يحيى محمد
ليس غرضنا - هنا - استعراض واحصاء كل ما يصدر عن منطق الحق الذاتي من تأويلات، بل هدفنا هو فهم الممارسة التطبيقية لعملية التأويل وعلاقتها بقضايا العقل القبلي، وعلى رأسها تلك التي لها علاقة بالأصل المولّد.
ولهذه الممارسة تطبيقات كثيرة كتلك الجارية حول مسائل العقيدة التي نطق بها الخطاب الديني، سواء في المجال المعياري أو في المجال الوجودي، كالذي سنتعرف عليه خلال الفقرتين التاليتين:
1ـ التأويل في المجال المعياري
من الممارسات التأويلية في المجال المعياري ما جاء حول مسألة القضاء والقدر، حيث غرضها دفع حالات الجبر والإلجاء كما تبدو من النصوص القرآنية. والحاكم في هذا التأويل هو التشريع العقلي الذي ينص على أن الفعل الإلهي مقيد بالعدل تبعاً للأصل المولّد، وأن الجبر والإلجاء هو مما يتنافى مع هذا العدل.
وأبرز النصوص التي طالتها يد التأويل حول هذا الموضوع ما يتعلق بالهداية والضلال، ومن ذلك ما ذكره الشريف المرتضى حول معنى الآية القرآنية: ﴿إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء﴾ (القصص/ 56)، فاعتبر معناها هو أنك لا تنجي من العذاب من أحببت.
ثم قال: «فإن قيل: فلم زعمتم أن هذا هو تأويل الآية؟ قيل له: لما كان الله قد هداهم؛ بأن دلهم على الإيمان، علمنا أنه لم يهدهم بهدى الثواب، وقد بيّن الله تعالى أن الهدى بمعنى الدليل قد هداهم به، فقال ﴿إن يتّبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى﴾ (النجم/ 23) يعني الدلالة والبيان. فإن قيل له: إنما أراد به ليس عليك نجاتهم، ما عليك إلا البلاغ ولكن الله ينجي من شاء. فإن قيل: فلِمَ قلتم هذا؟ قيل له: لما أخبر الله تعالى أن النبي (ص) قد هدى الكافر فقال: ﴿وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ (الشورى/ 52)، وإنما يريد أنك تدل، فلما كان قد دلّ المؤمن والكافر كان قد هدى الكافر والمؤمن، فعلمنا أنه أراد بهذه الآية هدى الثواب والنجاة. فقس على ما ذكرناه جميع ما يسأل عنه من أمثال هذه الآية»[1].
بهذا التحديد قام المرتضى بتقسيم الهدى إلى نوعين؛ أحدهما بمعنى الدليل والبيان، والآخر بمعنى الثواب والنجاة، ودلّل على كل منهما ببعض الشواهد القرآنية، فعلى النوع الأول قوله تعالى: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ (فصلت/ 17)، وقوله: ﴿وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى﴾ (الإسراء/ 94)، وقوله: ﴿انا هديناه السبيل أما شاكراً وإما كفوراً﴾ (الإنسان/ 3). وعلى النوع الثاني قوله تعالى: ﴿والذين قتلوا في سبيل الله فلن يُضِلّ أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم﴾ (محمد/ 4ـ5)، وقوله: ﴿يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام﴾ (المائدة/16)، وقوله: ﴿ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم﴾ (يونس/9)[2].
بيد أن هناك نوعاً آخر للهداية تُفسر به الآيات التي أوّلها الشريف المرتضى إلى معنى النجاة والثواب[3]، حيث ظواهرها يشير إلى معنى (الإلجاء) الخاص بدفع السلوك البشري باتجاه معين من غير شعور، كإن يخلق الله الدواعي للفعل باتجاه معين دون غيره. ويحظى هذا المعنى، الذي تدل عليه الكثير من الآيات، بتأييد من الواقع.
