يحيى محمد
لا يختلف منطق حق الملكية، كما يتمثل في الأشاعرة، عن منطق الحق الذاتي في أن له اعتبارات عقلية تنافس ما عليه سلطة التشريع لدى الخطاب الديني. لكن هذه الاعتبارات حددت مجال العقل خارج دائرة التكليف والواجبات الملقاة على عاتق المكلَّف.
وقد يُستشف من هذه الازدواجية وجود نوع من التناقض وعدم الإتساق. فمن جهة، أن هذا المنطق وضع ثقته بالخطاب في كل ما يتعلق بالتكليف، وهو إعتراف ضمني ببيانية الخطاب وقطعيته، وهذا ما رام إليه الأشعري في تأسيس مذهبه الجديد، معتبراً طريقته على شاكلة السلف، إلى الحد الذي تعبّد فيه بجميع ما نطق به الخطاب الديني من أسماء توقيفية ومن صفات لا يستسيغ ظاهرها العقل. أما من جهة ثانية، فهي أن هذا المنطق قد تعامل مع القضايا الأخرى للخطاب الديني معاملة قائمة على الظن والتشابه. وبذلك أصبح التعامل مزدوجاً. فتارة يضع المنطق المذكور ثقته في العقل دون الخطاب، وأخرى يجعلها في الأخير دون الأول. مما يعني الوقوع في شرك التذبذب والتناقض.
وبتعبير آخر، إذا كان هذا المنطق يعترف بأن الخطاب الديني هو مصدر التشريع، وأن العقل العملي لا يملك هذه الصلاحية، فكيف أجاز للعقل النظري ممارسة دوره في التشريع دون إذن ذلك الخطاب؟ بل كيف جعل منه حاكماً على هذا الأخير؟ فهذا التناقض هو على خلاف الإتساق الذي حظي به منطق الحق الذاتي في علاقته مع الخطاب.
ويمكن القول إن التطورات التي حصلت داخل المذهب الأشعري جعلته يضيق ببيان الخطاب الديني مع تقدم الزمن باضطراد، حيث أخذ الدليل العقلي يحل محل الدليل اللفظي. ولم يكن هذا الحال جارياً داخل المذهب الاعتزالي، إذ ظل موقفه ثابتاً إزاء ترجيح الدلالة العقلية على اللفظية عند التعارض. وأما ما جرى على المذهب الأشعري فهو أنه نشأ لغرض الدفاع عن الخطاب الديني قبال التشريع العقلي، لكن تطورات المذهب أفضت إلى قلب المعادلة رأساً على عقب، إذ أصبح الهدف هو الدفاع عن منطق العقل قبال الخطاب الديني.
وبذلك وقف المذهب الأشعري على ذات الخشبة التي وقف عليها عدوه التقليدي المعتزلي، وأصبح كلا الإتجاهين يدافعان عن العقل قبال النص، مع فارق التناقض الذي أصاب الأول خلافاً لما عليه غريمه الآخر. كذلك مع لحاظ جانب الإختلاف في المعاملة التي كان يبديها المذهب الأشعري للنصوص المتعلقة بالمجال المعياري مقارنة بتلك المناطة بالمجال الوجودي. فهناك ثبات في الرؤية التي عبّر عنها المذهب اتجاه المجال الأول (المعياري)، حيث ظل الموقف العام معبّراً عن ممارسة التأويل لكل ما لا يتسق مع البداهة الأولية لحق الملكية، خلافاً لما حصل من تباين في الرؤية إزاء التعامل مع المجال الثاني (الوجودي)، إذ نجد إختلافاً واضحاً في الرؤية والتطور. وكل ذلك كان له مضاعفاته على الأزمة التي لاحت المذهب وأصله المولّد.
أما حول ممارسات هذا الإتجاه التأويلية، فسنستعرض جملة منها ضمن المجالين المعياري والوجودي، كما يلي:
أولاً:
لنبدأ بذكر شواهد من الممارسات التأويلية ضمن المجال المعياري، كتلك التي قام بها الباقلاني، كما في تأويله لقوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا وسعها﴾ (البقرة/ 286)، ومثله قوله: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها﴾ (الطلاق/ 7)، إذ ذكر بأن المراد من ذلك هو أن الله تعالى لم يكلّف أحداً بنفقة الزوجة إلا بما تمكّن من المال الذي في حوزته دون ما لا يتملك، واعتبر أن الآيتين لا تريدان إثبات الإستطاعة قبل الفعل[1]. وهو تأويل جاء ليتسق مع البداهة الأولية لحق الملكية في نفي تلك الإستطاعة.
