يحيى محمد
ترى الأشاعرة أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وبالتالي فإن حدوث العلم عقيب النظر هو حدوث قائم على العادة، أي تجري عادة الله بأن يُحدث العلم عقيب النظر، كحصول الشبع عقب الأكل، والري عقب الشرب. فالمؤثر في وجود العلم هو الله تعالى. واحتجوا على ذلك بأن الإنسان لا يفعل إلا ما هو قادر عليه، وأن قدرة الإنسان لا توجد قبل مقدورها. فإذا ثبت هذا الأصل بطل أن يكون العلم الواقع عقب النظر من فعل الإنسان، لأنه لو كان من فعله لوجب أن يكون قادراً عليه بقدرة تقارنه، أو تقارن القدرة على سببه المتمثل بالنظر، وهو محال لأنه يوجب تقدم القدرة على مقدورها[1].
لكنّ بسْط فكرة العادة على قضية العلم والنظر، يسفر عن بعض المحاذير، منها العجز عن إثبات المسألة الإلهية وما يترتب عليها من المسألة الدينية، إذ يتوقف إثبات المسألة الإلهية على التسليم بفكرة العادة والفعل الإلهي المطلق؛ طبقاً لذلك البسط والتعميم، مع أن هذه الفكرة تتوقف على إثبات المسألة الإلهية، فيحصل الدور أو التسلسل الباطل.
وادعى الأشعري أن حدوث العلم إنما يجري بلا وجوب منه تعالى ولا عليه، مع أن القول بالوجود من غير وجوب يعني عند البعض ترجيحاً بلا مرجح. في حين يتم حصول العلم بعد النظر عند المعتزلة بالتوليد، فالناظر يخلق النظر فيتولد منه فعل آخر من غير صنع الله عقيبه، كحالة حركة المفتاح عند حركة اليد.
وهو موقف يخالف موقف الفلاسفة الذين اعتبروا حصول العلم بعد النظر جاء بالإعداد، فالنظر الذهني هو علة معدة غير حقيقية، فإذا تم استعداد الذهن لقبول العلم بهذا الإعداد؛ تفيض عليه النتيجة من مبدأ الفيض وجوباً.
فعلى رأي الفلاسفة أن العقل الفعال المسمى (واهب الصور) هو الذي يهب الإنسان الضرورات الأولية للعلوم، كما صرح به الفارابي، فهو يمنح الإنسان «قوة ومبدأً به يسعى أو به يقدر الإنسان على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى عليه من الكمالات. وذلك المبدأ هو العلوم الأول والمعقولات الأول التي تحصل في الجزء الناطق من النفس»[2].
وعند القاضي عبد الجبار الهمداني، أحد أعلام المعتزلة، إن العلم البشري ـ فيما عدا الضروريات ـ يتحصّل بالتوليد عبر النظر، ولا صلة له بأي قوة خارجية، سواء أكانت عقلاً فعّالاً كما يقول الفلاسفة، أو الله كما يذهب إليه الأشاعرة، بل يتم ذلك بفعل الإنسان نفسه، ضمن شروط معينة.
وكما قال: «لا يمتنع فيما نوجده متولداً من شروط يحتاج إليها، ثم الشرط تارة يرجع إلى الوجود وتارة إلى الإيجاب، فإذا تكلمنا في أن النظر مولّد للعلم فالشرط في توليده له وإيجابه هو أن يعلم الناظر الدليل على الوجه الذي يدلّ، والشرط في وجوده أن لا يكون عالماً بالمدلول لأنه لو علمه لتعذّر عليه النظر، فصار كل ما يصح وجود السبب من دونه فهو شرط في الإيجاب، وصار كل ما لا يصح وجوده فهو شرط في الوجود»[3].
وبذلك تتميز علاقة العلم بالنظر لدى الهمداني وعموم منطق الحق الذاتي بالثنائية المغلقة دون أن يكون معها طرف ثالث. الأمر الذي يتسق مع الأصل المولد بنفي الجبرية وتلافي الإشكالات التي ترد على منطق حق الملكية، والتي أبرزها التشكيك بالعلم الناتج عن النظر، وعدم القدرة على إثبات المسألة الدينية.