وينطبق الحال السابق على مسألة (الضلال) والتي حصرها المرتضى بالمعنى المحدد للعقاب والهلاك كجزاء على الكفر، ومن ذلك ما استدل به في قوله تعالى: ﴿إن المجرمين في ضلال وسعير﴾ (القمر/ 47)، أي أن المجرمين في هلاك وسعير، مع أن هناك الكثير من الآيات التي تتحدث عن إضلاله تعالى للكافرين بما تدل عليه من (الإلجاء)، وذلك على شاكلة ما يجري مع الهداية، فالإلجاء لا مفر منه سواء بالهداية أو الضلال، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً﴾ (الكهف/ 17)، وقوله: ﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ (البقرة/ 26)، ويؤيده الواقع بما يحمل من سنن إنسانية، كما سنشير إليه فيما بعد.
وعلى هذه الشاكلة جاء عن القاضي عبد الجبار الهمداني تأويله للكثير من الآيات بهذا الصدد، ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: ﴿فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً﴾ (الأنعام/ 125)، حيث اعتبر أن المراد بالهدى في تلك الآية هو زيادة الهدى لكي ينشرح صدره للإسلام والإيمان. كما اعتبر أن المراد من الإضلال في الآية هو الإضلال عن تلك الزيادة لعلمه تعالى بأنه لا ينتفع بها، فيجعل صدره ضيقاً حرجاً، فتضطرب عليه إعتقاداته الفاسدة إذا فكّر فيها.
وقد عدّ تفسيره هذا دليلاً على أنه تعالى «يفعل بالمؤمن ما يكون أقرب إلى ثباته على الإيمان من شرح الصدر بزيادات الأدلة، ويفعل بالكافر ما يكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر من ضيق الصدر»[4]. مع أن هذا التفسير جاء على عكس ظاهر الآية، إذ تدل على كون انشراح الصدر هو سبب الهداية لا العكس، وكذا أن انقباض الصدر وضيقه هو سبب الضلال.
كما قام الهمداني بتأويل قوله تعالى: ﴿فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة﴾ (الأعراف/ 30)، فعلى رأيه أنه إذا كان الله تعالى قد هدى الجميع؛ فما معنى إضلاله للبعض كما نطقت به الآية السابقة؟ لهذا ذكر أن المراد بها هو الجزاء في الآخرة، فيكون الهدى بمعنى الثواب، والضلالة بمعنى العقاب[5].
وعلى هذه الشاكلة فسّر قوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون﴾ (الأعراف/ 178)، فاعتبر بأن المراد هو من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا، ومن يضلل عن الثواب إلى العقاب فهم الخاسرون في الدنيا. وكذا الأمر في تفسير قوله تعالى: ﴿من يضلل اللّه فلا هادي له﴾ (الأعراف/ 186)، أي من يضلله عن الثواب في الآخرة فلا هادي له اليه[6].
كما جاء في تأويله لقوله تعالى: ﴿وأن اللّه يهدي من يريد﴾ (الحج/ 16) بأن المراد هو أن الله يكلّف من يريد، باعتبار أن بعض الناس لا يبلغون حد التكليف، واحتمل في الآية مراداً آخر هو الهداية إلى الثواب الخاص بالمطيعين دون غيرهم[7]. ومنها ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه﴾ (النساء/ 88)، فقال بأن المراد بذلك هو من أضله الله تعالى عن الجنة، إذ لا يصح أن يهديه إليها وقد حكم عليه بالعقاب[8]. وكذا بالنسبة لتفسيره للآية: ﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ (البقرة/ 26)، حيث أوّلها إلى معنى الثواب والعقاب[9].
كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾ (البقرة/7)، بأن للعلماء جوابين ممكنين: الأول استبعد فيه أن يكون الله تعالى هو من منعهم عن الإيمان والهداية، وإلا لما ذمهم، وعليه فإن معنى الغشاوة على السمع والبصر هو من باب التشبيه، إذ رغم إزاحة كل العلل المانعة عن الإيمان فإنهم مع ذلك لم يؤمنوا وكأن عليهم غشاوة.