كذلك قام بتأويل قوله تعالى: ﴿فوكزه موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان﴾ (القصص/ 15)، حيث نفى أن يكون ذلك العمل من فعل الشيطان كما هو نص الآية، واعتبره من فعل الله وعمله، لكنه مع هذا استدرك فاعتبر الواجب الذي يلزم على العبد الذي يقع في الذنب؛ هو أن يعزو ذلك إلى نفسه ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن ينسبه إلى فعل الله، حتى لا يكون احتجاجاً عليه تعالى[2].
ويعود مصدر هذا التأويل إلى ما تمسك به أصحاب هذا المنطق من رد جميع الأفعال والأعمال إلى الله دون سواه، حيث أنه الفاعل الوحيد في الوجود.
غير أن هذه الطريقة تجعل ما ينسبه الله إلينا من أفعال وأعمال يوحي بالوهم والخداع، مما يؤدي إلى الوقوع في التناقض. فهي من جهة تتسق مع البداهة الأولية لحق الملكية، لكنها من جهة أخرى تصطدم مع ما يقرره هذا المنطق من ضرورة صدق الكلام الإلهي، الذي يتوقف عليه إثبات المسألة الدينية.
كما اعتبر الباقلاني أن معنى قوله تعالى: ﴿والله لا يحب الفساد﴾ (البقرة/ 205)، هو أن الله تعالى لا يحب كون الفساد ديناً وصلاحاً، أو لا يحبه من أهل الصلاح؛ وإن أحبّ أن يكون قبيحاً من أهل الفساد. وكذا الحال مع تأويله لآية: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ (الزمر/ 7)، حيث اعتبر معنى الآية هو أن الله لا يرضى بالكفر ديناً وشريعة لعباده، أو هو لا يرضاه للمؤمنين من عباده دون الكافرين[3]، وقد كرر الجويني المعنى الأخير في (لمع الأدلة) [4].
ويستمد تبرير هذه التأويلات من سلطة الأصل المولّد لحق الملكية، حيث يفعل الله ما يشاء ويريد، ولا حسن ولا قبح إلا ما حسّنه الله وقبّحه. فالكفر والفساد مذمومان؛ لا لأن حقيقتهما الذاتية هي كذلك كما يقول أصحاب منطق الحق الذاتي، بل لأن الله ذمهما ولم يجعلهما ديناً وشريعة، ولو أن الله جعلهما كذلك لكانا ممدوحين مقبولين كدين يدين الله بهما عباده.
وعلى هذه الشاكلة تم تأويل الآيات الخاصة بالغرض والحكمة الإلهيين، كما اعتبرت اللامات المتعلقة بذلك لامات عاقبة لا لامات تعليل، مثلما جاء في قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات /56).
ثانياً:
أما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، فالملاحظ أنها شهدت نوعاً من الإختلاف والتطور لدى أصحاب هذا المنطق. صحيح أنهم اتفقوا في المجال الطبيعي على ممارسة التأويل فيما يخص القضايا التي لا تتسق مع الأصل المولّد الذي اعتمدوه، ومن ذلك أنهم قاموا بتأويل الآيات التي وردت فيها الباءات التي تربط بين الأسباب ومسبَّباتها، معتبرين أنها دالة على المصاحبة لا السببية، تعويلاً على مقولتهم (لا فاعل في الوجود إلا الله)، وهي المقولة التي تتسق مع بداهة حق الملكية.. لكن الحال في المجال الوجودي - غير المرتبط بالبداهة الأولية - مختلف.
فرغم اتفاق أتباع هذا المنطق على ضرورة ممارسة التأويل لكل ما يخالف أحكام العقل القبلية، لكننا نجد خطين متمايزين لهم: يتمثل أحدهما بالمتقدمين الذين تأثروا بالإتجاه السلفي، كما هو الحال مع الشيخين الأشعري والباقلاني. ويعود الآخر إلى المتأخرين الذين تاثروا بالتيارات العقلية، كما يظهر عند الجويني وإبن فورك والرازي وغيرهم.
