يحيى محمد
لقد ذهب العديد من العلماء البيانيين إلى أن المثبتين للظواهر اللفظية للصفات هم من المشبهة حتى وإن قالوا بقيد عدم التشبيه والتكييف. فابن الجوزي مثلاً يعد إثبات ذلك عبارة عن تشبيه وتكييف ولا يفهم غير هذا المعنى.
وهنا نعود لنتساءل عن منهج إبن تيمية وأتباعه: هل حقاً ما يدعونه من أن حمل الصفات الإلهية على ظاهرها لا يستلزم التشبيه والتكييف؟
هناك مؤشرات عديدة تدل على صعوبة تقبل هذا النحو من الجمع المتنافي. فالقول بالصفات الإلهية ذات الصفة العضوية يماثل القول بصفات الإنسان، عضواً بعضو، وحالة بحالة. فمثلاً أن القول بأن لله صورة وأنه خلق آدم على صورته لا يفهم إلا بهذا المعنى من التمثيل والتكييف. ثم أن القول بأن له عينين، والتعويل في ذلك على الحديث الذي يتضمن المقارنة بين عين الله وعين المسيح الدجال، لا يفهم إلا على نحو التشبيه والتكييف. وكذا القول أن له أصابع، وفي بعض الأحاديث المصححة نجد التمثيل على ذلك بقبضة يد النبي، ومثل ذلك أن له يدين وقبضة وقدمين وساقاً وجنباً، وأنه يضحك ويعجب ويستحي ويغار وينزل ويهرول ويتكلم بصوت وحرف، فكلها تدل على التشبيه.
وقس على ذلك القول بأن لله كرسياً هو موضع القدمين كالذي يرويه إبن تيمية عن إبن عباس[1]، وما يسلّم به من أن الله يهبط يوم التجلي في الآخرة على كرسيه وأن الأنبياء يأتون فيجلسون على منابر تحفّ بهذا الكرسي، إذ يستشهد بقول أحد أئمة المالكية، وهو محمد بن أبي زمنين، الذي صرح بأن من قول أهل السنة ما روي عن انس بأنه إذا كان يوم الجمعة في الآخرة هبط الله من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها[2].
ومثله القول بأن لله عرشاً استقر عليه، وقد ذكر إبن تيمية بأنه لو شاء الله لإستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض[3]. وكذا قول إبن القيم بأن الله أجلس نبيه على هذا العرش، مستشهداً عليه بقول جماعة كبيرة من السلف والعلماء المتقدمين[4]، كما استشهد عليه ببعض من أبيات الشعر لأبي الحسن الدارقطني[5]. وهناك عدد من الروايات تروى عن علماء السلف بأن معنى المقام المحمود المنصوص عليه في آية الإسراء هو إجلاس النبي (ص) على العرش، كالتي ذكرها إبن أبي يعلى الحنبلي، ومن ذلك ما أُسند عن النبي وإبن عباس ومجاهد في عدد من الطرق، وفي بعضها أن الله يجلسه معه على العرش أو السرير[6]، وهو معنى قوله تعالى: ((عَسَى أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)) (الإسراء/ 79). وروي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قوله: «أنا منكر على كل من ردّ هذا الحديث»[7].
والعجيب أن الكرسي موصوف في القرآن بأنه يسع السماوات والأرض، وأن العرش أكبر من ذلك بما لا يعلمه إلا الله، كما هو مقرر لدى القائلين بحقيقة الصفات المذكورة[8]، لكنهم مع ذلك يقرون أيضاً أن الله قد أقعد نبيه على عرشه، فأيّ نوع من الإقعاد هذا، والنسبة بين الطرفين معدومة من حيث الحجم والسعة؟!
كما ذكر إبن القيم أنه قد ورد بأن السماء منفطر به تعالى، الأمر الذي لم يسمح بنقله المتأخرون جبناً وضعفاً، بل قاله المتقدمون[9].
ومن المؤشرات التي تؤكد معنى التشبيه في المنهج السالف الذكر؛ ما أضافه إبن القيم من استدراك حول بعض الصفات، فعلى رأيه أن ذكر الساق والجنب لا يدل على أن لله واحدة لكل منهما. وهو استدراك صحيح، لكن استقباحه واستشناعه أن يكون الرب عبارة عن شخص له وجه وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة وله جنب واحد عليه أيد كثيرة وله ساق واحد كما وردت هذه الصفات في القرآن والحديث؛ كل ذلك يدل على ما في النفس من أنه متصور كما في الشاهد، إذ ما المانع أن يكون للرب مثل هذه الصفات بلا تشبيه ولا تمثيل؟ وبعبارة أخرى، ما الذي جعل إبن القيم يعد هذه الصفات قبيحة وشنيعة لا تتناسب مع الله، مع أنها مذكورة في القرآن والأحاديث المصححة، إذ ورد أن لله أعيناً وأيدياً، وورد أن له جنباً وليس أكثر من ذلك، كما ورد أن له ساقاً ولم يرد ساقان أو أكثر. فلماذا يستنكر إبن القيم الأخذ بهذه المنطوقات لولا تأثره بالشاهد وتطبيقه على الغائب. إذ كان الأولى به تجويز مثل هذه النتائج التي أوردها بعض أصحاب الدائرة العقلية ليظهر من خلالها شناعة القول بإثبات الظواهر اللفظية للصفات[10].