ثم ذكر استدراكاً لهذا الجواب، وهو أنه حتى لو ثبتت الغشاوة حقيقة لما جاز أن تكون مؤثرة على واقع كونهم عقلاء مكلفين. أما الجواب الثاني للآية فيتضمن بأن الختم علامة يفعلها الله تعالى في قلوبهم كي تعرف الملائكة كفرهم فيكونوا محل ذم لها[10]. وهو جواب بعيد عن ظاهر معنى الآية.
وعلى هذه الشاكلة اعتبر أن المراد في قوله تعالى: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً﴾ (البقرة/ 10)، هو أن في قلوبهم غماً أو حسداً على ما يخص الله تعالى به رسوله وأصحابه، فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمّهم، لذا فمعنى قوله ﴿فزادهم الله مرضاً﴾: أي زادهم غمّاً بما يفعله الله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالاً بعد حال. وقد أنكر أن يكون معنى المرض الكفر والنفاق بإعتباره يفضي إلى نفي العدل عن الله[11].
كذلك اعتبر المراد في قوله تعالى: ﴿ويمدّهم في طغيانهم يعمهون﴾ (البقرة/15)، هو أن يمدّهم الله في جزاء طغيانهم، لا أن يمدّهم في نفس طغيانهم، كما احتمل أن يكون ذلك عاقبة أمرهم، فمعنى يمدّهم أي يبقيهم على حالهم[12]. وهناك تأويل آخر ذكره في (متشابه القرآن) وهو أن معنى يمدّهم؛ هو إمداده لهم في العمر نعمة منه عليهم كي يستدركوا ما فاتهم فيتوبوا، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم ولا يزدادون إلا شراً، فالذي ينسب إلى الله تعالى هو المدّ في العمر، أما الطغيان والعمه فيضاف إليهم[13].
وأيضاً أنه اعتبر المراد في قوله تعالى: ﴿ان الذين لا يؤمنون بالآخرة زينّا لهم أعمالهم﴾ (النمل/ 4)، هو تزيين ما ينبغي أن يعملوه وما يجب عليهم السعي فيه[14].
ومن ذلك أيضاً أنه اعتبر قوله تعالى على لسان ابليس: ﴿قال فبما أغويتني﴾ (الأعراف/ 16) أن المراد منه هو بما أحرمتني من الثواب وخيبتني منه، لا أن المراد به الضلال، بل الحرمان[15].
وكذا بالنسبة إلى تفسيره لقوله تعالى على لسان نوح: ﴿ولا ينفعكم نصحي إنْ اردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم﴾ (هود/ 34)، فاعتبر أن ما أراده نوح (ع) هو أن نصحه لا ينفع مادام الله أراد حرمان قومه عن الفوز بالثواب وإنزال العقاب[16].
كذلك تفسيره لقوله تعالى: ﴿ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا اثماً﴾ (آل عمران/ 178)، وهو أن اللام في ﴿ليزدادوا﴾ للعاقبة لا للتعليل[17]، مع أن الظاهر هو العكس.
وأيضاً تفسيره لقوله تعالى: ﴿ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين﴾ (الزخرف/ 36)، حيث اعتبر المراد به هو أن من يعشُ عن ذكر الرحمن في الدنيا فإن الله يقيض له شيطاناً في الآخرة فيصبح قرينه، ثم استدرك في هذا التأويل وذكر أن بدونه يمكن تفسير النص طبقاً للتخلية بين الكافرين والشياطين، مثلما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً﴾ (مريم/83)، إذ بسبب كفرهم خلى بينهم وبين الشياطين[18].
ومثل ذلك ما ذكره الشريف الرضي في (حقائق التأويل)، حيث فعل الشيء الذي فعله شقيقه الشريف المرتضى من تأويل الآيات الخاصة بالهداية والإضلال، ومن قبله الهمداني، فقام بتأويل بعض آيات الإزاغة، مثل قوله تعالى: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾ (الصف/ 5)، فاعتبر أن الإزاغة الثانية هي على سبيل العقوبة في الآخرة، وهو أن الله أزاغ قلوبهم عن طريق الجنة والثواب، تبعاً للازاغة الأولى منهم في الدنيا، وبالتالي كانت الإزاغة في الدنيا قبيحة، وفي الآخرة حسنة[19].