وقد اختلف الفريقان حول الكثير من القضايا التي لها علاقة بفهم الخطاب، وأبرزها تلك المتعلقة بالأوصاف والأسماء الإلهية، كما هي مذكورة في القرآن والحديث، من قبيل أن لله عينين ووجهاً ويدين وأصابع وإستواءاً على العرش وما إلى ذلك.
فبينما أجرى الفريق الأول تلك الأوصاف على حالها مانعاً بذلك التأويل، اضطر الفريق الثاني إلى تأويلها تماشياً مع نزعته العقلية. وهذا الإختلاف بينهما ليس إختلافاً حول إثبات التجسيم ونفيه، فالفريق الأول صريح في منعه[5]. بل إن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يجد له مساغاً لدى عموم أصحاب هذا المنطق، فهم يمنعون إطلاق الأسماء عليه وعلى صفاته ما لم يرد في ذلك نص من الكتاب أو السنة[6]، فالأسماء عندهم توقيفية لا تُطلق إلا بإذن شرعي، وكما قال إمام الحرمين الجويني: إن إطلاق الألفاظ في الذات والصفات موقوف على إطلاق النص الشرعي[7].
لذا أدرك المتقدمون أن فهم تلك الأوصاف لا يكون صحيحاً ما لم يتم إجراء الوصف على حاله من غير جسمية.
فقد اعتقد الأشعري بأن اليد هي صفة لله تعالى غير القدرة، كما أن الوجه صفة له غير الوجود، واعتبر الإستواء صفة أخرى غير الاستيلاء، وهكذا مع البقية[8]. كما صرح الباقلاني بأن الوجه والعينين واليدين هي من صفات الله الذاتية، لكنها ليست من الجوارح ولا تعطي مدلولاً جسمياً[9].
فمثلاً بالنسبة للآية: ﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ﴾ (ص/ 75) منع الباقلاني ومن قبله الأشعري تأويل اليدين بمعنى القدرة أو النعمة، واستدل على ذلك بأنه لو كان المعنى هو القدرة لكان لله تعالى قدرتان، ولو كان بمعنى النعمة لكانت له نعمتان في خلقه لآدم، مع أن نِعم الله على آدم وغيره لا تحصى. كما أنه لا يجوز أن يقول القائل مثلاً: «رفعت الشي بيدي» أو «وضعته بيدي» أو «توليته بيدي» وهو يعني بذلك نعمته[10].
ولا شك أن هذا الفهم لا يتسق والمرونة التي عُرفت بها لغة العرب في إستخدام المجاز والتشبيه لتقريب المعنى. وليست اليد وأن ثُنيت بعيدة في إستخدامها عن معنى القدرة أو النعمة. ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الآيات التي استشهد بها الباقلاني للدلالة على رأيه، وهي قوله تعالى: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة.. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ (المائدة/ 64)، فواضح أن معنى الغل والبسط في اليد أو اليدين هو ما يتعلق برزق الله وإنعامه، وأنه لا يوجد معنى آخر يدل على اليدين غير تلك الدلالة المستنبطة من سياق النص. وكذا يقال عن معنى الوجه في قوله تعالى: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام﴾ (الرحمن/ 27)، حيث ليس له من معنى راجح سوى الذات الإلهية.
مع هذا فهناك مشكلة تخص مسألة الإستواء كما في قوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش﴾ (يونس/ 3)، إذ منع الباقلاني أن يكون معنى الإستواء هو الاستيلاء الذي يعني القدرة والقهر، ورأى أن الله تعالى لم يزل قادراً قاهراً عزيزاً مقتدراً، وفي قوله ﴿ثم استوى...﴾ دلالة على استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن. ومع ذلك فإن الباقلاني يرى أن الله على عرشه لا بالمعنى الجسمي من الملاصقة والمجاورة[11]، حيث الكيف مجهول، كالذي اشتهر عن الإمام مالك حين سُئل عنه فقال: «الإستواء معقول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»[12].
والحاصل في جواب الباقلاني هو أن يكون الإستواء معقولاً والكيف غير معقول، وهو موقف احترازي يرمي إلى تنزيه الجانب الإلهي عن إشكالَي المكان والجسمية، وإن كان لا يقدم تصوراً بديلاً يُعوَّل عليه في دفع هذا المحذور.
