات عجوة على الريق من تمر العالية لم يضرّه سم ولا سحر ولا شيطان›› (وسائل الشيعة، ج25، ص144).

[14]  احمد أمين: فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة العاشرة، ص218. وضحى الإسلام، نفس الدار والطبعة، ج2، ص130ـ131.

[15] صحيح البخاري، دار احياء التراث العربي، بيروت، ج4، باب بدء الخلق، ص158. كذلك: فتح الباري، ج6، ص276. والحديث موجود أيضاً في المصادر الشيعية.

[16] صحيح البخاري، ج4، باب بدء الخلق، ص152. كما ورد مثل هذا الحديث في المصادر الشيعية، كما في: محمد بن يعقوب الكليني: الأصول من الكافي، صححه وعلق عليه علي اكبر الغفاري، دار صعب ـ دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1401هـ، ج2، ص654.

[17] اذ روي عن ابي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: ‹‹اذا سمعتم صياح الديكة.. فانها رأت ملكاً، واذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً›› (صحيح البخاري، ج4، ص155).

[18] صحيح البخاري، ج5، ص59.

[19]  صحيح البخاري، ج4، ص161.

[20] صحيح مسلم ، دار احياء التراث العربي، بيروت، حديث رقم 1468، ج4، ص1091.

[21] صحيح مسلم، حديث رقم 2225، ج4، ص1747.

[22]  أبو بكر الهمذاني: الإعتبار في الناسخ والمنسوخ من الاثار، نشر وتعليق وتصحيح راتب حاكمي، مطبعة الاندلس، حمص، الطبعة الأولى، 1386هـ ـ1966م، ص77. وابن العربي: أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ج4، ص1606.

[23] ذلك أنه روي عن ابي هريرة قال أخذ رسول الله (ص) بيدي فقال: ‹‹خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الاحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الاربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق ادم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل›› وقد أُشكل على الحديث بأن فيه استيعاب ال أيام السبعة مع أن الله قال أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام (تفسير إبن كثير، دار الخير، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ ـ1990م، ج2، ص246).

[24] تفسير إبن كثير، ج3، ص628.

 [25]المنار، ج9، ص471 وما بعدها.

[26] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، الطبعة الخامسة، 1421هـ، ص105.

[27]  الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج20، ص176ـ177.

[28] نهج البلاغة، باب الحِكم، ص510. 

[29] جاء في بعض التفاسير عن عدد من الصحابة قولهم بأن الله خلق الأرض مرفوعة على حوت والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرّت (تفسير إبن كثير، ج1، ص72).

[30] مقدمة إبن خلدون، طبعة دار الهلال، ص17 و34. وانظر بهذا الصدد أيضاً كتابنا: مشكلة الحديث، مؤسسة الإنتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.

[31] بهذا الصدد يقول القرضاوي: ‹‹وقد ذكرت يوماً أمام داعية كبير ضرورة التخطيط القائم على الإحصاء ودراسة الواقع، فكان جوابه: هل تحتاج الدعوة إلى الله، وتذكير الناس بالإسلام، إلى تخطيط وإحصاء؟!›› (مجلة الأمة/عدد  56/ 1985م. عن: خليل علي حيدر: الحركة الدينية، حوار من الداخل، شركة كاظمة للنشر، الكويت، الطبعة الأولى، 1987م، ص36).

[32] في هذا الصدد يقول المفكر محمد باقرالصدر: ‹‹فمن المتفق عليه بين المسلمين اليوم: أن القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع. وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام الشريعة، الخمسة في المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية. والسبب في ذلك واضح، لأن أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة، أي من النص التشريعي، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كل نص على نقل أحد الرواة والمحدثين ـ باستثناء النصوص القرانية ومجموعة قليلة من نصوص السنة التي ثبتت بالتواتر واليقين ـ ومهما حاولنا أن ندقق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل، فاننا لن نتأكد بشكل قاطع من صحة النص ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلا تاريخياً، لا بشكل مباشر، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدم الينا النص محرفاً، خصوصاً في الحالات التي لا يصل الينا النص إلا بعد أن يطوف بعدة رواة، ينقله كل واحد منهم إلى الآخر، حتى يصل الينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فاننا لن نفهمه إلا كما نعيشه الان، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً. ولدى عرض النص على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق، فنقدم هذا النص على ذاك، مع أن الآخر أصح في الواقع، بل قد يكون للنص استثناء في نص آخر ولم يصل الينا الاستثناء، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا للنصوص، فنأخذ بالنص الأول مغفلين استثناءه الذي يفسره ويخصصه. فالإجتهاد إذاً عملية معقدة، تواجه الشكوك من كل جانب. ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع، ما دام يحتمل خطأه في استنتاجها، إما لعدم صحة النص في الواقع وأن بدا له صحيحاً، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل الممارس أو عاثت بها القرون›› (اقتصادنا، دار التعارف، الطبعة الحادية عشرة، 1399هـ ـ1979م، ص417ـ418).


comments powered by Disqus