مع هذا فقد نقل الشريف الرضي رأياً يعود إلى بعض التابعين لذات المنطق؛ لا ينكر فيه الإزاغة في الدنيا، لكنه يفسرها تبعاً لتخلية الله تعالى بين العبد ولطفه، كعقوبة تأتي بعد المعصية والإنحراف.
وبحسب ما جاء في هذا الرأي هو أن إضلال الله وإزاغته ليسا كإضلال إبليس وإزاغته، لأن الله تعالى قد ذم ذلك وبرئ منه، فعلمنا أنه تعالى لا يضل عن الحق وهو يدعو إليه، ولا يمنع منه وهو يأمر به. لذا لم يثبت أن الله ابتدأ قوماً بالإزاغة، بل قال: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾، فأخبر الله بأنه فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم وجزاء على فعلهم، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه كل من آمن به، ووقف عند حده، وخلّاهم وإختيارهم، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكرها في كتابه، فقال: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾ (محمد/ 17) فأضاف سبحانه الفعل في الإزاغة إلى نفسه، على اتساع مناهج اللغة في أضافة الفعل إلى الآمر، وإن وقع مخالفاً لأمره، فسُمي من كان سبب الضلال مضلاً، وإن لم يكن منه دعاء إلى الضلال ولا إلى ضده، مثلما قال سبحانه: ﴿وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس﴾ (البقرة/ 126)، فأضاف تعالى ضلال القوم إلى الأصنام، إذ جعلوها سبباً لضلالتهم، وهي جماد لا يكون منها صرف عن طاعة ولا دعاء إلى معصية. ومثل ذلك ما يقال: إن الرجل يشغف بالمرأة، فإذا عظم وجْده بها وقلقه من أجلها، قال لها: قد أسهرتِ ليلي، وأمرضتِ قلبي، وكدرتِ صفاء عيشي، ولعلها لم تعلم بشيء من أمره، ولم تشعر بأوقات قلقه وسهره، ولكنه لما اعتقد أنها سبب لذلك - وإن لم تفعله - جاز أن ينسب إليها فعله. وأشدّ تأكيداً من ذلك أنها لو شعرت بما يقاسيه فيها ويعانيه من حبها، فزجرته عن نفسها وخوفته عواقب الإشتغال بها، فكان ذلك سبباً في تضاعف شغفه، فانحلت قوى أمره واسترخى وتر صبره وطال بها سهر ليله وتشاغل عن مصالح نفسه، كان جائزاً أن ينسب ذلك إليها، فيقول: إنها أسهرت ليلي وأطالت فكري، واقتطعتني عن مصالحي، وذهبت بي عن مراشدي، وهي لم تعظه إلا ليتعظ، ولم تزجره إلا ليزدجر. وكذا ما يتعلق في آية (الإزاغة)، وهو أن الله ليس هو المباشر في الإزاغة، بل قد يكون ذلك بفعل الإحالة بينهم وبينه دون أن يقدّم لهم الألطاف الهادية بسبب انحرافهم[20].
وهو تفسير جاء على شاكلة ما سبق إليه القاضي الهمداني لبعض الآيات التي مرّت معنا. وإن كان ذلك لا يفسر لنا معنى الإلجاء الذي تؤكده النصوص الدينية بما يخالف ما ذهب إليه هذا الإتجاه.
ومن التأويلات الأخرى ما أورده الأديب محمود بن عمر الزمخشري، حيث فسّر قوله تعالى: ﴿ومن يُرِد اللهُ فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يُرِد الله أن يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ (المائدة/ 41)، بمعنى أن الله تركه مفتوناً ومخذولاً، بأنْ لا يمنحه وأمثاله من ألطافه ما يطهّر به قلوبهم[21].