فلدى هذا المنطق يتصف العلم الناتج عن النظر الصحيح بأنه علم صحيح بالضرورة[4]، ولولاه لكانت النتائج العلمية غير مؤكدة ومعرضة للتشكيك، ومنها تلك المتعلقة بتأسيس المسألة الدينية، باعتبارها قائمة على النظر ووجوبه. وبالتالي فإن بين هذه النظرية والأصل المولد جذوراً صميمة.
أما لو عدنا إلى رأي الأشاعرة حول علاقة العلم بالنظر، فسنجد أن الفخر الرازي يعتقد بأن حصول العلم عقيب النظر يتم بالوجوب تبعاً للعادة، أي جرت عادته تعالى بايجاب وجود العلم وإحالة عدمه، خلافاً للأشعري الذي لا يقول بالوجوب أصلاً. وعلى رأي الفخر الرازي أنه لا دخل للنظر في هذا الإيجاب، إذ إن العلم والنظر كلاهما معلولان لله واجبان به، خلافاً للفلاسفة، فحصول العلم لديه وإن لم يكن واجباً إبتداء فإنه ليس متأثراً بالنظر، إذ لا قدرة للعبد في التأثير[5].
لكن نُقل عن إمام الحرمين الجويني وإلكيا والغزالي في (المنخول) أنهم عدوا ما يعقب النظر من المعرفة ليس بعادة، بل لزوم ضروري، فالله يخلق النظر ومنه يلزم عنه العلم بالضرورة[6].
كما يلاحظ أن الباقلاني يصنّف العلم إلى علمين: علم نظر وإستدلال، وعلم إضطرار وضرورة. فالضروري ما لزم نفوس الخلق لزوماً لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه، نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس، وما ابتدأ في النفس من الضرورات. فالعلوم الضرورية لها طرق ستة، خمسة منها عن طريق الحواس الخمس، أما الطريق السادس فهو العلم المبتدئ في النفس، نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها من اللذة والألم والغم وما إليها، وكذا العلم بأن الضدين لا يجتمعان وأن الأجسام لا تخلو من الإجتماع والإفتراق، ومثله كل معلوم بأوائل العقول، وكذا العلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر أو نحل.. وكل ما هو مقتضى العادات[7].
ويبدو أن الباقلاني يُدرج العلوم العادية ضمن دائرة المعارف الضرورية، وإن لم يمنع ذلك من اعتبارها من أفعال الله، إذ يمكن - بحسب هذا المنظور - أن يمنع الله ترتّب النتيجة على المقدمة، ما دامت النتائج مخلوقة له، وليست متولدة عن مقدماتها، كما هو مقتضى منطق حق الملكية.
فمذهب الأشاعرة في تحصيل العلم ينسجم مع مبدأها القائل: لا فاعل في الوجود إلا الله. الأمر الذي يتسق والبداهة الأولية لمنطق حق الملكية، حيث إن الله يفعل ما يشاء، ومن جملة أفعاله ما يجري بعنوان (العادة الإلهية). لكن هذا الحال يفتح بابًا للشك في قيمة المعرفة ذاتها، إذ ما الذي يضمن صحة النتائج إذا كانت جميعها من فعل الله مباشرة؟
وهنا تعود مسألة الحسن والقبح إلى الواجهة من جديد: فهل يجب على الله – بمقتضى الحسن العقلي – أن يضمن صدق النتائج المترتبة على النظر؟ أم لا واجب عليه وفق منطق حق الملكية، ومن ثم تصبح النتائج العلمية عرضة للشك بما فيها نظرية هذا المنطق وتصوراته؟ إذ تصبح جميع الآراء والنتائج المترتبة على هذا المنطق محلّ شك، باعتبارها تمثل عادة إلهية كسائر الأفعال دون وجود ضامن لصدقها.
مع هذا فإن الأشاعرة لا تنفي وجود جملة من المعارف العقلية التي تدخل فيها المحالات. فقد اعتبر الغزالي في (تهافت الفلاسفة) أن هناك عدداً من القضايا المعرفية المحالة، والمحال عنده غير مقدور عليه، وقد حصرها بثلاثة أمور: إثبات الشيء مع نفيه، وإثبات الأخص مع نفي الأعم، وإثبات الإثنين مع نفي الواحد. فكل ما لا يرجع إلى هذه الأمور الثلاثة فليس بمحال، وما ليس بمحال فهو مقدور.