وسبق للأشعري أن أكّد على تلك الصفة من الإستواء، وأنه ذو جهة فوق السماوات السبع، فذكر: «إن قال قائل: ما تقولون في الإستواء؟ قيل له نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ (طه/ 5) و﴿اليه يصعد الكلم الطيب﴾ (فاطر/ 10) وقال: ﴿بل رفعه الله اليه﴾ (النساء/ 158) وقال: ﴿يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج اليه﴾ (السجدة/ 5) وقال حكاية عن فرعون: ﴿يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى، وإني لأظنه كاذباً﴾ (غافر/ 63)، حيث كذّب موسى في قوله أن الله عز وجل فوق السماوات، وقال عز وجل: ﴿أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض﴾ (الملك/ 16)، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: ﴿أأمنتم من في السماء﴾ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل علو فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال ﴿أأمنتم من في السماء﴾ يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات»[13].
كما ذكر بعض الأحاديث الدالة على كون الله على العرش، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وروى عن أبي هريرة بأن النبي قال: «إذا بقي ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى فيقول: من ذا الذي يدعوني فاستجيب له، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه، من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ حتى ينفجر الفجر»[14].
وثمة آيات أخرى وظّفها الأشعري حول المكان الإلهي وجهته فوق العرش، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يخافون ربهم من فوقهم﴾ (النحل/ 50).. ﴿تعرج الملائكة والروح اليه﴾ (المعارج/ 4).. ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان﴾ (فصلت/ 11).. ﴿ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً﴾ (الفرقان/ 59).. ﴿إني متوفيك ورافعك الي﴾ (آل عمران/ 55)... الخ[15].
مع أن هناك آيات أخرى ينص بعضها على أن الله محيط بكل شيء، وأنه أقرب الأشياء إلينا، وأنه في الأرض مثلما في السماء، وأنه ظاهر الأشياء وباطنها. وبالتالي فإن التعويل على ظواهر تلك النصوص يعني تأويلاً للأوصاف الأخيرة، والعكس صحيح أيضاً.
وفي القبال مارس الأشاعرة المتقدمون التأويل بحق الآيات التي تتحدث عن بعض الصفات الإلهية، ومن ذلك صفة الكلام وصفة الحب والرضا والبغض والغضب والولاية والعداوة وما إليها. فقد حدد الباقلاني صفة غضب الله ورضاه بمعنى إرادته الذاتية في العقاب والثواب. والتبرير الذي لجأ إليه هو أن من المحال وصف الله تعالى بالغضب الذي يعني نفور الطبع وتغيره، وكذا بالرضا الذي يعني سكون الطبع بعد تغيره. لهذا اعتبر أن الغضب والرضا، وكذا الحب والبغض، والولاية والعداوة؛ كلها بمعنى واحد هو إرادة النفع والإضرار لا غير[16].
ومع أن عقولنا تستبعد حقاً أن يكون معنى الغضب والرضا هو بمثل ما عندنا من صفة وغريزة، إلا أن هذا لا يبرر تفسير معناهما على نحو الإرادة فحسب، بل هما من أمور الغيب التي يستحيل معرفة معناهما على نحو التشخيص والتفصيل[17].
أما صفة الكلام فقد علمنا أن هذا المنطق يوليها وظيفة جوهرية لتأسيس الخطاب الديني من الخارج، لذلك تم تأويل النصوص التي تخصها إتساقاً مع الأصل المولّد. ومن ذلك ما قام به الأشعري وأتباعه من تأويل الآية: ﴿ما يأتيهم من ذِكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون﴾ (الأنبياء/ 2)، حيث فسّرها بأن «الذكر الذي عناه الله عز وجل ليس القرآن، بل هو كلام الرسول (ص) ووعظه إياهم، وقد قال الله تعالى لنبيه: ﴿وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ (الذاريات/ 59)، وقال:﴿قد أنزل الله اليكم ذِكراً، رسولاً يتلوا عليكم آيات الله مبينات..﴾ (الطلاق/10ـ11)، فسمى الرسول ذِكراً والرسول محدث، وأيضاً فإن الله عز وجل قال: ﴿ما يأتيهم من ذِكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون﴾ يخبر أنهم لا يأتيهم ذِكر محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، ولم يقل: لا يأتيهم ذِكر إلا كان محدثاً، وإذا لم يقل هذا لم يوجب أن يكون القرآن محدثاً»[18].
مع أن الذِكر في الآية منسوب إلى الله صراحة وليس إلى الرسول، وقد وصفه بأنه محدث كما هو واضح.