وهناك من نقل عن إبن تيمية أموراً لها دلالة صريحة على التمثيل والتجسيم، لكنها تخالف ما هو معلوم من كتبه، ومن ذلك ما نقله صاحب (كشف الظنون) من أن لإبن تيمية كتاب العرش ذكر فيه «أن الله تعالى يجلس على الكرسي وقد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله (ص) ذكره أبو حيان في النهر.. وقال قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية ما صورته بخطه»[11]. ونُقل عنه في بعض تصانيفه بأن الله بقدر العرش لا أكبر ولا أصغر[12]. كما نُقل أنه قال في الكلام على حديث النزول المشهور: أن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعالان من ذهب[13]. ونُقل أيضاً أنه في يوم كان يخطب فذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين وقال كنزولي هذا[14].
هذا ما ينقل عن إبن تيمية، وهو مخالف لما هو معلوم من كتبه. لكن لا يعني ذلك أن ما تبناه من إتجاه لا يبعث على التشبيه، بل على العكس كما رأينا، وربما لهذه العلة كان السلف يأمرون بإمرار النصوص في الصفات التي يبدو عليها التشبيه دون تفسير وبحث وتنقيب، فربما كانوا يدركون أن الخوض فيها يجر إلى التشبيه ولو مع قيد (ليس كمثله شيء). خاصة أن بعض النصوص يعطي انطباعاً مباشراً بالتشبيه دون أن يؤثر عليه قيد عدم التشبيه والتكييف، كما هو الحال مع حديث الصورة الذي مر معنا. لذلك فقد كان بعض السلف يتمنى لو أن أصحاب الحديث يتركون عشرة أحاديث في الرؤية، كالذي يروى عن يحيى بن صالح، وقد علّق عليه أحمد بن حنبل بقوله: كأنه نزع إلى رأي جهم[15]. بل كان من الحنابلة من لا يتقبل أحاديث الصفات، معتذراً بأنها أخبار آحاد، كالذي عليه إبن سنينة (المتوفى سنة 610هـ) [16].
هكذا فإن الإتجاه الذي سلكه إبن تيمية في الجدل والتدقيق يأتي على خلاف ما أوصى به علماء السلف. فحاله في هذا الموضع كحال أبي الحسن الأشعري حينما أراد أن يدافع عن موقف الإمام أحمد بن حنبل وغيره من السلف بطريقة الجدل والكلام، لكن طريقته مع ذلك لم تكن مرضية لدى أتباع هذا الإمام، ربما لأنهم أدركوا أن النهج الذي سلكه في الجدل الكلامي سيفضي إلى تجاوز تلك النظرية، الأمر الذي تحقق لدى المتأخرين من الأشاعرة، فقد أصبحت نظريتهم في الصفات بعيدة كل البعد عما كانت عليه لدى شيخهم الأشعري، مثلما هي بعيدة عما ساد لدى السلف، ومنهم الإمام أحمد. وكذا يمكن القول بالنسبة لطريقة إبن تيمية، فهو يكثر الجدل والخوض في أمر الصفات بما لم يسبق إليه أئمة السلف المعروفين، مما أفضى به إلى التشبيه. وهو أمر يذكرنا بما قاله إبن هبيرة (وهو من حنابلة القرن السادس الهجري): تفكرت في أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها، مع قوة علمهم، فنظرت السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة الهيبة للموصوف، ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال لله، وقد قال عز وجل: ((فلا تضربوا لله الأمثال)) (النحل/ 74). لذلك رأى أن الصفات لا تفسر على الحقيقة ولا على المجاز؛ لأن حملها على الحقيقة تشبيه، وعلى المجاز بدعة[17].
فالنتائج السلبية للخوض في البيان هي كالنتائج السلبية للخوض في العقل كما عليه أهل الكلام، فأولئك أورثهم التشبيه، وهؤلاء أورثهم الشك، حتى صرح الكثير منهم بندمه أو بنكوصه إلى تبني عقيدة الآباء والعجائز أو الإعتراف بعدم الدراية بشيء أو غير ذلك مما هو معلوم ومشتهر.