فمثلاً إن الجمع بين السواد والبياض محال، لأنّا نفهم من إثبات صورة السواد في المحل نفي ماهية البياض ووجود السواد، فإذا صار نفي البياض مفهوماً من إثبات السواد، كان إثبات البياض مع نفيه محالاً. كذلك لا يجوز كون الشخص الواحد في مكانين، لأنّا نفهم من كونه في البيت عدم كونه في غير البيت. وكذا نفهم من الإرادة عند الشيء هي طلب فيه إدراك، فإن فُرض طلب دون إدراك فهذا يعني أنه لم تكن هناك إرادة عند الشيء. أيضاً أن الجماد يستحيل أن يُخلق فيه العلم، لأنّا نفهم من الجماد ما لا يدرك، فإن خُلق فيه الإدراك كانت تسميته جماداً بالمعنى الذي فهمناه محالاً. كذلك فإن مصير الشيء شيئاً آخر غير معقول، لأن السواد إذا انقلب كدْرة مثلاً، فالسواد إن كان معدوماً فهو لم ينقلب، ولكن إنضاف إليه غيره، وإن بقي السواد والكدرة معدومة فهو لم ينقلب أيضاً، بل بقي على ما هو عليه. وإذا قلنا إن الدم انقلب منياً، أردنا به أن المادة بعينها خلعت صورة ولبست صورة أخرى، حيث هناك مادة مشتركة تعاقبت عليها الصورتان. وإذا قلنا إن الماء انقلب هواء بالتسخين، وكذا العصا انقلبت ثعباناً، والتراب حيواناً، فمعناه أن المادة المشتركة خلعت صورة ولبست أخرى. لكن ليس بين العرض والجوهر مادة مشتركة، ولا بين السواد والكدرة، ولا بين سائر الأجناس، لذا فإن الإنقلاب فيها من المحالات[8].
ومن جملة المستحيلات عند الغزالي ما هو مستحيل على الله تعالى؛ كالمكان والجهة والصورة واليد الجارحة والعين الجارحة وإمكان الإنتقال والإستقرار، وقد أوجب فيها التأويل حسب الدليل العقلي، في حين اعتبر أمور الآخرة مما وعد بها الله ليست من المحالات على قدرته، وأوجب إجراءها على ظاهر الكلام وفحواه الصريح[9].
***
لقد وُجّهت إلى الأشاعرة انتقادات عديدة بسبب إنكارهم لعلاقة الضرورة والتأثير بين الأسباب والمسبَّبات في الطبيعة؛ إذ اتُّهِموا بنقض الأساس الذي تقوم عليه علوم الطبيعة، وبارتكاب السفسطة، بل وإنكار الأصل العقلي ذاته، الأمر الذي يُفضي إلى التناقض، لا سيما أنهم اعتمدوا على هذا الأصل في إثبات المسألة الإلهية[10].
والواقع أن الأشاعرة يلتقون مع ديفيد هيوم وأغلب رواد المنطق التجريبي الحديث في إنكار الضرورة في علاقة السببية الخاصة، دون أن يعني ذلك بالضرورة نفي المعرفة العلمية أو إبطالها. غير أن هذا الالتقاء لا يُلغي موضع الخلاف بين الطرفين حول مبدأ السببية العامة، وهو المبدأ القائل بأن الحادثة لا بد لها من سبب ما، فالأشاعرة يقرّون بهذا المبدأ، بخلاف أصحاب المنطق التجريبي، ويتّضح ذلك من استدلالهم على المسألة الإلهية بمبدأ استحالة الترجيح بلا مرجّح، وهو ما يفيد استحالة حدوث شيء ما من غير سبب. ومثلما عبّر الغزالي عن هذا المبدأ: إن كل حادث له سبب، هو مما يجب الإقرار به لأنه «أولي ضروري في العقل»[11].