كذلك تأويله لقوله تعالى: ﴿ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾ (البقرة/ 7)، حيث صرح بأنه لا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز تبعاً للإستعارة أو التمثيل.
وهو بذلك ينفي أن يكون الختم والتغشية من قبل الله تعالى، باعتبار أن ذلك يخالف منطق الحق في عدالة الله وحسن صنيعه، واعتبر أنه يجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله لله؛ فيكون الختم مسنداً إلى اسم الله على سبيل المجاز، كإن يكون الشيطان أو الكافر هو الخاتم في الحقيقة، إلا أن الله لما كان هو الذي مكّنه فقد أسند إليه الختم. كما احتمل أن ذلك جاء لأن هؤلاء الكفار أصبحوا بلا طريق للإيمان طوعاً وإختياراً إلا بالقسر والإلجاء، لكن لو حصل هذا لانتقض غرض التكليف، لذا عبّر عنه بالختم. وهناك وجوه محتملة أخرى طرحها الزمخشري كلها تصب في نفي أن يكون الختم والتغشية راجعيْن إلى الله بالذات[22].
***
ويلاحظ في التأويلات السابقة أنها تتفادى الوقوع في مستنقع الجبر الذي يحيله أصحاب منطق الحق الذاتي سمعاً وعقلاً، بتبرير أنه يتنافى مع العدل والأصل المولّد. أما من حيث التحقيق، فالواقع يشهد على صور الإلجاء ضمن ما يعرف بالسنن الإجتماعية والكونية، ومن أبرزها سنن التطبع والعادة وما يترتب عليها من نتائج تتعلق بالتأثير على قوة ميل الإرادة عند الممارسة المتكررة. فمن حيث هذه القوة، أن من فعل شيئاً لمرات معدودة ليس كمن اعتاد عليه. وأبلغ ما تظهر به صورة الإلجاء هي عند الحد الذي يُعرف بالعادة والتطبع. فالذي يعتاد على ممارسة شيء يكون كالمجبر عليه، وكلما زاد الفعل كلما زاد الإعتياد والأُلفة، الأمر الذي يؤثر على فعل الإرادة وقوتها[23].
ولا يتوقف الحال عند هذا الحد، بل يحدث نوع آخر من الإلجاء يتصف بكونه من سنخ الشيء المعتاد عليه.
وبعبارة أخرى، يحصل فيما نحن بصدده تطوران من الإلجاء؛ حيث تبدأ الممارسة بالتطور الكمي للفعل الذي يترتب عليه الإعتياد والتطبع، ومن ثم تفضي العملية إلى تطور كيفي، حيث يبدأ بممارسة أفعال أخرى تتسق مع تلك التي تم الإعتياد عليها، وهي بدورها قابلة للتحول إلى العادة والتطبع بفعل التكرار. وكل ذلك يتضمن الإلجاء.
وعليه فالإنسان محكوم بقدرين: إرادته من جهة، والسنن الكونية والإجتماعية من جهة ثانية. الأمر الذي غفل عنه أصحاب المنطق السابق، حيث بهذين القدرين يمكن تفسير ما تشير إليه النصوص القرآنية التي مرت معنا دون حاجة للتأويل. وهي حقيقة لا تتنافى مع العدل الإلهي، حيث إن الإلجاء المشار إليه في النصوص؛ كالمد في الطغيان، وزيادة الكفر ومرض النفاق في القلوب، وجعل الغشاوة، وتسليط الشياطين على الكافرين.. الخ، كل ذلك جاء عقوبة لسوء الفعل والإختيار دون إلغاء الإرادة كلياً. فهو عبارة عن جزاء مرتب وفق ذات السنن الكونية في ضغطها على الإرادة وميولها.
ولا يتنافى ذلك مع حكم الآخرة الذي لسنا معنيين به على نحو التفصيل؛ لجهلنا بخصوصيات الحساب والتقدير وفق العدل والإحسان.