كذلك قام الأشعري بتأويل الآية: ﴿إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ (النحل/ 40)، فظاهرها يؤيد فكرة حدوث القول الإلهي، وهو ما لم يتقبله الأشعري، ورأى فيه إستحالة عقلية لإعتقاده بقِدم كلام الله وكونه أحد صفاته الذاتية. بل إنه استدل عقلاً من الآية ذاتها على إستحالة حدوث كلام الله، وذكر بأنه لو كان القرآن - وهو كلام الله - مخلوقاً لكان الله تعالى قائلاً له (كن)، وهذا الأخير لما كان مخلوقاً أيضاً بإعتباره قولاً فهو يحتاج إلى قول (كن) آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له من الأقوال وهو مستحيل[19].
ومع أن سياق الآية السابقة ليس بصدد المعنى اللفظي واللساني للقول والكلام بقدر ما له من المعنى الكوني[20]، إلا أنه حتى مع التسليم بكون الآية تنص على المعنى اللساني للقول، وهو أنه ما من شيء يخلقه الله إلا ويقول له باللسان الحرفي (كن)، فإن ذلك لا يدل على قِدم الكلام، وإلا كانت الآية متناقضة والأشياء قديمة غير حادثة. فالآية صريحة على حدوث القول؛ فكيف يستدل من خلالها على نقيض ذلك؟ ذلك أن خلق الأشياء مناط بالقول، فلو كان القول قديماً لا حادثاً لكان خلق الشيء قديماً مثله، وكذا فإن إرادة الشيء في الآية؛ لو كانت إرادة قديمة، لكان الشيء المراد قديماً مثلها، وهو ما لا يقره أغلب أتباع النظام المعياري، ومنهم أصحاب هذا المنطق.
بل إن التسلسل الذي تحدّث عنه الأشعري في إثبات قِدم الكلام الإلهي لا يستقيم إلا عندما نعمم لفظة (شيء) في الآية على القول والكلام ذاته، لكن إذا عرفنا أن الآية قد ذكرت هذه اللفظة بتمايز عن لفظة القول؛ علمنا أنه لا يصح تعميم الأولى على الثانية.
وبعبارة أخرى، يدل النص على أن الشيء لا يُخلق ما لم يكن ذلك مسبوقاً بقول (كن) - فضلاً عن الإرادة - مما يعني أن من غير الممكن أن يكون القول خاضعاً لمسمى الشيء، وإلا حصل التناقض، حيث يكون المعنى هو أن الشيء لا يُخلق إلا عندما يكون مسبوقاً بالشيء، وهو تناقض. لذا فبحسب تمييز الآية هو أن القول غير الشيء، وأنه إذا اعتبرنا القول حادثاً، واعتبرنا الشيء حادثاً مثله، فالملاحظ أن بينهما تمايزاً، وهو أن خلق الشيء يتوقف على عاملين بحسب الآية، هما قول الله وإرادته، في حين إن القول لا يعتمد إلا على عامل واحد هو إرادة الله. ويمكن تصوير هذه العملية بأن خلق الشيء يتوقف على حدوث قول الله مباشرة، وأن هذا القول يتوقف بدوره على الإرادة.
كذلك هناك إختلاف بين الشيء والقول في الآية، فالقول منسوب إلى الله، حاله في هذا حال الإرادة، في حين إن الشيء أجنبي غير منسوب إليه، وربما لهذا الإختلاف جاءت بعض الروايات عن الإمام الصادق تشير إلى أن كلام الله محدث لا مخلوق، مثل الرواية القائلة: «إن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى.. كان الله عزّ وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عزّ وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل.. فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه..» [21].
***
أما المتأخرون من أصحاب هذا المنطق فقد مارسوا عملية التأويل بطريقة موسعة، ومن ذلك تأويلهم للنصوص المتعلقة بالصفات الإلهية، والتي منع تأويلها المتقدمون.
وسبق للغزالي أن وصف الأشاعرة بقوله: «ذهبت طائفة إلى الإقتصاد، وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه، وتركوا ما بالآخرة على ظاهرها، ومنعوا التأويل فيه، وهم الأشعرية»[22].
ويبدو أنه قصد بالأشعرية - هنا - المتأخرين منهم دون المتقدمين الذين أبقوا النصوص الخاصة بالصفات على حالها دون تأويل. أما المتأخرون من أمثال الجويني وإبن فورك (المتوفى سنة 460هـ) فقد ذهبوا إلى تأويل تلك النصوص.