ناهيك عن أن البيانيين، سواء المتقدمين منهم أم المتأخرين، لم ينجوا من الممارسة التأويلية في عدد من الصفات، وينطبق هذا الحال على طريقة إبن تيمية. وبذلك يكون مآل الدائرة البيانية مؤيداً لما عليه غريمتها العقلية، رغم التناقضات التي لاحت كلاً منهما حتى أعادت المسألة في العلاقة بين العقل والنص إلى المربع الأول والصفر، فأيهما يحكم الآخر؟
هذه هي الإشكالية التي لم تحل دون تناقض إلا لدى السلف المفوضين للمعنى وإعتبار ذلك من الغيب الذي يعجز العقل عن إدراكه، بعد استبعاد ما قد يتبادر في الذهن من التمثيل والتكييف.
[1] إبن تيمية: العقيدة الحموية الكبرى، شبكة المشكاة الإلكترونية، فصل حول وصف الله بما وصف به نفسه (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته). وبيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن فصل حول قول الرازي البرهان الخامس (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته). مع أن هناك رواية تروى عن إبن عباس أنه يأول معنى الكرسي إلى العلم كالذي نقله الطبري كما مر معنا.
[2] العقيدة الحموية الكبرى، فصل حول وصف الله بما وصف به نفسه. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج5، ضمن فصل أن يوصف الله بما وصف به نفسه..
[3] بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، ضمن فصل للناس في حملة العرش.
[4] نقل إبن القيم أن المروزي صنف كتاباً في فضيلة النبي (ص) وذكر فيه اقعاده على العرش. كما نقل أن اقعاد النبي على العرش قال به جماعة كبيرة من أهل العلم، مثل أبي داود وأحمد بن أصرم ويحيى بن أبي طالب وأبي بكر بن حماد وأبي جعفر الدمشقي وعياش الدوري واسحاق بن راهويه وعبد الوهاب الوراق وإبراهيم الأصبهاني وإبراهيم الحربي وهارون بن معروف ومحمد بن إسماعيل السلمي ومحمد بن مصعب العابد وأبي بكر بن صدقة ومحمد بن بشر بن شريك وأبي قلابة وعلي بن سهل وأبي عبد الله بن عبد النور وأبي عبيد والحسن بن فضل وهارون بن العباس الهاشمي وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ومحمد بن عمران الفارسي ومحمد بن يونس البصري وعبد الله بن الإمام أحمد والمروزي وبشر الحافي وإبن جرير الطبري وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير (بدائع الفوائد، ضمن فقرة: بعض مسائل فقهية من فتاوى أبي الخطاب وإبن عقيل وإبن الزاغوني).
[5] أنظر: بدائع الفوائد، ضمن فقرة: بعض مسائل فقهية من فتاوى أبي الخطاب وإبن عقيل وإبن الزاغوني.
[6] حيث جاء في بعض الروايات عن إبن عمر أن النبي قال في معنى المقام المحمود كما في آية الاسراء أنه «يجلسه معه على السرير» (ابو الحسين بن أبي يعلى: كتاب الإعتقاد، تحقيق وتعليق محمد بن عبد الرحمن الخميس، مكتبة المشكاة الإلكترونية، باب الإسراء والمعراج، لم تذكر ارقام صفحاته).
[7] كتاب الإعتقاد، باب الإسراء والمعراج.
[8] بيان تلبيس الجهمية، ضمن فصل للناس في حملة العرش.
[9] السيف الصقيل، ص136.
[10] الصواعق المرسلة، ضمن الفصل الثامن.
[11] حاجي خليفة: كشف الظنون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج2، ص1438. جاء أن العبارة المذكورة موجودة في النسخ المخطوطة من تفسير أبي حيان، لكنها ليست موجودة في التفسير المطبوع، ونقل الشيخ الكوثري عن مصحح طبع الكتاب بمطبعة السعادة أنه استفظعها جداً فحذفها عند الطبع لئلا يستغلها أعداء الدين (تكملة الرد على نونية إبن القيم، ضمن: السيف الصقيل، ص97. والتوفيق الرباني في الرد على إبن تيمية الحراني، لجماعة من العلماء، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص21).
[12] تكملة الرد على نونية إبن القيم، نشر ضمن: السيف الصقيل، ص163.
[13] تقي الدين الحصني: دفع شُبه من شبّه وتمرّد، ضمن التوفيق الرباني، ص21.
[14] إبن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج1، ص49.
[15] سير أعلام النبلاء، ج10، فقرة 455.
[16] ذيل طبقات الحنابلة، ج2، فقرة محمد بن عبد الله بن الحسين السامري.
[17] ذيل طبقات الحنابلة، ج1، فقرة يحيى بن محمد بن هبيرة. وكان إبن هبيرة يقول: ما أنزل الله آية إلا والعلماء قد فسروها، لكن يكون للآية وجوه محتملات، فلا يعلم ما المراد من تلك الوجوه المحتملات إلا الله عز وجل. كما قال: ليس مذهب أحمد إلا الاتباع فقط. فما قاله السلف قاله، وما سكتوا عنه سكت عنه، فإنه كان يقول في آيات الصفات: تمرّ كما جاءت (نفس المصدر والفقرة السابقين).