والشيء نفسه يقال حول الإلجاء المتعلق بالهداية، حيث كلا الحالين (الهداية والضلال) يخضعان للأسباب والمسبَّبات، والآيات القرآنية تشير إلى هذا المعنى وتضع المسؤولية على عاتق الإنسان وخياراته، إذ تترتب عليها النتائج الخاصة بالهداية والضلال، ومن ذلك النصوص التالية:
﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم﴾ (يونس/ 9).. ﴿الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب﴾ (الشورى/ 13).. ﴿يُضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يُضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون﴾ (البقرة/ 26ـ27).. ﴿إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل﴾ (النحل/ 37).. ﴿أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون﴾ (الجاثية/ 23).. ﴿يثبّت اللّه الّذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ويضلّ اللّه الظّالمين ويفعل اللّه ما يشاء﴾ (إبراهيم/ 27).. ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ (الصف/ 5).. ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾ (المطففين/ 14).. ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ (التوبة/ 67).. الخ.
فبحسب هذه النصوص أن سبب الهداية والضلال مناط بخيار الإنسان، وهو أمر لا ينقطع من حيث المد والزيادة ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى﴾ (مريم/ 76)، فالهداية تجر الهداية، والضلال يجر الضلال، وهكذا بلا حدود. ومنه يتبين فشل الممارسة التأويلية التي أبداها أصحاب منطق الحق الذاتي، سواء عوّلنا في ذلك على كثرة النصوص القرآنية التي تبدي المعاني الخاصة بالالجاء، أو عوّلنا على ما يظهره الواقع الخارجي من الحقائق والسنن الكونية.
مع هذا نشير إلى ما حكي عن بعض أتباع هذا المنطق من أنه اعترف بصور الإلجاء التي جاء ذكرها في القرآن؛ مثل الختم والطبع والغشاوة والإزاغة والإضلال وغيرها، إذ ذهب الشيخ عبد الواحد بن زيد البصري (المتوفى سنة 150هـ أو 177هـ) وإبن أخته بكر، إلى إعتبارها توابع وعقوبات من الله لأصحاب الجرائم، كالذي تدل عليه ظواهر النصوص[24].
2ـ التأويل في المجال الوجودي
اما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، فأبرزها تلك المتعلقة بقضايا الصفات الإلهية. ومن ذلك تأويل الشيخ المفيد لسمع الله وبصره، وهو أنه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات[25]. وكذا تأويل الشيخ الطوسي لمسألة حب الله، وهو أنه يأتي بمعنى الإرادة فحسب، كما في قوله تعالى: ﴿إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين﴾ (البقرة/ 190)، أي أنه لا يريد ثوابهم ولا مدحهم[26].
وجاء عن أصحاب هذا المنطق تأويلهم لآيات الرؤية، كما في قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (القيامة/ 22ـ23)، حيث تعني عندهم بأن وجوه المؤمنين منتظرة ثواب ربها ونعيمه، أو بمعنى أن المؤمنين ينظرون إلى هذا الثواب، ولدى البعض لا مانع من المعنيين معاً، حيث لا تنافي بينهما[27].
ومن ذلك أيضاً ما قام به الزمخشري من تأويل آية الكرسي: ﴿وسع كرسيه السماوات والأرض﴾ (البقرة/ 255)، معتبراً أن مفاد الآية هو غير هذا الظاهر، بل هناك وجوه للمعنى، منها: إنها جاءت لتصوير عظمة الله وتخيلها «ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد». إذ أنها وردت بمثل ما جاء في قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه﴾ (الزمر/ 67)، حيث لا توجد قبضة وطي ويمين «وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي» بدلالة صدر الآية ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾.
وثمة وجه آخر لمعنى الكرسي، وهو العلم، فسُمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالِم. كما هناك وجه ثالث، وهو أن الكرسي بمعنى الملك، باعتبار أن الله مالك كل شيء[28].