فمثلاً جوّز الجويني في (الإرشاد) تأويل آية الإستواء على العرش بمعنى القهر والغلبة، واعتبر ذلك سائغاً في اللغة. كما لم يستبعد معنى كون الإله قصد إلى أمر العرش، مثلما هو تأويل سفيان الثوري[23]. وقال بهذا الصدد: «فإنا نعلم أن الإستواء إذا لم يكن تمكناً بالذات وتخصصاً ببعض الجهات فلا بد أن يرجع إما إلى معنى القهر، وإما إلى معنى علو العظمة، وإما إلى فعل من أفعال الله عز وجل، ولا مزيد على هذه الأقسام»[24].
كما أنه نفى الجهات عن الله وقال: «ومن ينتمي إلى الحق من الأئمة ومخلصي الأمة يعترف بتقدس الرب عن الجهات والمقابلات»[25]، بل وعقد فصلاً في كتابه (الشامل في أصول الدين) هاجم فيه الذين عولوا على ظواهر الآيات والأحاديث الخاصة بصفات الله، وسمى هذا الفصل: (في ذكر تأويل جمل من ظواهر الكتاب والسنة).
وعموماً ذهب الأشاعرة المتأخرون إلى الإعتراف بضرورة تأويل كل ما يُشعر بالجهة والتجسيم لاستحالتها على الله[26]، ومن ذلك ما صرح به الغزالي من أن الأشاعرة تنفي الجهة والجسمية[27]، وهو موقف يختلف عما كان عليه الأشعري والباقلاني القائلان بالجهة وسائر الصفات الأخرى. كما ذهب صاحب (مرهم العلل المعضلة) إلى عدم القطع بتعيين التأويل في أحاديث الصفات، حيث نفى كل ما يدل على الجسمية والتغير والنقص، لكنه لم يقطع بالمراد[28].
وعلى ما ذكره ابن فورك من أن تأويل قوله تعالى: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ (الأنعام/ 3) بأن معناه لدى أصحابه من الأشاعرة هو «أن الله جل ذكره يعلم سركم وجهركم الواقعين في محل السماوات والأرض.. ولا يصح الوقوف على معنى قوله تعالى: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ دون أن يوصل بقوله تعالى: ﴿يعلم سركم وجهركم﴾»[29].
كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿وجاء ربك والملك صفاً صفاً﴾ (الفجر/ 22) بأن من الأشاعرة من قال إن معناه هو جاء ربك بالملك صفاً، وزعم أن الواو ههنا بمعنى الباء، ومنهم من قال إنه بمعنى جاء أمر ربك[30].
كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة﴾ (البقرة/ 210)، هو أن معناه بحسب ما قاله بعض أهل التفسير: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالعذاب في ظلل من الغمام، وهو أمر سائغ في اللغة حيث يعبر عن الشيء بفعله إذا وقع عن أمره وتدبيره.. وقال بعضهم إن قوله: ﴿في ظلل من الغمام﴾ يراد به بظلل من الغمام وأن (في) جاءت بمعنى الباء. وقد روي ذلك في التفسير عن ابن عباس.. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير تلك الآية أنه قال بأنها السحاب التي يأتي بها الله يوم القيامة.. وروى أبو صالح عن ابن عباس أيضاً أنه قال يأتيهم بوعده ووعيده وأن الله يكشف لهم عن أمور كانت مستورة عنهم، ومثل ذلك روي عن الحسن[31].
كما قال ابن فورك بصدد تأويل الآيات الخاصة بتحديد المكان: «فأما قرب المكان فلا يليق بوصف الله تعالى، وعلى ذلك يتأول جميع ما في القرآن، مثل قوله تعالى: ﴿ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ (ق/ 16) وقوله: ﴿نحن أقرب إليه منكم﴾ (الواقعة/ 85) وقوله: ﴿فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ (النجم/ 8ـ9) وقوله: ﴿واسجد واقترب﴾ (العلق/19).. فجميع ذلك لا يخلو من أن يكون قرباً بالطاعة من العبد أو قرباً بالكرامة وإظهار الرحمة من الله»[32].