وبعبارة أخرى، تتضمن السببية نوعين من المفاهيم، أحدهما السببية العامة، وهي موضع الخلاف بين الأشاعرة والتجريبيين، والآخر السببية الخاصة التي تحدد ماهية السبب بعينه، كما لو اعتبرنا الحرارة سبب تمدد الحديد لا غيرها. فهذه العلاقة بنظر الفريقين الآنفي الذكر لا تتضمن الضرورة، بل هي مجرد تتابع إقتراني تفسرها العادة. ولا شك أن نفي الضرورة في هذه العلاقة لا يؤثر على إثبات المسألة الإلهية، خلافاً للعلاقة الأولى العائدة إلى مبدأ السببية العامة، كما هو واضح.
كما تعرضت الأشاعرة لتهم كثيرة، ومن ذلك أنها أُعتبرت من المذاهب اللاعقلية. فثمة من أدرج الأشاعرة ضمن هذه المذاهب لكونها تعدّ مسائل الحسن والقبح راجعة إلى الخطاب الديني لا العقل. واعتقد البعض أنها عطّلت العقل حتى في المجال العقائدي، بل واتهمها بالقضاء عليه مطلقاً[12].
كما رأى صاحب (فلسفة الفكر الديني) بأن علم الكلام الأشعري يوجّب الرجوع إلى الخطاب الديني من حيث الأصل والأساس، ويشمل هذا الأمر حتى موارد إستخدام النظر العقلي[13].
وجاء عن دي بور أن الأشعري لا يعتبر النظر العقلي المستقل عن الوحي سبيلاً لمعرفة الشؤون الإلهية، إنما يمكن للعقل أن يدرك وجود الله، ويظل العقل آلة للإدراك فقط، أما الأصل الوحيد لمعرفة الله فهو الوحي[14].
لكن هذه الإعتقادات لم تتدارك كون المذهب الأشعري قد تأسس تبعاً للفكرة العقلية الخاصة بحق الملكية قبل أي اعتبار آخر، وهو وإن أبعد العقل عن قضايا الحسن والقبح، إلا أنه قد اعتمد عليه في الكثير من القضايا النظرية، ومنها تلك المتعلقة بإثبات المسألة الإلهية، وهي على رأس القضايا الإعتقادية. كذلك فإن هذا المذهب قد شهد تطوراً في ممارسته للنشاط العقلي، بما فيها تنظيره لجعل العقل حاكماً على نص الخطاب، فقد إلتزم المتأخرون بالقانون الكلي للمعارض العقلي، وهو يتضمن عرض مسائل النص على العقل لينظر فيها؛ إن كانت تُقبل أو يُجرى عليها التأويل.
ورغم كل ذلك نرى أن طريقة المذهب الأشعري ينتابها الاضطراب، فلا هي عقلية كالذي عليه المذهب الإعتزالي وغيره، ولا هي بيانية كسائر الطرق البيانية. وهذا الإزدواج الذي لجأ إليه الأشاعرة أوقع الكثير منهم في شرك الشك وفقدان اليقين، وعلى أثر ذلك احتمى عدد منهم بالدائرة العرفانية للنظام الوجودي، خلافاً للمذاهب العقلية الأخرى، ولسان حالهم يقول كما صرح الغزالي: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر فهو في العمى والضلال»[15].
[1] البحر المحيط، فقرة 20.
[2] الفارابي: السياسة المدنية، ص71ـ72.
[3] المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص394.
[4] الحلي: كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، ص344.
[5] فواتح الرحموت، ج1، ص24.
[6] البحر المحيط، فقرة 21.
[7] الباقلاني: الإنصاف في ما يجب إعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق وتعليق وتقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، مؤسسة الخانجي، الطبعة الثانية، 1963م، ص14.
[8] تهافت الفلاسفة، ص197ـ199.
[9] المصدر السابق، ص238.
[10] لاحظ: محمد حسن المظفر: دلائل الصدق، دار المعلم للطباعة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1396هـ ـ1976م، ج1، ص175ـ180. وإبن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص519ـ523.
[11] الإقتصاد في الإعتقاد، ص43.
[12] المعالم الجديدة للاصول، ص41ـ43.
[13] فلسفة الفكر الديني، ج3، ص214ـ215.
[14] دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمه وعلّق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة، الطبعة الرابعة، 1377هـ ـ1957م، ص118.
[15] الغزالي: ميزان العمل، تحقيق وتقديم سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، الطبعة الأولى، 1964م، ص408 و228.