كما قام الزمخشري بتأويل آية الأمانة: ﴿إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقْنَ منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً﴾ (الأحزاب/ 72)، معتبراً أن عرضها على الجماد من السماوات والأرض والجبال وعدم حملها واشفاقها منها إنما جاء مجازاً لا حقيقة[29].
ومثل ذلك تأويله لخشوع الجبل وتصدّعه في قوله تعالى: ﴿لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله﴾ (الحشر/ 21)، حيث اعتبر ذلك من التمثيل والتخييل، كالذي جاء في عرض الأمانة، بدلالة خاتمة الآية ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾، حيث الغرض منها توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره.
وعلى هذه الشاكلة تأويله لقوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين﴾ (فصلت/ 11)، حيث عد ذلك من المجاز والتمثيل، وإنما الغرض هو تصوير أثر قدرته في الأشياء بلا قول ولا جواب[30].
وجاء في تأويله لآية الميثاق الذي أخذه الله على عباده في سابق الزمان: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنّا عن هذا غافلين﴾ (الأعراف/ 172)، فاعتبر ذلك من التمثيل والتخييل والتصوير، والمعنى عنده هو أن الله نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركّبها فيهم لتميّز بين الهدى والضلالة، فكأنه أشهدهم على أنفسهم بما جاء في الآية، ومثل ذلك إقرارهم، وكل هذا من التمثيل[31].
***
نستخلص مما سبق النقاط الثلاث التالية:
1ـ يتضح من الممارسات التأويلية السابقة أن للعقل استقلالية في التشريع والأحكام، وهو بذلك لا ينافس تشريع الخطاب الديني فحسب، بل يكون حاكماً عليه. إذ غرض ممارسات التأويل هو تسديد الثغرة الخاصة بعدم انسجام ما يبدو من نص الخطاب مع قبليات العقل وتشريعه، لذلك كان تسديد هذه الثغرة مستمداً من مفردات هذا العقل وتصوراته الأولية ضمن اطار منطق الحق الذاتي.
إذ استند هذا المنطق في تبريره للثغرة الانفة الذكر إلى المفاهيم المترتبة على أصله المولّد، ومن ذلك مفهوم الحكمة، حيث إن أفعال الله لا تخلو من الحكمة، ومن بين ذلك ما يتعلق بجعل الخطاب الديني بعضه متشابهاً.
وكان من الأصول التي اعتمدها هذا المنطق هو رد المتشابه من النصوص الدينية إلى المحكم منها. فمن الوجوه التي ذكرت في علة وجود المتشابه في القرآن، هو أن الله أراد تكليفنا بإزالة التشابه عبر النظر في النص والاجتهاد في معرفة معناه كي لا يكون هناك جهل وتقليد، وبالتالي كان لا بد من التشريع العقلي وإعتباره حاكماً على نص الخطاب[32].
2ـ كما يلاحظ أن الممارسات التأويلية في المجال المعياري تعتمد على ما للعقل من تشريع مستمد من الأصل المولّد لمنطق الحق الذاتي.
فكما عرفنا أن الغرض من تأويل نصوص مسألة القضاء والقدر هو إبعاد الشبهة المتعلقة بالجبر والإلجاء والتي لا تتسق مع مبدأ العدل الإلهي المنتزع عن بداهة الحق الذاتي.
أما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، كما هو الحال مع نصوص الصفات الإلهية، فيلاحظ أنها لا تتعلق بالأصل المولّد للحق الذاتي مباشرة، لكنها تعزز من اعتبارات هذا الأصل، طالما أن لها علاقة بالعدل الإلهي. حيث حرص هذا المنطق على أن تتصف الذات الإلهية بكامل التجريد عن المشابهة مع المخلوقات وصفاتها الجسمية، وذلك كي لا تكون محكومة باعتبارات النقص الذي تتصف به هذه المخلوقات وطبائعها، سواء فيما يتعلق بـ «النقص الوجودي» كحالات التركيب والتغير في الذات، أو ما يتعلق بـ «النقص المعياري» كحالات الظلم وغياب الحكمة؛ لإعتبارات الشهوة والغضب وما إليها من النقائص الأخرى التي هي من طبائع المخلوقات.