كذلك قام ابن فورك بتأويل الكثير من الأحاديث التي يبدو أنها تدل بحسب الظاهر على التشبيه والتجسيم، إذ وضع العديد من التأويلات الممكنة المحتملة على طريقة المتأخرين؛ مخالفاً في ذلك ما اشتهر لدى السلف، ومن هذه الأحاديث نذكر ما يلي:
خلق الله آدم على صورته، وخلق آدم في قبضة قبضها الله، والحجر الاسود يمين الله، وأن الله استلقى ووضع احدى رجليه على الأخرى، وقال الله لداود مر بين يدي، وضحك الرب لقنوط عباده، وإن الله خلق الملائكة من شعر ذراعيه، وإن هناك من سئلت أين الله فأشارت إلى السماء فاعتبرها النبي مؤمنة، وإن لله صفة العجب (قد عجب ربكم..)، وكذا صفة الغيرة (إن الله أغير من سعد)، وهناك حديث النزول، وحديث الرؤية حيث «ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته»، وإن الله يطوي المظالم فيجعلها تحت قدمه، وإن الله يجعل ذلك في كفه، وإن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن لله ساعداً أشد من ساعدك، وإن الله يستحي.. وإنه دخلت على ربي فإذا هو شاب جعد.. وإنه يكشف عن ساق، وإني رأيت ربي جعداً قططاً، وإنه في صورة شاب أمرد، وإن الله في السماء، وإن له وجهاً، وله عينان، وله يد وكف وقبضة ويمين وساق وقدم ورجل يمنى ورجل أخرى..
[1] التمهيد، ص251ـ252.
[2] المصدر السابق، ص284.
[3] نفس المصدر، ص284.
[4] لمع الأدلة في قواعد أهل السنة، ص99ـ100.
[5] لاحظ: اللمع للأشعري، ص23. والتمهيد، ص264.
[6] اللمع، ص24.
[7] الجويني: الشامل في أصول الدين، تحقيق علي سامي النشار وفيصل بدير عون وسهير محمد مختار، ص350. وشرح المواقف، ج3، ص168.
[8] تلخيص المحصل، ص313.
[9] التمهيد، ص259ـ260 و262.
[10] المصدر السابق، ص258ـ259. والابانة عن أصول الديانة، ص79ـ82.
[11] التمهيد، ص262 و264.
[12] الشامل، ص551. وقواعد العقائد، ص59. وسير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 100ـ101.
[13] الإبانة، ص69ـ70.
[14] المصدر السابق، ص72.
[15] نفس المصدر، ص73ـ74.
[16] التمهيد، ص27ـ28 و262.
[17] جاء عن الإمام علي قوله بهذا الصدد: «يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة» (نهج البلاغة، ص274).
[18] الإبانة، ص65ـ66.
[19] اللمع، ص33ـ34. والابانة، ص42 و52.
[20] ورد بهذا الصدد عن الإمام علي ما هو قريب عن التفكير الاعتزالي، إذ قال في معنى الآية: «يقول لمن أراد كونه: ﴿كن فيكون﴾، لا بصوت يقرع ولا إبتداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه انشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً» (نهج البلاغة، ص274). وكان الزمخشري يقول في هذه الآية: «هذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم» (الكشاف، ج1، ص181).
[21] الصدوق: التوحيد، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم، ص227. وإن كان في حديث آخر بيّنت الرواية أن علة عدم وصف كلام الله أو القرآن بالمخلوق؛ هي لأنه يعني المكذوب (المصدر، ص225). لكن القاضي الهمداني أكّد على صحة لفظ المخلوق، وردّ على الفرض الذي اعتبر هذا اللفظ بمعنى الكذب والمكذوب، فصوّر الخلق بمعنى التقدير، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض والداعي المطابق له على وجه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه (شرح الأصول الخمسة، ص546).
[22] الغزالي: قواعد العقائد، ص59. واحياء علوم الدين.
[23] مرهم العلل المعضلة، ص245.
[24] الشامل في أصول الدين، ص551.
[25] المصدر السابق، ص551.
[26] مرهم العلل المعضلة، ص234.
[27] روضة الطالبين من فرائد اللالي، ص175.
[28] مرهم العلل المعضلة، ص252.
[29] ابن فورك: مشكل الحديث وبيانه، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 1367هـ، ج1، ص50.
[30] مشكل الحديث وبيانه، ج1، ص63.
[31] المصدر السابق، ج1، ص63ـ64.
[32] نفس المصدر، ج1، ص70.