فهذا هو التوحيد في أقصى درجاته من التجريد، كما يتصوره منطق الحق الذاتي، وبالتالي كان لا بد من تأويل الآيات التي تتنافى معه، كتلك التي تتعلق بالقضايا الوجودية للصفات الإلهية، لا فقط لاعتبارات التعالي عن الجسمية والمادة، بل كذلك للتعالي عن طبائع المخلوقات الباعثة على الظلم أو الفعل القبيح. الأمر الذي تتوثق به الصلة بين الاعتبارين الوجودي والمعياري.
3ـ تتصف الممارسة العقلية للتأويل، سواء لدى منطق الحق الذاتي أو حق الملكية، بأنها لا تفيد إثبات شيء من التفسير بقدر ما تفيد نفي ظاهر النص. إذ أنها لا تهدف من الممارسة التأويلية أكثر من عدم معارضة النص لقبلياتها المعرفية، وبالتالي فإنها لا تمانع من طرح وجوه ممكنة للتفسير دون الاقتصار على وجه معين بالخصوص، خلافاً لمسلك النظام الوجودي الذي يستهدف باستظهاره وتأويله واستبطانه إثبات المعنى التفسيري؛ كما هو منعكس عن قبلياته المعرفية الوجودية، وعلى رأسها الأصل المولّد كما يتمثل في (السنخية).
[1] رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص228ـ229.
[2] المصدر السابق، ج2، ص224ـ225.
[3] يضاف إلى وجود نوع آخر للهداية لا يتعلق بالتكليف، إنما يراد به الغريزة والفطرة التي تسهل للحيوان تحقيق اغراضه ومعاشه، كالذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ (الأعلى/2ـ3).
[4] عبد الجبار الهمداني: تنزيه القرآن عن المطاعن، دار النهضة الحديثة، بيروت، ص137.
[5] المصدر السابق، ص146.
[6] العبارة المذكورة في كتاب (تنزيه القرآن عن المطاعن، ص153) هي: «من يضلله عن الثواب في الآخرة ولا هادي له اليه». وكما يبدو أن الصحيح هو ابدال الواو بالفاء، حيث إن الآية المراد تفسيرها صريحة في تأكيد الشرط وجوابه، ولعل الخطأ يعود إلى الناسخ أو الطابع.
[7] تنزيه القرآن عن المطاعن، ص271.
[8] المصدر السابق، ص103.
[9] المصدر نفسه، ص19ـ20.
[10] المصدر نفسه، ص14.
[11] المصدر نفسه، ص15.
[12] المصدر نفسه، ص16.
[13] متشابه القرآن، ج1، ص57.
[14] تنزيه القرآن، ص301.
[15] المصدر السابق، ص144.
[16] المصدر نفسه، ص183.
[17] المصدر نفسه، ص83.
[18] المصدر نفسه، ص379، وص112.
[19] الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، شرحه محمد الرضا آل كاشف الغطاء، دار المهاجر، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج5، ص23ـ25.
[20] حقائق التأويل في متشابه التنزيل، ص26ـ29.
[21] جار الله محمود بن عمر الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، مكتب الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ج1، ص634.
[22] الكشاف، ج1، ص48 وما بعدها.
[23] يلاحظ بهذا الصدد مقالنا: القضاء والتطبع، مجلة الغدير، لبنان، عدد (5)، 1981م، ص28ـ33.
[24] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص88.
[25] النكت الإعتقادية، ص15.
[26] التبيان في تفسير القرآن، ج2، ص144.
[27] الفضل بن الحسن الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ ـ1995م، ص198 و200.
[28] الكشاف، ج1، ص301.
[29] المصدر السابق، ج3، ص564.
[30] نفس المصدر، ج4، ص509 و189.
[31] نفس المصدر، ج2، ص176.
[32] شرح الأصول الخمسة، ص599ـ600.